إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [51]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • في اللغة أسماء خصصها الشرع وجعل لها مدلولات اصطلاحية قد تختلف باختلاف موردها، ومن ذلك مسميات الإيمان والإسلام والكفر والفسوق والعصيان والنفاق، وغيرها.

    1.   

    تفسير الإسلام والإيمان

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [والكتاب والسنة مملوءان بما يدل على أن الرجل لا يثبت له حكم الإيمان إلا بالعمل مع التصديق، وهذا أكثر من معنى الصلاة والزكاة، فإن تلك إنما فسرتها السنة، والإيمان بين معناه الكتاب والسنة، فمن الكتاب قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ.. [الأنفال:2] الآية، وقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا.. [الحجرات:15] الآية، وقوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65] فنفي الإيمان حتى توجد هذه الغاية، دل على أن هذه الغاية فرض على الناس، فمن تركها كان من أهل الوعيد، ولم يكن قد أتى بالإيمان الواجب الذي وعد أهله بدخول الجنة بلا عذاب.

    ولا يقال: إن بين تفسير النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث جبريل، وتفسيره إياه في حديث وفد عبد القيس معارضة؛ لأنه فسر الإيمان في حديث جبريل بعد تفسير الإسلام، فكان المعنى أنه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، مع الأعمال التي ذكرها في تفسير الإسلام، كما أن الإحسان متضمن للإيمان الذي قدم تفسيره قبل ذكره، بخلاف حديث وفد عبد القيس؛ لأنه فسره ابتداءً، لم يتقدم قبله تفسير الإسلام، ولكن هذا الجواب لا يتأتى على ما ذكره الشيخ رحمه الله من تفسير الإيمان، فحديث وفد عبد القيس مشكل عليه.

    ومما يسأل عنه: أنه إذا كان ما أوجبه الله من الأعمال الظاهرة أكثر من الخصال الخمس التي أجاب بها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المذكور، فلم قال: إن الإسلام هذه الخصال الخمس؟

    وقد أجاب بعض الناس: بأن هذه أظهر شعائر الإسلام وأعظمها، وبقيامه بها يتم استسلامه، وتركه لها يشعر بانحلال قيد انقياده].

    الإسلام فسر بالأعمال الظاهرة التي هي الأركان الخمسة، والإيمان فسر بالأركان الستة التي هي العقائد، وعلى هذا فإذا اجتمع الإسلام والإيمان فسر الإيمان بالأعمال العقدية الغيبية، وفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة.

    وسبب التسمية: أن الإسلام يستدعي الاستسلام الذي هو الإذعان، فالذي يقيم الصلاة مذعن ظاهراً، والذي يؤدي الحج مذعن ظاهراً، وكذا الذي يصوم ويزكي ويتشهد مذعن وخاضع ومتواضع.

    وأما الأمور العقدية القلبية فهذه خفية، تستدعي أدلة قوية، ثم بعد ذلك ترتكز في النفس، وتكون آثارها الأعمال الصالحة، وقد مر بنا أنه صلى الله عليه وسلم لما جاءه وفد عبد القيس قال لهم: (آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتؤدوا من الغنيمة الخمس )، فأمرهم بأركان الإسلام وفسر بها الإيمان؛ وذلك لأنه لم يفسر لهم الإسلام، فجعل الإيمان هو الأعمال الظاهرة، فإذا اقتصر على الإيمان دخلت فيه الأعمال الظاهرة والباطنة، وإذا اقتصر على الإسلام دخلت فيه الأعمال الظاهرة والباطنة، وإذا اجتمعا فسر الإسلام بالظاهرة والإيمان بالباطنة.

    الله تعالى ذكر الإيمان وأدخل فيه الأعمال الظاهرة، فجعل الجهاد -وهو من الأعمال الظاهرة- من خصال الإيمان.

    كذلك قال في آية سورة النساء: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65] فجعل تحكيم الشريعة وتحكيم النبي صلى الله عليه وسلم العلامة الواضحة للإيمان، فمن لم يجعل الرسول هو الحكم فليس بمؤمن، فهذا دليل على أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان، وإذا اقتصر على الإيمان دخلت فيه الأعمال الظاهرة والباطنة؛ وذلك لأنها نتيجته وثمرته.

