وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أخرج أحمد في مسنده بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس يوماً فكان مما قال: إنه سيأتي أقوام من بعدكم يكذبون بالرجم وبـالدجال وبالشفاعة وبعذاب القبر وبقوم يخرجون من النار بعدما امتحشوا فيها، أي: بعد أن صاروا فيها فحماً).
فهذا الأثر يدل على أن هذه الأمور مستقرة لدى السلف، لم يكن أحد منهم يكذب بواحدة منها، فالرجم ثابت في كتاب الله وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يثبت عن واحد من السلف أنه كذب به، والدجال حقيقة لا خرافة، وبه صحت الآثار والأحاديث التي بلغت حد التواتر وزيادة، والشفاعة جاءت في كتاب الله عز وجل، وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام وفي آثار الصحابة كذلك، بل في أشعار العرب، وعذاب القبر حق، وهو جزء أصيل من عقيدة أهل السنة والجماعة، والشفاعة المعقودة يوم القيامة، وهي متنوعة وأقسام سنتعرف عليها، وهي موضوع حديثنا في هذه اللحظات.
أخرج الآجري في كتاب الشريعة -وهو كتاب قد وضع لبيان مسائل الاعتقاد- قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من كذب بشفاعتي فليس له نصيب منها)، والصحيح: أن هذا الأثر موقوف على أنس ، وسواء كان موقوفاً أو مرفوعاً فإنه لابد من الحكم برفعه؛ لأنه لا مجال للرأي فيه، فلابد أن يكون خبراً عن المعصوم عليه الصلاة والسلام.
إذا تكلمنا عن الشفاعة فالكلام فيها يطول، والأحاديث فيها متعددة، ولكن لما كان هذا موضوع الساعة يحسن بنا أن نعرج على بعض الآثار الواردة فيه، ولذا فإن منكر الشفاعة لابد أن يكون واحداً من ثلاث: إما أن يكون ملحداً في أسماء الله وصفاته، وفي أخبار الغيب التي هي من أعظم الأمور في الإيمان، فإننا لم نر الله عز وجل، ومع ذلك فقد آمنا به، ولم نر النبي عليه الصلاة والسلام ومع ذلك فإننا نؤمن به، ولم نر الجنة ولا النار ولا الصراط ولا الحساب ولا الجزاء ولا العقاب.. ومع هذا فقد آمنا بكل ما أخبرنا الله عز وجل به، وأخبرنا به نبينا عليه الصلاة والسلام.
ومنها الشفاعة؛ لأنه لم يكن منها شيء في الدنيا إلا ما كان متعلقاً بأمور الدنيا، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما يشاء)، فإذا كان ملحداً أوكلنا أمره إلى الله عز وجل يعامله بما يستحق، وإن كان مؤدياً لرسالة أعداء الإسلام بلسان محمد وأحمد وعبد الله وإبراهيم.. وغير ذلك من أسماء المسلمين، فإننا نكل أمره إلى الله، ولا طاقة لنا بلقائه، وإن كان معتزلياً ينكر هذا كما أنكرته المعتزلة قديماً بحجة أن ذلك طريقه آحاد ولا يقوى للاحتجاج به في مسائل الاعتقاد، فإننا نقول: إن هذا المعتقد إنما هو دسيسة لا علم لسلفنا بها، وهذا المعتقد البدعي الذي أتت به المعتزلة لم يكن معلوماً لدى النبي عليه الصلاة والسلام ولا عند أصحابه، فهو بدعة محدثة وضلالة، أن خبر الواحد لا ينهض للاحتجاج به في مسائل العقيدة، ويكفينا من ذلك قول الله عز وجل: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا
[الحشر:7]، ولم يقل سبحانه: وما آتاكم الرسول بخبر التواتر فخذوه، وإنما قال:
فَخُذُوهُ
بغير تقييد، دل ذلك على صلاحيته في الاحتجاج سواء كان آحاداً أو تواتراً.
فكل خبر رواه الثقة عن مثله إلى منتهاه حتى يبلغ قائله فهو حجة في دين الله عز وجل، سواء كثرت الطرق إليه أم قلت، وهذا معتقد جماهير علماء الإسلام، لاسيما في ذلك أن الله تعالى نفى الإيمان عمن رد شيئاً من ذلك: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا
[النساء:65].
