إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [59]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يجب الإيمان بملك الموت الموكل بقبض الأرواح، والأرواح من مخلوقات الله، ولا يعلم حقيقتها إلا الله، وقد تكلم العلماء على كثير من المسائل المتعلقة بالروح مستضيئين بالأدلة من الكتاب والسنة.

    1.   

    الإيمان بملك الموت

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين).

    قال تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [السجدة:11]، ولا تعارض هذه الآية قوله: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ [الأنعام:61]، وقوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر:42]؛ لأن ملك الموت يتولى قبضها واستخراجها، ثم يأخذها منه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، يتولونها بعده، كل ذلك بإذن الله وقضائه وقدره وحكمه، فصحت إضافة التوفي إلى كل بحسبه].

    هذا أيضاً من عقيدة أهل السنة، وهو داخل في الإيمان بالملائكة، الإيمان بملك الموت الذي وكله الله تعالى بقبض الأرواح، وقد ذكره الله تعالى في هذه الآية في سورة السجدة: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السجدة:11]، وقد ورد في الأحاديث ما يدل على أن الذي يقبض الأرواح ملك واحد، وقد تقول: كيف يقبض أرواح العالم في شرق الأرض وفي غربها وهو واحد؟

    نقول: لا ينافي ذلك قدرة الله تعالى التي أقدره عليها، ويمكن أن ملك الموت معه أعوان يقبضون تلك الأرواح.

    ونقول: لا شك أن الإنسان مركب من جسد وروح، جسد وهو هذا اللحم والعظم ونحوه، وروح وهي التي تسري في هذا الجسد حتى يعيش وحتى يتحرك، فما دامت هذه الروح في هذا الجسد فإنه قابل للحركة، وإذا خرجت هذه الروح من هذا الجسد بقي ميتاً جثة لا حركة به، فهذه الروح هي التي بها الحياة،وهي التي تقبض عند الموت، وفي حديث البراء في قبض الأرواح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة وإدبار من الدنيا نزلت عليه ملائكة بيض الوجوه، فيجلسون منه مد البصر، ومعهم أكفان من الجنة، وحنوط من الجنة، ويأتيه ملك الموت فيجلس عند رأسه فيقول: اخرجي أيتها الروح الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجي إلى روح وريحان، ورب غير غضبان، فتسل روحه من جسده كما تسل الشعرة من العجين)، فأخبر بأن الروح هي التي تخرج، وأنه يخاطبها، وأنها تنزع من جسده أو تنشط منه، وفسر بذلك قول الله تعالى: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً [النازعات:1-2] فقالوا: النازعات الملائكة التي تنزع أرواح الكفار نزعاً شديداً، والناشطات الملائكة التي تأخذ أرواح المؤمنين برفق؛ ولذلك سماه نشطاً، يعني: أنها تنشطه نشطاً ولا يحس بألم، وبكل حال الملائكة يقبضون الأرواح ويصعدون بها إلى الله تعالى إن كانت أرواح المؤمنين، أما أرواح الكفار فلا تفتح لهم أبواب السماء، ولا يدخلون الجنة، بل تذهب أرواحهم إلى حيث شاء الله.

    وقد تكلم العلماء على حقيقة الروح وأطالوا فيه، وقد يأتي بعض الكلام على حقيقة الروح، والحاصل أننا نؤمن بقوله تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ [الأنعام:61] فأثبت أن هناك رسلاً عدداً يتوفونه،وأخبر في آية أخرى أن ملك الموت واحد: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السجدة:11]، وإذا قيل: إنه ملك واحد فيمكن أن يكون اسم الموت الذي هو خروج الروح من الجسد هو الذي ورد في الأحاديث أنه يذبح يوم القيامة، يقول في الحديث: (يجاء بالموت في صورة كبش، فيقال: يا أهل الجنة! هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت، ويقال: يا أهل النار! هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم، هذا الموت، فيذبح بين الجنة والنار، ويقال: يا أهل الجنة! خلود ولا موت، ويا أهل النار! خلود ولا موت)، فالذي يفنى أو يذبح هو حقيقة الموت، ليس هو الملك، إنما هو الموت الذي هو خروج الروح من الجسد.

    نحن نشاهد الأموات عندما تخرج أرواحهم، ولكن لا نشاهد الملائكة الذين يقبضونها، ولكن نؤمن بذلك، نؤمن بأن الملائكة يحضرون وإن كنا لا نراهم؛ ولذلك قال الله تعالى: أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ * فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ [الواقعة:81-83] يعني: خرجت الروح إلى الحلقوم الذي هو أسفل الحلق، وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ [الواقعة:84-85] يعني: الملائكة أقرب إليه منكم، ولكنكم لا تبصرونهم فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الواقعة:86-87] يعني: إذا كنتم تقولون: إنكم غير مبعوثين فردوا هذه الروح إلى هذا الجسد، فردوا روح هذا الذي مات وخرجت روحه، استردوها وردوها في جسده إن كنتم صادقين.

    وأخبر الله تعالى أيضاً أن الملائكة يحضرون عند الميت في قوله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام:93] يخاطبون أرواح الكفار عند إخراجها بهذا.

    إذاً: من عقيدة أهل السنة أنهم يؤمنون بملك الموت وبأعوان ملك الموت الذين يقبضون الأرواح، وبأن الروح التي تخرج هي التي يقبضها الملك أو الملائكة، وهي التي تبقى بعد الموت، وأما الجسد فإنه يفنى، والروح التي تخرج هي التي تعذب في البرزخ أو تنعم، فإذا آمن الإنسان بذلك لم يستغرب ما ورد أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن في القبر عذاباً ونعيماً، مع أننا نشاهد أن الأموات يفنون، وتأكلهم الأرض، ولكن مع ذلك أرواحهم باقية، أرواحهم هي التي تتألم أو تتعذب كما أن أرواحهم هي التي تقبض، وهي التي ورد في الحديث أنها تجعل في أكفان من الجنة، أو تجعل في أكفان من النار على حسب ما ورد في السنة.

