إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [100]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد خرج عن منهج الله الصحيح طوائف من المسلمين، واتبعوا أهواءهم، فخالفوا منهج السلف، وجانبوا الصواب، وعلى رأس هؤلاء عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء مؤسسا فرقة المعتزلة، والجهم بن صفوان والجعد بن درهم مؤسسا فرقة الجهمية، وكل يزعم أنه على الصواب والجادة، وهم أبعد عن الحق مما بين الشرق والغرب.

    1.   

    قبض العلم بموت العلماء

    نحمد الله على ما قضى وقدَّر، وعلى ما دبَّر ويسَّر، فهو أهل الحمد والثناء، يستحق الحمد على السراء والضراء، إذا ابتلى بالخير فهو أعلم بذلك وبمن يصلح له، وإذا ابتلى بالشر فهو أعلم بمن يبتليه، وبالأسباب التي يبتلي بها ولأجلها.

    إذا مس بالخيرات عم سرورها وإذا مس بالضراء يعقبه الأجر

    في هذا المسجد قبل ثلاثة أيام شهدنا حشداً عظيماً، وجمعاً كبيراً، يجهِّزون ويودعون عالماً من علماء المسلمين، يحضرون من كل فج، ومن كل جهة؛ لأجل أن يشيعوه، وأن يحضروا الصلاة عليه، ألا وهو شيخنا الشيخ حمود بن عبد الله التويجري رحمه الله، الذي وافاه أجله قبل ثلاثة أيام، والذي فقد المسلمون به عالماً جليلاً، وشيخاً كبيراً، بذل جهده، وأفرغ وسعه، وقام لله تعالى بما يستطيع، وجاهد في الله حق جهاده، جاهد بقلمه، وجاهد بلسانه، ورد على أعداء الله الذين يحاولون النيل من كتاب الله، أو من سنة رسوله، أو من دينه، فأبطل كيدهم، ورد أباطيلهم، وبين الحق أوضح بيان، قد أعطاه الله ووهبه علماً وحفظاً وفهماً، وذاكرةً قويةً، ومعرفةً بالأدلة وبمواضعها، ومعرفةً بسبك الكلمات وبرصفها، وبكيفية جمعها، حتى تكون كافية ومقنعة.

    لا شك أن فقد العلماء مصيبة عظمى، مصيبة كبيرة؛ لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال؛ ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يُبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا) نخشى أن يقبض العلم من بيننا، ولا يبقى فينا من يكون أهلاً لتحمل العلم؛ لأجل ذلك يجب أن نبذل جهداً ووسعاً في أن نتحمل من العلم ما نكون أهلاً به أن نذبَّ عن دين الله، وأن نجاهد في سبيله، وأن نبلغ شريعته، وأن نقوم لله مثنى وفرادى كما يقوم العلماء المجاهدون العارفون بالله أمثال هذا الشيخ رحمه الله؛ مخافة أن يطغى الجهل على العلم، ويطغى الشرك على الإيمان، وتعظم المصيبة في هذا الدين، وتعظم البلوى بأعداء الدين.

    وقد كان العلماء رحمهم الله دائماً يبكون على علمائهم إذا فقدوهم، ويخشون أن يكون هذا سبباً لنقص العلم ولتلاشيه، يقول ابن مشرف رحمه الله في نظمه لرثاء العلم:

    على العلم نبكي إذ قد اندرس العلم ولم يبق فينا منه روح ولا جسم

    ولكن بقي رسم من العلم داثر وعما قليل سوف ينطمس الرسم

    وليس يفيد العلم كثرة كتبه فماذا تفيد الكتب إن فقد الفهم

    وعار على المرء الذي تم عقله وقد أُملت فيه المروءة والحزم

    إذا قيل ماذا أوجب الله يا فتى أجاب بـ(لا أدري) وأنى لي العلم

    وأقبح من ذا لو أجاب سؤالَه بجهل فإن الجهل مورده وخم

    نقول: إننا في زمان ينقص فيه العلم، والمراد: العلم الشرعي، العلم الحقيقي الذي هو العلم بالله وبآيات الله، والعلم بشريعته، والعلم بكتابه وبسنة نبيه، والعلم بتوحيده وبحقوقه، ولو كثر العلم الآلي الذي كثر ادعاؤه، وكثر تعلُّمه، العلوم الآلية، وعلوم الحرف، وعلوم الصناعات، والعلوم الدنيوية، لقد كثر الذين ينتحلونها ويتعلمونها واحداً بعد واحد، لا شك أن هذا من الإعراض عن العلم الأصلي.

    1.   

    معنى الإسلام ووسطيته

    قد قرأنا ما ذكره الطحاوي رحمه الله من أن ديننا دين الإسلام، الذي لا يقبل الله من أحد ديناً غيره، هو أن يُسْلِم العبد قلبه وقالبه لربه، وأن يذعن له وينقاد، ويخضع له ويتواضع، وأن يعرفه بأسمائه وبصفاته، ويعرفه بما يجب أن يُعرف به، وأن يعبده حق عبادته، ويجاهد فيه حق جهاده.

    وسطية الإسلام بين دين اليهود ودين النصارى

    دين الإسلام وسط بين الأديان كلها، فهو الوسط بين دين اليهود ودين النصارى، فدين اليهود فيه تشدد، ودين النصارى فيه توسع وتفريط، والإسلام جاء بالتوسط بينهما، اليهود يشددون في بعض الأشياء، والنصارى يتساهلون في كثير منها، والأمثلة على ذلك واضحة.