والنبي عليه الصلاة والسلام كان يرسل أصحابه في الأمصار والولايات ليعلموا الناس الدين، وأعظم ما كانوا يعلمونهم هي مسائل الاعتقاد ومن بينها الشفاعة، فلا مناص لمسلم يدعي أنه يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر وما فيه إلا أن يؤمن بالشفاعة، أما عن الآثار أو الآيات التي تعلقت بها، فمن الآيات ما ينفي ثبوت الشفاعة، ومنها ما يثبت ثبوت الشفاعة، فإذا ثبت هناك آيات تنفي الشفاعة وآيات تثبت الشفاعة، فإما أن نقول: إن هذا القرآن من عند غير الله، وبذلك يكفر من يقول ذلك، وإما أن نقول: هناك آيات نفت شفاعة معينة مقيدة بقيود، وهناك آيات أثبتت شفاعة مقيدة كذلك بقيود وسنعرفها الآن.
وإن كان هو من الصنف الثالث صنف الجهال فمن شأن الجاهل أن يسأل ليتعلم، ومن علامات الجاهل المخلص أن يلجأ لأهل العلم كي يعلموه أمور دينه، ولا يقحم نفسه وعقله في دين الله عز وجل، ولا يقول على الله بغير علم، فإن ذلك حرام، ولذلك التاريخ يدلنا دلالة عظيمة أن كل من دخل في غير فنه أتى بالأعاجيب والطامات، فيا ليت كل واحد يقف عند المنحة التي منحه الله عز وجل إياها؛ لينفع بها.
هذه الآية ادعى فيها المشركون أن لهم شفعاء، فالله عز وجل نفى عنهم ذلك، وهي تدل دلالة عظيمة على أنه لا شفاعة لأحد عند الله إلا إذا كان قادراً على هذه الشفاعة.
فالشرط الأول: الشفاعة بالحق. قال تعالى: وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
[الزخرف:86].
إذاً: هناك شفاعة، ولكن لا شفاعة لأحد إلا إذا كان يشفع بالحق وهو يعلم أنه يشفع بالحق.
والشرط الثاني: إسلام المشفوع له؛ لأنه لا شفاعة لمشرك قط إلا لـأبي طالب ، قال الله تعالى: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ
[غافر:18]، والظالمون هم الكافرون، فما لهم من شفيع ولا حميم، ويستثنى من المشركين أبو طالب كما قلنا؛ لما أخرجه البخاري ومسلم من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! أرأيت
وفي رواية عند البخاري ومسلم : أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن أهون أهل النار عذاباً لرجل يخرج من قعر جهنم حتى يقف على جمرتين يغلي منهما دماغه هو
فشفاعة النبي عليه الصلاة والسلام أخرجت أبا طالب من أسفل سافلين إلى ضحضاح -ضاحية- من النار يقف على حجرين من نار يغلي منهما دماغه، ومع هذا نفعته شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام.
الشرط الثالث: الإذن للشافع؛ لأنه لا يأذن عند الله أحد إلا بإذن؛ ولذا قال: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ
[البقرة:255]؟ لا أحد.
والشرط الرابع: الرضا عن المشفوع له، وإن الله لا يرضى عن مشرك قط، وإنما يرضى عن المسلم وإن كان صاحب كبيرة، فإن الله يرضى بالشفاعة له، كما قال تعالى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى
[النجم:26].
فهذه هي الشروط التي اشترطها الله عز وجل لحدوث الشفاعة يوم القيامة، وبهذه الشروط نستطيع أن نجمع بين الآيات التي تنفي الشفاعة والآيات التي تثبتها.
وإن الأحاديث التي وردت تثبت الشفاعة للنبي يوم القيامة قد بلغت حد التواتر، ومن قال بغير ذلك فلا علم له بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما يهرف ويخرف بما لا يعرف، وهو لا يعرف النص المتواتر من غيره، ولم يدرس دين الله عز وجل، ولم يتعرف عليه لا من قريب ولا من بعيد، وكثير من الناس يتكلم في دين الله عز وجل دون أن تربطه بالكتاب والسنة أي رابطة، فيأتي بالأعاجيب، بل ينكر ويرد كثيراً من المعلوم من دين الله بالضرورة، فهو على خطر عظيم جداً.