    فبهذا يؤمن كل مسلم اعتماداً على النصوص، ولا منافاة بين الآية: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السجدة:11] أنه واحد وقوله: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا [الأنعام:61]، وقول الملائكة: أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ [الأنعام:93]، فالمعنى: أن الملك واحد ومعه أعوان، فهو يقبض وهم يقبضون، وهم يجعلون الأرواح في تلك الأكفان،ويصعدون بها إلى آخر ما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام في الأحاديث.

    1.   

    حقيقة الروح

    قال الشارح رحمه الله: [وقد اختلف في حقيقة النفس ما هي؟ وهل هي جزء من أجزاء البدن أو عرض من أعراضه أو جسم ساكن له مودع فيه، أو جوهر مجرد؟ وهل هي الروح أو غيرها؟ وهل الأمارة واللوامة والمطمئنة نفس واحدة أم هي ثلاثة أنفس؟ وهل تموت الروح أو الموت للبدن وحده؟ وهذه المسائل تحتمل مجلداً، ولكن أشير إلى الكلام عليها مختصراً إن شاء الله تعالى.

    فقيل: الروح قديمة، وقد أجمعت الرسل على أنها محدثة مخلوقة مصنوعة مربوبة مدبرة، وهذا معلوم بالضرورة من دينهم أن العالم محدث، ومضى على هذا الصحابة والتابعون، حتى نبغت نابغة ممن قصر فهمه في الكتاب والسنة، فزعم أنها قديمة، واحتج بأنها من أمر الله، وأمره غير مخلوق، وبأن الله أضافها إليه بقوله: قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85]، وبقوله: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر:29] كما أضاف إليه علمه وقدرته وسمعه وبصره ويده، وتوقف آخرون، واتفق أهل السنة والجماعة أنها مخلوقة، وممن نقل الإجماع على ذلك محمد بن نصر المروزي وابن قتيبة وغيرهما، ومن الأدلة على أن الروح مخلوقة قوله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16] فهذا عام لا تخصيص فيه بوجه ما، ولا يدخل في ذلك صفات الله تعالى فإنها داخلة في مسمى اسمه، فالله تعالى هو الإله الموصوف بصفات الكمال، فعلمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره وجميع صفاته داخل في مسمى اسمه، فهو سبحانه بذاته وصفاته الخالق وما سواه مخلوق، ومعلوم قطعاً أن الروح ليست هي الله ولا صفة من صفاته، وإنما هي من مصنوعاته، ومنها قوله تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [الإنسان:1]، وقوله تعالى لزكريا: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً [مريم:9]، والإنسان اسم لروحه وجسده، والخطاب لزكريا لروحه وبدنه.

    والروح توصف بالوفاة والقبض، والإمساك والإرسال، وهذا شأن المخلوق المحدث.

    وأما احتجاجهم بقوله: (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) فليس المراد هنا بالأمر الطلب، بل المراد به المأمور، والمصدر يذكر ويراد به اسم المفعول، وهذا معلوم مشهور].

    كلمتا الروح والنفس الصحيح أنهما مترادفتان، الروح هي النفس، وقد اختلف في حقيقة الروح ما هي، إذا مات الميت وخرجت روحه لا نبصرها، مع أننا متيقنون أنها خرجت، وكذلك الملائكة أرواح ينزلون ويقبضونها ونحن لا نراهم؛ لأنهم أرواح، كذلك الشياطين أرواح شريرة، يقول تعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27] نحن لا نرى الشياطين، مع أن الشيطان يدخل في الإنسان ويجري منه مجرى الدم، ويوسوس في صدره ولا نراه، لكنه ينخنس إذا ذكر الله، ولهذا سماه الله: الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ [الناس:4].

    وأقرب مثال الجن، فهم أرواح، وإذا سلط الله الجني على الإنسي فإنه يلابسه حتى يغلب على جسده، ويصير كأنه هو روحه، فهل نحن نرى هذا الجني إذا أتى أو إذا خرج؟ لا نراه، نسمعه إذا تكلم وهو ملابس لذلك الإنسي، ينطق ويتكلم، ويخرج عندما يعذب مثلاً، ولا نراه إذا جاء ليدخل، ولا نراه إذا خرج. إذاً: هو روح بلا جسد، ولعله يأتينا كلام في حقيقة الروح وماهيتها.

    هل الروح مخلوقة أو غير مخلوقة؟

    بعض الفلاسفة يقول: إنها غير مخلوقة وإنها قديمة، والفلاسفة هم الذين يقولون: إن هذا الإنسان ليس له مبدأ، ينكرون أن الله خلق آدم من تراب، ويقولون: إن هذا الإنسان قديم، وإن الأرض قديمة ولم يسبقها عدم، وينكرون أيضاً الحشر والمعاد، فيقولون: ليس هناك حشر، وليس هناك نشر، وليس هناك قيامة، ولا جنة ولا نار، إنما جنس البشر يتوالد ويبقى على الأرض دائماً وأبداً، كما أنه عليها منذ القدم، فكذلك يبقى عليها أبداً، هؤلاء الفلاسفة ينكرون خلق الروح، ويقولون: إن الروح غير مخلوقة وليست محدثة، بل هي باقية وقديمة وليس لها مبدأ، ويستدلون بهذه الآية في سورة الإسراء: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85] والسؤال إنما هو عن الماهية، ما هي الروح؟ ولما كانت حقيقتها لا ترى ولا توصف أجابهم الله بأنها من أمره، وأنكم لا تعلمونها ولا يمكن أن تتصوروها؛ ولذلك قال: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:85]، فليس المراد أنها صفة من صفاته، بل المراد أنها من أمره، أي: مخلوقة بأمره،وكذلك إضافتها إلى الله في قوله تعالى: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر:29] ليس المراد أن الروح صفة من صفات الله، أو أنها من ذات الله، بل المراد من الأرواح التي خلقتها، وكذلك وصف الله عيسى بقوله: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء:171] أي: روح من الأرواح التي خلقها، وليس المراد أنه من ذات الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

    فبكل حال نعرف أن هذه الروح التي بين جنبي الإنسان مخلوقة كسائر المخلوقات، ولكن لا تدرك كيفيتها ولا ماهيتها.

