إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [77]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من دعا إلى هدى فله مثل أجر من عمل به، وإمام الدعاة إلى الهدى هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا فإن له مثل أجر كل عامل من أمته يعمل خيراً، وليس بحاجة لأن يهدى له ثواب الأعمال بعد ذلك. ويتعلق بإهداء الثواب مسألة القراءة عند القبر، وقد اختلف فيها العلماء، والتوفيق بين الأدلة هو القول الوسط.

    1.   

    الجواب عن أدلة المانعين وصول ثواب الأعمال المهداة للميت

    من جملة المسائل الفرعية التي تلحق بالعقيدة مسألة إهداء الثواب للأموات، أو انتفاع الأموات بأعمال الأحياء التي يعملونها ويهدونها إلى الأموات، وهذه مسألة فروعية، ولكن لها صلة بالعقيدة، وذلك:

    أولاً: أن الخلاف فيها مع المبتدعة؛ فلأجل ذلك ألحقت بالأمور العقدية.

    وثانياً: أنها من الأمور الغيبية، وذلك أن الأموات في عالم غير عالمنا.. في برزخ بين الدنيا والآخرة، وانتفاعهم بهذه الأعمال غيب عنا، فلا ندري ولا يظهر لنا وجه الانتفاع جلياً، فلأجل ذلك اعتمدنا فيه على الدليل، والأدلة التي اعتمدنا عليها وإن لم تكن قطعية الثبوت، ولكنها ظنية، فلأجل ذلك جعل هذا الباب في باب العقائد.

    وقد تقدم ذكر الخلاف، والجواب عما استدل به المخالف؛ وذلك لأن المخالفين من المبتدعة اعتمدوا على الآية التي في سورة النجم، وهي قول الله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]، فقالوا: لا ينفع الميت إلا سعيه -أي: عمله- كما لا ينفع الحي إلا سعيه -أي: عمله-.

    الجواب عن استدلالهم بقوله تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)

    وأجيب: بأن الإنسان اكتسب الأصدقاء واكتسب الأقارب ونحوهم، فاكتسابه هذا يعتبر من سعيه، فإذا تصدقوا عنه، أو دعوا له، أو حجوا عنه، أو استغفروا له -أو نحو ذلك- فإن ذلك من آثار سعيه وكسبه في كثرة الأصدقاء، حيث تودد إليهم بما جعلهم يخلصون له المودة.

    وأجيب أيضاً: بأن الآية في ملكية الإنسان، ومعلوم أنه لا يملك إلا عمله أو ماله، وأما عمل غيره فملك لصاحبه، لكن إذا تبرع به اعتبر ملكاً لمن تُبرع له به، ويقاس ذلك على المال، فالمال الذي تكتسبه هو ملكك ولا تملك غيره، ولكن متى تبرع لك صديقك بمال.. متى أهدى إليك هدية، أو أعطاك عطية، وسمحت بها نفسه، فإنك تملك تلك الهدية، وتدخل في ملكك، وتنتقل من ملكه، فكذلك إذا عمل عملاً صالحاً كحجة وجهاد وصدقة ودعاء ونحو ذلك، وأهداها لفلان الحي أو لفلانٍ الميت وجعل ثوابها له، فإن ذلك بمنزلة ملكه للمال الذي أهدي له.

    الجواب عن استدلالهم بحديث: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله...)