ولعلكم قرأتم مجلة الحوادث الصادرة في هذا الأسبوع أن امرأة أنكرت معجزات الأنبياء، وأنكرت أن الله عز وجل نجى إبراهيم من النار، وأنكرت أن يونس عليه السلام ابتلعه الحوت، وأنكرت الإسراء والمعراج للنبي عليه الصلاة والسلام، وقالت: إنما ذلك تهيؤات وتخيلات! لماذا؟! وأقحمت هذا الفصل في رسالتها في علم النفس، ولا علاقة لهذا الفصل بأصل الرسالة، وحازت على مرتبة الشرف الأولى! وهناك مشكلة قائمة بين جامعات مصر وجامعة عين شمس التي منحت هذه الرسالة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، والذي يقف معها ويؤيدها أكثر من الذي ينكر عليها أنها أنكرت معلوماً من دين الله بالضرورة.
وإنا لا ندري إلى أي حد ستستمر هذه المهزلة، مهزلة زعزعة الثوابت في حياة المسلمين وفي معتقدهم.
هذا الحديث أخرجه الشيخان البخاري ومسلم ، وأخرجاه كذلك من حديث أنس أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (يجتمع الله المؤمنون يوم القيامة، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيأتون آدم فيقولون: يا آدم! أما ترى الناس ويذكرونه بما ذكروه من قبل.. حتى يأتوا محمداً عليه الصلاة والسلام عبداً غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فيأتونني فأنطلق فأستأذن على ربي، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيت ربي وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال لي: ارفع محمد.. ارفع محمد، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع. فأحمد ربي بمحامد علمنيها، ثم أشفع فيحد الله عز وجل لي حداً فأدخلهم الجنة -يعني: يقسم لي من الناس قسماً فيدخلون الجنة بشفاعة النبي عليه الصلاة والسلام- ثم أرجع فإذا رأيت ربي وقعت ساجداً فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال: ارفع محمد.. قل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأحمد ربي بمحامد علمنيها ثم أشفع، فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة، ثم أرجع، فإذا رأيت ربي وقعت ساجداً.. حتى قال النبي عليه الصلاة والسلام: يا رب! ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود).
يا رب! لم يبق في النار أحد إلا من حبسه كفره بالقرآن الكريم، فهو من أهل الخلود فيها، فإنه لا شفاعة حينئذ.
وعند البخاري ومسلم من حديث معبد بن هلال العنزي قال: (اجتمعنا ناس من أهل البصرة فذهبنا إلى
فلا يبقى أحد بشفاعة النبي عليه الصلاة والسلام إلا ويخرج من النار بشرط أنه مسلم.
وهذا الحديث أخرجه كذلك الإمام أحمد بن حنبل والدارمي في سننه وغيرهم من أهل العلم كثير، ولا أظن أن الوقت يسمح بسرد جميع النصوص.
وعند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر ويأتي إلى ربه، وأول شافع، وأول مشفع) عليه الصلاة والسلام.
وأخرج الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قال النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا
[الإسراء:79] قال: هي الشفاعة)، فالشفاعة من كذب بها فقد كذب بالقرآن، أي: بالمقام المحمود المذكور في القرآن.
وفي حديث أبي سعيد عند أحمد : قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع يوم القيامة ولا فخر).
لماذا أصر على تكرار هذه الآثار والأحاديث رغم أنها تدل على معنى واحد وهو إثبات الشفاعة؟ لأبين لك أن هذه العقيدة أتت إلينا بطريقة التواتر كالقرآن الكريم تماماً، فمن كذب بها فقد كذب بالقرآن, وغير ذلك من الطرق والروايات التي أتت بالشفاعة العظمى للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأبين لك أن من قال: إن الشفاعة أتت بطريق الآحاد ليس له حظ علم في ذلك، بل هي متواترة، أو قد يقول قائل: إن الشفاعة لا تدخل في حدود العقل والعقل لا يتصورها. فنقول له: دع عنك عقلك وآمن بالله العظيم، ولو أن لك عقلاً لسألناك عن كل غيب لله عز وجل.