    قوله تعالى: (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي)

    قال الله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:85] قيل: إن هذه الآية نزلت لما أرسلت قريش إلى يهود المدينة من يسألهم عن أمر محمد صلى الله عليه وسلم، فجاء أولئك الرسل إلى اليهود، فقال اليهود: سلوه عن ثلاثة أشياء، سلوه عن فتية خرجوا من بلادهم فإن لهم أمراً عجيباً، يعنون أصحاب الكهف، وسلوه عن رجل طوّاف طاف بالمشرق والمغرب، يعنون ذا القرنين، وسلوه عن الروح، فأنزل الله هذه الآية جواباً لسؤالهم.

    وقيل: إن اليهود الذين بالمدينة مر بهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوكأ على عسيب، ومعه ابن مسعود ، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، فقالوا: ما هي الروح يا محمد؟! فوقف قليلاً، يقول ابن مسعود : فاتكأ على عسيبه وعلمت أنه يوحى إليه، فقال بعد قليل: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:85])، فأجابهم الله تعالى بأن الروح غير معلومة لكم، ولا يمكنكم إدراكها ولا معرفة ماهيتها، وذلك دليل على عظمة الله وعجيب قدرته، حيث نوع المخلوقات، فجعل منها ما يرى، ومنها ما لا يرى، وجعل منها أجراماً، وجعل منها أرواحاً، وجعل منها جماداً، وجعل منها متحركاً حياً متقلباً، فهذا بلا شك دليل على كمال قدرة الله عز وجل، وأنه على كل شيء قدير، ودليل على قصر علم الإنسان، فقد قصر باعه في العلوم، فلا يطلع على المغيبات، ولا يصل بفكره ولا بأمره ولا ببحثه إلى الأمور التي أخفاها الله عليه، وعلى هذا ليس له أن يتدخل في أمور الغيب، وليس له أن يتخرص فيها.

    الجهل بكيفية الروح المخلوقة دليل على الجهل بكيفية صفات الخالق سبحانه

    استدل العلماء بأمر الروح على أن الإنسان لا يستطيع أن يتدخل في أمر صفات الرب سبحانه وتعالى؛ وذلك لأن الذين تدخلوا في صفات الله، وقالوا: كيف يتصف بأنه ينزل ويصعد؟ وكيف يتصف بأنه يجيء ويحكم وينزل لفصل القضاء؟ وكيف يتصف بأنه استوى على العرش واستقر عليه؟ وكيف يتصف بأنه حي وبأنه سميع بصير متكلم بكلام مسموع ونحو ذلك؟ كيف يتصف بذلك؟ هذا مما يخالف الخيال! هذا مما يخالف الفكر، هذا مما يخالف العقول، وأخذوا يخوضون في مثل هذا خوضاً زائداً، فيقول لهم شيخ الإسلام وغيره: أنتم قد عجزتم عن إدراك الروح التي بين جنوبكم، كل منكم مكون من جسد وروح، هذه الروح التي تدخل وتخرج، هذه الروح التي يحيا بها البدن ويموت بخروجها، هل أدركتم ماهيتها؟ هل قدرتم على معرفتها؟ هل علمتم من أي شيء هي؟ هل هي جسم أم هي عرض، أم هي جوهر، أم هي صافية، أم هي كدرة؟ ما هي ما هيتها؟ ومن أي شيء هي؟ وإذا خرجت أين تذهب؟ وأين تكون؟ كذلك أيضاً الأرواح الأخرى التي تتحققونها وتوقنون بها كيف لا ترونها؟

    إذا عجزتم عن إدراك ماهيتها فأنتم عن إدراك كنه صفات الرب بطريق الأولى تعجزوا.

    أنتم تتحققون أن هناك نوعاً من المكلفين وهم الجن الذي خلقهم الله من نار السموم كما أخبر الله، نتحقق أنهم موجودون معنا، وأنهم ينطقون ويتكلمون، وأنهم يقدرون على أن يتشكلوا بأشكال متعددة، يتشكلون بأشكال الحيوانات، وبأشكال الجمادات، ويتصورون بصورة إنسان، وبصورة سبع، وبصورة كلب، وبصورة حشرة، وبصورة هامة ونحو ذلك، كما هو مشاهد، وكذلك أيضاً يلابسون الإنس، يدخلون في جسد الإنسي، ويلابسونه، ولا يشعر أحد بهم، ولا يراهم ولا نراهم، من أي شيء مادتهم؟ من أي شيء أجسامهم؟ لا ندري.

    إذاً: نقول: قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:85]، فنحن حجبنا وعجزنا عن إدراك ماهية هذه الأرواح التي هي أقرب شيء إلينا، والتي نشاهد أن الميت تخرج روحه ومع ذلك لا نراها، كما قال الله تعالى: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا [الواقعة:83-87] هل تستطيعون أن ترجعوها إذا خرجت؟

    فإذا عجز الإنسان عن إدراك هذه الروح التي هي أقرب شيء إليه فكيف يخوض في خالقه؟ وكيف يخوض في صفات الباري عز وجل؟ الأولى له أن يسلم بذلك، وأن يرد علمها إلى عالمها.

