إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [74]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من رحمة الله بعباده أن يسر لهم سبل النجاة، وجعل أعمالهم سبباً لدخول الجنة والنجاة من النار، ومع هذا فإنه لو عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، وهذه عقيدة أهل السنة، خلافاً للجبرية والقدرية.

    1.   

    رحمة الله وجنته فضل منه سبحانه، وعذابه وناره عدل منه سبحانه

    يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الحاجة: (من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له).

    لا شك أن الهداية بيد الله تعالى، وكذا الإضلال، فمن هداه الله فذلك نعمة من الله عليه وفضل وكرم، ومن أضله فلم يظلمه، وليس للعبد حجة على الله، بل لله الحجة البالغة، فإذا شاء هدى وإذا شاء أضل، فمن هداه الله فقد أنعم عليه، فهدايته له فضل منه، ومن أضله الله فإنه عدل منه، فإنه تعالى لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، وأيضاً هو المنعم المتفضل على خلقه.

    وقد ورد في بعض الأحاديث: أن الله تعالى لو عذب خلقه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، فلو رحمهم كلهم لكانت رحمته فضلاً منه، فهو سبحانه قد تنزه عن الظلم، فوي الحديث القدسي: (يا عبادي: إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً؛ فلا تظالموا) فهو سبحانه لا يظلم وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46]، فإذا أهلك العباد أو سلط بعضهم على بعض، أو سلط عليهم عقوبة سماوية، أو عاقبهم بالعذاب بالنار، لم يكن ذلك ظلماً، بل هم يستحقون ذلك، فإنه لا يمكن أن يهلكهم أو يعذبهم إلا بظلم منهم، يقول الله تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117] ، فلا يهلكهم ظلماً منه لهم، ولا يهلكهم إلا بعدما يقيم عليهم الحجة.

    وكذلك إذا أنعم عليهم فإنه هو المتفضل، وفي حديث الأوراد يقول عليه الصلاة والسلام: (لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله المن، وله الثناء الحسن) ، فالنعمة منه وحده، والفضل على الخلق منه وحده، وكذلك الثناء الحسن، فإذا عرفنا أن ربنا سبحانه هو المتفضل على عباده؛ فنعلم أن نعمه لا تنفك عن العباد: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34]، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ [النحل:53] ، فما أصابنا من نعمة فهو محض فضل الله، ومحض منه على عباده، وليس بأعمالنا، ولا باكتسابنا، ولا باستحقاقنا، بل أعمالنا تضعف عن أن نستحق هذا الفضل وهذه النعمة؛ ولكن هو الذي يتفضل على هؤلاء بالنعم وبالخيرات، وبالنصر وبالتمكين، وبالعطاء وبالصحة وبالإعزاز، وبغير ذلك من أنواع النعم، أو يسلط على من يشاء ما يشاء من المصائب والعقوبات، وكل ذلك محض عدله.

    وعلى هذا: فإن المسلم يعتمد على ربه سبحانه وتعالى، ويأتي بالأسباب التي تكون مؤهلة له أن يكون من أهل الفضل.. مؤهلة له أن يستحق لأجلها أن يكون أهلاً للامتنان.. أهلاً للنعمة.. أهلاً للخير، ويبتعد عن النقم والعقوبات التي تكون سبباً للعذاب، والتي يعذب الله بسببها، فإنه سبحانه قد رتب للنعم أسباباً، وهي الأعمال الصالحة، فجعلها سبباً لتفضله، فلنأتِ بالأسباب التي يرحمنا الله بسببها، وجعل للعقوبات أسباباً وهي المعاصي، فلنبتعد عن العقوبات وعن أسباب العقوبات وهي المعاصي؛ حتى نسلم من العقاب، ونحظى بالثواب.

    1.   

    تنزيه الله لنفسه عن الظلم

    قال المؤلف رحمه الله تعالى:

    [وقوله: (يفعل ما يشاء، وهو غير ظالم أبداً):

    الذي دل عليه القرآن من تنزيه الله نفسه عن ظلم العباد، يقتضي قولاً وسطاً بين قولي القدرية والجبرية، فليس ما كان من بني آدم ظلماً وقبيحاً يكون منه ظلماً وقبيحاً، كما تقوله القدرية والمعتزلة ونحوهم؛ فإن ذلك تمثيل لله بخلقه وقياس له عليهم، وهو الرب الغني القادر، وهم العباد الفقراء المقهورون.