    كذلك أيضاً الدين الإسلامي وسط بين الغلو والتقصير، فليس فيه غلو بحيث يكلف أهله ويشق عليهم، وليس فيه تقصير بحيث يكون فيه نقص أو خلل في أية عبادة.

    فالطهارة التي هي من العبادات لا يجب فيها التشدد والدلك الشديد، وتكرار الغسل، وتكرار صب الماء، فهذا غلو، ولا يجزئ فيها مسح الأعضاء مسحاً، أو غسلها غسلاً خفيفاً لا يبلغ أن تبتل البشرة، فهذا تقصير، بل الوسط بين ذلك.

    وسطية الإسلام بين المشبهة والمعطلة في صفات الله

    دين الإسلام وسط في باب صفات الله تعالى بين المشبهة الممثلة الذين شبهوا صفات الله تعالى بصفات خلقه، وبين المعطلة الذين نفوا صفات الله، وعطلوه من صفات الكمال.

    فأهل السنة توسطوا، وهم الذين أثبتوا لله تعالى صفات الكمال، ونفوا عنه التشبيه والتمثيل بالمخلوقات، فهم وسط بين هؤلاء وهؤلاء.

    وهم كذلك وسط في باب الوعد والوعيد بين الوعيدية والمرجئة.

    فهناك الوعيدية الذين شددوا وحكموا بأن من عصى أدنى معصية فقد كفر، وحل ماله ودمه.

    وآخرون قالوا: المعاصي لا تؤثر ولا تضر.

    هؤلاء غلوا وهؤلاء نقصوا، والإسلام وسط جاء يحذر من الإصرار على المعاصي وكبائر الذنوب، والاستمرار على صغائرها، وجاء يأمر بترك التكفير والخروج على أئمة المسلمين، والخروج على عامتهم، بل جعلهم وسطاً أي: صار أهل السنة وسطاً بين هؤلاء وهؤلاء.

    وسطية الإسلام في الأمن والقنوط

    الإسلام وسط بين الأمن والقنوط، فهناك طائفة يكثرون من المعاصي والكفريات والبدع وهم آمنون، ويصدق عليهم قول الله تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99].

    وآخرون غلب عليهم اليأس والقنوط، ووقعوا في معاصٍ وكبائر؛ ولكنهم قطعوا الرجاء، وانقطعوا انقطاعاً كلياً عن التوبة، وأيسوا من قبولها، واعتقدوا أنهم لا تنفعهم التوبة ولا تُقبل منهم، واعتقدوا أنهم لا ينفعهم أي عمل عملوه، فهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87].

    كذلك وسط في أفعال العباد بين القدرية وبين المجبرة، فالمجبرة هم الذين يقولون: ليس للعبد اختيار، بل هو مجبور على أفعاله، ليس له أية حركة، بل حركاته كحركات الأشجار التي تحركها الرياح، فلا طاعة تنسب إليه، ولا معصية تنسب إليه.

    وطائفة أخرى عزلوا الرب تعالى عن الأفعال التي تتعلق بالعباد، فنفوا عنه القدرة التامة، ونفوا أنه يهدي ويضل؛ نفوا أنه يهدي هذا ويضل هذا، أو يعين هذا ويخذل هذا، وجعلوا العبد هو الذي يهدي نفسه، أو يضل نفسه أو يفعل باختياره بدون أن يكون لله قدرة عليه، فهؤلاء في طرف، وهؤلاء في طرف، وتوسط أهل السنة بينهم وجعلوا للعبد قدرة، وله إرادة واختيار، وجعلوا تلك القدرة خاضعةً لقدرة الله، مغلوبة بقدرته.

    فهذا معنى كون الدين الإسلامي بين الغالي والجافي، وبين القدري والجبري، وبين المشبِّه والمعطِّل، ونحو ذلك، أي وسط بين الطرفين.

    1.   

    بيان معتقد المعتزلة

    قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [.. (.. فهذا ديننا واعتقادنا ظاهراً وباطناً، ونحن بُرَآءُ إلى الله تعالى من كل مَن خالف الذي ذكرناه وبيناه، ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإيمان، ويختم لنا به، ويعصمنا من الأهواء المختلفة، والآراء المتفرقة، والمذاهب الرديئة مثل: المشبهة، والمعتزلة، والجهمية، والجبرية، والقدرية، وغيرهم من الذين خالفوا الجماعة، وحالفوا الضلالة، ونحن منهم بُرَآء، وهم عندنا ضُلَّال وأردياء، وبالله العصمة والتوفيق).

    الإشارة بقوله: (فهذا): إلى كل ما تقدم من أول الكتاب إلى هنا.

    والمشبهة: هم الذين شبهوا الله سبحانه وتعالى بالخلق في صفاته، وقولهم عكس قول النصارى، فإن النصارى شبهوا المخلوق -وهو عيسى عليه السلام- بالخالق تعالى، وجعلوه إلهاً، وهؤلاء شبهوا الخالق بالمخلوق، كـداوُد الجواربي وأشباهه.