    كذلك أيضاً: لا يخوض في أمر المخلوقات التي لم يرها، لا يقول مثلاً: ما هي كيفية خلق الملائكة؟ ومن أي شيء أجسامهم؟ وكيف تركيب أعضائهم؟ وكيف يسجدون وعلى أي أعضاء؟ وهل لهم يدان ورجلان كما لنا لأن الله قد ذكر أن لهم أجنحة؟ وهل لهم وجوه كوجوهنا؟ وكيف ينطقون ويتكلمون؟ الله أعلم، لا علم لنا إلا أنهم مخلوقون، وأنهم أرواح تستغني عن أجساد ظاهرة، بحيث ينزلون ولا نراهم كما أخبر الله بأنهم ينزلون في الأرض في ليلة القدر كما في قوله: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ [القدر:4] إذا تنزلوا نحن لا نراهم، وكذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم باجتماعهم في صلاة العصر وصلاة الفجر بقوله: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فيجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر)، هل نحن نراهم؟ لا نراهم، هم عالم ونحن عالم، حتى الشياطين الذين سلطهم الله على نوع الإنسان، وقد أخبر الله أن الشيطان يصل من الإنسان إلى قلبه، يقول الله: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [الناس:5] وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، يعني: ينفذ فيه ويسري في عروقه كما تسري روحه، يصل إلى جميع جسده ولا يرده شيء، إلا إذا استعاذ العبد بالله، ولجأ إليه؛ فإن الشيطان ينخنس، ولذلك سمي (بالوسواس الخناس).

    ونحن مع ذلك لا نراهم، إذاً: هم عالم ونحن عالم، فليس لنا أن ننكرهم، ولا أن نجحدهم؛ لأن الله قد أخبر بهم، وخبر الله حق، وأخبر بأنهم يروننا في قوله تعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27] يعني: إن الشياطين يرونكم هم وقبيلهم، يعني: وأمثالهم كالجن ونحوهم، يرونكم دون أن ترونهم، فما دام أننا متحققون بوجود أرواح لا نراها، وبأن هناك أرواحاً مخلوقة كالجن والشياطين والملائكة؛ فنعرف بذلك قصر علمنا عن إدراك كنهها، وعن معرفة تركيبها.

    اختلاف العلماء في تعريف الروح

    سمعنا في كلام شارح الطحاوية أن العلماء تكلموا في الروح، وأطالوا القول فيها، وعرفوها بتعريفات مضطربة مختلفة، وكان من جملة من عرفها تعريفاً مناسباً ابن القيم رحمه الله في كتابه الذي سماه: كتاب الروح، وهو كتاب مطبوع مشهور تكلم فيه على الأرواح، وعذاب القبر ونعيمه، وتكلم فيه على حقيقة الروح، وما ورد من صفاتها، وبين الرد على الذين أنكروها ووصفوها بصفات غريبة، وعرفها بأنها جسم خفيف شفاف علوي نوراني حي متحرك، يسري في جسد الإنسان كما يسري الدهن في الورد، وكما تسري النار في الفحم، فما دام هذا الجسد قابلاً لتلك الإفاضات منه فإنه يبقى فيها، وإذا تغيرت ماهية هذا الجسم وبقي لا يصلح لفيضاناتها عليه؛ أذن الله بفراق الروح لهذا الجسم، فبقي جسم الإنسان جماداً لا حركة فيه، وذلك هو الموت، فإذا خرجت الروح بقي الجسد جثة هامدة.

    ولا حاجة إلى كثرة الخوض وإطالة الكلام فيها، مع أن الله تعالى قد حجب أنظار العباد عنها، وفوض أمرها إلى الله. كتاب الجلالين مؤلفه رجلان أحدهما جلال الدين المحلي ، وهو الذي ألف آخره، من سورة الكهف إلى آخره، وجلال الدين السيوطي وهو الذي ألف أوله، من البقرة إلى سورة الإسراء، فـالمحلي لما أتى على قوله تعالى في سورة ص: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ص:72] عرف الروح بأنها جسم حي متحرك، وبأن لها حياة وتقلباً، ولكن السيوطي لما أتى على قوله في سورة الحجر: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [الحجر:28-29] لم يذكر هذه الجملة التي هي تفسير الروح؛ لأنه أتى على هذه الآية وهي قوله تعالى: قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85] فتوقف عن تفسيرها.

    فالأولى التوقف، والذين خاضوا فيها من العلماء وأطالوا القول فيها عذرهم أنهم يريدون بذلك إقناع أولئك الكافرين أو الكاذبين الذين صاروا يعرفونها بتعريفات بعيدة عن الواقع، فما حمل ابن القيم رحمه الله على الإطالة في تعريفاتها وفي صفاتها إلا أنه يناقش أقواماً ينكرون وجودها، أو ينكرون انفصالها، أو ينكرون تميزها، لهم أقوال عجيبة كما حكاها عنهم في ذلك الكتاب كالفلاسفة ونحوهم الذين يسمونها مثلاً: النفس الناطقة مثلاً، أو يزعمون أنها هذا الكون كله، أو هذا الهواء، أو النَفَس، أو ما أشبه ذلك مما لا أصل له، والأولى أننا نكل علمها وعلم الغيب كله إلى الله تعالى.

    الفرق بين النفس والروح

    قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [وأما اختلاف الناس في مسمى النفس والروح هل هما متغايران أو مسماهما واحد، فالتحقيق أن النفس تطلق على أمور، وكذلك الروح، فيتحد مدلولهما تارة ويختلف تارة، فالنفس تطلق على الروح، ولكن غالب ما تسمى نفساً إذا كانت متصلة بالبدن، وأما إذا أخذت مجردة فتسمية الروح أغلب عليها، وتطلق على الدم ففي الحديث: (ما لا نفس له سائلة لا ينجس الماء إذا مات فيه)، والنفس العين يقال: أصابت فلاناً نفس أي: عين، والنفس الذات كقوله تعالى: فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ [النور:61]، وقوله: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29] ونحو ذلك.