    أما الإسلام فيفسر بالإعمال الظاهرة؛ لأنها علاماته، ومعلوم أن الأعمال الظاهرة ليست هي الخمس فقط، ولكن هذه الخمس هي دعائمها وأسسها وأصولها، وإذا حافظ عليها المسلم حافظ على غيرها، فالأركان الخمسة الظاهرة: الشهادتان والصلاة والزكاة والصوم والحج، هذه أسس الإسلام وعموده ودعائمه وأركانه التي يتكون منها، والتي يقوم عليها، ولكن هناك خصال أخرى تعتبر مكملات، فلأجل ذلك إذا أتى بهذه الأركان احتاج إلى مكملات.

    وقد ذكرنا أنهم ضربوا مثلاً للإسلام بالبناء، قال صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس)، فمثله بالبناء، وأنتم تعرفون أن البناء لابد أن يكون له زوايا، فجعل الأركان هذه هي الزوايا التي يتكون منها، وهي الحيطان الأربعة المتقابلة، وهذه تعتبر أركانه لا يتم إلا بها، فهذا المكان لا يتم إلا إذا تكاملت زواياه المتقابلة، ولكن دون ذلك يحتاج إلى تكملة بقية الخصال التي هي إما أفعال وإما أقوال وهي بمنزلة المكملات.

    فلو بنيت حيطان المسجد فقط دون إتمام بقية المسجد لقلنا: إنه يحتاج إلى تكملة: يحتاج إلى أبواب، ويحتاج إلى نوافذ، ويحتاج إلى إنارة، ويحتاج إلى تهوية، ويحتاج إلى فرش، ويحتاج إلى سرج، ويحتاج إلى مرافق ومتكئات وما أشبه ذلك، فكذلك الإسلام بحاجة إلى الجهاد، وبحاجة إلى الأعمال الصالحة، وبحاجة إلى ترك المنكرات كلها: ترك القتل، وترك الزنا، وترك الشرك، وترك السرقة، وترك الفساد بأنواعه وما أشبه ذلك، وكذلك يحتاج إلى بر الوالدين، وإحسان الجوار، وصلة الأرحام، وبذل السلام، وتشميت العاطس، وعيادة المريض، واتباع الجنائز وما أشبه ذلك، ولا شك أن هذه من خصال الإيمان.

    فالذي يأتي بالأركان الخمسة، يطلب منه تكميل ذلك بأن تستدعي الخمسة غيرها، فيقال له: ائت بالبقية حتى تكون بذلك قد كملت الإسلام.

    الإسلام ليس منحصراً في الأركان الخمسة وإنما هي دعائمه

    قال الشارح رحمه الله: [والتحقيق أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدين الذي هو استسلام العبد لربه مطلقاً، الذي يجب لله عبادة محضة على الأعيان، ويجب على كل من كان قادراً عليه ليعبد الله مخلصاً له الدين، وهذه هي الخمس، وما سوى ذلك فإنما يجب بأسباب مصالح، فلا يعم وجوبها جميع الناس، بل إما أن يكون فرضاً على الكفاية كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما يتبع ذلك: من إمارة وحكم وفتيا وإقراء وتحديث وغير ذلك، وإما أن يجب بسبب حق الآدمي، فيختص به من وجب له وعليه، وقد يسقط بإسقاطه من قضاء الديون ورد الأمانات والغصوب، والإنصاف من المظالم: من الدماء والأموال والأعراض، وحقوق الزوجة والأولاد وصلة الأرحام، ونحو ذلك، فإن الواجب من ذلك على زيد غير الواجب على عمرو، بخلاف صوم رمضان وحج البيت والصلوات الخمس والزكاة، فإن الزكاة وإن كانت حقاً مالياً فإنها واجبة لله، والأصناف الثمانية مصارفها، ولهذا وجبت فيها النية، ولم يجز أن يفعلها الغير عنه بلا إذنه، ولم تطلب من الكفار، وحقوق العباد لا يشترط لها النية، ولو أداها غيره عنه بغير إذنه برئت ذمته، ويطالب بها الكفار.