    وليس الظلم عبارة عن الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة، كما يقوله من يقوله من المتكلمين وغيرهم، يقولون: إنه يمتنع أن يكون في الممكن المقدور ظلم، بل كل ما كان ممكناً فهو منه لو فعله عدل، إذ الظلم لا يكون إلا من مأمور من غيره منهي، والله ليس كذلك.

    فإن قوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا [طه:112] ، وقوله تعالى: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق:29]، وقوله تعالى: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [الزخرف:76] ، وقوله تعالى: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، وقوله تعالى: الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [غافر:17] يدل على نقيض هذا القول.

    ومنه قوله الذي رواه عنه رسوله: (يا عبادي: إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً؛ فلا تظالموا) فهذا دل على شيئين:

    أحدهما: أنه حرم على نفسه الظلم، والممتنع لا يوصف بذلك.

    الثاني: أنه أخبر أنه حرمه على نفسه، كما أخبر أنه كتب على نفسه الرحمة.

    وهذا يبطل احتجاجهم بأن الظلم لا يكون إلا من مأمور منهي، والله ليس كذلك. فيقال لهم: هو سبحانه كتب على نفسه الرحمة، وحرم على نفسه الظلم، وإنما كتب على نفسه وحرم على نفسه ما هو قادر عليه، لا ما هو ممتنع عليه.

    وأيضاً: فإن قوله: فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا [طه:112] قد فسره السلف بأن الظلم: أن توضع عليه سيئات غيره. والهضم: أن ينقص من حسناته، كما قال تعالى: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]].

    ضلال أهل الكلام في طريقة تنزيههم لله عن الظلم

    هذا توضيح لما حكاه عن المعتزلة الذين يقولون: إن الظلم الذي نزه الله نفسه عنه هو الشيء الذي لا يمكن ولا يقدر عليه؛ وذلك لأن من معتقد هؤلاء المتكلمين من المعتزلة: أن العبد هو الذي يهدي نفسه، أو يضل نفسه، وأن الله لا يقدر على أن يهدي هذا أو يضل هذا، فيجعلون الله تعالى عاجزاً، وكذلك يوجبون على الله أن يثيبت المطيع، فيجعلونه حقاً عليه، وتعالى الله عن قولهم، فإنه تعالى ليس عليه حق لعباده:

    ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائع

    إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسع

    فهم يجوبون على الله أن يثيب هذا، ويحرمون عليه أن يعاقب هذا، ويجعلون هذا مستحقاً بعمله، وهذا مستحقاً بعمله، ولا يجعلون لله تصرفاً، ولا يجعلون له منة، ولا يجعلون له فضلاً على عباده ورحمة.

    لا شك أن هذا تصرف في أفعال الخالق سبحانه، فلأجل ذلك رد عليهم الشارح، وبين أن الظلم الذي نفاه الله تعالى عن نفسه ليس بممتنع ولا بمستحيل، بل هو مقدور، ولكن الله تعالى لا يفعله؛ لكونه غير مستحسن، بل هو أمر مستهجن ومستقبح، فلأجل ذلك نزه الله نفسه في هذه الآيات، فقال تعالى: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، هذا دليل على أنه قادر على أن يظلم، ولكنه منزه عن ذلك، وكذلك قوله: فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا [طه:112]، (لا يخاف ظلماً) أي: بأن يُحمّل سيئات لم يعملها، (ولا هضماً) أي: نقصاً لحسنات قد عملها، بل الله تعالى حكم عدل، فلا يمكن أن يظلم هذا فينقصه، أو يظلمه فيزيد في سيئاته، بل له الفضل عليه، فيضاعف له الحسنات، ويمحو عنه السيئات، ومن أوبقته سيئاته فهو الموبق، ولا يهلك على الله إلا هالك.

    الرد على أهل الكلام في طريقة تنزيه الله عن الظلم

    قال رحمه الله: [وأيضاً فإن الإنسان لا يخاف الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة حتى يؤمن من ذلك، وإنما يؤمن مما يمكن، فلما آمنه من الظلم بقوله: (فلا يخاف) علم أنه ممكن مقدور عليه.

    وكذا قوله: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ [ق:28] إلى قوله: وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق:29]، لم يعنِ بها نفي ما لا يقدر عليه ولا يمكن منه، وإنما نفى ما هو مقدور عليه ممكن، وهو أن يجزوا بغير أعمالهم.