    والمعتزلة: هم عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء الغزال وأصحابهما، سُمُّوا بذلك لما اعتزلوا الجماعة بعد موت الحسن البصري رحمه الله تعالى في أوائل المائة الثانية، وكانوا يجلسون معتزلين، فيقول قتادة وغيره: أولئك المعتزلة، وقيل: إن واصل بن عطاء هو الذي وضع أصول مذهب المعتزلة، وتابعه عمرو بن عبيد تلميذ الحسن البصري ، فلما كان زمن هارون الرشيد صنف لهم أبو الهذيل كتابين، وبيَّن مذهبهم، وبنى مذهبهم على الأصول الخمسة التي سَمَّوها:

    العدل.

    والتوحيد.

    وإنفاذ الوعيد.

    والمنزلة بين المنزلتين.

    والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

    ولبَّسوا فيها الحق بالباطل؛ إذ شأن البدع هذا، اشتمالها على حق وباطل، وهم مشبِّهة الأفعال؛ لأنهم قاسوا أفعال الله تعالى على أفعال عباده، وجعلوا ما يحسن من العباد يحسن منه، وما يقبح من العباد يقبح منه!

    قالوا: يجب عليه أن يفعل كذا، ولا يجوز له أن يفعل كذا، بمقتضى ذلك القياس الفاسد! فإن السيد من بني آدم لو رأى عبيده يزنون بإمائه ولا يمنعهم من ذلك، لعُدَّ إما مستحسناً للقبيح وإما عاجزاً، فكيف يصح قياس أفعاله سبحانه وتعالى على أفعال عباده؟!

    والكلام على هذا المعنى مبسوط في موضعه.

    فأما العدل: فسَتَرُوا تحته نفي القدر، وقالوا: إن الله لا يخلق الشر، ولا يقضي به؛ إذ لو خلقه ثم يعذبهم عليه يكون ذلك جوراً! والله تعالى عادل لا يجور، ويلزمهم على هذا الأصل الفاسد أن الله تعالى يكون في ملكه ما لا يريده، فيريد الشيء ولا يكون، ولازمه وصفه بالعجز! تعالى الله عن ذلك.

    وأما التوحيد: فسَتَرُوا تحته القول بخلق القرآن؛ إذ لو كان غير مخلوق لزم تعدد القدماء! ويلزمهم على هذا القول الفاسد أن علمه وقدرته وسائر صفاته مخلوقة أو التناقض!

    وأما الوعيد: فقالوا: إذا أوعد بعض عبيده وعيداً فلا يجوز ألَّا يعذبهم ويُخلف وعيده؛ لأنه لا يخلف الميعاد، فلا يعفو عمن يشاء، ولا يغفر لمن يريد عندهم!

    وأما المنزلة بين المنزلتين: فعندهم أن من ارتكب كبيرة يخرج من الإيمان، ولا يدخل في الكفر!

    وأما الأمر بالمعروف، وهو أنهم قالوا: علينا أن نأمر غيرنا بما أُمِرنا به، وأن نلزمه بما يَلْزَمنا، وذلك هو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وضمَّنوه أنه يجوز الخروج على الأئمة بالقتال إذا جاروا!

    وقد تقدم جواب هذه الشُّبَه الخمس في مواضعها.

    وعندهم أن التوحيد والعدل من الأصول العقلية التي لا يُعلم صحة السمع إلا بعدها، وإذا استدلوا على ذلك بأدلة سمعية إنما يذكرونها للاعتضاد بها، لا للاعتماد عليها، فهم يقولون: لا تثبت هذه بالسمع، بل العلم بها متقدم على العلم بصحة النقل! فمنهم من لا يذكرها في الأصول؛ إذ لا فائدة فيها عندهم، ومنهم من يذكرها ليبيِّن موافقة السمع للعقل، ولإيناس الناس بها، لا للاعتماد عليها.

    والقرآن والحديث فيه عندهم بمنزلة الشهود الزائدَين على النصاب، والمدد اللاحق بعسكر مستغنٍ عنهم، وبمنزلة من يتبع هواه، واتفق أن الشرع ما يهواه! كما قال عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه: لا تكن ممن يتبع الحق إذا وافق هواه، ويخالفه إذا خالف هواه، فإذاً أنت لا تُثاب على ما وافقتَه من الحق، وتعاقَب على ما تركتَه منه؛ لأنك إنما اتبعتَ هواك في الموضعين، وكما أن الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، والعمل يتبع قصد صاحبه وإرادته، فالاعتقاد القوي يتبع أيضاً علم ذلك وتصديقه، فإن كان تابعاً للإيمان كان من الإيمان، كما أن العمل الصالح إذا كان عن نية صالحة كان صالحاً، وإلَّا فلا، فقول أهل الإيمان التابع لغير الإيمان كعمل أهل الصلاح التابع لغير قصد أهل الصلاح، وفي المعتزلة زنادقة كثيرة، وفيهم من: ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعَاً [الكهف:104] ..].

    في هذه الخاتمة تكلم الماتن والشارح على هذه الفرق التي خالفت أهل السنة في الاعتقاد، ولا شك أن مخالفتهم عن عناد، وذلك لأنهم حكَّموا العقول في الشرع، ونظروا فيما يهوَونه، وفيما تميل إليه أهواؤهم، فاتبعوه، فصدق عليهم أنهم ممن اتبع هواه، أو ممن اتخذ إلهه هواه، ولا شك أن الهوى يُعمي ويُصم، وأنه ما تحت أديم السماء إله يُعبد أو يطاع من هوىً يُتبع، وهؤلاء ذكر لنا منهم طائفتين:

    الطائفة الأولى: المشبهة.

    الطائفة الثانية: المعتزلة.

    وهما في طرفي نقيض.