    وما يجب حقاً لله تعالى كالكفارات هو بسبب من العبد، وفيها معنى العقوبة، ولهذا كان التكليف شرطاً في الزكاة، فلا تجب على الصغير والمجنون عند أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله تعالى، على ما عرف في موضعه].

    يجيب الشارح هنا عن سؤال مقدر تقديره: لماذا اقتصر في الإسلام على الأركان الخمسة ولم يذكر بقية الخصال؟ أي أنه لم يقل: الإسلام أن تجاهد في سبيل الله، وأن تأمر بالمعروف وأن تنهى عن المنكر، وأن تصل رحمك، وأن تبر والديك، وأن تحسن إلى جيرانك، وأن تحب المسلمين، وأن تسلم على من سلم عليك، وأن تعود المرضى، وأن تتبع جنائز الموتى ونحو ذلك، لماذا لم يذكر هذه الخصال في الإسلام؟ ولماذا لم يذكر المتروكات؟ لماذا لم يقل: إن من الإسلام أن تترك الزنا، وأن تترك القتل، وأن تترك الشرك، وأن تترك السرقة، وأن تترك الغيبة والنميمة، وأن تترك الخيانة والإثم، وأن تترك السباب والفحشاء وما أشبه ذلك؟ فلماذا لم يذكر هذه الأشياء في الإسلام؟!

    نقول: لا شك أن هذه من خصال الإسلام سواء كانت أفعالاً كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحب في الله والبغض في الله، والولاء له والبراء له، وما أشبه ذلك أو كانت من التروك، كترك المنكرات والمعاصي ونحوها، لا شك أنها من خصال الإسلام، ولكن يجاب عنها بما أجاب به الشارح، فالأركان الخمسة تستدعي غيرها، ولا شك أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فإذا حافظ العبد عليها فإنها تحبب إليه الأعمال الخيرية، فتراه يحب النفقة في سبيل الله، وتراه يحب الخير، ويحب أهل الخير، وتراه يتعلم العلم ويعلمه، وتراه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويبر والديه، ويبذل السلام للعالم، ويأمر بما يصلح المسلمين، ويفشيه فيما بينهم، وتراه يصل الرحم ويحسن الجوار، ويحسن إلى المماليك وما أشبه ذلك، وتراه يبتعد عن المنكرات؛ لأن صلاته تنهاه، فتراه يحفظ لسانه، ويحفظ عينيه عن النظر للحرام، ويحفظ أذنيه عن سماع الملاهي وما أشبه ذلك، ويحفظ يديه عن البطش بالآثام ونحو ذلك، ويحفظ قدميه عن المشي بهما إلى ما حرم الله، لماذا؟

    لأن صلاته أمرته بالخير ونهته عن الشر، فالصلاة سبب من الأسباب جعلته يحب الخير ويكثر منه.

    وهناك أيضاً جواب ثاني وهو: أن هذه الخصال قد لا تجب على كل فرد، بخلاف الصلاة فإنها واجبة على كل فرد، والزكاة على كل فرد توافرت فيه شروطها، والصوم على كل فرد، والحج على كل فرد مستطيع، أما الجهاد فإنه على القادر، وهو فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، وكذلك الأمور التي تتعلق بالغير، فمثلاً بذل السلام فرض كفاية، فلو سلم واحد من عشرة كفى، وإذا رد واحد من العشرة كفى، وكذلك الخصال الخيرية لا تجب على كل أحد، فقد لا يجب على كل أحد أن يبر أو يصل، أو ما أشبه ذلك، فوجوبها إنما هو على الشخص الذي اتصف بتلك الصفات، فهذا جواب.

    ومن الأجوبة أيضاً: أن هناك أعمالاً لا تجب على الإنسان بإيجاب الشرع، وإنما تجب عليه بإيجاب نفسه، كالكفارات والنذور التي أوجبها على نفسه، مثلاً: إذا أوجب على نفسه أضحية، أو أوجب على نفسه صدقة، اعتبر هذا مما أوجبه على نفسه ولم يوجبه عليه الشرع، إنما الشرع سن له الصدقة، وسن له الأضحية، وسن له أنواع البر المتعدية، أما كفارات النذور، وكفارات الأيمان وما أشبهها، فهذه لا تجب على كل فرد، إنما تجب على من أوجبها على نفسه، أو أتى بالسبب الذي أوجبه على نفسه.