    وأما الروح فلا تطلق على البدن لا بانفراده، ولا مع النفس، وتطلق الروح على القرآن وعلى جبرائيل، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]، وقوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ [الشعراء:193]، وتطلق الروح على الهواء المتردد في بدن الإنسان أيضاً.

    وأما ما يؤيد الله به أولياءه فهي روح أخرى، كما قال تعالى: أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة:22]، وكذلك القوى التي في البدن فإنها تسمى أرواحاً، فيقال: الروح الباصرة، والروح السامعة، والروح الشامة، ويطلق الروح على أخص من هذا كله وهو قوة المعرفة بالله والإنابة إليه ومحبته، وانبعاث الهمة إلى طلبه وإرادته، ونسبة هذا الروح إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن، فللعلم روح، وللإحسان روح، وللمحبة روح، وللتوكل روح، وللصدق روح.

    والناس متفاوتون في هذه الأرواح، فمن الناس من تغلب عليه هذه الأرواح فيصير روحانياً، ومنهم من يفقدها أو أكثرها فيصير أرضياً بهيمياً، فقد وقع في كلام كثير من الناس أن لابن آدم ثلاثة أنفس: مطمئنة ولوامة وأمارة، قالوا: وإن منهم من تغلب عليه هذه، ومنهم من تغلب عليه هذه كما قال تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ [الفجر:27]، وكقوله تعالى: وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة:2]، وكقوله تعالى: إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف:53]].

    تكلم الشارح على تعريف النفس والروح بهذا الكلام الذي سمعنا؛ وذلك لأن هناك خلافاً هل الروح النفس أو الروح غير النفس؟ وذلك لأن كلمة النفس قد تطلق على بعض الأشياء، كما في هذه التعريفات التي سمعنا، فتطلق على الدم، فالدم يسمى نفساً كما في الحديث: (ما لا نفس له سائلة لا ينجس الماء إذا مات فيه) يعني: كالذباب والبعوض والجراد والفراش، فكل ما لا نفس له سائلة إذا مات في الماء فإنه لا ينجسه؛ لأنه ليس له نفس، يعني: ليس له دم إذا ذبح.

    كذلك تطلق النفس على ذات الإنسان كما في قوله تعالى: فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ [النور:61] يعني: على ذواتكم، وقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29] يعني: لا تقتلوا ذواتكم، فذات الإنسان هي نفسه، وقد يكثر استعمال النفس في مثل هذه المعاني وغيرها. إذاً: النفس في الأصل هي ماهية الشيء وذاته، وأما الإنسان الذي كلفه الله تعالى فقد ناداه بنداء الإنسان: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6] والإنسان هو هذا الجنس من بني آدم، ومعلوم أنه مركب من جسد وروح، وهذا النَفَس الذي يدخل ويخرج، ويجتذب هذا الهواء يسمى نفساً، وهو ملازم للإنسان، ونفسه يعني: ذاته توصف بصفات كما سمعنا، توصف بأنها نفس لوامة، وأنها نفس أمارة بالسوء، وأنها نفس مطمئنة، ومن العلماء من يقول: إن للإنسان ثلاثة أنفس: نفس لوامة، ونفس أمارة، ونفس مطمئنة، والصحيح أنها نفس واحدة، تارة يغلب عليها الاطمئنان فتوصف بأنها نفس مطمئنة، فيقال: إن هذا الإنسان نفسه مطمئنة، وتارة يغلب عليها وصف اللوم، يفعل الشيء ويلوم نفسه عليه، فيقال: هذا الإنسان نفسه لوامة، وتارة يغلب عليه السوء والأمر بالسوء، ولهذا قال تعالى: إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف:53] فهي نفس واحدة تتصف بهذه الصفة تارة، وبهذه تارة، وهذه تارة، ولا تكون ثلاثة أنفس، وهذا هو الصحيح من أقوال العلماء.

    فما دامت الروح في الجسد فإنها تسمى نفساً وتسمى روحاً، فإذا خرجت الروح من الجسد فإنها لا تسمى نفساً غالباً، وإن كانت قد تسمى بذلك في مثل قول الله تعالى في سورة الأنعام: وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ [الأنعام:93]، يعني: أخرجوا أرواحكم، فإذا خرجت فإنها تقبضها الملائكة وتكفنها، وكذلك قوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [الزمر:42] فسماها هاهنا نفساً، فما دامت في الجسد فإنها تسمى نفساً، الله يتوفاها يعني: يقبضها، وبعد قبضها يغلب عليها اسم الروح، وكذلك في النوم نفس النائم تخرج، ولكنها لا تخرج خروجاً كلياً، بل يبقى أثرها على البدن؛ ولهذا ذكروا أنه إذا نام الإنسان فإن روحه تخرج، وتصعد إلى السماء، وترى كذا وكذا من الرؤى ونحو ذلك، وفي حديث الدعاء عند النوم، قال صلى الله عليه وسلم: (باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)، فأفاد بأن النفس قد تمسك، يعني: إذا قبضت في النوم فقد لا ترجع إلى صاحبها إذا أراد الله، وقد ترجع، فهو يقول: إن أمسكت نفسي ولم تردها علي فارحمها، وإن أرسلتها ورددتها علي فاحفظها، يعني: تطبيقاً للآية اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ [الزمر:42]، يمسكها ولا يردها، ويمسك الأخرى التي لم يقض عليها الموت إلى أجل مسمى، إلى الأجل الذي حدد الله خروج هذه الروح من هذه الجسد.