    وأما الحديث الذي استدلوا به، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) ، فهذا -أيضاً- لا شك أنه ظاهر الدلالة، ولكن ليس المراد أنه لا ينتفع إلا بهذه الثلاثة، بل المراد: أنه لا يجري عليه، ولا يملك إلا هي؛ لكن متى تبرع له غير ولده بدعوة انتفع بها، ومتى تبرع له صديقه بصدقة عنه، أو بحجة عنه، أو بجهاد جاهده وجعل أجره لصديقه أو لقريبه فلان أو ما أشبه ذلك، فما المانع من وصولها إليه؟! بل لا شك أن ذلك يصل إليه، وقد اتفق المسلمون على أنه ينتفع بصلاتهم عليه، فإذا مات وصلوا عليه انتفع بذلك، وينتفع -أيضاً- بدعائهم له، فإذا زاروه في قبره ودعوا له انتفع بذلك، وكذلك إذا مر الإنسان على أهل القبور، وسلم عليهم، ودعا لهم؛ انتفعوا بذلك، فينتفعون من دعوات الأحياء بأشياء كثيرة تنور عليهم قبورهم، وتزداد بها حسناتهم، وتكفر بها خطاياهم، ولولا ذلك لما تصدق أحد عن أبويه، ولا تقرب عنهما بشيء.

    وهذا ظاهر والحمد لله، وقد تقدم الخلاف في الانتفاع أو في إهداء الأعمال البدنية كالصلاة والصوم -الذي هو عمل بدني محض- فذكر بعضهم أنه لا ينتفع بذلك.

    الجواب عن استدلالهم بحديث: (لا يصلي أحد عن أحد)

    واستدل بحديث: (لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد) ؛ ولكن وردت الأدلة في انتفاعه بالصوم في قوله عليه الصلاة والسلام: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) ، ولما جاءته امرأة وقالت: (إن أمي ماتت، وعليها صيام نذر أو صيام شهر. قال: أرأيتِ لو كان على أمك دين، أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء -أو: فدين الله أحق بالقضاء-) فأمرها بأن تصوم عن أمها، وسواء كان هذا الصوم فرضاً أو نذراً فإنه أقرها على أن تصوم، بل أمرها بذلك، وشبهه بقضاء الدين.

    وعلى هذا فمعنى قوله: (لا يصلي أحد عن أحد)، أي: لا يصلي عنه وهو قادر، يعني: لا يوكل أحد أخاه يصلي عنه، يقول: صلِ عني صلاة الظهر، أو: صلِ عني صلاة العشاء، أو: وكلتك أن تصلي عني صلاة المغرب أو العصر أو نحو ذلك، أو: وكلتك أن تصوم عني هذا اليوم من رمضان أو ما أشبه ذلك وهو قادر، فإن هذا لا يجوز؛ وذلك لأن العبادة وجهت إلى الإنسان القادر، فلا يجوز له أن ينيب غيره ولا يجوز له أن يوكل من يعمل عنه ذلك العمل وهو قادر؛ وذلك لأن الحكمة في هذه العبادة ظهور العبودية على الفاعل، فالصلاة فرضت على المسلمين، ولا يجوز لأحد أن يوكل من يصلي عنه، فإن تذلل المصلي يفوت بالتوكيل، فالمصلي يتذلل ويخشع ويخضع ويتواضع، ويظهر منه الخشوع والذل بين يدي ربه، وهذا لا يحصل له إذا وكل من يصلي عنه، فلا ينتفع بهذه الصلاة، ولا يحصل له بها تذلل ولا خشوع ولا تضرع وتمسكن بين يدي ربه.

    وكذلك الصيام شرع لإظهار الامتثال بترك طعامه وشرابه وزوجه لأجل امتثال أمر الله، فإذا وكل من يصوم عنه وأخذ يأكل ويشرب، اعتبر غير متقبل لأمر الله، ولم يجز عنه توكيله، فلأجل ذلك قالوا: لا يوكل في العبادات البدنية التي الحكمة منها إظهار الاستكانة والذل بين يدي الرب. ويلحق بذلك: حج الفريضة للقادر، فمن كان قادراً على الحج بالبدن وبالمال فإنه يكلف بأن يفعله ولا يوكل فيه، وذلك لأن الحكمة تقتضي الأمرين: تقتضي إنفاقه من ماله في هذا السبيل، وتقتضي عمله ببدنه هذه الأعمال، والأفضل هي الأعمال التي أمر بها، والأصل في شرعية الحج أن يظهر أثره على العامل، فالحاج إذا أحرم وخضع وخشع وتمسكن بلباسه الذي فيه تجرده عن لباسه المعتاد، أليس ذلك من أجل العبادات؟ هل تحصل له تلك المسكنة إذا وكل غيره؟! أليس إذا أخذ يطوف على البيت العتيق يحصل الثواب والتذلل، ويحصل له إخبات بين يدي ربه؟ هل يحصل هذا الإخبات إذا وكل عنه من يحج عنه؟! وهكذا إذا وقف بعرفات وهو خائف راج ذليل متواضع، هل تحصل هذه الحالة إذا وكل من يقف عنه؟!.