    فعلى قول هؤلاء ليس الله منزهاً عن شيء من الأفعال أصلاً، ولا مقدساً عن أن يفعله، بل كل ممكن فإنه لا ينزه عن فعله، بل فعله حسن، ولا حقيقة للفعل السوء، بل ذلك ممتنع، والممتنع لا حقيقة له! والقرآن يدل على نقيض هذا القول، في مواضع نزَّه الله نفسه فيها عن فعل ما لا يصلح له ولا ينبغي له، فعُلم أنه منزه مقدس عن فعل السوء والفعل المعيب المذموم، كما أنه منزه مقدس عن وصف السوء والوصف المعيب المذموم، وذلك كقوله تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]، فإنه نزه نفسه عن خلق الخلق عبثاً، وأنكر على من حسب ذلك، وهذا فعل، وقوله تعالى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ [القلم:35]، وقوله تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:28] إنكار منه على من جوز أن يسوي الله بين هذا وهذا.

    وكذا قوله: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21] إنكار على من حسب أنه يفعل هذا، وإخبار أن هذا حكم سيء قبيح، وهو مما ينزه الرب عنه].

    كل هذا رد على كلام هؤلاء المبتدعة، فإن من عقيدتهم أن الظلم الذي نزه الله نفسه عنه مستحيل، فلا يمكن أن يحصل، وعلى موجب كلامهم يقال: إذاً هم آمنون، لأن المستحيل ممتنع الوقوع، فإذاً لا داعي لأن يؤمنهم من الظلم.

    ويقال أيضاً: إذا كانوا آمنين من الظلم فكيف يؤمنهم منه بقوله: وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق:29] ، وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ [غافر:31]، ويقول: فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا [طه:112]؟! فهذا يدل على أنه ممكن، ولو كان شيئاً مستحيلاً لما خافوا منه، ولما أمنهم، فدل على أنه ما نزه نفسه إلا عن شيء مقدور له، ولكنه تعالى نزه عنه نفسه؛ لأنه لا يليق؛ ولأنه وصف للظلمة الذين يفعلون ما لا يستحسن، فيقصرون ويقتلون ظلماً، ويحبسون وينتهبون، فيقال: هؤلاء ملوك ظلمة، وهؤلاء أمراء ظلمة؛ لأنهم يبطشون في الناس بغير حق؛ فلذلك نزه الله نفسه عن مثل هذه الأفعال.

    انقلاب الموازين عند الجبرية

    أما عقيدة الجبرية: فهم الذين يجعلون لله الفعل لما يريد، فيقولون: يجوز لله أن يهلك المتقين، ويجوز له أن يعذب المؤمنين، ويجوز عندهم أن يثيب الكفار، وأن يرفع درجاتهم، يجعلهم في أعلى عليين وهم كفار فجار خارجون عن الطاعة، ويجوز أن يعذب الأتقياء المؤمنين الذين ما عصوه طرفة عين، وأن يجعلهم في أسفل سافلين! هذا قول المجبرة، ويقولون: إنهم ليس لهم اختيار، وليس لهم أفعال، بل الفعل فعله، والقول قوله، ويستدلون بمثل قوله تعالى: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]، وعلى قولهم تكون الخليقة ليس فيها عدل.

    نقول: إن الله تعالى أعدل من أن يضيع خلقه، ومن الأدلة على نقيض قولهم:

    أولاً: الأدلة على أنه تعالى ما خلق الخلق عبثاً، كقول تعالى: أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36] أي: مهملاً لا يؤمر ولا ينهى، وهذا حسبان باطل!

    وقوله تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]، أي: قد حسبتم ذلك، ولكنكم أخطأتم في هذا الحسبان، فما كان ربكم ليهملكم ولا ليترككم مهملين عبثاً.

    وكقوله تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص:27] دل على أن من اعتقد أنه خلقهم بغير حكمة، وإنما خلقهم هملاً وسدى، أنه من الكافرين الضالين.

    ومرت بنا الأدلة التي تنفي التسوية بين أهل الخير وأهل الشر، مثل قوله تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:28] أي: لا نجعلهم سواء، بل تأبى حكمة الله أن يجعل المتقين كالفجار، وتأبى أن يجعل المؤمنين كالمفسدين في الأرض، بل لابد أن يميز بينهم.

    وكذلك قوله تعالى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ [القلم:35]؟ لا يجوز، وهذا خلاف حكمة الله، أن يسوي بين المسلم وبين المجرم، فالمسلم له الثواب، والمجرم يستحق العقاب.