    فالمعتزلة نسميهم: معطِّلة.

    والمشبهة نسميهم: ممثِّلة.

    وقد قال بعض السلف: (الممثل يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً).

    ويقول ابن القيم رحمه الله:

    لسنا نشبِّه ربنا بصفاتنا إن المشبِّه عابد الأوثان

    كلا ولا نخليه من أوصافه إن المعطل عابد البهتان

    ويقول بعضهم: من شبَّه الله تعالى بخلقه فقد كفر، ومن نفى وأبطل ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما أثبته الله لنفسه تشبيه.

    وهم يقولون: إثبات هذه الصفات التي وردت في الكتاب والسنة تشبيه، وذلك لأنها صفات موجودة في المخلوق، وإذا كانت موجودة في المخلوق وأثبتت للخالق فقد حصل التشبيه، ويعتمدون على مثل قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] فهم دائماً يعتمدونها، وهذا دليلهم السمعي، وأما دليلهم العقلي فهو المحكم عندهم دائماً، يجعلون عقولهم حاكمة على الكتاب والسنة، ولا يعترفون من الوحيين إلا بما يوافق أهواءهم، بل العمدة عندهم هو العقل.

    والمشبهة هم الذين غلوا في الإثبات، فجعلوا صفات الخالق كصفات المخلوق، فيقول أحدهم: لله أيدٍ كأيدينا، وله أعين وأرجل كصفاتنا، وله كذا وكذا، ويقولون: هذا ما يوجد وعندنا ما نشاهده، وإذا أخبرنا الله بشيء غائب وسماه قسناه على ما نعرفه ونشاهده.

    ويقال لهم: كل شيء له صفات تناسب ذاته، فكما أن لله تعالى ذاتاً لا تشبه الذوات فله صفات لا تشبه الصفات، فكما أن ذات الله تعالى لا تشبه ذواتنا فكذا نقول في سائر صفاته.

    أما المعتزلة الذين هم المعطلة النفاة فإنهم نفوا صفات الله التي هي صفات كمال، وجعلوها مجازاً، ولم يثبتوا لله لا صفات فعل ولا صفات ذات، فهؤلاء غلوا في النفي.

    أول من أسس مذهب المعتزلة وسبب تسميتهم

    المعتزلة كما ذكر الشارح أنهم حدثوا قديماً في أول القرن الثاني، أو في أول المائة الثانية، أو في آخر حياة الحسن البصري ، خرج من حلقته رجل يقال له: واصل بن عطاء ، هذا الرجل كان فصيحاً جريئاً في الكلام، ذكياً قوي العبارة؛ ولكن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنَاً [فاطر:8].

    أول ما ظهر مذهب المعتزلة أنه جاء رجل يسأل الحسن البصري عن مسألة الكفر والإيمان والفرق بينهما، فتكلم واصل وقال: أنا لا أقول: إن العاصي مؤمن، ولا أقول: إنه كافر، بل هو في منزلة بينهما، فلا أحكم بأنه مؤمن فأعامله معاملة أهل الإيمان، ولا أحكم بأنه كافر فأقاتله كمقاتلتي للكفار، بل أجعله في منزلة بينهما.

    فعند ذلك أراد أن يقنعه الحسن فامتنع من الاقتناع، ثم اعتزل في ناحية من المجلس، فمجلس الحسن كان في جهة وهو في جهة، وجعل يقرر منهجه لِمَا أُعْطِيَه من بلاغة وقوة، وجعل الذين أعجبوا به يجلسون في حلقته، واعتزلوا حلقة الحسن البصري رحمه الله، فكلما جاء رجل من المبتدعة، وسأل عن مسألة وظهر أن في مسألته شيء من التعنُّت وشيء من الشدة قال له الحسن : اذهب إلى أولئك المعتزلة، أو يقول في جوابه له: عند أولئك المعتزلة، يعني: الذين اعتزلوا مجلس الحسن ، فلُقبوا بالمعتزلة، واعترفوا بهذا الاسم.

    الآن يوجد منهم بقايا على مذهبهم كله، أو على بعض مذهبهم، وكثير ممن يُسمَّون أشعرية مذهبهم قريب في باب الصفات من مذهب المعتزلة؛ لأن الفرق يسير، كذلك الشيعة والرافضة، فعلماء الرافضة قديماً وحديثاً على مذهب المعتزلة، يوجد على مذهبهم طوائف كثيرة في كثير من البلاد، في الشام، وفي مصر، وفي العراق، وفي اليمن، وفي أفريقيا، وفي الباكستان، وفي كثير من البلاد العربية وغير العربية، يعني: لا نقول: إنهم انقطعوا؛ بل هم موجودون، وقد طبعت قريباً كتبٌ لواحد من أكابرهم، وهو القاضي عبد الجبار، وهو من أكابر المعتزلة، فله كتاب كبير اسمه: المغني، طُبع في نحو أربعة عشر مجلداً، ضمَّنه عقليات مذهبهم، والذين طبعوه أُعجبوا بأسلوبه، وبقوة تعبيره، وسبكه للكلام، وحققوه ونشروه، وطُبع له كتاب آخر اسمه: الأصول الخمسة، وهي التي ذكرها الشارح كما سمعنا، وهي أصولهم التي بنوا عليها مذهبهم، وقد ضمَّنها في ذلك الكتاب.