    إذاً: فالحج في الأصل هو العبادة البدنية.

    وقد عرفنا أنه غالباً ما يتكون من المال والبدن، ولكن قد يكون بدنياً محضاً، كالمكي الذي لا يقدر على أن يستأجر سيارة أو دابة يركبها، ولكنه قادر على أن يمشي ببدنه من مكة إلى منى، وإلى مزدلفة، وإلى عرفات، أليس ذلك مكلفاً بأن يحج ولا يسقط عنه الحج؟ أليس حجه بدنياً ليس فيه شيء من المال؟ وهذا يدل على أن الأصل في العبادة هو تحريك هذا البدن، فلأجل ذلك لم يصح أن يوكل فيه، ولكن إذا حج فرضه مع القدرة، ثم تبرع له ولده، أو تبرع له أخوه بأن أدى عنه حجة أخرى، أو طاف تطوعاً وأهدى طوافه له، فلا شك أنه ينتفع بذلك، حتى ولو كان قادراً.

    أما إذا عجز عن الحج إما لعيب في بدنه، وإما لقلة في ماله، وإما للصعوبة والمشقة بينه وبين الحرم، فإنه في هذه الحالة معذور، وإذا وكل غيره، أو قام غيره مقامه في هذا العمل وتبرع له متبرع؛ فإن ذلك ينفعه.

    فعرف بذلك الفرق بين العبادات البدنية المحضة كالصوم، والصلاة، والحج لمن هو في مكة، فإنها لا تدخلها النيابة إذا كانت فرضاً، وأما إذا كانت تطوعاً وأهدي له ثوابها فلا مانع من أن ينتفع به.

    أما بالنسبة للأعمال الأخرى فإنها تدخلها النيابة، فالأذكار يصح أن يذكر الله تعالى وأن يهدي ثوابها لأخيه أو قريبه، وكذلك المرء مأمور أن يدعو لأقاربه، أو للمسلمين عموماً، والصدقات يصح أن يوقعها عن قريبه حياً أو ميتاً بجزء من ماله، وهكذا بقية الأعمال.

    وقد مر بنا بعض الأشياء التي فيها خلاف، وعرفنا كيف الجواب عنها.

    1.   

    حكم إهداء ثواب الأعمال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن قيل: ما تقولون في الإهداء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قيل: من المتأخرين من استحبه، ومنهم من رآه بدعة؛ لأن الصحابة لم يكونوا يفعلونه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم له مثل أجر كل من عمل خيراً من أمته، من غير أن ينقص من أجر العامل شيء، لأنه هو الذي دل أمته على كل خير، وأرشدهم إليه.

    ومن قال: إن الميت ينتفع بقراءة القرآن عنده، باعتبار سماعه كلام الله، فهذا لم يصح عن أحد من الأئمة المشهورين، ولا شك في سماعه، ولكن انتفاعه بالسماع لا يصح، فإن ثواب الاستماع مشروط بالحياة، فإنه عمل اختياري، وقد انقطع بموته، بل ربما يتضرر ويتألم؛ لكونه لم يمتثل أوامر الله ونواهيه، أو لكونه لم يزدد من الخير.

    واختلف العلماء في قراءة القرآن عند القبور على ثلاثة أقوال:

    هل تكره، أم لا بأس بها، أم لا بأس بها وقت الدفن وتكره بعده؟

    فمن قال بكراهتها كـأبي حنيفة ومالك وأحمد -في رواية- قالوا: لأنه محدَث، لم ترد به السنة، والقراءة تشبه الصلاة، والصلاة عند القبور منهي عنها، فكذلك القراءة.