    إذاً: الناذر هو الذي أوجب على نفسه كفارة يمين إذا لم يفِ بنذره، والحالف هو الذي أوجب على نفسه كفارة إن حنث، والمظاهر هو الذي أوجب الكفارة على نفسه، وهكذا كفارة القتل، وهكذا كفارة الوطء في نهار رمضان وما أشبه ذلك، لا شك أن هذه إنما أوجبها الإنسان على نفسه.

    وبكل حال فإن الأشياء التي يكلف بها الإنسان إما أن تكون من الخصال الخيرية التي ليست واجبة ولكنها مشروعة وفيها أجر كالأذكار، والأدعية، وقراءة القرآن، والاعتكاف في المساجد، والإتيان بالنوافل قبل الصلوات وبعدها، وأنواع التطوعات، وكذلك أنواع الصدقات البعيدة عن الواجب الذي هو الزكاة، وما أشبه ذلك؛ فهذه خصال خيرية يحبها الشرع، وحبه لها يظهر أنها طاعة، فإذا علم أنها طاعة وأن الله يحبها أكثر منها.

    وأما التروك والمحرمات فإن الذي يتركها هو الذي يعرف عاقبتها، ويعرف الآثام التي تترتب عليها، فإذا علم العبد أن الله تعالى يعاقبه على الشرك ويعاقبه على القتل وعلى الزنا وعلى المسكرات والمخدرات ونحوها، ويعاقبه على القذف وعلى السباب والشتم واللعن والغيبة والنميمة ونحو ذلك، ويعاقبه على أكل الحرام كأكل الربا وأخذ الرشا والمعاملات المحرمة وما أشبه ذلك، ويعاقبه على سماع الغناء واللهو وما أشبه ذلك؛ تركها، وهذه أيضاً ليست من الضروريات، فليس كل أحد يتعامل بالمعاملات المحرمة، وليس كل واحد مضطراً إلى أن يغتاب وأن ينم ويسب ويكذب، وليس كل واحد مضطراً إلى أن يرى الصور والملاهي، وينظر إلى العورات وما أشبه ذلك، وليس كل واحد مضطراً إلى أن يسمع الغناء واللهو والباطل والكلام السيئ وما أشبه ذلك، فليست من الضروريات.

    فإذاً: لما كان فيها مفاسد، وليس فيها مصالح، والإسلام مشتمل على النهي عنها، وعلى الزجر والعقوبة عليها؛ وجب على المسلم أن يتركها، فإذا أسلم العبد وعرف أن هذه الخصال التي هي أركان الإسلام هي السبب في أنه مسلم، عرف أن الإسلام لا يجتمع هو وضده، وأن الإسلام ينهى عن الآثام؛ فاجتنب الآثام كلياً، واستكثر من الطاعات كلياً، وبذلك يتم إسلامه وإيمانه.

    1.   

    الإيمان بالقدر خيره وشره

    قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (والقدر خيره وشره وحلوه ومره من الله تعالى).

    تقدم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام (وتؤمن بالقدر خيره وشره)، وقال تعالى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [التوبة:51]، وقال تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً [النساء:78]، وقوله تعالى: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ.. [النساء:79] الآية. فإن قيل: كيف الجمع بين قوله تعالى: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء:78] وبين قوله: فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79]؟

    قيل: قوله: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء:78]: الخصب والجدب والنصر والهزيمة كلها من عند الله، وقوله: فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79] أي: ما أصابك من سيئة من الله فبذنب نفسك عقوبة لك، كما قال: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30] يدل على ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ: (وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك) والمراد بالحسنة هنا النعمة، وبالسيئة البلية، في أصح الأقوال، وقد قيل: الحسنة الطاعة، والسيئة المعصية، وقيل: الحسنة ما أصابه يوم بدر، والسيئة ما أصابه يوم أحد، والقول الأول شامل لمعنى القول الثالث، والمعنى الثاني ليس مراداً دون الأول قطعاً، ولكن لا منافاة بين أن تكون سيئة العمل وسيئة الجزاء من نفسك، مع أن الجميع مقدر، فإن المعصية الثانية قد تكون عقوبة الأولى، فتكون من سيئات الجزاء، مع أنها من سيئات العمل، والحسنة الثانية قد تكون من ثواب الأولى، كما دل على ذلك الكتاب والسنة].