    أصول المعتزلة الخمسة

    أصول المعتزلة خمسة وهي:

    الأصل الأول: التوحيد: ويريدون به نفي الصفات، يقولون: إن الله إذا أثبتنا له سمعاً وبصراً وعلماً وحياةً وقدرةً، فما أثبتنا واحداً بل أثبتنا عدداً، فلا نثبت إلَّا واحداً، حتى نكون بذلك موحِّدين.

    يرد عليهم بأن يقال: إن الصفات من جملة الذات، فلا يكون هناك تعدد.

    فالحاصل أن أصلهم الأول: التوحيد الذي ضمَّنوه نفي الصفات.

    الأصل الثاني: العدل: وهو الأصل في هذا الكتاب الذي صنفه القاضي عبد الجبار منهم.

    والعدل عندهم معناه: نفي قدرة الله على أفعال العباد، يقولون: إن الله لا يخلق الذنب ثم يعاقب عليه، بل العبد هو الذي يخلق فعل نفسه، فنفوا أن الله يهدي من يشاء، ويضل من يشاء.

    الأصل الثالث: المنزلة بين المنزلتين: وهو أن أهل الكبائر ليسوا بمسلمين ولا بكفار، بل في منزلة بينهما، ولا أدري من أين جاءوا بهذه المنزلة، وأهل السنة يقولون: إنهم مؤمنون ناقص إيمانهم، أو فسقة، أو مؤمنون بأصل الإيمان الذي في قلوبهم، وأما معاصيهم فسموا بها فسقة.

    الأصل الرابع: إنفاذ الوعيد: يقولون: الآيات التي فيها وعيد على ذنب لا بد من إنفاذه حتى لا يخلف الله وعده، فإذا وعد أهل الكبائر بأنهم في النار فلا بد أن يدخلوها، ولا يخرجون منها أبداً، فكل ذنب مات صاحبه مصراً عليه فإنه يعتبر كافراً، ويعتبر مخلداً في النار، هذا حكمه في الآخرة، ولذلك ينكرون شفاعة الشافعين ويقولون: ليس هناك شفاعة، من دخل النار من أهل الكبائر لا يخرج منها أبداً، بل هو مخلد فيها.

    الأصل الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويضمِّنون ذلك أن كل منكر رأوه فإنهم يقاتلون عليه، حتى ولو كان الذي أظهر المنكر وعمل به خليفةً أو إماماً عاماً أو ملكاً من الملوك، فهم يخرجون عليه، وأخذوه من معتقد الخوراج، فهم يستبيحون الخروج على الأئمة بمجرد الذنوب، وقد خالفهم أهل السنة لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الأمراء العصاة ونحوهم: (اسمع وأطع، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك)، ويقول في الولاة ونحوهم: (عليكم بالسمع والطاعة -أي: لولاة الأمور مهما كانت حالتهم- في المنشط والمكره، والعسر واليسر، والأثرة -أي: إذا استأثر عليكم بشيء فاسمعوا وأطيعوا- ما لم تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان).

    فهذه الأصول الخمسة هي التي بنوا عليها مذهبهم:

    1- التوحيد.

    2- العدل.

    3- المنزلة بين المنزلتين.

    4- إنفاذ الوعيد.

    5- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

    هكذا جعلوها معتقدهم، ودليلهم في ذلك هو العقل، ولا يعترفون بالسمع، والأدلة السمعية إذا جاءت موافقةً لمعتقدهم جعلوها زائدة على قدر الحاجة، كما ذكر الشارح أنهم يمثلونها بالمدد الذي جاء إلى الجيش بعد الاستغناء عنه، لو كان هناك جيشان متقاتلان ومتكافئان، هذا يكافئ هذا، وجاء لهذا الجيش مدد يقويه، فهذا الجيش الذي يقاتل يقول: لا حاجة لنا في هذا المدد، نحن نقدر أن نقاوم عدونا، وأن ننتصر عليه.

    فيقول: إن هذه الأدلة التي اعتمدوها هي أدلة عقلية، وجاءت الأدلة السمعية التي هي الآيات والأحاديث فلم يأبهوا بها، ويقولون: نحن في غنىً عنها، أدلتنا العقلية كافية ومقنعة، حيث إنا رجعنا إليها واقتنعنا بها، وجعلناها هي الأصل الأصيل، والأساس لمعتقدنا، ولا شك أن عقائدهم التي بُنيت على هذا العقل متهافتة؛ ولذا كثُر في باب العقائد اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله تعالى حجابهم، وكثر تناقضهم، ورجوع أكابرهم عما كانوا عليه.

    تأتي المسألة ويختلفون فيها، هذا يقول: العقل أقرها، وهذا يقول: العقل نفاها، كيف تكون مسألة واحدة ينفيها هذا بالعقل ويثبتها هذا بالعقل؟!

    فهذا دليلٌ على أن العقول ليست معتمَدة، بل العمدة على السمع، العمدة على الأدلة النقلية التي هي مسموعة مثبتة، جاءت من قبل الله العزيز الحكيم، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، فهذا هو المعتمَد الصحيح.

    1.   

    بيان مذهب الجهمية

    قال الشارح رحمه الله: [.. والجهمية: هم المنتسبون إلى جهم بن صفوان الترمذي ، وهو الذي أظهر نفي الصفات والتعطيل، وهو أخذ ذلك عن الجعد بن درهم الذي ضحى به خالد بن عبد الله القسري بواسط، فإنه خطب الناس في يوم عيد الأضحى وقال: أيها الناس! ضحوا تقبَّل الله ضحاياكم، فإني مُضحٍّ بـالجعد بن درهم فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً! ثم نزل فذبحه، وكان ذلك بعد استفتاء علماء زمانه وهم السلف الصالح رحمهم الله تعالى.