    ومثله قول الله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21]، هل حسبوا ذلك؟ فهذا حسبان باطل! كيف يعتقدون ويحسبون أن نجعلهم -وهم قد اجترحوا السيئات- أن نجعلهم مثل أهل الحسنات؟! ومثل أهل الأعمال الصالحة؟! لقد أخطئوا في هذا الحسبان.

    هذا كله من مقتضى قول الأشاعرة أو المجبرة الذين يجعلون لله التسوية، ويقولون: يجوز أن يسوي بين الفاجر وبين المؤمن، فلذلك رد عليهم بهذه الآيات، وأصرحها آية سورة (ص)، وهو قوله: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:27-28] أي: لا نجعلهم، بل لابد أن نميز هؤلاء، فالله تعالى خلق هؤلاء وميزهم، وهؤلاء وحكم عليهم بالشقاء.. وهؤلاء يستحقون النصر والتمكين في الدنيا.. وهؤلاء يستحقون الخذلان والعذاب في الدنيا، وفي الآخرة فريق في الجنة وفريق في السعير.

    1.   

    الكلام على حديث: (لو عذب الله أهل سماواته... لعذبهم وهو غير ظالم لهم...)

    قال المؤلف رحمه الله: [وروى أبو داود ، والحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس ، وعبادة بن الصامت ، وزيد بن ثابت ، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه، لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم) .

    وهذا الحديث مما يحتج به الجبرية، وأما القدرية فلا يتأتى على أصولهم الفاسدة! ولهذا قابلوه إما بالتكذيب أو بالتأويل! وأسعد الناس به أهل السنة، الذين قابلوه بالتصديق، وعلموا من عظمة الله وجلاله قدْر نعم الله على خلقه، وعدم قيام الخلق بحقوق نعمه عليهم، إما عجزاً، وإما جهلاً، وإما تفريطاً وإضاعة، وإما تقصيراً في المقدور من الشكر، ولو من بعض الوجوه، فإن حقه على أهل السماوات والأرض أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، وتكون قوة الحب والإنابة، والتوكل والخشية، والمراقبة والخوف والرجاء: جميعها متوجهة إليه ومتعلقة به، بحيث يكون القلب عاكفاً على محبته وتأليهه، بل على إفراده بذلك، واللسان محبوساً على ذكره، والجوارح وقفاً على طاعته.

    ولا ريب أن هذا مقدور في الجملة، ولكن النفوس تشح به، وهي في الشح على مراتب لا يحصيها إلا الله تعالى، وأكثر المطيعين تشح به نفسه من وجه، وإن أتى به من وجه آخر. فأين الذي لا تقع منه إرادة تزاحم مراد الله وما يحبه منه؟! ومن ذا الذي لم يصدر منه خلاف ما خلق له، ولو في وقت من الأوقات؟! فلو وضع الرب سبحانه عدله على أهل سماواته وأرضه لعذبهم بعدله، ولم يكن ظالماً لهم.

    وغاية ما يقدر توبة العبد من ذلك واعترافه، وقبول التوبة محض فضله وإحسانه، وإلا فلو عذب عبده على جنايته لم يكن ظالماً، ولو قدر أنه تاب منها، لكن أوجب على نفسه - بمقتضى فضله ورحمته - أنه لا يعذب من تاب، وكتب على نفسه الرحمة، فلا يسع الخلائق إلا رحمته وعفوه، ولا يبلغ عمل أحد منهم أن ينجو به من النار أو يدخل الجنة، كما قال أطوع الناس لربه، وأفضلهم عملاً، وأشدهم تعظيماً لربه وإجلالاً صلى الله عليه وسلم : (لن ينجي أحداً منكم عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا؛ إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) ، وسأله الصديق دعاء يدعو به في صلاته، فقال: (قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم) ، فإذا كان هذا حال الصديق -الذي هو أفضل الناس بعد الأنبياء والمرسلين- فما الظن بسواه؟ بل إنما صار صديقاً بتوفيته هذا المقام حقه، الذي يتضمن معرفة ربه وحقه وعظمته، وما ينبغي له، وما يستحقه على عبده، ومعرفة تقصيره.

    فسحقاً وبعداً لمن زعم أن المخلوق يستغني عن مغفرة ربه، ولا يكون به حاجة إليها! وليس وراء هذا الجهل بالله وحقه غاية!