أتى رجل من المبتدعة إلى عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى إمام من أئمة السنة، وقال: يا إمام! يسأله في ذات الله عز وجل، وإن كان اللسان والقلب لا يقوى على سرد ذلك الآن، لدلالة جرحه، فقال ابن مهدي : يا فلان! يرحمك الله، دع عنك هذا وسل عن المخلوق، فإن الخالق لا يعلم كنهه أحد إلا الله، بل من المخلوقات من لا يعلمها إلا الله عز وجل، ألا تعلم أن الله تعالى خلق جبريل عليه السلام وله ستمائة جناح؟ قال: بلى، قال: صف لي جبريل عليه السلام على هيئته التي خلقه الله عليها؟ صف لي مخلوقاً له ستمائة جناح؟ فعجز الرجل أن ينطق بجواب، فقال ابن مهدي : وأنا أعافيك من خمسمائة وسبعة وتسعين جناحاً، صف لي مخلوقاً واحداً بثلاثة أجنحة، وركب الجناح الثالث حيث ركبه الله عز وجل، فعجز الغلام واعتذر لـعبد الرحمن بن مهدي ولم يتكلم في ذات الله عز وجل بعد ذلك.
هذا الأثر إنما نسوقه لوجوب الإيمان بالغيب الذي أمر الله عز وجل به، حتى وإن لم يكن ذلك في مقدور عقولنا، ومتى كان العقل يحكم على النص؟! إن ذلك منهج عقلي اعتزالي لا قيمة له عند أهل السنة والجماعة.
ومن حديث أبي بن كعب عند مسلم ، قال: (كنت في المسجد فدخل رجل يصلي، فقرأ قراءة أنكرتها عليه)، وأنتم تعلمون أن أبي بن كعب من قراء الصحابة، بل من أسياد قراء الصحابة.
فلما قرأ ذلك الرجل قراءة أنكرها أبي لا علم له بها، ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه أنكرها كذلك أبي ودخل ثالث، فلما قضوا الصلاة قال: (إنكم قرأتم قراءة أنكرتها، فقالوا: نذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقرأ كل واحد بالقراءة التي قرأها أمام النبي عليه الصلاة والسلام فأقر الجميع ونصح
وعن أبي بن كعب أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم غير فخر)، يعني: لست أفاخر بذلك، ولكني أخبركم بما سيكون يوم القيامة.
وعند البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي) يعني: خص النبي عليه الصلاة والسلام بخمس، وخصائصه كثيرة، لكن هذا الحديث أثبت خمساً.
قال: (نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل أدركته الصلاة من أمتي فليصل، وأحلت لي المغانم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة) عليه الصلاة والسلام.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: جعلت لي الأرض كلها مسجداً طهوراً، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وأرسلت إلى الأحمر والأسود، وأعطيت الشفاعة).
وعن كعب بن مالك : أن رسول عليه الصلاة والسلام قال: (يبعث الناس يوم القيامة، فأكون أنا وأمتي على تل -أي: على مكان مرتفع- ويكسوني ربي تبارك وتعالى حلة خضراء، ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله لي أن أقول، فذلك هو المقام المحمود).
وعن ابن عمر قال: (إن الناس يحشرون يوم القيامة فيجيء مع كل نبي أمته، ثم يجيء رسول عليه الصلاة والسلام في آخر الأمم هو وأمته، فيرقى هو وأمته على كوم فوق الناس -أي: على تل عظيم- فيقول -أي: فيقول الله عز وجل-: يا فلان! اشفع، ويا فلان! اشفع، فما زال يردها بعضهم على بعض يرجع ذلك إليه، وهو المقام المحمود الذي وعده الله تعالى إياه).