    ومن قال لا باس بها كـمحمد بن الحسن وأحمد -في رواية- استدلوا بما نقل عن ابن عمر رضي الله عنه: (أنه أوصى أن يقرأ على قبره وقت الدفن، بفواتح سورة البقرة، وخواتمها) ونقل أيضاً عن بعض المهاجرين قراءة سورة البقرة.

    ومن قال لا بأس بها وقت الدفن فقط -وهو رواية عن أحمد - أخذ بما نقل عن ابن عمر وبعض المهاجرين.

    وأما بعد ذلك، كالذين يتناوبون القبر للقراءة عنده فهذا مكروه، فإنه لم تأت به السنة، ولم ينقل عن أحد من السلف مثل ذلك أصلاً، وهذا القول لعله أقوى من غيره؛ لما فيه من التوفيق بين الدليلين.]

    أدلة عدم مشروعية إهداء ثواب الأعمال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

    أما ما يتعلق بالإهداء إلى رسول الله صلى عليه وسلم، فالشارح رحمه الله قد بين الحكم فيه، وذكر أنه لا يشرع أن تعمل عملاً وتقول: أجره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء كان قراءة أو صلاة أو ذكراً أو جهاداً أو غير ذلك، واحتج بدليلين:

    الدليل الأول: أنه لم يفعل في العهد النبوي، ولا في عهد الصحابة، ولم يكن أحد من الصحابة يعمل عملاً ويقول: أجره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان خيراً لسبقونا إليه؛ وذلك لأنهم أعرف به، وأعرف بما يكون من شريعته، وأيضاً فهم الذين يحبونه ويؤثرونه على أنفسهم، وهم الذين شاهدوه، وصحبوه، وقاتلوا معه، وصلوا خلفه، وتلقوا عنه سنته، ومع ذلك فلم يهدوا إليه ثواب صلاة ولا صوم ولا صدقة ولا غير ذلك، إلا ما نقل عن علي رضي الله عنه أنه كان يضحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكر أنه أوصاه بذلك، ولكن الحديث فيه ضعف.

    وعلى كل حال فهذا دليل واضح، وهو عدم فعل السلف، يعني عدم الإفتاء منهم.

    الدليل الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم ليس بحاجة إلى إهداء هذه الأعمال؛ وذلك لأن الله يكتب له مثل عمل كل عامل من أمته، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من دعا إلى هدى كان له مثل أجور من تبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه مثل أوزار من تبعه، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيء)، وقال: (من دل على خير فله مثل أجر فاعله)، أليس نبينا صلى الله عليه وسلم هو الذي دل على الإسلام؟! وهو الذي دل على الحسنات والصالحات؟ وهو الذي دل على الصلات والصدقات؟ وهو الذي دل على الخيرات كلها، وحذر عن الشرور؟!

    إذاً: أنت متى صليت صلاة كتب لك أجرها تاماً، وكتب له صلى الله عليه وسلم مثل أجر تلك الصلاة، وإذا جاهدت كتب لك أجر جهادك كاملاً وكتب مثله لنبيك صلى الله عليه وسلم؛ لأنك اهتديت بدعوته، وكذلك إذا تصدقت بصدقة، أو ذكرت الله، أو دعوته، أو قرأت كتابه، أو ما أشبه ذلك، كتب أجرك كاملاً وكتب له صلى الله عليه وسلم مثله من غير أن ينقص أجرك.

    إذاً: فهذا فضل الله عليه، فلا حاجة إلى أن يُهدى له، وأيضاً فأنت أحوج إلى عملك، وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أما أنت فإنك بحاجة للأسباب التي بها تغفر خطاياك، وتمحى بها سيئاتك، ويرجح بها ميزانك، فكونك تهدي عملك له وهو غني، وتترك نفسك وحاجتك! هذا فيه شيء من الخطأ والغلط، هذا ما يتعلق بالمسألة الأولى.