    أما كلمة الروح فسمعنا أنها في الأصل مادة الحياة، كل شيء تحصل به الحياة فإنه يسمى روحاً، فالله تعالى سمى القرآن روحاً وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]، لماذا سمي القرآن روحاً؟ لأن به الحياة المعنوية، حياة القلوب، الحياة المعنوية هي حياة صحيحة والناس لا يشعرون بها، أو لا يهتمون بها؛ وذلك لأن القرآن إذا تأثرت به القلوب فإنه روح لها وحياة لها أعظم حياة، وأعظم منفعة لها؛ فلذلك سماه الله روحاً، فكما أن الأبدان تحيا بالأرواح فكذلك القلوب تحتاج إلى أرواح معنوية، وهو هذا القرآن وما فسر به وما يتبعه من السنة، وكذلك سمى الله جبريل عليه السلام روحاً في قوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ [الشعراء:193-194] الروح الأمين هو جبريل عليه السلام، وهو الذي نزل به؛ وذلك لأن الملائكة كلهم أرواح، فجبريل من جملتهم، ولا ينافي ذلك أنهم يصعدون وينزلون، وأن لهم أجنحة وأن لهم أجساداً معنوية لا نراها، فهم أرواح وجبريل من جملتهم، ولكن لجبريل خصوصية بهذه التسمية، حتى قال بعضهم في قول الله تعالى في آخر سورة (عم): يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً [النبأ:38] إن الروح هو جبريل، وقيل: إن المراد بالروح هنا الأرواح، يعني: يوم تقوم الأرواح، سواء كانت أرواح الملائكة أو أرواح بني آدم أو أرواح الجن أو أرواح الشياطين، تقوم الأرواح، وتقوم الملائكة صفوفاً، وبهذا أيضاً فسرت الروح التي في سورة القدر: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ [القدر:4] قيل: إن الروح التي تتنزل فيها هي أرواح بني آدم أو أرواح الملائكة تتنزل في تلك الليلة.

    لكل شيء روح تحيا به تلك الماهية، فالقرآن يسمى روحاً، والإسلام له روح، والإيمان له روح، وكذلك التوكل له روح، والعبادة لها روح، والاستعانة لها روح، وكذلك المحبة والخوف والرجاء وسائر أنواع العبادات لها روح، يعني: لها حقيقة معنوية تتأكد فيها أو تؤكد وتصير بها مؤكدة نافعة، فإذا عرف بأن الروح هو الذي تحصل به الحياة، فكلمة الروح سميت بذلك لأن فيها حياة البدن، ولأنها حية، وقد رجح العلماء المحققون أن الأرواح بعد خروجها من الأجساد باقية كما يقول بعضهم:

    وأن أرواح الورى لم تعدم مع كونها مخلوقة فاستفهم

    فهذه حقيقتها، فأرواح بني آدم ما عدمت بعد خروجها من أجسادهم، مع اعتقادنا أنها مخلوقة مكونة بعد أن كانت معدومة، أوجدها الله وكونها، وقد تقدم الخلاف في وقت خلقها، متى خلقت؟ وأن الراجح أنها تخلق مع خلق الإنسان، وتبقى بعد موته.

    وعلى كل حال فأمر هذه الأرواح وحقائقها يختلف باختلاف الإنسان، وقوة معنويته وضعف معنويته.

    هل تموت الروح أم لا؟

    قال الشارح رحمه الله: [والتحقيق أنها نفس واحدة لها صفات، فهي أمارة بالسوء، فإذا عارضها الإيمان صارت لوامة تفعل الذنب ثم تلوم صاحبها وتلوم بين الفعل والترك، فإذا قوي الإيمان صارت مطمئنة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن)، مع قوله: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن...) الحديث.

    واختلف الناس هل تموت الروح أم لا؟

    فقالت طائفة: تموت؛ لأنها نفس، وكل نفس ذائقة الموت، وقد قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27]، وقال تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ [القصص:88]، قالوا: وإذا كانت الملائكة تموت فالنفوس البشرية أولى بالموت.

    وقال آخرون: لا تموت الأرواح فإنها خلقت للبقاء، وإنما تموت الأبدان، قالوا: وقد دل على ذلك الأحاديث الدالة على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله في أجسادها.

    والصواب أن يقال: موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها، فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت، وإن أريد أنها تعدم وتفنى بالكلية فهي لا تموت بهذا الاعتبار، بل هي باقية بعد خلقها في نعيم أو في عذاب كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

    وقد أخبر سبحانه أن أهل الجنة لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى، وتلك الموتة هي مفارقة الروح للجسد، وأما قول أهل النار رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [غافر:11]، وقوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [البقرة:28] فالمراد أنهم كانوا أمواتاً وهم نطف في أصلاب آبائهم، وفي أرحام أمهاتهم، ثم أحياهم بعد ذلك، ثم أماتهم ثم يحييهم يوم النشور، وليس في ذلك إماتة أرواحهم قبل يوم القيامة، وإلا كانت ثلاث موتات.

    وصعق الأرواح عند النفخ في الصور لا يلزم منه موتها، فإن الناس يصعقون يوم القيامة إذا جاء الله لفصل القضاء، وأشرقت الأرض بنوره، وليس ذلك بموت، وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله تعالى، وكذلك صعق موسى عليه السلام لم يكن موتاً، والذي يدل عليه أن نفخة الصعق -والله أعلم- موت كل من لم يذق الموت قبلها من الخلائق، وأما من ذاق الموت أو لم يكتب عليه الموت من الحور والولدان وغيرهم فلا تدل الآية على أنه يموت موتة ثانية، والله أعلم.]

    الكلام الأول يتعلق بالأنفس وتعددها، وذكرنا أن الراجح أن النفس واحدة تغلب عليها صفات الإيمان فتسمى نفساً مطمئنة، وتغلب عليها المعاصي فتسمى نفساً لوامة، وتغلب عليها صفة الكفر والبدع فتسمى نفساً أمارة بالسوء، وهي نفس واحدة، هذا هو الصواب.