وعند الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه -إلا تحت لوائي -كل الناس تحت لواء النبي عليه الصلاة والسلام حتى الأنبياء والمرسلون-، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، قال: فيفزع الناس ثلاث فزعات، فيأتون آدم فيقولون: أنت أبونا آدم فاشفع لنا إلى ربك، فيقول: إني أذنبت ذنباً أهبطت منه إلى الأرض، ولكن ائتوا نوحاً فيأتون نوحاً، فيقول: إني دعوت على أهل الأرض دعوة فأهلكهم الله عز وجل بها -أي: له دعوة وقد دعاها في الدنيا فلا دعوة له في الآخرة- ولكن اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إليه فيقول: إني كذبت ثلاث كذبات، ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: ما منها كذبة إلا ماحل بها عن دين الله -ما منها كذبة إلا جادل بها ودافع بها عن الله عز وجل وعن دينه وشرعه، وهي التي تعرف بالمعاريض، وهي جائزة للأنبياء، وليست كذبات على الحقيقة يأثم بها إبراهيم-، ثم قال: ولكن ائتوا موسى، فيأتون موسى فيقول: إني قد قتلت نفساً لم أومر بقتها، ائتوا عيسى عليه السلام، فيأتون عيسى فيقول: إني عبدت من دون الله عز وجل -ولا ذنب له في ذلك، ما ذنب رجل اتخذ إلهاً من دون الله عز وجل؟-، ولكن ائتوا محمداً عليه الصلاة والسلام قال: فيأتوني فأنطلق معهم فأشفع لهم).
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: (يجمع الناس في صعيد واحد فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر؛ حفاة عراة كما خلقوا قياماً، لا تكلم نفس إلا بإذنه، ينادى: يا محمد! فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، والشر ليس إليك، والمهدي من هديت، عبدك بين يديك، وبك وإليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحان رب البيت، فهذا المقام الذي ذكره الله عز وجل) أي: هذا هو المقام المحمود الذي ذكره الله عز وجل.
وعند ابن خزيمة من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (اللهم تقبل شفاعة محمد الكبرى، وارفع درجته العليا، وأعطه سؤله في الآخرة والأولى كما آتيت إبراهيم وموسى).
وعند ابن أبي شيبة من حديث سلمان الفارسي قال: (يقال له -أي: لمحمد عليه الصلاة والسلام-: سل تعطه واشفع تشفع وادع تجب، قال: فيرفع رأسه فيقول: رب! أمتي أمتي أمتي. قال
وعن عبد الله بن سلام الصحابي، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع بيدي لواء الحمد تحته آدم فمن دونه).
وإن الأحاديث التي وردت تثبت الشفاعة للنبي يوم القيامة قد بلغت حد التواتر، ومن قال بغير ذلك فلا علم له بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما يهرف ويخرف بما لا يعرف، وهو لا يعرف النص المتواتر من غيره، ولم يدرس دين الله عز وجل، ولم يتعرف عليه لا من قريب ولا من بعيد، وكثير من الناس يتكلم في دين الله عز وجل دون أن تربطه بالكتاب والسنة أي رابطة، فيأتي بالأعاجيب، بل ينكر ويرد كثيراً من المعلوم من دين الله بالضرورة، فهو على خطر عظيم جداً.
ولعلكم قرأتم مجلة الحوادث الصادرة في هذا الأسبوع أن امرأة أنكرت معجزات الأنبياء، وأنكرت أن الله عز وجل نجى إبراهيم من النار، وأنكرت أن يونس عليه السلام ابتلعه الحوت، وأنكرت الإسراء والمعراج للنبي عليه الصلاة والسلام، وقالت: إنما ذلك تهيؤات وتخيلات! لماذا؟! وأقحمت هذا الفصل في رسالتها في علم النفس، ولا علاقة لهذا الفصل بأصل الرسالة، وحازت على مرتبة الشرف الأولى! وهناك مشكلة قائمة بين جامعات مصر وجامعة عين شمس التي منحت هذه الرسالة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، والذي يقف معها ويؤيدها أكثر من الذي ينكر عليها أنها أنكرت معلوماً من دين الله بالضرورة.
وإنا لا ندري إلى أي حد ستستمر هذه المهزلة، مهزلة زعزعة الثوابت في حياة المسلمين وفي معتقدهم.