    1.   

    حكم قراءة القرآن عند القبور

    أما المسألة الثانية وهي: القراءة عند القبور: فهذه المسألة فيها ثلاث روايات عن الإمام أحمد :

    رواية: أنه يجوز وقت الدفن فقط، ورواية: أنه يجوز مطلقاً، ورواية: أنه لا يجوز مطلقاً.

    والأرجح: أنه لا يجوز قصد القبور للدعاء والقراءة عندها، كما لا يجوز أن تقصد للصلاة عندها؛ فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تتخذ القبور مساجد: (ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد).

    وثبت أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في المقبرة في أحاديث كثيرة، ولا شك أن العلة في ذلك مخافة الغلو، أو اعتقاد أن الذي يدعو عند القبر، أو يصلي عند القبر، أو يقرأ عند القبر، يعظم أجره، وأن أهل القبور يتسببون في رفع عمله وفي مضاعفة عمله وفي قبوله، ويكون ذلك وسيلة وذريعة إلى الاعتقاد في أصحاب القبور، ومعلوم أن الاعتقاد فيهم أنهم ينفعون، ويشفعون، ويدفعون، ويرفعون الأعمال الصالحة، ونحو ذلك، اعتقاد في مخلوق قد انقطع عمله، فلا يملك شيئاً لنفسه، فكيف يملك نفعاً لغيره، فيكون ذلك من وسائل الشرك.

    وهذا هو الواقع، فإن الذين يعظمون القبور، ويصلون عندها، ويطوفون بها، ويعكفون حولها، ويقرءون عندها، كانت نهايتهم أن عبدوا تلك القبور، حيث خيل إليهم أن أصحابها من الأولياء، وكان أول ما عملوه أنهم ترددوا إلى ذلك القبر لمجرد الزيارة، ثم بعد ذلك ظنوا أن الأعمال عنده أفضل منها في غير ذلك المكان، فصاروا يفضلون الصلاة عند القبر على الصلاة في المسجد، ويفضلون القراءة عند القبور على القراءة في المسجد، ويفضلون الدعاء عند القبور على الدعاء في المساجد، ثم اعتقدوا بعد ذلك أن للأموات تأثيراً، وأنهم يرفعون الأعمال أو يضاعفونها! ثم زاد الأمر إلى أن صاروا ينادون الميت ويهتفون باسمه، فيقولون مثلاً: يا عيدروس يا عبد القادر أو يا جيلاني أو يا نقشبندي أو يا تيجاني أو يا زيد أو يا يوسف أو يا تاج أو ما أشبه ذلك من الأسماء التي كانوا في البداية ينتابونها ثم اعتقدوا فيها.

    إذاً: فالصواب هو القول الأول، وهو المنع مطلقاً من قصد القبور للقراءة عندها، ولعل الدليل عليه:

    أولاً: أنه قول الجمهور، فهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد في الرواية المشهورة عنه، وكذا عند أصحابه، ورجحها المحققون كـابن تيمية وغيره، فلا تجوز القراءة عند القبور لأي سبب، وبأي نية وبأي معتقد؛ مخافة أن تكون وسيلة إلى دعاء الأموات وإلى الاعتقاد فيهم.

    وأما ما نقل عن ابن عمر أنه أمر بأن تقرأ عنده فواتح سورة البقرة وخواتيمها، فقد تكون الرواية عنه غير صحيحة ولا ثابتة، حيث إنها لم تشتهر، ولم يشتهر العمل بها.

    وأيضاً: فإنه أراد أن يكون ذلك في حال الدفن وأن يكون ذلك بمنزلة الدعاء، فإن الدعاء للميت مشروع، والدعاء للميت عند قبره مشروع كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مات الميت ودفنه قام عند قبره وقال: (اسألوا الله لأخيكم التثبيت فإنه الآن يسأل )، فيكون ذلك من باب الدعاء له؛ وذلك لأن هذه الآيات فيها دعاء، مثل قوله: غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285]، وقوله: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِه [البقرة:286] إلى آخرها، فكأنه أراد: أنكم تدعون بها وتقرءونها وتجعلونها دعاءً لي.