    الحسنة والسيئة من الله

    المصائب والحسنات والسيئات كلها مقدرة من الله، فالله تعالى يقول: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء:78] الحسنة والسيئة كلها مكتوبة ومقدرة من الله، لو شاء الله ما حصلت هذه العقوبات ونحوها، ولا حصلت هذه الآفات وما أشبهها، فهي من الله خلقاً وتكويناً وقضاءً وقدراً.

    الحسنة هنا تدخل فيها الأعمال الصالحة، فما عملت من أعمال صالحة فالله هو الذي أقدرك عليها، وتدخل فيها الخيرات الحسية، فما أصابك من نعمة، وما أصابك من صحة ومن ثروة ومن خصب ومن أمن ورخاء، وما أصابك من نعمة مال أو ولد أو فرح أو بشر وسرور، ما أصابك من هذا كله فهو من الله، وقد جعل الله تعالى ذلك ثواباً على الأعمال والحسنات التي يعملها العبد، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً [النحل:41] أي: لنعطينهم في الدنيا حسنة؛ وذلك لأنهم أتوا بالأسباب التي هي الإيمان والأعمال الصالحة، إما الحسنة التي هي خيرات أخروية أو خيرات دنيوية فهي من الله، وهي أيضاً جزاء له على عمله، فأنت أيها المؤمن التقي والعبد الصالح إذا أصلحت عملك جازاك الله تعالى بحسنات في الدنيا، وبحسنة في الآخرة، ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة)، فالحسنة في الدنيا: الصحة والنعمة والرفاهية والنصر والتمكين والخيرات المحبوبة في النفوس، والحسنة في الآخرة هي الجنة.

    فما أصابك من حسنة فمن الله، هو الذي أنعم بها عليك، وهو الذي تفضل بها عليك، وما أصابك من سيئة فمن نفسك، ما أصابك من هم أو من غم، ما أصابك من جوع أو من عري، ما أصابك من مرض أو من حزن، ما أصابك من خوف أو قلق واضطراب وفقر وفاقة، أو من مرض وموت وفراق حبيب وما أشبه ذلك، فاعلم أنه عقوبة على سيئة اقترفتها، أو أنه محنة لك واختبار، فإذا كان عندك شيء من النقص أو من الضعف في إيمانك فسبب هذه السيئة التي أصبت بها صادر عن نفسك، ولهذا قال الله تعالى للصحابة في غزوة أحد: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] من عند أنفسكم أي: بسبب فعلكم سلط عليكم هذا العدو، فهو من عند أنفسكم، أي: عملتم عملاً حصل به هذا التسليط.

    الواجب على المسلم إذا أصابته حسنة أو سيئة

    لا شك أن الإنسان إذا ابتلي بالحسنة فعليه أن يشكر، وإذا ابتلي بالسيئة فعليه أن يصبر، فإذا أصابته النعمة والرخاء والثروة والغناء وكثرة المال والولد والصحة والرفاهية والخيرات التي تسره وتجلب له الحياة السعيدة فلا يعتقد أن هذا لكرامته، بل يعتقد أنه ابتلاء من الله له، إما أنه جزاء على أعمال عملها، وثواب لحسنات عملها، فيكون قد عجلت له حسناته، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يخافون إذا وسعت عليهم الدنيا ويقولون: نخشى أن تكون طيباتنا عجلت لنا.