وأما أهل الكبائر فلهم شفاعة خاصة بهم؛ أصحاب الزنا والقتل والسرقة وشرب الخمر وغير ذلك من كبائر المعاصي، فإن الله عز وجل قد حرم هذا، وجعله من كبائر الذنوب، وليعلم صاحب الكبيرة أن الله عز وجل إما أن يأذن في الشفاعة له وإما لا يأذن، فهو على خطر عظيم؛ ولذلك إقامة الحد على صاحب الكبيرة كفارة له، فإن تاب وتصدع قلبه ندماً وحسرة على كبيرته تاب الله عز وجل عليه: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ
[الفرقان:70]، ومن مات مصراً عليها فهو في مشيئة الله: إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: يا
وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لكل نبي دعوة مستجابة يدعو بها، وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة).
فاللهم ارزقنا شفاعته عليه الصلاة والسلام.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة : (لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته -كل نبي دعا بدعوته في الدنيا- وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً)، أي: فهي مصيبة كل واحد من أمتي مات لا يشرك بالله شيئاً، أي: أنها من حظ كل مسلم مات على التوحيد وإن كان صاحب كبيرة، لكن ذلك مشروط بمشيئة الله عز وجل.
وأخرج ابن ماجة من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (خيرت بين الشفاعة وبين أن يدخل الله عز وجل نصف أمتي الجنة، فاخترت الشفاعة)، فاختار الشفاعة؛ لأنها تنال أكثر من نصف الأمة في الموقف، فاختار النبي عليه الصلاة والسلام الشفاعة حرصاً على عصاة أمته، والدعاء المأثور: (اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته) والمقام المحمود: هو الشفاعة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من سأل الله لي الوسيلة والفضيلة حلت له الشفاعة) أي: وجبت له شفاعتي يوم القيامة.
وعند الترمذي من حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً لا حساب عليهم ولا عذاب، مع كل ألف سبعون ألفاً وثلاث حثيات من حثيات ربي)، انظروا إلى هذا الفضل العظيم، يعني: سبعون ألفاً في سبعين ألفاً، زد على ذلك ثلاث حثيات يحثوها الرب تبارك وتعالى بيمينه، وهي من حثيات الرب لا من حثيات العبد.
وجاء عند أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه تماماً لهذا الحديث: (فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أي رب! إن لم يكن هؤلاء مهاجري أمتي. قال: إذاً: أكملهم لك من الأعراب).
وعند البيهقي من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله عز وجل وعدني أن يدخل الجنة من أمتي أربعمائة ألف، فقال
وهناك شفاعة أخرى في خروج الموحدين من النار، ولا أزيدكم فيها غير ما سمعتم مني آنفاً أن النبي عليه الصلاة والسلام سيعطى الشفاعة لإخراج من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان أو مثقال شعيرة، أو مثقال ذرة من إيمان.
ولذلك جاء في سنن أبي داود : (اللهم أدخلني القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال له أبوه: ليس هكذا يا بني! فإني سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: سيأتي أقوام من بعدي يعتدون في الدعاء والطهور، قال: فماذا أقول يا أبي؟! قال: إذا دعوت فقل: اللهم ارزقني الفردوس الأعلى)، اللهم ارزقني الفردوس الأعلى وإياكم.