    فإن لم يتسع فهمك لهذا؛ فانزل إلى وطأة النِّعم، وما عليها من الحقوق، ووازن بين شكرها وكفرها، فحينئذ تعلم أنه سبحانه لو عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم].

    هذا الكلام دائر حول هذا الحديث.

    وهذا الحديث أنكرته المعتزلة، واحتجت به الجبرية، ولكنه حجة لأهل الحق وهم أهل السنة، صحيح أن الله تعالى لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم؛ وذلك لأن ما عملوه من الأعمال فهو بفضله، فهو الذي هداهم، وهو الذي أعطاهم، وهو الذي خولهم، وهو الذي سخر لهم، إذاً: فإذا عذبهم فإنه لابد أن يعذبهم على شيء من التقصير، حتى ولو كانوا مؤمنين ومتقين؛ لأن هذا الإيمان وهذا التقى محض عطاء الله ومحض فضله.

    لن يدخل أحد الجنة بعمله

    قد ذكرنا أنه ورد في بعض الأحاديث: أنه يجاء برجل قد عمل أعمالاً صالحة أمثال الجبال، فيقول الله: أدخلوه الجنة برحمتي. فيقول: يا رب! بل بعملي، فعند ذلك يقول الله: حاسبوه. فيقول لنعمة البصر: خذي حقك. فلا تكاد أن تترك من حسناته شيئاً، وتبقى نعمة السمع، ونعمة النطق، ونعمة العقل، ونعمة القوة، ونعمة الشهوة، ونعمة الهداية، ونعمة الإلهام، ونعمة الرزق وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34] فعند ذلك يقول: أدخلوه العذاب، فيقول: بل -يا رب!- برحمتك. فلذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد الجنة بعمله) ، أعمالنا لا تدخلنا الجنة حتى يرحمنا الله معها، فيدخل الجنة برحمته من يشاء، يقول الله تعالى: يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الإنسان:31].

    وإذا كان العباد مهما عملوا فإنهم بحاجة إلى رحمة الله؛ عُلم أنهم دائماً يسألون ربهم أن يعمهم بواسع رحمته، وهو سبحانه أرحم بهم من آبائهم وأمهاتهم.

    كتب الله على نفسه الرحمة

    قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن رحمة الله تعالى واسعة، يرحم بها عباده فقال صلى الله عليه وسلم: (خلق الله الرحمة مائة جزء، كل جزء طباق ما بين السماء والأرض، فأنزل منها جزءاً واحداً في الأرض، فمن ذلك الجزء تتراحم المخلوقات، وتتراحم الدواب، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، فإذا كان يوم القيامة ضم هذه الرحمة إلى تلك الأجزاء فرحم بها عباده)، فهذا معنى كونه كتب على نفسه الرحمة.

    وقال في الكتاب الذي كتبه: (فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي، إن رحمتي تغلب غضبي)، ولأجل ذلك كان من أسمائه الحسنى: الرحمن الرحيم، وأخبر بأنه يرحم من عباده الرحماء، وقال: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)، وقال: (من لا يَرحم لا يُرحم..) وكل ذلك دليل على أنه تعالى يجود على من يشاء ويرحمهم، ولكن أعمالهم مهما كانت، ومهما كثرت، فهي تقل عن أن يستحقوا بها وحدها الجنة.

    ولأجل ذلك لما نزل قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102] استثقلوا هذه الآية وقالوا: إنا لا نستطيعها، حتى أنزل الله بياناً لها قوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، ومع ذلك فسر عبد الله بن مسعود قول الله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102] فقال: تقوى الله حق تقاته: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر.

    شكر النعمة واحتقار العمل

    فالإنسان مخلوق لعبادة الله، مأمور بأن يشغل كل أعماله، وكل أفكاره، وكل جوارحه، بعبادة الله، فنظره يجعله كله عبادة، فلا ينظر إلا نظر اعتبار، ولا ينظر إلا نظر رحمة، ولا ينظر إلا فيما ينفعه، فإذا نظر فيما يضره، أو نظر إلى ما لا يحل له، فقد عصى الله بهذا النظر، وكذلك سمعه الذي جعله الله واسطة يسمع به الأصوات، هو نعمة من الله، مأمور بألا يستعمله إلا في الشيء الذي ينفعه.. مأمور بأن يستمع به الوعظ والعلم والخير والإرشادات والتوجيهات والكلمات النافعة، ولا يستمع به ما يضره، فلا يستمع للهو ولا للعب، ولا يستمع النياح ولا القهقهة، ولا الشيء الباطل، ولا يستمع إلى غيبة أو نميمة أو نحوها، إن استمع إلى ذلك فقد كفر هذه النعمة وما شكرها.