    والخيرات والرفاهية التي فيها الناس الآن قد تكون حسناتهم وأعمالهم الصالحة عجلت لهم، ولا يبقى لهم في الآخرة ثواب، ويمكن أن تكون هذه الحسنات والنعم والرخاء التي أعطيها الناس في هذه الأزمنة جزاء على أعمالهم الصالحة، مع ادخار الأجر لهم، فالله تعالى يثيب الصالحين والمؤمنين بثواب في الدنيا، ولا ينقص ثوابهم في الآخرة، فيجمع لهم بين الحسنتين: حسنة الدنيا وحسنة الآخرة، ويمكن أن تكون هذه الخيرات، وهذه النعم التي أصابها الناس في هذه الأزمنة، وهذه التوسعة والرفاهية والنعم ابتلاء، فإن الله تعالى يبتلي بالخير كما يبتلي بالشر، فيبتلي بالحسنات ويبتلي بالسيئات، فالابتلاء بالحسنات لأجل أن يظهر من العبد هل يشكر أم يكفر، كما حكى الله تعالى عن سليمان أنه قال: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [النمل:40].

    فهذه النعم التي فتحت علينا من فضل الله علينا ليبتلينا هل نشكر أم نكفر، فإذا عرفنا أنها من الله شكرنا، وإذا عرفنا أنها بحاجة إلى شكر استعملناها فيما يحبه الله تعالى، وبذلك تثبت، وبذلك نكون من الشاكرين لها، فهذا هو الابتلاء بالخيرات.

    أما الذين انخدعوا بها، واعتقدوا أن ذلك دليل على كرامتهم، فإنهم هم المحرومون، هم الذين تعجلوا ثواب أعمالهم في الدنيا، واعتقدوا أن ما فتح عليهم وما أمدهم الله به دليل على كرامتهم، وعلى فضلهم، وعلى شرفهم، وعلى رفعة منزلتهم ونحو ذلك، وقد وقع هذا للأولين، فحكى الله عن قارون أنه قال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78] أي: أوتيته على شرف، أوتيته على منزلة رفيعة، أو أوتيته لأني محبوب ومحظوظ عند الله، ولهذا قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص:79] هؤلاء هم الذين نظرتهم دنيوية، ولم يعلموا أن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الآخرة إلا من يحب.

    فإذا عرف العبد أن الابتلاء بالخيرات ليس دليلاً على الكرامة، بل إما أنه لحسنات عملها فيثاب عليها في الدنيا ولا يبقى له في الآخرة شيء، وإما أنه لأجل أن يختبر هل يشكر أم يكفر، وإما أنه تعجيل أو توسعة عليه في الدنيا، ولا ينقص أجره في الآخرة، فإذا شكر الله تعالى علم كيف يقابل الحسنات الدنيوية.

    أسباب المصائب والابتلاءات

    إذا أصاب الإنسان سيئة دنيوية، مصيبة أو بلاء أو مرض أو فقر أو فاقة أو موت قريب، أو حزن أو خوف، أو تشريد وتفريق، أونهب وسلب، أو تسليط أعداء، أو ما أشبه ذلك، فما سبب ذلك؟

    لا شك أنه يدخل في هذه الأمور: إما أن يكون ذلك تكفيراً للسيئات، فالمؤمن يبتلى، فإذا كانت عنده سيئات سلط الله عليه المرض، وسلط الله عليه الخوف ونحو ذلك، كما في الحديث: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء)، وفي الحديث أيضاً: (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل)، هذا سبب.

    السبب الثاني: أن هذه المصائب والآفات التي تصيب الإنسان قد تكون تمحيصاً وتكفيراً للسيئات التي اقترفها، وذلك لأنه قد لا يأتي بحسنات تمحوها، فيسلط الله عليه الأمراض.

    السبب الثالث: أنه ابتلاء وامتحان ليظهر من يصبر وممن يجزع، قال الله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31]، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ [البقرة:155]، لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [آل عمران:186].

    إذاً: هذه المصائب هي بسبب الناس، سيئات اقترفوها، أو أعمال قصروا فيها، أو نحو ذلك، فالسبب منهم، والله تعالى قد يبتليهم بهذه الأشياء حتى يختبر قوة إيمانهم وصبرهم، وحتى يرفع درجات الصابرين، وحتى يكفر عنهم بعض سيئاتهم، أو يكون هذا الابتلاء اختباراً ليظهر من يشكر ممن يجزع.

    فهذا ما ورد في معنى قوله: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756325985