هؤلاء اليهود تدنو همتهم حتى في المحشر، وحتى في هذا الموقف العصيب، حتى لا يتمنوا إلا شربة ماء، وينسيهم الله عز وجل أن يطلبوا دخول الجنة أو أن يطلبوا الشفاعة. (فيقال: اشربوا، فيتساقطون في جهنم، ثم يقال للنصارى: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ قالوا: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون في جهنم، حتى يبقى من كان يعبد الله من بر أو فاجر، فيقال لهم: ما يحبسكم وقد ذهب الناس؟! فيقولون: فارقناهم ونحن أحوج منا إليهم، وإنا سمعنا منادياً ينادي: ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، وإنما ننتظر إلهنا ومعبودنا، قال: فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه أول مرة عليها -أي: في أول المحشر- فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا؟ فلا يكلمه إلا الأنبياء، فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه بها -هل هناك علامة تعرفون بها الله عز وجل يوم القيامة-؟ فيقولون: الساق -أي: ساق الرحمن تبارك وتعالى- نعرفه بها، فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن، ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة، فيذهب كيما يسجد فيقع ظهره طبقاً واحداً، ثم يؤتى بالجسر -أي: جسر جهنم- فيجعل بين ظهري جهنم، قلنا: يا رسول الله! وما الجسر؟ قال: مدحضة مزلة، عليه خطاطيف وكلاليب، وحسكة مفلطحة لها شوكة عقيفاء تكون بنجد، يقال لها: السعدان، المؤمن عليها كالبرق وكالطرف وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلم، وناج مخدوش، ومكدوس في نار جهنم، حتى يمر آخرهم ليسحب سحباً، فما أنتم بأشد لي مناشدة في الحق قد تبين لكم من المؤمن يومئذ للجبار، وإذا رأوا أنهم قد نجوا في إخوانهم يقولون: ربنا إخواننا الذين كانوا يصلون معنا ويصومون معنا)، فانظر إلى شفاعة المؤمنين بعضهم لبعض. (يقولون: ربنا إخواننا الذين كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويعملون معنا؟ فيقول الله تعالى: اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه، ويحرم الله تعالى صورهم على النار، فيأتونهم وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه، وإلى أنصاف ساقيه، فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه فيخرجون من عرفوا، قال إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا
[النساء:40]، فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون، فيقول الجبار: بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار وهي بكف الرحمن، فيخرج أقواماً قد امتحشوا -أي: قد صاروا فحماً من فحم جهنم- فيلقون في نهر بأفواه الجنة -أي: على أطراف الجنة- هذا النهر يسمى نهر الحياة، وماؤه يسمى ماء الحياة، فينبتون في حافتيه كما تنبت الحبة في حميل السيل قد رأيتموها إلى جانب الصخرة وإلى جانب الشجرة، فما كان إلى الشمس منها كان أخضر، وما كان منها إلى الظل كان أبيض، فيخرجون كأنهم اللؤلؤ -فيخرجون بشفاعة الرحمن كأنهم اللؤلؤ-، فيجعل في رقابهم الخواتيم، فيدخلون الجنة فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن، أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه، فيقال لهم: لكم ما رأيتم ومثله معه).
أخرج مسلم من حديث الصنابحي عن عبادة بن الصامت أنه قال: (دخلت عليه وهو في الموت فبكيت، فقال: مهلاً لم تبك؟ فوالله لئن استشهدت لأشهدن لك -لئن جعلني الله تعالى من الشهود أو من الشهداء والشفعاء لأشهدن لك- ولئن شفعت لأشفعن لك، ولئن استطعت لأنفعنك، ثم قال: والله ما من حديث سمعته من النبي عليه الصلاة والسلام لكم فيه خير إلا حدثتكم به إلا حديثاً واحداً، وسوف أحدثكم به اليوم وقد أحيط بنفسي، سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله حرم الله عليه النار)، وهذه شفاعة أهل الإيمان.
أخرج أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله عز وجل ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب! أنى لي هذه -يعني: كيف بلغت هذه المرتبة العالية في الجنة ولم أعمل عملاً أكافأ بها-؟ قال: باستغفار ولدك الصالح لك).
فلا ينفعك إلا ولدك الصالح، أما الطالح فلا، فإن شئت أن تربيه على المعصية والفجور فهو لن ينفعك، وإن ربيته على الصلاح فهو ينفعك؛ فلذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة تنفع العبد بعد موته: ولد صالح يدعو له).
وعند مسلم من حديث أبي حسان قال: (قلت لـ
يعني: يأتي الرجل يوم القيامة وقد مات له ولد أو ولدان أو ثلاثة، فإذا كان يوم القيامة تمسك الأولاد بأثواب وتلاليب آبائهم وأقسموا على الله عز وجل ألا يدخلوا حتى يكون الداخل قبلهم آباؤهم وأمهاتهم، وتلك شفاعة الصغار الذين ماتوا قبل أن يبلغوا الحلم، وقبل أن يجري عليهم القلم.
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث -أي: لم يبلغوا الإثم والذنب- إلا أدخلهم الله وأبويهم بفضل رحمته الجنة. وقال: يقال لهم: ادخلوا الجنة، قال: فيقولون: حتى يجيء أبوانا ثلاث مرات، فيقولون مثل ذلك، فيقال لهم: ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم). هذه شفاعة الصغار لآبائهم.