    وكان جهم بعده بخراسان، فأظهر مقالته هناك، وتبعه عليها ناس بعد أن ترك الصلاة أربعين يوماً شكاً في ربه! وكان ذلك لمناظرته قوماً من المشركين يقال لهم السُّمَنية من فلاسفة الهند، الذين ينكرون من العلم ما سوى الحسيات قالوا له: هذا ربك الذي تعبده هل يُرَى أو يُشَم أو يُذاق أو يُلْمَس؟

    فقال: لا.

    فقالوا: هو معدوم!

    فبقي أربعين يوماً لا يعبد شيئاً، ثم لما خلا قلبه من معبود يألهه نقش الشيطان اعتقاداً نَحَته فكرُه فقال: إنه الوجود المطلق! ونفى جميع الصفات، واتصل بـالجعد .

    وقد قيل: إن الجعد كان قد اتصل بالصابئة الفلاسفة من أهل حران، وأنه أيضاً أخذ شيئاً عن بعض اليهود المحرفين لدينهم المتصلين بـلبيد بن الأعصم الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، فقُتل جهم بخراسان،قتله سلم بن أحوز ؛ ولكن كانت قد فشت مقالته في الناس، وتقلدها بعده المعتزلة؛ ولكن كان الجهم أدخل في التعطيل منهم؛ لأنه ينكر الأسماء حقيقة، وهم لا ينكرون الأسماء بل الصفات.

    وقد تنازع العلماء في الجهمية هل هم من الثنتين وسبعين فرقةً أم لا؟ ولهم في ذلك قولان، وممن قال: إنهم ليسوا من الثنتين وسبعين فرقةً: عبد الله بن المبارك ويوسف بن أسباط .

    وإنما اشتهرت مقالة الجهمية من حين محنة الإمام أحمد بن حنبل وغيره من علماء السنة، فإنه من إمارة المأمون قووا وكثروا، فإنه كان قد أقام بخراسان مدة، واجتمع بهم، ثم كتب بالمحنة من طرسوس سنة ثمان عشرة ومائتين، وفيها مات، وردوا الإمام أحمد إلى الحبس ببغداد إلى سنة عشرين، وفيها كانت محنته مع المعتصم ، ومناظرته لهم بالكلام، فلما رد عليهم ما احتجوا به عليه، وبيَّن أنه لا حجة لهم في شيء من ذلك، وأن طلبهم من الناس أن يوافقوهم، وامتحانهم إياهم جهل وظلم، وأراد المعتصم إطلاقه، أشار عليه مَن أشار بأن المصلحة ضربُه؛ لئلا تنكسر حرمة الخلافة مرةً من بعد مرة! فلما ضربوه قامت الشناعة في العامة، وخافوا فأطلقوه، وقصته مذكوره في كتب التاريخ.

    ومما انفرد به جهم : أن الجنة والنار تفنيان، وأن الإيمان هو المعرفة فقط، والكفر هو الجهل فقط، وأنه لا فعل لأحد في الحقيقة إلا لله وحده، وأن الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على سبيل المجاز، كما يقال: تحركت الشجرة، ودار الفلك، وزالت الشمس، ولقد أحسن القائل:

    عجبت لشيطان دعا الناس جهرةً إلى النار واشتُق اسمه من جهنم

    وقد نقل أن أبا حنيفة رحمه الله سئل عن الكلام في الأعراض والأجسام فقال: لعن الله عمرو بن عبيد هو فتح على الناس الكلام في هذا!].

    الجهمية طائفة من المبتدعة، ومن أقدمهم وأعرقهم في البدعة، وهم أتباع هذا الشيطان الذي وصفه هذا الشاعر بقوله:

    عجبت لشيطان دعا الناس جهرةً إلى النار واشتُق اسمه من جهنم

    فسماه: شيطاناً، وجعل اسمه مشتقاً من جهنم، وليس بين اسمه وبين اسم جهنم إلَّا زيادة النون، هذا الرجل ذكر أنه كان بخراسان التي تعرف الآن بإيران، ومن أين أخذ هذه المقالة؟ أخذها من شيخ قبله يقال له: الجعد بن درهم ، والجعد أخذها من يهودي يقال له: طالوت وطالوت أخذها من خاله اليهودي الذي يقال له: لبيد بن الأعصم ، وهو الذي عمل السحر للنبي صلى الله عليه وسلم، فكفاه الله شره وأبطل كيده، فرجع إسناد الجهم إلى اليهود أو إلى سحرة اليهود.

    وله إسنادٌ ثانٍ ذكره الشارح وهو أنه اتفق مرةً بفرقة يقال لهم: السُّمَنِية، وكانوا ينكرون من العلوم ما سوى الحسيات، لا يقرون إلَّا بشيء رأوه بأعينهم، أو سمعوه بآذانهم، أو لمسوه بأيديهم، أو شموه بأنوفهم، أو ذاقوه بألسنتهم، أما الذي يُخبَرون عنه وهم لَم يروه فإنَّهم لا يقبلونه، هؤلاء ينكرون من العلوم ما سوى الحسيات.

    لما لقوا هذا الرجل الذي هو الجهم شككوه في ربه فقالوا له: ربك الذي أنت تعبد، هل رأيته؟

    قال: لا.