    أما الكلام الثاني فيتعلق بموت الأرواح، هل الأرواح تموت؟

    قال بعضهم: إنها تموت، وهي إذا خرجت من الأجساد فإنها تحس إذا صعدت إلى السماء، ويخرج منها ريح طيبة أو ريح خبيثة، وتتألم أو تتنعم، فهي لا تزال حية في هذا العالم في البرزخ بعد فراق هذا الجسد، وأما الجسد فإنه يفنى ويصير تراباً، كما قال تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ [طه:55].

    وبعضهم يقول: إن الأرواح بعد خروجها تبقى مدة ثم تموت، فإنه لابد أن يأتي عليها الموت الذي كتبه الله على كل شيء؛ لأنها أنفس، وكل نفس ذائقة الموت، ولابد من فنائها لقوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26] هذا دليل من قال: إنها تفنى وتموت، وقاسوها على الملائكة، لأن الملائكة لابد أن يموتوا، وكذلك الجن معروف أيضاً أنهم يموتون، مع كونهم أرواحاً، فلابد أن يكون موتهم شيئاً يحسون به، ويحصل بذلك عدم الحياة لهم، فإذا كان الجن يموتون، والملائكة يموتون، فالأرواح التي هي أرواح الإنسان كيف لا تموت؟ هذا قول بعض العلماء.

    والقول الثاني: أنها بعد خروجها لا تموت، بل تبقى إما منعمة وإما معذبة، وهو ما تدل عليه أحاديث عذاب القبر، وموتها هو مفارقتها لهذا الجسد، فإنها كانت عامرة لهذا الجسد، وكانت منعمة فيه، فنزعت منه، وخرجت منه، كما في أحاديث عذاب القبر أن الملك يجلس عند رأسه فيقول: (اخرجي أيتها الروح الطيبة كانت في الجسد الطيب -أي: الذي كنت تعمرينه- اخرجي إلى روح وريحان، ورب غير غضبان)، ويقول عند روح الكافر: (اخرجي أيتها الروح الخبيثة كانت في الجسد الخبيث -أي: الذي كنت تعمرينه- اخرجي إلى غضب من الله وسخط)، فهذا دليل على أن خروجها هو الذي يسمى الموت، خروجها ومفارقتها لهذا الجسد هو موتها حقاً، وهو الموت الذي كتب الله عليها، فإذا خرجت فإنها ماتت، وإن كانت بعد ذلك تبقى حية، وتبقى متحركة ومتنعمة أو متلذذة أو متألمة.

    معنى قوله تعالى: (كل من عليها فان)

    قول الله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ [القصص:88]، وكُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26]، وكُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185] المراد بها أنها يأتي عليها الموت الذي هذا صفته، فقد أتى على الروح الموت، وهو مفارقتها للجسد.

    عند بعض الفلاسفة أن الروح قديمة ليست مخلوقة، وعبر عن ذلك شاعرهم ابن سيناء في قصيدته التي يقول في أولها:

    هبطت إليك من المحل الأرفع ورقاء ذات تقلب وتفجع

    وصلت على كره فلما وصلت ألفت مرافقة الخراب البلقع

    وصفها بأنها هبطت من المحل الأرفع من السماء، وشبهها بالورقاء، والورقاء نوع من الطيور تسمى الورق، فذكر أنها وصلت إلى هذا الجسد مكرهة، ولكن بعدما وصلت تمكنت وألفت مرافقته، مع كونه خراباً بدونها، لكن لا يسلم لهم أنها قديمة، بل هي مخلوقة مكونة بعد أن كانت معدومة، فإن الله تعالى هو خالق كل شيء، فأما فناؤها فيحصل بمفارقتها لهذا الجسد، والله تعالى أخبر بأن كل شيء هالك إلا وجهه، فهلاكها معناه خروجها من أجسادها، فهذا موت، وبعضهم يقول: إن قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26] المراد كل ما خلق للفناء، وأما ما خلق للبقاء فإنه لا يفنى، ويقول: ما خلق الله الجنة وما فيها من الحور ونحوها إلا للبقاء فلا تفنى، ولا يأتي عليها الموت؛ لأنها خلقت للبقاء، ومنهم من يقول: الحور التي في الجنة تفنى، ثم بعد ذلك تحيا.

    وأما الصعق الذي ذكره الله في قوله: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68] وكذلك الفزع المذكور في قوله: وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ [النمل:87] فزع أولاً، ثم صعق ثانياً، فهذا الصعق إن كان على الأحياء فإنه موت، يعني: أن الناس يموتون في ذلك اليوم، إذا نفخ في الصور ماتوا كلهم، وعبر بالصعق عن الموت، والمراد الناس الذين تدركهم الساعة وهم أحياء، ينفخ في الصور فيموتون موتة واحدة، ثم بعد ذلك ينفخ فيه أخرى، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن بين النفختين أربعون، قيل: إنه أراد أربعون سنة.

    وهذا الصعق موت في حق الأحياء، وأما الأرواح فإنه ليس موت في حقها، وإذا صعقت لا يلزم أن تموت، وقيل: إن الأرواح هي من المستثنى في قوله: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68]، فالذين يشاء الله عدم صعقهم مثل الأرواح ومثل حور الجنة، وكل ما خلق للبقاء.