    فإذاً: لا يكون فيها دلالة على قصد القبر للدعاء عنده، سواء وقت الدفن أو بعد الدفن، وسواء اعتقد أنه ينتفع بتلك القراءة أو أن القارئ ينتفع بها.

    والقول بأنه ينتفع بها فيه نظر؛ وذلك لأنه لو كان مباحاً لفعله الصحابة.

    وأيضا: فإن القراءة في المساجد وإهداء ثوابها له أكثر أجراً من القراءة عند القبور، فإن المقابر منهي عن الصلاة فيها، والمساجد مأمور بالصلاة فيها، فالدعاء في المساجد أفضل من الدعاء عند القبور، والصلاة في المساجد أفضل من الصلاة عند القبور، وكذلك القراءة في المساجد أفضل منها عند القبور.

    فعرف بذلك أن القول الصواب هو قول الجمهور؛ وهو أنه لا يقصد القبر للقراءة عنده، بل إذا أرد أن يهدي للميت قراءة أو ذكراً قرأها عند أهله أو في بيته أو نحو ذلك، فأما أن يقصد القبر ويتحراه فالأصل أن هذا لم يكن مشروعاً فلا يكون جائزاً، والإنسان عليه أن يتبع الدليل، وعليه أن يأخذ بقول جماهير الأمة ويترك الأقوال الشاذة، ولو رويت عن بعض العلماء، والذين رويت عنهم نحسن الظن بهم ونقول:

    أولاً: هم مجتهدون، وليس كل مجتهد بمصيب.

    وثانياً: أنهم ولو كانوا عندهم شيء من الاجتهاد ونحوه فإنهم عرضة للخطأ.

    وثالثاً: لم يكن عندهم من الاعتقاد ما عند من بعدهم، بل هم مأمونون أن يقع فيهم هذا الخطأ، والدليل على ذلك: أنهم لم يقع منهم الغلو الذي وقع من المتأخرين، كما حدث في القرن الثامن وما بعده إلى القرن الثاني عشر في هذه البلاد، بل وإلى هذا القرن في كثير من البلاد حيث زاد غلوهم في القبور حتى دعوها من دون الله، فأصبحوا يشركون بالله، ويجعلون تلك القبور آلهة مع الله، وسبب ذلك تساهل علمائهم بقصدهم لتلك القبور فاقتدى بهم السفهاء، واعتقدوا أن صاحب القبر له تأثير، فأصبحت وسيلة من وسائل الشرك، ثم أصبحت شركاً صريحاً.

    1.   

    أهمية الدعاء وإجابة الله للداعي

    قال المؤلف: [قوله: (والله تعالى يستجيب الدعوات، ويقضي الحاجات).

    قال الله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم [غافر:60]، وقال تعالى وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، والذي عليه أكثر الخلق من المسلمين وسائر أهل الملل وغيرهم أن الدعاء من أقوى الأسباب في جلب المنافع ودفع المضار.

    وقد أخبر تعالى عن الكفار أنهم إذا مسهم الضر في البحر دعوا الله مخلصين له الدين، وأن الإنسان إذا مسه الضر دعاه لجنبه أو قاعداً أو قائماً.

    وإجابة الله لدعاء العبد، مسلماً كان أو كافراً، وإعطاؤه سؤاله من جنس رزقه لهم، ونصره لهم، وهو مما توجبه الربوبية للعبد مطلقاً، ثم قد يكون ذلك فتنة في حقه ومضرة عليه، إذ كان كفره وفسوقه يقتضي ذلك.

    وفي سنن ابن ماجة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يسأل الله يغضب عليه)، وقد نظم بعضهم هذا المعنى فقال:

    الرب يغضب إن تركت سؤاله وبُنيّ آدم حين يُسأل يغضبُ

    قال ابن عقيل : قد ندب الله تعال إلى الدعاء، وفي ذلك معان:

    أحدها: الوجود، فإن من ليس بموجود لا يدعى.