    هل سمعت كلامه إليك؟

    قال: لا.

    هل لمسته؟ هل شممته؟

    قال: لا

    قالوا: إذاً: ليس لك رب، إذاً: هو معدوم.

    فعند ذلك بقي متحيراً أربعين يوماً لا يصلي؛ شاكاً في وجود ربه؛ ولكنه بعد ذلك تذكر فقال لكبير أولئك السُّمَنِية: أليس لك روح؟

    فقال: نعم.

    قال: روحك هذه التي تدخل في جسدك ثم تخرج منه وتدخل في الجسد وهكذا ثم تخرج منه، هل رأيتها بعينك؟

    قال: لا.

    هل شممتها؟ .. هل لمستها؟ .. هل سمعتها؟

    قال: لا.

    قال: فإذاً: هي موجودة وجوداً مطلقاً، فكذلك وجود الله وجود مطلق.

    فاعتقد الجهم أن وجود الخالق مجرد وجود دون أن تكون له ذات، بل الوجود المطلق بشرط الإطلاق.

    فبقي على هذه العقيدة وهي نفي الأسماء والصفات، فلا يثبت لله أسماءً إلَّا على الطريق المجاز، ولا يثبت لله صفاتٍ أبداً، بل كل صفاته ينكرها، حتى ولو كانت في كتاب الله تعالى، أو في الصحيحين، هذه عقيدته في باب الصفات.

    عقيدة الجهم في الإيمان والأفعال

    عقيدة الجهم في باب الإرجاء أنه يقول: لا يضر مع الإيمان ذنب، ويبيح للعاصي أن يكثر من كبائر الذنوب، فلا يضره لو سرق، ولو زنى، ولو قتل، ولو نهب، ولو سكر، ولو أكل مال يتيم، ولو فعل ما فعل، ما تضر الذنوب عنده.

    وعنده أن الإيمان هو مجرد المعرفة، يقول: إذا كنت عارفاً بالله فأنت مؤمن كامل الإيمان، والكفر عنده هو الجهل فقط، من كان جاهلاً بالله فإنه يعتبر عنده كافراً، وأما إذا كان يعرف الله معرفة الوجود المطلق، فإنه يسمى مؤمناً كامل الإيمان.

    ومن عقيدته أنه يقول بالجبر، فلا يثبت لله تعالى أفعالاً، وورثه الجبرية في ذلك، حيث ادعى أن العبد مجبور على أفعاله، ليس له أي اختيار، بل هو مجبور عليها ومقهور، ليس له اختيار أصلاً، هذه عقيدته!

    انفرد بثلاثة أشياء:

    بالتعطيل.

    وبالجبر.

    وبالإرجاء.

    وزعم أن الإيمان مجرد إثبات المعرفة فقط.

    وشيخه الذي أخذ العلم عنه وهو الجعد من عقيدته أنه ينكر الصفات، فمن جملة ما ينكره:

    صفة الخلة التي هي المحبة: فيقول: إن الله ما اتخذ إبراهيم خليلاً.

    وصفة الكلام: فيقول: إن الله تعالى ما كلم موسى تكليماً.

    فلأجل الكلمتين هاتين -إنكار الكلام وإنكار المحبة- قتله السلف، وأفتى العلماء بحل قتله، فقتله أمير في العراق يقال له: خالد بن عبد الله القسري وجعله كأضحية، ضحى به في يوم عيد وقال: أيها الناس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مُضَحٍّ بـالجعد بن درهم .

    شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان

    بشر المريسي ونشره لمذهب الجهمية

    الجعد قتله خالد القسري ، والجهم قتله سلم بن أحوز، فكل منهما قُتل، فدل على عظم ذنب كل منهما؛ ولكن مع الأسف بقيت عقيدتهما بعدهما، ما قتل الجهم إلَّا بعد أن أضل خلقاً كثيراً، وبعد أن تبعه أقوام وأفواج، وتمكنت عقيدته في إيران وفي تلك البلاد، ثم وصلت إلى العراق، فكان في العراق جهمي يقال له: بشر المريسي تقلد هذه العقيدة وكتب فيها كتباً، وقد رد عليه العلماء، ومن جملة من رد عليه: الإمام الدارمي في الرد المطبوع المسمى: رد الإمام الدارمي عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد، وبيَّن في رده مذهب أهل السنة، وأبطل مذهبه الذي بناه على العقليات.

    وفي زمن المريسي لم يكن له قوة وصولة؛ ولكن بعد موت الرشيد وموت ابنه الأمين بن الرشيد تولى الخلافة المأمون ، ولما تولاها استولى عليه هؤلاء الجهمية وقربوا منه، وزيَّنوا له هذا المذهب الباطل، فانتحله واعتقده، فعند ذلك دعا الناس إلى اعتناقه، وفتن الناس، وحصل أذىً كثيراً، حتى فُتن الأئمة وأُدخل السجون كثيرٌ منهم، وأُكرهوا على أن يعتنقوا هذا القول، فادعى كثير منهم ذلك من باب التخلص لا أنه من باب عقيدة، كـيحيى بن معين وغيره، وأما الإمام أحمد رحمه الله فإنه أصر على عقيدته، وطلب منهم دليلاً يؤيدون به حجتهم، فلم يأتوه بدليل مقنع، فأصر على أن القرآن كلام الله، وأنه ليس بمخلوق، وعذبوه أشد العذاب؛ ولكن لم يزدد إلا تصلباً وتشدداً، فقال له بعضهم: لو قلت: إن القرآن مخلوق لخلصناك من هذا العذاب، فقال: لو قلتم: إن القرآن كلام الله لخلصتم من عذاب النار.