    وبكل حال نؤمن بأن هذا الكون الذي نحن فيه هو الذي يفنى، وأن هناك مخلوقات خلقت للبقاء كالأرواح، فالله هو الذي خلقها وقدر لها مقاديرها، فإذا حصل النفخ في الصور فإنها لا يأتي عليها هذا الفناء والفزع، والصعق يأتي على غيرها، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن صعق يوم القيامة بعد البعث، وأن الناس يصعقون يوم القيامة، وكأنه صعق لفزع يأتيهم، يقول: (فأكون أول من يفيق، فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري هل أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟)، صعقة الطور هي المذكورة في قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً [الأعراف:143] فدل على أن هناك صعقة يوم القيامة، وهذا الصعق ليس بموت وإنما هو غشية تحصل من هذا الفزع، ثم يحصل بعدها إفاقة، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم أول من يفيق، فيجد موسى قد أفاق قبله أو لم يصعق جزاء له على صعقته يوم الطور.

    معنى قوله تعالى: (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين)

    تكلم الشارح على قوله تعالى: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [غافر:11] والصحيح أن هاتين الموتتين والحياتين في الدنيا وفي الآخرة، الموتة الأولى هي الموت في الأرحام وفي الأصلاب، فإنه في حالة كونه في الرحم شبه ميت، ليس به حركة الحي حتى ينفخ فيه الروح بعد الشهر الرابع.

    الموتة الثانية خروجه من هذه الدنيا، فهاتان موتتان.

    والحياة الأولى خروجه إلى هذه الدنيا من الرحم فإنها حياة مشاهدة، والحياة الثانية حياته بعد النفخ في الصور يوم القيامة الحياة الباقية.

    فهاتان الموتتان موتة في الرحم وموتة في الدنيا، والحياتان حياة في الدنيا وحياة في الآخرة، وهي المفصلة في قوله تعالى: وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً [البقرة:28] يعني: في الأرحام، فَأَحْيَاكُمْ [البقرة:28] يعني: في الدنيا، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ [البقرة:28] يعني: في البرزخ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [البقرة:28] أي: للآخرة.

    وقد نصب الله الأدلة على الأمور الغيبية والأمور الأخروية، وأمر العباد بأن يتفكروا وينظروا فيما بين أيديهم وفيما خلفهم، ولا شك أن من نظر في ذلك اعتبر وتذكر واتعظ، إذا نظر -مثلاً- إلى خلق الإنسان، ومبدأ أمره، عرف أن الذي خلقه قادر على أن يعيده، وليس بدأ الخلق أهون من إعادته، نظر إلى الأفلاك العلوية والسفلية فأخذ منها آية دل الله عليها بقوله: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57]، خلق السماوات مع علوها ومع عظمها وخلق الأرض مع اتساعها أكبر من خلق الناس.

    والآيات التي أمر الله عباده أن يتعظوا بها وينظروا فيها كثيرة، كقوله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ [الروم:20]، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً [الروم:21]، وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الروم:22]، وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ [الروم:23]، هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً [الرعد:12]، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الروم:25]، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الروم:46] ولا شك أن هذه الآيات عبرة لمن اعتبر، وعظة لمن اتعظ؛ فلأجل ذلك أصبح اليوم الآخر يقيناً عند أهل الإيمان؛ لأنها قامت عليه البراهين بعدما كان المشركون ينكرونه ويقولون: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ [الصافات:16-17] يستنكرون ذلك، فأقام الله عليهم الحجة، وبين لهم الأدلة.

    ومعلوم أن الإنسان يتكون من جسد وروح، فبعد الموت تخرج هذه الروح من جسده، ويبقى الجسد ليس به حركة، فيفنى الجسد ويكون تراباً، ولكن قدرة الله أعلى من كل شيء، فهو قادر سبحانه على أن يوصل إليه الألم أو النعيم ولو كان تراباً أو رماداً، الله قادر على كل شيء، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

    أما روحه التي كانت تعمر جسده فقد مر بنا أن الروح لا تعدم، وأنها باقية، وأنها في هذا البرزخ بين الدنيا والآخرة إما في نعيم وإما في عذاب، وإن كنا بعقولنا لا ندرك ماهيتها، ولا ندري أين مستقرها، بل نتحقق بأن الروح إذا خرجت من البدن لا تنعدم كما ينعدم البدن، بل تبقى، والدليل على بقائها الأحاديث التي فيها أنها تقبض، وأنه يعرج بها، وأنها ترى من يقبضها، ونحو ذلك، فهي إذاً: باقية في هذه المدة بين الدنيا والآخرة، ويوم القيامة يأمر الله الأرض فتجمع ما فيها من رفات الأموات، وتتجمع عظامهم حتى تتكامل، ويكسوها الله لحماً، ثم بعد أن يعيدها يرسل إليها أرواحها، وقد وقع مثل ذلك في الدنيا، فحكى الله قصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، فاستبعد إعادتها وقال: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا [البقرة:259] كأنه استبعد أن تحيا وقد فنيت، فأراه الله الآية في نفسه، فأماته الله مائة عام ثم بعثه، وكان معه حمار، وكان معه سلة طعام وفاكهة، فلما بعثه ونفخ فيه الروح بعد مائة سنة، أراه الله كيف يحيي الموتى، فقيل له: كم لبثت؟ قال: لبثت يوماً أو بعض يوم، فقال الله: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ [البقرة:259] أي: لم يتغير، وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ [البقرة:259]، وكان حماره قد فني وأصبح تراباً، وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ [البقرة:259] يقولون: إنه أخذ ينظر إلى عظام الحمار كيف تجتمع ثم يلتئم بعضها ببعض، أولاً التأمت العظام، ثم اكتست لحماً، ثم نبت عليها جلدها، ثم نفخ فيه الروح، فقام الحمار ونهق كما ينهق إذا كان حياً!

    فأراه الله الآية في نفسه، وفيما كان معه، وذلك بلا شك آية وعبرة تدل أن الله قادر على أن يحيي الموتى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة:40]، فإذا أيقن الإنسان بذلك فإن يقينه يحمله على أن يستعد لما بعد الموت.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756515632