    الثاني: الغنى، فإن الفقير لا يدعى.

    الثالث: السمع، فإن الأصم لا يدعى.

    الرابع: الكرم، فإن البخيل لا يدعى.

    الخامس: الرحمة، فإن القاسي لا يدعى.

    السادس: القدرة، فإن العاجز لا يدعى.

    ومن يقول بالطبائع يعلم أن النار لا يقال لها: كفي! ولا النجم يقال له: أصلح مزاجي؛ لأن هذه عندهم مؤثرة طبعاً لا اختياراً، فشرع الدعاء وصلاة الاستسقاء ليبين كذب أهل الطبائع.]

    هذا بحث جديد يتعلق بشرعية الدعاء من العبد لربه، وبحكم الدعاء، وبفائدة الدعاء، فذكر أن الله تعالى يجيب من دعاه، ويعطي من سأله، وأنه سبحانه يفرح بدعاء الداعين، وأنه يستجيب دعوتهم.

    دعاء المشركين عند الاضطرار

    أولاً: ذكر أن المشركين قبل الإسلام كانوا يدعون الله، يقول الله تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاه [الإسراء:67] ذهبت عنكم آلهتكم، وذهبت عنكم معبوداتكم كلها، ونسيتموها، ولم يبق في ذاكرتكم إلا الرب تعالى، فإنكم تعلمون أنه لا يجيب دعوتكم ولا يزيل عنكم الضر في المضائق إلا الله سبحانه، ويكون ذلك إذا ركبوا، يقول الله تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65] دعوا الله في حالة كونهم على خطر ومقربة من الهلاك.

    ويقول تعالى: وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين [لقمان:32]، وأمواج البحر معروفة، وهي التي تدفعها الرياح بحيث ترتفع فوق مستوى البحر متراً أو مترين أو نحو ذلك، وإذا جاءت تلك الأمواج إلى السفن اضطربت السفينة، وكادت أن تغرق، فإذا رأوا تلك الأمواج خافوا الهلاك ورفعوا أيديهم، وقالوا: يا ربنا أنجنا، يا ربنا نجنا من هذا الهلاك، فلا يذكرون إلا الله.

    إذاً: الله تعالى يستجيب لهم مع أنهم كفار؛ لأنهم أخلصوا له الدعاء، ولا شك أن المسلمين أولى بأن يدعوا الله في الضر وفي الشدة وفي الرخاء، ولا شك أنه يحب أن يدعوه ويغضب على من لم يدعه.

    الله يغضب إن تركت سؤاله

    وتقدم الحديث الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يسأل الله يغضب عليه)، ونحن نحب رضاه، ورضاه يتوقف على أن نسأله ونستعينه عند العجز، ونستنصر به عند الخوف، نطلب منه أن يؤمننا وأن يغنينا، وأن يعزنا، وأن يغفر لنا، ونطلب منه كل حاجاتنا، ونرغب عمن سواه من ذكر وأنثى، من صغير وكبير، ونجعل رغبتنا إليه سبحانه.

    وتقدم ذلك البيت الذي نظم به ذلك الحديث، وقبله يقول الشاعر:

    لا تسألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب

    الرب يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب

    يقول بعضهم: لو أنك مشيت مع إنسان، وأخذت كل ساعة تقول له: أعطني حفنة تراب .. أعطني حفنة تراب، أليس يضجر منك ويمل ويقول: أتعبتني؟! لا شك أنه يكلفه، مع أن التراب موجود، ولكن قد يتكلف أن ينحني ويأخذ التراب، ثم يناولك وأنت -مثلاً- راكب أو نحو ذلك، لو سئلوا تراباً لملوا، فكيف إذا سئلوا شيئاً يملكونه، أو لهم فيه سبب من الأسباب، ولأجل ذلك على الإنسان أن يعلق رجاءه بربه، ويطلب منه حاجاته كلها، ولا يسأل غيره، يقول بعضهم:

    لا تجلسن بباب من يأبى عليك دخول داره

    وتقول حاجاتي إليه يعوقها إن لم أداره

    واتركه واقصد ربها تقضى ورب الدار كاره

    فإذا قصدت الرب سبحانه وتعالى، وأنت صادق مخلص، قضى حاجتك، سواء كانت متعلقة بإنسان، أو متعلقة فيما بينك وبين الرب.