    والحاصل: أنه أصر على ذلك إلى أن جعل الله له فرجاً ومخرجاً، فتوفي المأمون قبل أن يصل إليه الإمام أحمد ؛ ولكن تولى تعذيبه أخوه الذي استولى بعده، وهو المعتصم ، إلى أن مات المعتصم والإمام أحمد لا يزال يُعذَّب أو لا يزال يُهان، وتولى بعده الواثق بن المعتصم ولكنه خفف المحنة، ولما مات الواثق تولى بعده ابنه المتوكل فنصر السنة وقرَّبها، وكبت أهل البدعة، وزالت دولتهم، ولا يزال لله تعالى قائم بالحق في كل زمان يجاهد في الله ويناضل.

    1.   

    الأسئلة

    شرح معنى قوله: (وأما التوحيد فستروا تحته القول بخلق القرآن ...)

    السؤال: نرجو من فضيلتكم توضيح معنى قول الشارح: [وأما التوحيد فسَتَرُوا تحته القول بخلق القرآن، إذ لو كان غير مخلوق لزم تعدد القدماء، ويلزمهم على هذا القول الفاسد أن علمه وقدرته وسائر صفاته مخلوقة أو التناقض]؟

    الجواب: يتكلم الشارح عما يعتقده المعتزلة، وذكرنا أن أول أصولهم: التوحيد، فيقولون: نحن نقول بالتوحيد، وهو أنه ليس لله إلَّا ذات، فلا نقول: إن الله متكلم، ولا نقول: إن القرآن كلام الله، بل القرآن مخلوق، كما أن الإنسان مخلوق، والسماء مخلوقة، والأرض مخلوقة، والجبل مخلوق، فالقرآن مخلوق!

    لماذا تقولون: إن القرآن مخلوق؟!

    يقولون: لئلا يلزم تعدد القدماء، إذا قلنا: كلام الله قديم، وذات الله قديمة، صار عندنا قديمان، فنقول: ذات الله قديمة فقط، والقرآن حادث ومخلوق.

    هكذا قالوا! فالتوحيد عندهم: إنكار كلام الله، وإنكار صفات الله.

    أما الرد عليهم فسمعنا كلام الشارح حيث يقول: يلزمكم أن تقولوا: إن الله مخلوق، وحياته مخلوقة، وسمعه وبصره مخلوقان، فتجعلون لله تعالى في ذاته ما هو مخلوق، وهذا لازم لهم لا محيد لهم عنه.

    الفرق بين المعتزلة والجهمية

    السؤال: هل ينكر المعتزلة جميع الصفات؟ وما الفرق بين المعتزلة والجهمية؟

    الجواب: المعتزلة ينكرون جميع الصفات؛ ولكنهم يقرون بالأسماء، أما الجهمية فينكرون الأسماء أيضاً، ولا يعترفون لله تعالى بالأسماء، حتى كلمة (شيء) لا يقولون: إن الله شيء، إنما يعترفون بكلمة (موجود)، أو يثبتون الوجود، هذا الفرق بينهما.

    الأشاعرة وما يثبتونه من الصفات

    السؤال: ما هو مذهب الأشاعرة؟ وماذا يثبتون من الصفات؟ وما حجتهم؟

    الجواب: الأشاعرة حدثوا في آخر القرن الثالث، وانتسبوا إلى أبي الحسن الأشعري، وهو من ذرية أبي موسى ، ويثبتون سبع صفات، وينكرون بقيتها، فيثبتون العلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام والحياة، يثبتونها حقيقةً، ويجعلون الباقي مجازاً، هذا مذهبهم.

    المقصود بقول أهل السنة: إن الله خالق أفعال العباد

    السؤال: من مذهب أهل السنة والجماعة أن الله خالق أفعال العباد، فما المقصود بذلك؟ وهل الخلق هنا هو المشيئة؟

    الجواب: من مذهب أهل السنة أن الله خلق أفعال العباد بمعنى: أنه هو الذي خلقهم وخلق أفعالهم؛ ولكن معلوم أن الله هو الذي هداهم، وهو الذي أقدرهم، وهو الذي قواهم، ولو شاء لما اهتدوا لفعل أفعالهم.

    وهو الذي يهدي هؤلاء بفضله، ويضل هؤلاء بعدله.

    جمع الجهم بين الإرجاء والتعطيل والجبر

    السؤال: قلتَ: إن الجهم يرى الإرجاء، وأنه يقول: لا يضر مع الإيمان معصية، ولا مع الكفر طاعة، مع أن شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: لا نعلم شخصاً بعينه قال بمقالة الإرجاء نصاً، فما رأيكم جزاكم الله خيراً؟

    الجواب: شيخ الإسلام هو الذي ذكر عن الجهم أنه يقول بالإرجاء، يعني: كونه لا يضر مع الإيمان ذنب، وذكر أن الجهم أيضاً هو الذي يقول بالجبر، أي: أن العبد مجبور على أعماله وسيئاته.

    فكونه يقول هذه المقالة فلعله يريد بذلك مَن بعدَه، يعني: قد يقال: لا نعلم أحداً اجتمعت فيه هذه الثلاث: التعطيل والإرجاء والجبر إلا الجهم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755978994