    وهكذا نعمة النطق، هذا اللسان الذي أنطقه الله، وجعله معبراً عن حاجته، لابد أنه يستعمله في الشيء الذي ينفعه، فإذا صانه وحفظه ولم يتكلم إلا بخير، وجعله مستعملاً في الذكر وفي الشكر وفي الاعتبار، وفي الأمر بالخير والدلالة عليه، وفي النهي عن الشر والتحذير عنه، وكذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الشيء الذي ينفع من ذكر الله وما والاه، والإصلاح بين الناس.. ونحو ذلك، على حد قول الله تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114]، فإذا فعل ذلك اعتبر شاكراً لهذه النعمة، وإذا تكلم فيما لا يعنيه، أو تكلم بما لا يجوز له اعتبر كافراً لهذه النعمة.

    وهكذا يقال في التفكير، العقل الذي مَنَّ الله به على الإنسان، واستعمله فيما ينفعه، ففكر في آيات الله، وفكر في مخلوقاته، وتدبر آياته، وتدبر ما بين يديه وما خلفه، وتدبر أول الأمر وآخره.. وما أشبه ذلك؛ اعتبر شاكراً لذلك، ولكن إذا صرف شيئاً من ذلك فيما يضره، فقد كفر هذه النعمة، وذلك كما إذا جاء تفكيره وتعقله في أموره الدنيئة، أو في الكيد للإسلام والمسلمين، أو بتدبير الشئون الدنيوية ونسي الأمور الدينية.. أو ما أشبه ذلك؛ اعتبر كافراً بنعمة العقل.

    وهكذا يقال في نعمة الجوارح، فاليدان يستعملهما ويبطش بهما في الشيء الذي يقربه إلى الله، والرجلان يسير بهما في الشيء الذي ينفعه، والمأكل والمشرب لا يدخله إلا الشيء الذي يفيده وينفعه.

    ومعلوم أن الناس في هذا لابد أن يقعوا في أخطاء.

    إذاً: فكيف مع ذلك يزكون أنفسهم؟! ويدعون أنهم من المقربين؟! وأن حقاً على الله أن يعطيهم؛ وأنه إذا لم يعطهم اعتبر ظالماً لهم؛ وأنه إذا عاقبهم وسلط عليهم الفقر والفاقة ونحو ذلك فهو ظلم منه لهم.. وما أشبه ذلك..؟!

    نقول: لا شك أن هذا سوء ظن بالله تعالى، وأنه حسن ظن بأنفسهم، والإنسان عليه أن يرجع إلى نفسه بأن يلومها غاية اللوم، وأن ينسب التقصير إليها، وأن يحاسبها أشد المحاسبة، فبذلك يكتبه الله تعالى من أهل الرحمة، ومن أهل الثواب.

    أما إذا لم يحاسب نفسه، بل اعتقد أنه من المحسنين، وأنه من المتقين، وأنه قد فعل وفعل، وأخذ يمدح نفسه، وأخذ يرفع من شأنه، ويفضل عمله على عمل غيره؛ فإن في هذا ما يسبب بطلان عمله ورده عليه.

    وإذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم يعترف بأنه لا يدخل الجنة إلا إذا رحمه الله بقوله: (ولا أنا؛ إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل)، وكذلك من الملائكة من هم سجود من حين خلقوا إلى يوم القيامة، وإذا كان يوم القيامة يقولون: يا ربنا! سبحانك ما عبدناك حق عبادتك. فكيف بنا نحن الذين قد أضعنا الكثير من حياتنا؟! والذين قد اتبعنا كثيراً من الأهواء، وقد أطعنا النفوس، ومع ذلك نزكي أنفسنا! والله تعالى يقول: فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32]؟!

    فعلى المسلم أن يعتقد أن الله سبحانه هو أرحم بعباده، فيأتي بأسباب الرحمة، ويعتقد بأنه إذا لم تعمه رحمة الله فإنه خاسر، وأنه جعل للرحمة أهلاً، فقال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف:156] إلى آخر الآيات، ذكر أهلها، هؤلاء هم أهل الرحمة، فليس كل من تمناها تحصل له، إذاً فليس أحد ينجيه عمله إلا برحمة الله، ورحمة الله لها أهل، وأسباب الرحمة سهلة ويسيرة على من يسرها الله عليه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756538862