    ذكروا أن إبراهيم بن أدهم رحمه الله اشتكى إليه بعض أصحابه جوعاً نزل به؛ لأنهم لا يكتسبون، عند ذلك نظم أبياتاً يقول في أولها:

    أنا حامد أنا شاكر أنا ذاكـر أنا جائع أنا حاسر أنا عاري

    هي ستة وأنا الضمين بنصفها فكن الضمين بنصفها يا باري

    لم يتعلق إلا بربه، فكتب هذه الأبيات، ولما اطلع عليها بعض الذين من الله عليهم، أعطاهم ما يسد حاجتهم، فالرب هو الذي يسر لهم هذا الرزق بواسطة هذا الإنسان، ولم يسألوا أي إنسان، وإنما علقوا قلوبهم بربهم.

    إذاً فنقول: على الإنسان أن يجتهد في دعائه لله سبحانه وتعالى، وأن يسأل ربه كل حاجاته، ولا يترك حاجة يظن أنه سيحتاج إليها في يوم من الأيام إلا ويسألها ربه، يقول بعض العلماء : سل الله كل شيء حتى ملح طعامك، وذلك لأنك بحاجة إلى أن يمدك ربك بكل شيء، فأنت مأمور أن تفعل السبب، ومع ذلك تعرف أن الله تعالى هو الذي ييسر لك هذه الأشياء ويجعلها مفيدة ومؤثرة.

    والأدلة على أهمية الدعاء كثيرة، منها قول الله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60]، ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدعاء هو العبادة)، وقرأ هذه الآية، فجعل الدعاء عبادة، ومثل ذلك أيضاً قول الله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:55-56].

    أقسام الدعاء

    والدعاء ينقسم إلى قسمين:

    دعاء عبادة، ودعاء مسألة، وكل منهما ملازم للآخر، فالمصلي في صلاته يدعو ربه في كثير من أركان الصلاة وهيئاتها، ففي الفاتحة يقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، وهذا دعاء، وفي الركوع والسجود يقول: سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي، وهذا دعاء، وبين السجدتين يقول: رب اغفر لي، ويكرر ذلك، وهذا دعاء.

    وكذلك في السجود مأمور بأن يكثر من الدعاء، وكذلك في آخر التشهد مأمور بأن يدعو، فالصلاة فيها دعاء، وكذلك الحج فيه الدعاء في الطواف، وفي السعي، وفي الوقوف بعد الرمي، وما أشبه ذلك، وهذا دليل على أن الله يحب من عباده أن يكثروا من دعائه، وأن لا يملوا من هذا الدعاء، وأنه سبحانه لا بد وأن يجيبهم إذا تمت الشروط.

    وتقدم كلام ابن عقيل على هذه الأدلة التي فيها الأمر بالدعاء، فإنه استدل بها على أن الله تعالى موجود، فإن المعدوم لا يدعى، وأنه سبحانه قادر، فإن العاجز لا يمكن أن يطلب منه شيء، وأنه غني، ولو كان فقيراً لم يطلب منه شيء، فكيف يطلب من الفقير شيء وهو لا يجد! واستدل به على أنه كريم؛ وذلك لأن الكريم هو الذي يجود، وهو الذي يهب مما عنده، فالله تعالى هو الكريم، بل هو الذي لا ينقص ما عنده كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يمين الله ملأى، لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه)، ويقول في الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر)، والآيات والأحاديث والأدلة على هذا كثيرة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756319891