وكذلك سكنى المدينة ممن لهم شفاعة خاصة، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فإني أشفع لأهل البقيع)، وفي رواية: جاء أبو سعيد مولى المهري إلى أبي سعيد الخدري ليالي الحرة، فاستشاره في الجلاء من المدينة وشكا إليه أسعارها وكثرة عياله، وأخبره أنه لا صبر له على بلاء المدينة وجهدها، فقال له: ويحك! لا آمرك بالجلاء عنها -أي: لا آمرك أن تذهب وتترك المدينة- إني سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يصبر أحد على لأوائها -أي: شدتها- فيموت إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة إذا كان مسلماً).
وفي رواية: أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون).
ويكفي أن المدينة لا يدخلها الدجال ، فهي معصومة مأمونة من هذه الفتنة التي هي أعظم فتنة بين يدي الساعة.
والصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام كذلك تستجلب شفاعته عليه الصلاة والسلام، ففي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند مسلم : أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة).
وصلاة المصلين على الميت له شفاعة، أخرج مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما من ميت تصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه) ما من ميت يموت فتصلي عليه أمة يبلغون مائة شخص إلا شفعوا فيه.
ومن حديث عبد الله بن عباس : (أنه مات ابن له بعسفان فقال لمولاه
ولكن انظروا إلى الشرط: (لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه)، أنت الآن لو نظرت إلى كثير ممن يصلي على الأموات وتحققت هذا الشرط لوجدت أنهم يشركون بالله شيئاً، ولرجع إليك الطرف خاسئاً حاسراً، ثلاثة أرباع -إن لم يكن أزيد- يشركون بالله في الدعاء والاستغاثة والنذر والذبح والطواف وغير ذلك.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام يقول لخادمه: (ألك حاجة؟ قال: حتى كان ذات يوم، فقال لخادمه: ألك حاجة؟ فقال: نعم. قال: ما هي؟ قلت: يا رسول الله! حاجتي أن تشفع لي يوم القيامة. قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود)، إذاً: طول الصلاة وتحسينها وإخلاص العمل فيها لله عز وجل يجلب شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام يوم القيامة.
وهناك شفاعة لها تعلق بالدنيا، قال الله تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا
[النساء:85].
قال الحافظ ابن كثير : مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا
أي: من يسعى في أمر فيترتب عليه خير كان له في هذا الخير نصيب، ومن يشفع شفاعة سيئة يكن عليه وزر من ذلك الأمر الذي ترتب على سعيه ونيته، كما ثبت في الصحيح: (اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء).
وعند البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري : (كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا جاءه السائل أو طلبت إليه حاجة قال: اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء).
وهناك أمور لا تحل الشفاعة فيها في الدنيا، منها الحدود إذا بلغت السلطان فإنه لا شفاعة فيها، بل ليس للسلطان أن يقيم الحد أو لا يقيمه؛ لأن الله تعالى أوجب عليه قيام الحد إذا بلغه؛ ولذلك ثبت عند البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها: (أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت. قالوا: من يكلم فيها رسول الله؟ من يشفع فيها عند الرسول؟ قالوا: ومن يجترئ على ذلك إلا
وعند أبي داود عن يحيى بن راشد قال: (خرجنا لـ
وعن أنس رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من ابتغى القضاء وسأل فيه شفعاء وكل إلى نفسه، ومن أكره عليه أنزل الله تعالى عز وجل عليه ملكاً يسدده).
من طلب الشفاعة في القضاء بشفاعة الشفعاء أوكله الله عز وجل لنفسه، ومن حمل على هذه المنزلة سخر الله عز وجل له ملكاً يسدده ويثبته.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقني وإياكم شفاعة الملائكة والنبيين وصالح المؤمنين. اللهم ارزقنا شفاعة نبيك محمد عليه الصلاة والسلام.. اللهم ارزقنا شفاعة نبيك محمد عليه الصلاة والسلام.. اللهم ارزقنا شفاعة نبيك محمد عليه الصلاة والسلام. اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وكل ذلك عندنا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر