إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [45]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • العمل يدخل في مسمى الإيمان، فهو شطر منه، وقد اختلف الناس في مسمى الإيمان، وفي التفريق بينه وبين الإسلام، وقد بين أهل السنة الحق في ذلك كله معتمدين على الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة.

    1.   

    بيان أن الأعمال من الإيمان وأنه يزيد وينقص

    مر بنا في العقيدة زيادة الإيمان ونقصانه، ودليل ذلك من الكتاب والسنة، وأنه قول أهل السنة والجماعة، والأدلة على ذلك، وفائدة الإيمان بزيادة الإيمان ونقصانه، وفائدة اعتقاد ذلك، والنقص والخلل الحاصل في إيمان من أنكر ذلك.

    من اعتقد أن الأعمال من مسمى الإيمان فإنه يحرص على استكثار الأعمال الصالحة، ومن اعتقد أن الإيمان يزيد بالطاعة حرص على الاستكثار من أنواع الطاعات، ومن عرف أن إيمانه ينقص بالمعاصي ابتعد عن كل المعاصي حتى لا ينقص بها إيمانه؛ وذلك لأنه يحس أو يستحضر أنه كلما نقص إيمانه بسبب معصية ضعف يقينه، ونقص حظه من الآخرة ومن الأجر، فهو يبتعد عن هذه الآثام التي تكون سبباً في نقص الإيمان.

    لا شك أن الإيمان إذا كان يقبل الزيادة فإنه يقبل النقصان، وقد ذكرنا بعض الأدلة التي تدل على زيادة الإيمان، والأمثلة التي تكون سبباً في زيادة الإيمان وفي نقصه، وأن الإنسان إذا استحضر أنه بالكلمة الطيبة يزيد إيمانه، وبالكلمة الخبيثة ينقص إيمانه، وبالنفقة في وجوه الخير يزيد إيمانه، وبالنفقة لغير الله ينقص إيمانه، وبسماع كلام الله وبسماع الخير ونحوه يزيد إيمانه، وبسماع اللغو واللهو والإثم ونحو ذلك ينقص إيمانه، وبالخطوات التي يخطوها إلى عبادة أو إلى مكان عبادة يزداد إيمانه، وبالخطوات التي يخطوها إلى إثم أو محرم ينقص إيمانه؛ من استحضر مثل هذا في جميع أعماله فإنه ولابد سيكون منتبهاً في كل لحظة، وفي كل عمل، إذا أراد أن يتكلم لم يقدم على الكلام إلا بعد أن يتحقق أنه خير، وأنه زيادة في إيمانه، وأنه يكتب له به حسنات، فيقدم عليه، وإذا أراد أن يتوجه إلى طريق وإلى مسير تفكَّر: هل له فيه خير؟ وهل هو إيمان أو كفر؟ وهل هو من شعب الإيمان أو من شعب الكفر؟ فلا يقدم إلا بعدما يتحقق أنه عمل بر وخير.. وهكذا في بقية الأحوال.

    الرد على شبهة القائلين بأن العمل ليس من الإيمان

    قد يقول قائل: كيف تكون الأعمال من الإيمان وهي تعطف عليه كما في قوله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الشعراء:227] فإنه يفهم منه: أن الأعمال زائدة على الإيمان؟

    الجواب: أن هذا العطف من عطف البيان، وعطف البيان مشهور عند العرب، فيعطف على أنه بيان لما قبله وإيضاح له وتقوية له، كأنه يؤكد أنهم متى آمنوا فإنه يزيد إيمانهم بهذه الأعمال الصالحة فيكثِّرونها، والله تعالى كثيراً ما يذكر الأعمال الصالحة ويفصل فيها، فمثلاً سورة (قد أفلح المؤمنون) ذكر الله فيها عشر صفات، أولها: الخشوع في الصلاة، وآخرها: المحافظة على الصلاة، وإذا تأملنا هذه الصفات التي أولها الإيمان وجدناها كلها متفرعة من الإيمان، وصفهم بأنهم مؤمنون، وكأنه قيل: وما هي أعمالهم؟ فقال: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:2] إلى آخرها، فهذا بيان بأنهم مؤمنون حقاً، وأنهم يدفعهم إيمانهم إلى فعل هذه الأشياء، فمن استكملها فهو منهم، ومن أخل بشيء منها فقد أخل بالإيمان أو قد نقص إيمانه.

    وبهذا يعرف أن الإيمان يتفاوت أهله فيه، فيزيد بعضهم على بعض، فالذين يصلون ولكنهم لا يخشعون في صلاتهم أنقص إيماناً من الخاشعين في صلاتهم، والذين يصلون ولكن لا يحافظون على الصلاة جماعة، بل يتكاسلون عن الجماعة أحياناً أنقص من الذين يحافظون عليها، وكذلك الذين يعرضون عن اللغو كلياً وعن مجالس اللغو، كما قال الله: وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:3] أي: مبتعدون؛ أكمل من الذين لا يعرضون عنه، بل يجلسون مع أهله أو يسمعون لغوهم أو نحو ذلك، فدل على أن أهل الإيمان يتفاوتون وإن كانوا كلهم مؤمنين، ولكن من استكمل هذه الصفات فقد استكمل الإيمان، ومن أخل بشيء منها فقد نقص إيمانه، والنقص قد يأتي على الآخر، وقد يبقى معه بعض الشيء.

    اعتقاد ازدياد الإيمان ونقصه سبب للاستكثار من الطاعات

    اعتقاد الإنسان زيادة إيمانه بالطاعات سبب لاستكثاره من الطاعات، واعتقاده نقص إيمانه بالمعاصي سبب لاجتنابه المعاصي، فلك أن تذكر العاصي وتقول له: يا أخي! بصفتك مؤمناً تذكر أن أعمالك هذه تنقص إيمانك! أعمالك هذه التي أنت تستمر فيها حتى ولو كانت من صغائر الذنوب.

    إذا كنت في كل يوم -مثلاً- تجدد حلق لحيتك، أو تطيل ثيابك تكبراً وإعجاباً بنفسك، أو تتعاطى هذا الدخان وتشمه دائماً وتشربه، وتتهاون به، أو تسمع غناء وتزعم أنك ترفه عن نفسك وتتسلى، وأنت مصر على ذلك، ففي كل يوم ينقص جزء من إيمانك، وفي كل يوم تقدح في إيمانك وتقطع منه قطعة، وتجمع شعباً من شعب الكفر، ويزيد حظك من المعاصي وحظك من الكفر، أفلا تكون منتبهاً خائفاً أن هذا النقص وتواليه يضعف إيمانك، حتى لا يبقى منه إلا القليل، فما دمت في زمن الإمهال، فإن عليك أن تحرص كل الحرص على الأعمال التي يقوى بها إيمانك، ويضعف بها حظك من الكفر ومن المعاصي!

    وكذلك -أيضاً- تشجع أهل الطاعة، وتحثهم على الاستكثار منها، وتبشرهم بأنهم بكل خطوة يخطونها إلى المسجد يزيد إيمانهم، وبكل ركعة يركعونها من النوافل يزيد إيمانهم، وبكل آية يقرءونها يزيد إيمانهم، وبكل تهليلة وتكبيرة وتسبيحة، وبكل استغفار وبكل دعوة يدعون بها يزيد حظهم من الإيمان، ويقوى في قلوبهم، وكذلك تقوى أبدانهم بالإيمان، ويكثر نصيبهم من الأجر الذي رتب على الإيمان.

    إذاً: اعتقادنا أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية فيه هذه الفوائد، والذين جعلوا الإيمان شيئاً واحداً، وأن الناس في أصله سواء، فاتتهم هذه الفوائد، فصاروا يعتمدون على أن إيمانهم كامل لا يتزعزع ولا يتغير ولا ينقص، فلا يبالون بالنقص من الحسنات، ولا يبالون بالاقتراف للسيئات، فيقعون في المعاصي، ويتهاونون بها، ويدعون أنها لا تضر، ولا تنقص إيمانهم؛ لأنها ليست من الأعمال، والإيمان إنما هو عمل القلب، وهذه إنما هي أعمال اللسان أو أعمال البدن.

    ويسبب هذا الاعتقاد السيء تهوينهم على أنفسهم أمر الذنوب، وتهوينهم على غيرهم الوقوع في المعاصي، فيقعون فيما حذر الله تعالى منه وهم لا يشعرون.

    أدلة دخول العمل في مسمى الإيمان

    قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه:

    [ومن الناس من زعم أن في القرآن من ذلك قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48] والكلام على ذلك معروف في موضعه.

    فإذا كان العطف في الكلام يكون على هذه الوجوه، نظرنا في كلام الشارع: كيف ورد فيه الإيمان فوجدناه إذا أطلق يراد به ما يراد بلفظ البر، والتقوى، والدين، ودين الإسلام.

    ذكر في أسباب النزول أنهم سألوا عن الإيمان؟ فأنزل الله هذه الآية: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [البقرة:177] قال محمد بن نصر : حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ والملائي قالا: حدثنا المسعودي عن القاسم قال: جاء رجل إلى أبي ذر رضي الله عنه فسأله عن الإيمان؟ فقرأ: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ [البقرة:177] إلى آخر الآية، فقال الرجل: ليس عن هذا سألتك، فقال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه، فقرأ عليه الذي قرأت عليك، فقال له الذي قلت لي، فلما أبى أن يرضى، قال: إن المؤمن الذي إذا عمل الحسنه سرته ورجا ثوابها، وإذا عمل السيئة ساءته وخاف عقابها) وكذلك أجاب جماعة من السلف بهذا الجواب.

    وفي الصحيح قوله لوفد عبد القيس : (آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا الخمس من المغنم)، ومعلوم أنه لم يرد أن هذه الأعمال تكون إيماناً بالله بدون إيمان القلب، لما قد أخبر في مواضع أنه لابد من إيمان القلب، فعلم أن هذه مع إيمان القلب هو الإيمان].

    قد ذكرنا أن هذا الموضوع يسمى (أسماء الإيمان والدين) أو (أسماء الأحكام)، وعرفنا أن هذه المسميات كانت مستعملة في اللغة، ولكن لها معان معروفة عندهم؛ لكن ليست هي المعاني الشرعية، فلأجل ذلك نقلها الشرع إلى هذه المسميات الخاصة.

    وقد ذكرنا أنهم يقولون مثلاً: الإيمان في اللغة كذا، وفي الشرع كذا، الإسلام لغة كذا وكذا، وفي الشرع كذا وكذا، التوحيد في اللغة كذا، والتوحيد في الشرع كذا، البر في اللغة كذا وكذا، والبر في لغة الشارع وفي لسان الشارع يراد به كذا وكذا، مثلاً: التقوى في اللغة مشتقة من التوقي، وهو الحذر من المخوف، وأما في لسان الشرع فهي توقي عذاب الله، وأن يجعل بينه وبين سخط الله وقاية وحاجزاً منيعاً، وذلك يكون بامتثال كل ما أمر، وتجنب كل ما نهى وزجر.

    وهكذا بقية التعاريف.

    أيضاً نقل أضدادها إلى مسميات شرعية، فالشرك له مسمى في اللغة ومسمى في الشرع، والفسوق له مسمى في اللغة ومسمى في الشرع، والذنوب لها مسمى في اللغة ومسمى في الشرع، والكفر له مسمى في اللغة ومسمى في الشرع.. وما أشبه ذلك.

    وهكذا -أيضاً- أسماء الأحكام: فالصلاة لغة كذا، وشرعاً كذا، والطهارة لغة كذا وكذا، وشرعاً كذا وكذا، والصوم والحج والجهاد والعمرة والزكاة وما أشبهها لها مسميات.

    فنقول: إن الإيمان أصله في اللغة التصديق، وشرعاً: التصديق الجازم بأنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، مع إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأداء الخمس من الغنيمة، كما في الحديث، هذه أقوال وأعمال، أقوال لسانية وأعمال بدنية أو مالية، وكلها جعلها من الإيمان؛ ولكن لابد معها من الإيمان الذي هو العقيدة، لابد أن يكون القلب قد عقد عليها، وإلا فلا تنفع، فإن الأعمال بدون إيمان القلب لا تفيد، فبذلك يعرف أن الشرع أضاف إليها إضافات أصبحت من مسمياتها، حيث فسر الإيمان بهذه الأعمال.

    وقد ثبت في الصحيح أنه فسر بها الإسلام، فإنه لما سئل عن الإسلام فسره بالأعمال الظاهرة، وهي أركانه الخمسة، وفسر الإيمان بأعمال القلب، وهو الإيمان بالغيبيات وأركانه الستة، ومراده: أن هذا أصله التصديق بالأمور الغيبية وهي هذه الأركان، ومع ذلك لابد أن يكون له مكملات ومتممات، وهي بقية الأعمال البدنية.

    فيقال: البر في اللغة: الصدق، والبار: الصادق، وقد قالوا: البر هو طاعة الوالد، كما يقال: أوصيك ببر الوالدين يعني: طاعتهما، فالبر لغة: طاعة الأبوين، أو الصدق في الحديث، ولكن الشرع جعله اسماً لكل الأعمال الخيرية، حتى أعمال القلب، فأدخل فيه أركان الإيمان، في قوله: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة:177]، فهذه خمسة من أركان الإيمان، وذكر السادس وهو القدر في موضع آخر، وجعلها أساساً للبر، ثم ذكر أعمالاً مالية، وجعلها داخلة في البر في قوله تعالى: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ [البقرة:177] يعني: هذا عمل مالي، وهو: إعطاء المال لهؤلاء، فجعله من البر.

    ثم قال: وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ [البقرة:177] ، فهذه أربعة من الأعمال البدنية.

    ثم قال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177] فأخبر بأنهم الذين صدقوا؛ لما قالوا: آمنا، فظهر إيمانهم على أبدانهم وعلى أموالهم، فهم قد صدقوا، وهم -أيضاً- أهل التقوى الذين توقوا أسباب الهلاك، وجعلوا بينهم وبين النار وقاية وحاجزاً منيعاً، فأصبحوا بذلك مستحقين لاسم التقوى.

    وهكذا يقال في سائر المسميات الشرعية، وهو: أن الله تعالى شرع لعباده هذه الأشياء، وسميت بهذه المسميات، وأريد بها هذه المعاني التي تدخل فيها، ورتب عليها الأجر والثواب، فرتب الله على البر الثواب: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ [الانفطار:13]، ورتب على التقوى الجنة في قوله: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133] أي: هيئت للمتقين، كما رتب ذلك على الإيمان في قوله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [الانشقاق:25]، أجر غير ممنون على إيمانهم وعملهم الصالح، فمن صدق بذلك كله وعمله فهو المصدق، وهو المتبع لهذه الشريعة، ومن نقص حظه من ذلك نقص حظه من الأجر.

    1.   

    الفرق بين الإسلام والإيمان والإحسان

    قال الشارح رحمه الله: [وأي دليل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان فوق هذا الدليل؟ فإنه فسر الإيمان بالأعمال ولم يذكر التصديق؛ للعلم بأن هذه الأعمال لا تفيد مع الجحود.

    وفي المسند عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الإسلام علانية، والإيمان في القلب) ، وفي هذا الحديث دليل على المغايرة بين الإسلام والإيمان، ويؤيده قوله في حديث سؤالات جبريل في معنى الإسلام والإيمان، وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا جبرائيل أتاكم يعلمكم دينكم) ، فجعل الدين هو الإسلام والإيمان والإحسان، فتبين أن ديننا يجمع الثلاثة؛ لكن هو درجات ثلاث: فمسلم، ثم مؤمن، ثم محسن.

    والمراد بالإيمان ما ذكر مع الإسلام قطعاً، كما أنه أريد بالإحسان ما ذكر مع الإيمان والإسلام، لا أن الإحسان يكون مجرداً عن الإيمان، هذا محال، وهذا كما قال تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر:32]، والمقتصد والسابق كلاهما يدخل الجنة بلا عقوبة، بخلاف الظالم لنفسه فإنه معرض للوعيد، وهكذا من أتى بالإسلام الظاهر مع التصديق بالقلب، لكن لم يقم بما يجب عليه من الإيمان الباطن، فإنه معرض للوعيد.

    وأما الإحسان فهو أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أهله، والإيمان أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أهله من الإسلام، فالإحسان يدخل فيه الإيمان، والإيمان يدخل فيه الإسلام، والمحسنون أخص من المؤمنين، والمؤمنون أخص من المسلمين، وهذا كالرسالة والنبوة، فالنبوة داخلة في الرسالة، والرسالة أعم من جهة نفسها وأخص من جهة أهلها، فكل رسول نبي، ولا ينعكس].

    هذا كلام يتعلق بالإسلام والإيمان والإحسان، فإنه صلى الله عليه وسلم لما سئل في حديث وفد عبد القيس فسر الإيمان بالأعمال والأقوال؛ لأنه ما أمرهم إلا بالإيمان، ولكن في حديث جبريل المشهور سئل عن الإسلام والإيمان والإحسان، ففسر كل واحد بتفسير، ولكن الثاني لابد أنه داخل في الأول، والثالث لابد أنه مستلزم للأولين قبله، ففسر الإيمان بالأعمال الباطنة، والإسلام فسره بالأركان الخمسة: بالشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج؛ لأن هذه يظهر من صاحبها إذعان.

    وأصل الإسلام: هو الإذعان والانقياد، ومنه قوله تعالى: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا [آل عمران:83] يعني: أذعنوا وانقادوا واستسلموا، غير مستعصين ولا متشردين، قويهم وضعيفهم، حيوانهم وإنسانهم، مؤمنهم وكافرهم.. كلهم أذعنوا، فالإسلام في الأصل: هو الإذعان، والأركان الخمسة دليل واضح على أنهم قد أعلنوا دخولهم في الإسلام، فمن رأيناه يتلفظ بالشهادتين ويحافظ على الصلوات، ويخرج زكاة ماله، ويصوم معنا، ويحج معنا؛ حكمنا بأنه مسلم، ويدخل مع المسلمين، ويدين لله تعالى ظاهراً، وإن لم نفتش ما في قلبه، فنعامله معاملة المسلمين، ولا نتكلف البحث عن باطنه ما دام أنه يفعل هذه الأعمال الظاهرة. هذه تسمى المرتبة الأولى، وهي المرتبة الواسعة.

    المرتبة الثانية: الإيمان، وفسره هاهنا بالعقيدة: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر، الإيمان بهذه الستة يعني: الاعتقاد بصحتها، والاعتقاد بأحقيتها.

    الإيمان بأن الله هو رب الأرباب وإله العالمين، والمعبود وحده المستحق لذلك دون ما سواه.

    والإيمان بالملائكة لأنهم رسل من خلق الله مسخرون لعبادته.

    والإيمان بالكتب بأنها كلام الله وفيها شرعه.

    والإيمان بالرسل بأنهم رسل ووسائط بين الله وبين عباده.

    والإيمان باليوم الآخر بالتصديق بالبعث بعد الموت وبالجزاء الذي فيه.

    والإيمان بقدرة الله وبما قدره وقضاه على عباده.

    هذه أمور عقدية، ومعلوم أنها إذا صحت ورسخت في القلب فلابد أن تظهر آثارها على البدن، فلابد أن ينطق بما يعتقد، ولابد أن يفعل ما يقول، ولابد أن يظهر عليه الفعل والترك الذي هو من آثار هذه العقيدة، فلأجل ذلك يقولون: لابد مع الستة من الخمسة، أي: أن الستة التي هي العقيدة وهي أركان الإيمان، لا تنفع إلا إذا كانت معها الخمسة، فمن قال: أنا آمنت بالله، وآمنت بكتبه، وبرسله، وبملائكته، وبالبعث بعد الموت، وبالقدر، ثم رأيناه لا يصلي، ولا يصوم، ولا يحج، ولا يعبد الله وحده، بل يجعل معه آلهة أخرى؛ قلنا: كذبت، لو كنت صادقاً في إيمانك ويقينك لما خالفت ذلك بأعمالك، فالأعمال التي نراها ظاهرة هي في الحقيقة ترجمة لما تقوله ولما تعتقده.

    فإذاً: لابد مع أركان الإيمان من أركان الإسلام؛ حتى يكون الإيمان صحيحاً.

    كذلك يقال في الإحسان، فسره بقوله: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).

    قسم العلماء هذا التفسير إلى قسمين؛ الأول: عين المشاهدة، والثاني: عين المراقبة.

    عين المشاهدة: أن تعبد الله كأنك تراه أي: تشاهده.

    وعين المراقبة: أن تستحضر أنه يراك، أي: يراقبك.

    فمن استحضر أنه يرى ربه اجتهد في الدعاء، واجتهد في العبادة وحسنها وكملها، ومن لم يصل يقينه وقلبه إلى هذا الاستحضار، فإنه يستحضر أن ربه مطلع عليه يعلم نبرات لسانه وفلتاته، ويعلم حديث قلبه وما توسوس به نفسه؛ فيكون من آثار هذا الإيمان أن يحسن العمل إذا استحضر أنه بمرأى وبمسمع من ربه، وأنه لا تخفى عليه منه خافية، وأن الله مطلع عليه، ويكون ذلك حاملاً له على إتقان العمل وإحسانه، فإنه -ولله المثل الأعلى- لو كان إنسان موظفاً تحت إدارة قوية المراقبة، تجعل هناك من يراقب هؤلاء الموظفين دائماً، ويشددون عليهم في الحضور وفي العمل، وقد يراقبونهم وهم لا يشعرون، ولا يبصرونهم، فلا شك أن الموظفين يجدون في العمل ويجتهدون فيه؛ مخافة أن يبعدوا منه، أو يحرموا من استحقاقهم.

    أما إذا كانوا مهملين، لا ينظر إليهم رئيسهم، ولا يفتش عليهم، ولا يراقبهم، وليس هناك في قلوبهم دوافع الإيمان، ولا مخافة من الله، ولا أمانة؛ فإنهم يهملون الأعمال، ويقطعون وقتهم في اللهو واللعب، وفي القيل والقال، ولا يخلصون في العمل، ولا يجدون فيه.

    فهذا مثل محسوس يشاهد عياناً، فنقول: كذلك الإنسان إذا كان يعمل وهو يستحضر أن الله يراه حرص على إتقان العمل، وإذا غاب عنه هذا الاستحضار فإنه يتساهل تساهلاً كثيراً في عمله.

    وجه العموم والخصوص بين الإسلام والإيمان والإحسان

    مراتب الدين ثلاث؛ المرتبة العليا: هي الإحسان، والمرتبة الوسطى: هي الإيمان، والمرتبة الدنيا: هي الإسلام، فأهل الإسلام أكثر من أهل الإيمان؛ لأنهم يوجد فيهم من هو مسلم ظاهراً وليس بمسلم باطناً، يصلون وقلوبهم لم تطمئن بالإيمان.

    وأهل الإيمان أقل من أهل الإسلام؛ لأنهم خلاصتهم وصفوتهم.

    وأهل الإحسان هم خلاصة الخلاصة، وصفوة الصفوة، بمعنى: أنهم أهل الإيمان القوي الذين بلغت بهم القوة إلى أنهم يتقنون كل عمل، فإذا صلوا أتقنوا الصلاة ولم يغفلوا فيها ولم يحدثوا أنفسهم، وإذا دخل وقت نافلة لم يضيعوها إلا بعمل ما يحبون وما يريدون، وهكذا بقية أعمالهم، وكذلك يحملهم استحضارهم لربهم على ألا يعصوه طرفة عين، فيكون ذلك كله سبباً لإتقانهم العمل.

    فلذلك يقال: إن الإسلام أعم من جهة أهله -أي أن أهله أكثر من أهل الإيمان- وأخص من جهة وصفه، حيث إنه إنما يدخل فيه أهل الأعمال الظاهرة، فالمسلمون أعمالهم أقل من أعمال المؤمنين، ولكنهم أكثر عدداً، فيدخل فيهم المؤمنون ويدخل فيهم المسلمون الذين ليسوا بمؤمنين، هذا معنى كونه أعم من جهة أهله، وأخص من جهة وصفه، يعني: أعمال المسلمين أقل من أعمال أهل الإيمان.

    كذلك يقال: أهل الإيمان أكثر أعمالاً؛ لأنهم آمنوا بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين والقدر، وصلوا وصاموا، وحجوا واجتهدوا، وتشهدوا وذكروا الله، وأما أهل الإسلام فهم أقل أعمالاً، وصفهم إنما هو: الشهادتان والصلاة والزكاة والصوم والحج، يعني: الأعمال الظاهرة، فهم أقل أعمالاً، هذا معنى كونه أقل من جهة وصفه، وأكثر من جهة أهله.

    كذلك نقول: أهل الإحسان أقل من أهل الإيمان، فأهل الإيمان أكثر من أهل الإحسان، يعني: أكثر من جهة أهله، وأقل من جهة وصفه -من الإحسان-؛ وذلك لأن أهل الإحسان جمعوا الخصال الثلاث فأصبحوا مؤمنين مسلمين محسنين، فهم جمعوا بين الإتقان للعمل، وبين العبادة لله كأنهم يرونه، وبين مراقبته، وبين الإيمان به وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر، والصلاة، والصوم، والحج، جمعوا الأعمال كلها، وتركوا السيئات وابتعدوا عن الآثام، فهم أكثر من جهة الوصف، ولكنهم أقل من أهل الإيمان.

    فأهل الإحسان أقل من أهل الإيمان، وأهل الإيمان أقل من أهل الإسلام، ولكن أهل الإسلام أقل أعمالاً من أهل الإيمان، وأهل الإيمان أقل أعمالاً من أهل الإحسان، هذا معنى كونهم أقل من كذا وأكثر من كذا.

    ومثل الشارح ذلك بالنبوة والرسالة، بمعنى أن الأنبياء أكثر من الرسل، ولكن هم أقل مسئولية، وأقل عملاً من الرسل، فإن الرسل عليهم أعمال ليست على الأنبياء، ولكن الرسل أقل عدداً، فليس كل نبي رسولاً، فالرسالة أقل من جهة أهلها، وأكثر من جهة وصفها، فإن النبي هو الذي أوحي إليه، وهو الذي أمر بالتبليغ، وهو الذي دعا، وهو الذي كُذِّب، وهو الذي عودي وأوذي، فهو أكثر عملاً، والرسل أقل عدداً من الأنبياء، فالأنبياء أكثر من جهة الأهل، وأقل من جهة الوصف، يعني من جهة الأعمال، فهذا تمثيل بالنبوة وبالرسالة، وكذلك أهل الإيمان وأهل الإحسان وأهل الإسلام.

    فإذا عرفنا أن هذه كلها من الأعمال الشرعية فالإنسان يحرص على أن يجمع بينها كلها، فيحرص على أن يأتي بالأعمال الظاهرة -وهي أركان الإسلام-، ويحقق الأعمال الباطنة -وهي أركان الإيمان-، ويحرص -أيضاً- على الأعمال الغيبية حتى يكون من أهل مرتبة الإحسان، فيجمع بين المراتب كلها.

    ومعلوم -أيضاً- أن المسلم إذا تسمى بأنه مسلم، ودخل في الإسلام؛ أصبح ملزماً بأمور يعتقدها، تسمى عقائد، وأصبح ملزماً بأعمال يعملها، وبأقوال يقولها، وكلها داخلة في الدين، ولأجل ذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأشياء كلها من الدين في قوله: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) ، فجعل الإسلام والإيمان والإحسان كله من الدين الذي بعث الله به هذا، وسماه دين الإسلام في قوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] .

    اختلاف الناس في مسمى الإسلام

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [فمن حقق هذا كله فقد حقق الدين الذي جاءت به الرسل، ومن نقص شيئاً نقص بحسبه.

    وقد صار الناس في مسمى الإسلام على ثلاثة أقوال:

    فطائفة جعلت الإسلام هو الكلمة.

    وطائفة أجابوا بما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الإسلام والإيمان، حيث فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالإيمان بالأصول الخمسة.

    وطائفة جعلوا الإسلام مرادفاً للإيمان، وجعلوا معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة..) -الحديث- شعائر الإسلام. والأصل عدم التقدير، مع أنهم قالوا: إن الإيمان هو التصديق بالقلب. ثم قالوا: الإسلام والإيمان شيء واحد، فيكون الإسلام هو التصديق! وهذا لم يقله أحد من أهل اللغة، وإنما هو الانقياد والطاعة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم لك أسلمت وبك آمنت) ، وفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالإيمان بالأصول الخمسة، فليس لنا إذا جمعنا بينهما أن نجيب بغير ما أجاب النبي صلى الله عليه وسلم.

    وأما إذا أفرد اسم الإيمان فإنه يتضمن الإسلام، وإذا أفرد الإسلام فقد يكون مع الإسلام مؤمناً بلا نزاع، وهذا هو الواجب، وهل يكون مسلماً ولا يقال له: مؤمن؟

    تقدم الكلام عليه].

    كلمة (الإسلام) كلمة شرعية، ولها معنى في اللغة، ومعنى الإسلام في الشرع قريب من معناه في اللغة، وعرفه الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في بداية الأصول بقوله: الإسلام: هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله، فهذا تفسير للإسلام بما يقرب من معناه اللغوي الذي هو: الإذعان والانقياد.

    وأما تفسيره في الشرع فلا أوضح من تفسير النبي صلى الله عليه وسلم له بالأركان الخمسة؛ وذلك لأنها أدل دليل على إذعانه وانقياده والتزامه، فإن من التزم هذه الأركان انقاد لربه ولم يستعصِ، وفعلها منقاداً ظاهراً كأنه يقاد من زمام إلى هذه الأعمال كما يقاد البعير المذلل، فلا يستعصي ولا ينفر، فإن البعير إذا كان ذلولاً -يعني: قد ذلل وقد عسف وقد انقاد- فإنه يأتي صاحبه بأدنى إشارة، فينساق إذا ساقه، وينقاد إذا قاده.

    فهذا مثال للمسلم، ينقاد إلى أمر الله، ويذعن لأمره، ويتذلل له، بخلاف الكافر الذي إذا أمره الله استعصى، وأظهر الشقاق، وعاند، وامتنع، وشدد في الامتناع، فهو مثل الجمل الشرود الذي كلما قرب منه صاحبه نفر منه وابتعد، ولا يستطيع أن يأتيه إلا بقوة، وقد يتمانع على صاحبه ولا يمكنه من ركوبه، ولا من قيادته، ولا من غير ذلك، فهذا سبب تسمية من دخل في هذا الدين مسلماً، يعني: مستسلماً في الظاهر.

    من الناس من يقول: إن الإسلام هو مجرد الكلمة، أي: (أسلمنا) يعني: انقدنا ظاهراً، ولأجل ذلك أنكر الله على من ادعى الإيمان وهو ليس بمؤمن، قال تعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14] ، وعلى هذا فيفسر الإيمان بالكلمة التي هي قوله: (أسلمنا)، ولكن التفسير الواضح هو أن يفسر بمن التزم بالأركان الخمسة، فيقال: هذا مسلم أي: ملتزم، والله أعلم بحقيقة باطنه.

    أما إذا ذكر الإسلام والإيمان معاً فإن الإسلام يفسر بالأركان الخمسة لأنها ظاهرة، والإيمان يفسر بأعمال القلب.

    لكن إذا اقتصر على الإيمان، فقيل: هذا مؤمن، أو: هؤلاء أهل الأيمان؛ فلابد أن يكونوا مسلمين، ولابد أن يكونوا قائمين بالأركان الخمسة، وأن يكونوا قائمين ومعتقدين للأركان الستة التي هي العقيدة، فعلى هذا: من كان مؤمناً فهو مسلم.

    أما إذا اقتصر على الإسلام فهل يدخل فيه الإيمان أم لا يدخل؟

    من العلماء من يقول: إن اسم (المسلم) عند الإطلاق يعم المؤمن، والملتزم لابد أن يكون ملتزماً بالرسالة وبكل ما جاء فيها، دليله: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله؛ حرم ماله ودمه) ، فاشترط الكفر بما يعبد من دون الله.

    وثبت -أيضاً- قوله صلى الله عليه وسلم في وصف الكفار: (أنهم لا ينجون حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به) ، فجعل ذلك -أيضاً- شرطاً لعصمتهم ولقبولهم، وبذلك يعرف أنهما متلازمان، كل مسلم يلزم أن يكون مؤمناً، وكل مؤمن يستلزم الإسلام.

    إطلاق الإسلام على ما يشمل الإيمان

    مسألة مسمى الإيمان والإسلام، وما يتفرع عن هذه الأسماء، بحث العلماء وأفاضوا في هذا البحث، ومن خلال بحثهم يتبين حثهم على أن يكون المسلم المؤمن عاملاً بمقتضى هذا الاسم، فإنه إذا تسمى بأنه مسلم لم يكفِ مجرد التسمي حتى يظهر عليه أثر هذا الاسم، فلم يكتف بمجرد الانتساب حتى يظهر عليه أثر هذا الاسم، فلأجل ذلك جعلوا الاسم يشمل ما في القلب، ويشمل ما على اللسان، ويشمل ما على الأركان؛ ليصدق بذلك مسمى الإيمان؛ وذلك لأنه لو كان الإيمان هو مجرد ما يكون في القلب لما كان هناك فرق بين الناس، بل كل يقول: أنا مؤمن، ثم بعد ذلك يعمل ما يشاء!

    فإذا عرفنا أن الإيمان له آثار، وله مكملات؛ عرفنا بذلك من هو صادق ومن هو كاذب، فحقائق الأشياء تظهر بعلامات، فحقيقة الإيمان علامته العمل، كما أن حقيقة الإسلام علامته العمل، فمن ادعى أنه مؤمن فلابد أن يعمل، فإن العمل من تمام الإيمان، كما أن من ادعى أنه يحب الله فلابد أن يطيعه، لابد أن تظهر عليه آثار هذه المحبة، أما أنه يحب الله ولكنه لا يطيعه؛ بل يعصيه، فليس بصادق، كما روي عن بعض السلف أنه قال: من ادعى محبة الله ولم يوافقه فدعواه باطلة. والموافقة: هي الطاعة، أي: تمام الطواعية بالأعمال الصالحة، هذه هي حقيقة الموافقة، أي: موافقة ما أمر الله، وذلك لأن المحب لابد أن يتأثر بمحبوبه، ولابد أن يظهر عليه آثار هذا الحب.

    ولأجل ذلك ورد في الأحاديث الحث على محبة الله تعالى، ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبيان أثرهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)، وهذه الثلاث كلها متلازمة، وكلها من آثار محبة الله، فإن من أحب الله وأحب رسوله، وقدم محبتهما على غيرهما؛ أطاع الله ورسوله.

    كذلك من آثار محبة الله ومحبة رسوله: أن يحب أولياء الله، من كانوا وأينما كانوا، ولو كانوا أباعد أجانب.

    كذلك من آثار محبة الله: أن يبغض معاصي الله، وأن يبغض العصاة الذين يبغضهم الله.

    كذلك من آثار محبة الله: أن يكره الكفر الذي يبعده عن ربه، وأن يؤثر الإيمان والطاعة التي تقربه إلى ربه.

    فهذا مثال في أن العمل تابع للإيمان، وأثر من آثاره، ولازم من لوازمه، وكذلك لازم من لوازم الإسلام، ولأجل ذلك روي عن الحسن رحمه الله أنه قال: (ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني؛ ولكنه ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال)، فجعل الأعمال أثراً من آثار الإيمان الذي يكون في القلب.

    وبكل حال: من ظهرت عليه الأعمال الصالحة فهو المؤمن، ومن ادعى أنه مؤمن ولم تظهر عليه آثار الأعمال الصالحة فليس بمؤمن، ولو كان باطنه حسناً، فإننا لا نعمل إلا بالظاهر، أما الذي في الباطن والذي في القلب فلا يحاسب عليه إلا الرب، أما نحن فلنا أن نعتبر الإنسان بما يظهر لنا، فمن أظهر لنا خيراً وعمل بر شهدنا له بالإيمان، وشهدنا له بالصلاح. ومن أظهر لنا فسوقاً وعصياناً ومخالفات وسيئات أبغضناه، وشهدنا له بالفسوق وبالمعصية، ومقتناه ولو كان باطنه حسناً؛ لأن الله تعالى هو الذي يحاسب على ما في القلب، فهو علام الغيوب، هكذا يجب علينا.

    وبكل حال: قد عرفنا أن الأعمال من مسمى الإيمان، وأنه لا يتم الإيمان إلا بالأعمال، وأن الإنسان عليه أن يحقق إيمانه بأعماله التي يعملها، سواء كانت أقوالاً يتلفظ بها كالأذكار والأدعية والتلاوة ونحوها، أو أعمالاً يعملها بيديه أياً كانت؛ كجهاد في سبيل الله، ونفقة في وجوه الخير وما أشبه ذلك، أو أعمالاً قلبية، كحب من يحبه الله، وبغض أعداء الله وما أشبه ذلك، أو بجميع جوارحه، فإذا كان كذلك سمينا هذه الأعمال كلها من الإيمان، وسمينا أصحابها مؤمنين، سواء كانوا مؤمنين كاملي الإيمان أو لا، وبذلك يعرف أن الإيمان يتفاوت أهله فيه بحسب الأعمال.

    التلازم بين الإسلام والإيمان

    قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه:

    [وكذلك هل يستلزم الإسلام الإيمان؟

    فيه النزاع المذكور، وإنما وعد الله بالجنة في القرآن وبالنجاة من النار باسم الإيمان، كما قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63]، وقال تعالى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَة مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّة عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [الحديد:21].

    وأما اسم الإسلام مجرداً فما علق به في القرآن دخول الجنة، لكنه فرضه، وأخبر أنه دينه الذي لا يقبل من أحد سواه، وبه بعث النبيين، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85].

    فالحاصل: أن حالة اقتران الإسلام بالإيمان غير حالة إفراد أحدهما عن الآخر، فمثل الإسلام من الإيمان كمثل الشهادتين إحداهما من الأخرى، فشهادة الرسالة غير شهادة الوحدانية، فهما شيئان في الأعيان، وإحداهما مرتبطة بالأخرى في المعنى والحكم كشيء واحد.

    كذلك الإسلام والإيمان، لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له، إذ لا يخلو المؤمن من إسلام به يتحقق إيمانه، ولا يخلو المسلم من إيمان به صح إسلامه، ونظائر ذلك في كلام الله ورسوله وفي كلام الناس كثيرة -أعني في الإفراد والاقتران- منها: لفظ الكفر والنفاق، فالكفر إذا ذكر مفرداً في وعيد الآخرة دخل فيه المنافقون، كقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة:5]، ونظائره كثيرة.

    وإذا قرن بينهما كان الكافر من أظهر كفره، والمنافق من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه.

    وكذلك لفظ البر والتقوى، ولفظ الإثم والعدوان، ولفظ التوبة والاستغفار، ولفظ الفقير والمسكين.. وأمثال ذلك].

    استلزام الإسلام للإيمان والعكس

    هذا الكلام في الفرق بين الإسلام والإيمان، ولا شك أنهما مسميان شرعيان، وقد ذكرنا أن لهما مسمى في اللغة؛ وأن الإسلام في اللغة: الإذعان والاستسلام، والإسلام في الشرع: هو هذا الدين الذي هو الشرائع؛ قبولها والعمل بها، وأركانه خمسة كما هو معروف.

    والإيمان في اللغة: مجرد التصديق، والإيمان في الشرع تدخل فيه الأعمال.

    والكفر في اللغة: هو الستر والجحد والإنكار، والكفر في استعمال الشرع: هو الكفر بالله، يعني جحد دين الله وإنكاره.

    والنفاق في اللغة: مشتق من الإخفاء؛ لأنه شيء خفي، والنفاق في الاصطلاح الشرعي: هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر.. وهكذا بقية المسميات.

    فعلى هذا نقول: إن الإسلام والإيمان كلاهما مسميان شرعيان، وكلاهما مطلوبان ومفروضان على العباد، ولابد على العبد أن يعرف مسماهما، وأن يدين لله تعالى بهما، فيدين لله بأنه هو الإله الحق، وأنه هو الذي فرض عبادته على الخلق، ويدين للرسول عليه الصلاة والسلام بأنه مرسل من ربه، وأنه يحمل هذه الرسالة التي هي الشريعة، ويدين لله بالعبادات، ومن جملتها بقية أركان الإسلام، فيؤدي الصلوات، ويخرج الزكاة، ويصوم، ويحج، ويجاهد، ويعمل بالأعمال الشرعية التي أوجبها الله، فبذلك يكون مسلماً ظاهراً، وكذلك يصحح عقيدته، فيعتقد ويجزم بأن الله تعالى موصوف بصفات الكمال ومنزه عن صفات النقص، وبأنه لا تصلح الإلهية إلا له وحده، وبأنه خالق الكون ومدبر الأمور، وكذلك يؤمن بأمور الغيب التي تقدم تفصيلها، وإن لم يرها، فبذلك يصير جامعاً بين الإسلام والإيمان. هذا مجمل القول في الإسلام والإيمان.

    اجتماع الإسلام والإيمان وافتراقهما

    يقول العلماء: إذا جمع بين الإسلام والإيمان، فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بأعمال القلب، ولا شك أنهما متلازمان، وكل من اتصف بواحد منهما دون الآخر لم يكفِ، فالذي يقول: أنا مؤمن إيماناً خفياً لا يكفيه، إلا أن يأتي بالأعمال الظاهرة التي هي أركان الإسلام، والذي يأتي بالأركان الظاهرة علانية، ولكن قلبه فاسد، لا تنفعه هذه الأركان ولو صلى ولو صام وحج وزكى؛ ما دام أنه من غير عقيدة، ولأجل ذلك كثيراً ما يجمع الله بينهما، مما يدل على أن الوصف لابد أن يأتي عليهما، قال الله تعالى في سورة الذاريات: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:35-36] ، فوصفهم بأنهم من المؤمنين، ثم وصفهم بأنهم من المسلمين، فدل على أنهم جمعوا بين الأمرين: بين الإسلام والإيمان، ولكن لا يكفي الإيمان عن الإسلام، ولا يكفي الإسلام عن الإيمان، وإن كان أحدهما إذا أفرد دخل فيه الآخر.

    وقد كذب الله الأعراب الذين قالوا: آمنا، وهم ليسوا بمؤمنين حقيقة في قوله تعالى في سورة الحجرات: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14]، فأخبر بأنهم قالوا: آمنا، وهم ليسوا بمؤمنين حقيقة، حيث إن قلوبهم لا يزال فيها ريب وشك، ولا يزال عندهم توقف وتردد في صحة ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي تصديقه بالأمور الغيبية؛ فلأجل ذلك قال: وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ أي: لم يصل إلى قلوبكم، فأنتم أسلمتم ظاهراً، والإيمان الذي منبعه القلب لم يصل إلى قلوبكم حقيقة.

    وثبت في الصحيح (أن سعد بن أبي وقاص كان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقسم قسماً وترك واحداً من أهل المجلس، فقال: ما لك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمناً؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلماً) يعني: الأولى أن تقول: مسلم، ولا تحكم له بالإيمان، فإن الإيمان يجمع بين الباطن والظاهر، وأنت لا تعرف منه إلا الظاهر.

    هكذا يفسر الإسلام والإيمان إذا اجتمعا، فيفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، ويفسر الإيمان بأعمال القلب.

    وضرب له الشارح أمثلة فقال: الإسلام والإيمان متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر، مثل الشهادتين، فالشهادتان متلازمتان من شهد بإحداهما لزمته الأخرى، بل هي مكملة لها؛ لأنا نقول: من أين عرفت أنه لا إله إلا الله، وعرفت بأن الله هو الإله الحق، وأنه لا تصلح الألوهية إلا له؟! أليس ذلك بواسطة الرسالة؟!

    إذاً: فيلزمك تصديق الرسول، والشهادة له بأنه مرسل من ربه.

    وإذا صدقت الرسول عليه السلام في أنه رسول، وأنه مبعوث من ربه، فما هي الرسالة التي بلغها؟ أليس أول شيء بدأ به هو التوحيد بأن يقال: لا إله إلا الله؟

    فالرسول عليه الصلاة والسلام بدأ يدعو الناس إلى عبادة الله وترك عبادة ما سواه، وهذا هو أعظم الرسالة التي بلغها، فالشهادتان متلازمتان، فمن شهد أن لا إله إلا الله ألزم بأن يأتي بالشهادة الثانية وهي الشهادة بالرسالة، ومن شهد أن محمداً رسول الله لزمه قبول رسالته التي أهمها قول لا إله إلا الله، فعرفنا بذلك أنهما متلازمتان.

    فكذلك الإسلام والإيمان متلازمان، فمن أسلم في الظاهر قلنا له: لابد أن يكون إسلامك نابعاً عن قلب، ومن آمن في الباطن، وحقق الإيمان الذي في قلبه، قلنا: لابد أن يكون الذي في قلبك له أثر وله علامات، تظهر على سمعك وعلى بصرك، وعلى يديك وعلى لسانك وعلى رجليك، وعلى مالك وعلى حالك، فإذا أظهرت ذلك فأنت مؤمن، وإذا لم تظهره فلست بمؤمن.

    اجتماع الكفر والشرك والنفاق والعصيان وافتراقهما

    ذكر الشارح أن كثيراً من الأمور تقترن، ويفسر أحدهما بكذا والآخر بكذا، مثل: الكفر والنفاق.

    والكفر من الأمور الشرعية التي بينها الشرع واستعملها، والنفاق من الأمور الشرعية التي بينها الشرع، وإن كان له مسمى في اللغة.

    كذلك -أيضاً- الكفر والشرك متلازمان، فإن كل من كفر وصف بأنه مشرك، وكل من أشرك وصف بأنه كافر؛ لأن الشرك مشتق من الشركة -أي: الاشتراك- كأنه جعل عبادته مشتركة بين الخالق والمخلوق، ولا شك أن هذا يعم كل من حكم بكفره؛ وذلك لأنه أطاع غير الله، ولو لم يطع إلا الشيطان الذي نهاه عن عبادة الله، أو أمره بأن يعبد المخلوق، أو أمره بأن يجحد الرسالة أو نحو ذلك، فيكون قد عبد الشيطان، ولأجل ذلك يقول العلماء: إن كل من عبد غير الله فعبادته منصبة على الشياطين.

    ولذلك لما نزل قول الله تعالى في آخر سورة الأنبياء: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء:98] قال المشركون: كيف تزعم أن ما نعبده حصب لجهنم، ونحن نعبد الملائكة، فهل الملائكة حصب لجهنم؟! والنصارى يعبدون المسيح، فهل المسيح حصب لجهنم؟! واليهود يعبدون عزيراً، فهل عزير -وهو عبد صالح- من حصب جهنم؟!

    لكن لم يعبدوها حقيقة، وإنما عبادتهم تنصب على الشياطين)، فالشياطين هي التي دعتهم إلى عبادتها فأطاعوها، فأصبحوا عابدين للشياطين، وإلا فالملائكة بريئة منهم كما حكى الله عنهم في قوله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ:40-41] يعني: جن الشياطين.

    فالحاصل: أن الشرك والكفر متلازمان، فكل من أشرك قيل: هذا كافر مشرك، وكل من كفر بالله أو بنعمة الله قيل: هذا مشرك كافر، يعني يصدق عليه الوصفان ويتلازمان.

    وكذلك -أيضاً- المنافق موصوف بأنه منافق، وبأنه كافر، ودليل ذلك قول الله تعالى في سورة المنافقون: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ [المنافقون:3] فسماهم المنافقين في قوله: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ [المنافقون:1] ، وفي الآية بعدها وصفهم بأنهم قد آمنوا ثم كفروا، فدل على أن كل من نافق فهو كافر، ولو كان يظهر للناس أنه معهم؛ لأنه كما وصف الله المنافقين بقوله: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ [البقرة:14] أي: رؤساؤهم الذين يدعونهم إلى النفاق، إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14] فهذا دليل على أنهم في الباطن مع الكفار.

    فهذا دليل على أن هذه الأعمال متلازمة، لا يتم الإيمان إلا بها، الإسلام والإيمان والتوحيد واليقين، ورد في بعض الأحاديث: (الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله) ، وغيرها من المسميات الشرعية، وكذلك أسماء الكفر متلازمة، مثل الفسوق والعصيان والشرك والكفر والنفاق.. وما أشبهها، إذا وصف واحد بوصف منها انطبقت عليه الأوصاف، فيقال: هذا فاسق وكافر وضال وعاص ومشرك ومنافق.. ونحو ذلك، تنطبق عليه، وإن كان النفاق يختص بمن أخفى كفره، ولا يعم من أظهر كفره، لكنه في الحقيقة كثيراً ما ينطبق عليه أنه منافق ولو كان مظهراً لكفره غالباً.

    الكلام على آية الحجرات في الفرق بين الإسلام والإيمان

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [ويشهد للفرق بين الإسلام والإيمان قوله تعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14] إلى آخر السورة، وقد اعترض على هذا بأن معنى الآية: (وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا): انقدنا بظواهرنا، فهم منافقون في الحقيقة، وهذا أحد قولي المفسرين في هذه الآية الكريمة.

    وأجيب بالقول الآخر، ورجح، وهو: أنهم ليسوا بمؤمنين كاملي الإيمان، لا أنهم منافقون، كما نفى الإيمان عن القاتل والزاني والسارق ومن لا أمانة له، ويؤيد هذا سياق الآية، فإن السورة من أولها إلى هنا في النهي عن المعاصي، وأحكام بعض العصاة، ونحو ذلك، وليس فيها ذكر المنافقين.

    ثم قال بعد ذلك: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا [الحجرات:14] ، ولو كانوا منافقين ما نفعتهم الطاعة.

    ثم قال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات:15] يعني -والله أعلم- أن المؤمنين الكاملي الإيمان هم هؤلاء، لا أنتم، بل أنتم منتف عنكم الإيمان الكامل.

    يؤيد هذا: أنه أمرهم -أو أذن لهم- أن يقولوا: أسلمنا، والمنافق لا يقال له ذلك، ولو كانوا منافقين لنفى عنهم الإسلام كما نفى عنهم الإيمان، ونهاهم أن يمنوا بإسلامهم، فأثبت لهم إسلاماً، ونهاهم أن يمنوا به على رسوله، ولو لم يكن إسلاماً صحيحاً لقال: لم تسلموا، بل أنتم كاذبون كما كذبهم في قولهم: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون:1]. والله أعلم بالصواب].

    هذه الآية في سورة الحجرات قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14] إلى قوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15] يعني: أن المؤمنين حقاً هم الذين اتصفوا بهذه الصفات:

    أولاً: التصديق الجازم بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وبالرسول صلى الله عليه وسلم وبما جاء عنه على مراده.

    ثانياً: نفي الريب، والبعد عن الريب الذي هو الشك: (ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا) أي: لم يداخل قلوبهم شك ولا توقف، بل هم على يقين جازم بما هم عليه، دون أن يشكوا في شيء من أمر البعث أو الحشر أو الجزاء أو نحو ذلك.

    ثالثاً: العمل، وهو قوله: (وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، فهذا من أمثلة العمل، يعني: أنهم جمعوا بين الإيمان الذي هو العقيدة وعدم الريب والعمل، فيكون ذلك هو حقيقة الإيمان، هؤلاء هم المؤمنون حقاً، إنما المؤمنون من كان على هذا الوصف.

    والحاصل: أن الله نفى عنهم الإيمان، وأثبت لهم الإسلام بقوله: (وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا)، وأخبر بأن الإيمان لم يصل إلى قلوبهم، ولكن آمنوا إيماناً ظاهراً، ولا شك أن هؤلاء الأعراب من بوادي المسلمين، دخلوا في الإسلام، ولم يتمكن الإيمان من قلوبهم، ولأجل ذلك ارتد الكثير منهم لما مات النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنهم لم يتمكنوا ولم يتوغلوا في الإسلام، فهؤلاء مسلمون، ولكن لم يكونوا على يقين، ولم تصل إليهم الأدلة اليقينة.

    هناك من يقول: إنهم منافقون. والصواب: أنهم ليسوا من المنافقين الذين وصفهم الله بقوله: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:141] ، ووصفهم بقوله: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ [النساء:143] ، بل هؤلاء أسلموا ظاهراً وانقادوا؛ ولكن لم تطمئن قلوبهم، ولعل إسلامهم كان بالغلبة لما أنهم غلبوا، أو لعل إسلامهم كان بالظهور، لما رأوا الإسلام يعلو ويظهر آمنوا كتجربة وكنظر، يقولون: ندخل في هذا الإسلام، ثم بعد ذلك نختبره وننظر، فإن كان له الرفعة والمنعة والنصرة والقوة والتمكين اطمأننا فيه، وكذلك إن وجدنا منه سعة ووجدنا منه ثروة وغنى وراحة ومحبة لمطلب أو توسعة علينا، قبلناه وتأثرنا به، وإن وجدنا غير ذلك رددناه ورجعنا على ما كنا عليه. فدخلوا عن تجربة لا عن يقين، فليسوا مثل الصحابة الذين دخلوا عن يقين.

    وما أكثر الذين هذه حالتهم! ولكن إذا منَّ الله على العبد فدخل الإسلام، ثم بعد ذلك يسر له من يشرح له تعاليم الإسلام والإيمان، ويبين له الأدلة اليقينية؛ فإنه عند ذلك يقتنع، وينشرح بذلك صدره، ويعرف ويستيقن بأن الإسلام هو الدين الحق، وأنه هو الدين الصواب، فعند ذلك تظهر عليه آثار الإسلام، وهي الأعمال الصالحة.

    انتفاء دعوى الترادف بين الإسلام والإيمان

    قال الشارح رحمه الله: [وينتفي بعد هذا التقدير والتفصيل دعوى الترادف، وتشنيع من ألزم بأن الإسلام لو كان هو الأمور الظاهرة لكان ينبغي ألا يقابل بذلك، ولا يقبل إيمان المخلص وهذا ظاهر الفساد، فإنه قد تقدم تنظير الإيمان والإسلام بالشهادتين وغيرهما، وأن حالة الاقتران غير حالة الانفراد.

    فانظر إلى كلمة الشهادة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله ..) الحديث، فلو قالوا: لا إله إلا الله، وأنكروا الرسالة؛ ما كانوا يستحقون العصمة، بل لابد أن يقولوا: لا إله إلا الله. قائمين بحقها، ولا يكون قائماً بـلا إله إلا الله حق القيام إلا من صدق بالرسالة، وكذا من شهد أن محمداً رسول الله، لا يكون قائماً بهذه الشهادة حق القيام إلا من صدق هذا الرسول في كل ما جاء به. فتضمنت التوحيد.

    وإذا ضممت شهادة أن لا إله إلا الله إلى شهادة أن محمداً رسول الله كان المراد من شهادة (أن لا إله إلا الله) إثبات التوحيد، ومن شهادة (أن محمداً رسول الله) إثبات الرسالة.

    كذلك الإسلام والإيمان: إذا قرن أحدهما بالآخر، كما في قول الله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [الأحزاب:35] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت)؛ كان المراد من أحدهما غير المراد من الآخر، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (الإسلام علانية، والإيمان في القلب) ، وإذا انفرد أحدهما شمل معنى الآخر وحكمه، وكما في الفقير والمسكين ونظائره، فإن لفظي الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، فهل يقال في قوله تعالى: إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ [المائدة:89] أنه يعطى المقل دون المعدم أو بالعكس؟ وكذا في قوله تعالى: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271].

    ويندفع أيضاً تشنيع من قال: ما حكم من آمن ولم يسلم أو أسلم ولم يؤمن في الدنيا والآخرة؟

    فمن يثبت لأحدهما حكماً ليس بثابت للآخر ظهر بطلان قوله! ويقال له في مقابلة تشنيعه: أنت تقول: المسلم هو المؤمن، والله تعالى يقول: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ فجعلهما غيرين، وقد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما لك عن فلان! والله إني لأراه مؤمناً؟ قال: أو مسلماً، قالها ثلاثاً) ، فأثبت له الإسلام وتوقف في اسم الإيمان، فمن قال: هما سواء. كان مخالفاً، والواجب رد موارد النزاع إلى الله ورسوله. وقد يتراءى في بعض النصوص معارضة، ولا معارضة بحمد الله تعالى، ولكن الشأن في التوفيق، وبالله التوفيق].

    هذا الكلام يتعلق بالجمع بين الإسلام والإيمان في بعض المواضع، كالآيات التي سمعنا، قال الله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35]؛ هل هذه الصفات يكتفى بواحدة منها؟ لا يكتفى، بل هي متلازمة، فإن من أسلم لزمه الإيمان، ومن آمن لزمه القنوت، ومن قنت لزمه الصبر، ومن صبر لزمه الصيام.. إلى آخرها، فهي صفات مترابطة، وكلها من صفات أهل الإيمان، ولكن عطف بعضها على بعض من باب كثرة الأعمال، يعني أنهم متصفون بها كلها، وأنها كلها أعمال صالحة، فكل منها له معنى، وله تفسير.

    فالقنوت يفسر بأنه: دوام الطاعة. وهذا من لوازم الإسلام والإيمان، والصدق يفسر بأنه مطابقة القول للعمل، أو مطابقة العمل للقول. يعني: أن يصدق قوله عمله، وهذا من لوازم الإسلام والإيمان، فالذي يسلم ويؤمن ولكنه لا يصدق لا يقبل منه، ولأجل ذلك جعل الصدق من شروط (لا إله إلا الله) في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله. صادقاً من قلبه دخل الجنة) ، فلابد من الصدق، فلذلك وصفهم الله بقوله: والصادقين والصادقات ، ولابد من الصبر؛ فإن الذي يسلم ويؤمن يؤمر بالأعمال، فإذا أمر بالأعمال فلابد أن يصبر على الطاعات ولو كان فيها مشقة، ويصبر عن المحرمات ولو نازعته نفسه إليها، فإذا لم يصبر انثلم إيمانه، وانخرمت أوصافه الدينية، فلابد أن يكون متصفاً بهذه الأعمال كلها.

    فالحاصل: أن العطف في هذه الآية لمجرد كثرة الصفات، لا للتغاير، وإلا فواحدة منها تستلزم البواقي، فالإسلام الحقيقي يستلزم الإيمان والقنوت والصدق والصبر والصيام... إلى آخرها، فتكون كلها من تمامه.

    وكذلك بقية الآيات التي سمعنا، فإن قول الله تعالى في وصف المؤمنين: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ *فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:35-36] دليل على أنهم جمعوا بين الوصفين.

    فنقول: لا شك أن الشهادتين كل منهما مستلزمة للأخرى، شهادة أن لا إله الله وأن محمداً رسول الله، أول ما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو الناس إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله. يقول في الأحاديث: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)، وأكثر الأحاديث لم يذكر فيها الشهادة الثانية، ولكنها مستلزمة لها، وفي بعض الروايات: (ويؤمنوا بي وبما جئت به) ، وهذا هو التصديق بالرسالة، فمن قال: لا إله إلا الله. ولكنه لم يأتِ بالشهادة الثانية لم تنفعه، فهما متلازمتان، وكذلك من قال: أنا مسلم. ولم يأتِ بصفة الإيمان؛ لم ينفعه، فلابد أن يأتي بصفة الإيمان حقاً حتى يصدق عليه أنه جمع بين الوصفين -الإسلام والإيمان- الحقيقيين.

    وكذلك بقية الأدلة تدل على أنه لابد لكل من أتى بصفة أن يأتي ببقية الصفات، وإلا فليس بصادق.

    فهذه الأوصاف التي وصف الله بها عباده لا شك أن كلها أسماء لمسمى واحد، وهو حقيقة هذا الدين الذي يدينون به، فإن الله سماه دين الإسلام: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] ، والدين هو ما يدان به، يعني: ما يدين به العبد ويتقرب به، فمن أسمائه أنه دين، ولكن من فروعه هذه العبادات التي تسمى فروعاً، وتسمى شعباً للإيمان، وتسمى أركاناً للإيمان، وأركاناً للإسلام، وتسمى مراتب للدين، رتبة الإسلام ثم رتبة الإيمان ثم رتبة الإحسان، وتسمى أركاناً ودعائم يتكون منها ويتقوم منها.

    والمسلم عليه أن يأتي بهذه الأركان كلها، ومبدؤها -كما هو معروف- الإتيان بالشهادتين، ويتفرع عن الشهادتين قبول الرسالة، فإن من أتى بـ(لا إله إلا الله) لزمته جميع أنواع العبودية، لأنك إذا قلت: لا إله إلا الله. قلنا: الله هو الإله، فهو المعبود، وهو المحمود، وهو المدعو، وهو الذي يشكر، وهو الذي يذكر، وهو الذي يتقرب إليه، وهو الذي يطاع، وهو الذي يوحد.

    وإذا قلت: إن محمداً رسول الله، أو: عبد الله ورسوله. قلنا: إذا قلت ذلك فيلزمك أن تؤمن به، وأن تصدقه، وأن تتبعه، وأن تحبه، وأن تتأسى به وتقتدي به، وأن تقدم سنته على غيرها، ونحو ذلك، ويلزمك أن تعتقد صحة رسالته، وأن تقبل كل ما بلغه، فكل ذلك من تمام قولك: إنه رسول الله. فإن وظيفة الرسول أنه يطيعه المرسل إليهم.

    هذا معنى تلازم الشهادتين، وتلازم وصف الإيمان والإسلام.

    نفي الاحتجاج بآية الذاريات على ترادف الإيمان والإسلام

    قال الشارح رحمه الله: [وأما الاحتجاج بقوله تعالى: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:35-36] على ترادف الإسلام والإيمان، فلا حجة فيه؛ لأن البيت المخرج كانوا متصفين بالإسلام والإيمان، ولا يلزم من الاتصاف بهما ترادفهما.

    والظاهر: أن هذه المعارضات لم تثبت عن أبي حنيفة رضي الله عنه، وإنما هي من الأصحاب، فإن غالبها ساقط لا يرتضيه أبو حنيفة !

    وقد حكى الطحاوي حكاية أبي حنيفة مع حماد بن زيد ، وأن حماد بن زيد لما روى له حديث: (أي الإسلام أفضل؟) إلى آخره، قال له: ألا تراه يقول: (أي الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان) ثم جعل الهجرة والجهاد من الإيمان؟ فسكت أبو حنيفة ، فقال بعض أصحابه: ألا تجيبه يا أبا حنيفة ؟ قال: بم أجيبه، وهو يحدثني بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!].

    قد سبق كلام طويل يتعلق بالإيمان والإسلام، وما يدخل في الإسلام، وما يدخل في الإيمان، والمسألة قديمة، حدث فيها خلاف بين المرجئة وبين أهل السنة، فذهب المرجئة إلى أن الإيمان هو تصديق القلب، وجعلوا الأعمال ليست من مسمى الإيمان، وذهب أهل السنة إلى أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وأن الإيمان له شعب وله فروع، كلها تسمى إيماناً، فتسمى الصلاة إيماناً أو شعبة من الإيمان، والشهادتان إيمان أو بعض من أصل الإيمان، والزكاة من الإيمان، والصدقة من الإيمان، والأذكار والأدعية إيمان.. وهكذا.

    وسبق -أيضاً- الخلاف: هل الإسلام غير الإيمان؟ وهل هما متغايران أم مترادفان؟

    فذهب بعضهم إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد.

    والمحققون على أن الإسلام أوسع من الإيمان، وأن الإنسان قد يصير مسلماً ولا يصل إلى درجة الإيمان، فعلى هذا يكون الإيمان أخص من الإسلام.

    والذين سووا بينهما احتجوا على أن الإسلام والإيمان شيء واحد بهذه الآيات التي في سورة الذاريات، وهي قوله تعالى في قصة قوم لوط: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:35-36]، والكلام من الملائكة الذين يخاطبون إبراهيم عليه السلام بأنهم سوف يخرجون أهل الإيمان، فوصفوا أهل ذلك البيت -وهم لوط وأهل بيته- بأنهم مسلمون وبأنهم مؤمنون؛ فقيل: لأن الإيمان والإسلام مترادفان.

    والصحيح أن الآية لا تدل على أن الإسلام هو الإيمان، وذلك لأن أهل بيت لوط كانوا متصفين بالإسلام وبالإيمان، فالإسلام هو الأعمال الظاهرة، والإيمان هو العقيدة الراسخة، كما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم فسر الإسلام في حديث جبريل بأركانه الخمسة، وفسر الإيمان بأركانه الستة، فجعل الإسلام أعمالاً: الشهادتين، والصلاة، والزكاة، والحج، والصوم. وجعل الإيمان عقيدة، وهو: التصديق بالله، وبالملائكة، وبالرسل، وبالكتب، وبالبعث بعد الموت، وبالقضاء والقدر، جعل هذا هو الإيمان، فأفاد أن الإيمان أصلاً هو ما يقوم بالقلب من هذا التصديق، ولكن لا شك أن التصديق إذا كان راسخاً في العقل متمكناً في القلب نتجت عنه الأعمال، فأصبحت الأعمال هي الدلالة على أن هناك تصديقاً صادقاً، فلذلك دخلت العبادات في اسم الإيمان، فهذا أوضح الأدلة في أن الإسلام أوسع من الإيمان.

    قد ذكرنا أن من العلماء من جعل الإسلام والإيمان والإحسان درجات، فمثلاً: درجة الأرضية الواسعة هي الإسلام، والدرجة الثانية: هي الإيمان، كأن المؤمنين خلاصة من المسلمين، انتقوا وخلصوا حتى صعدوا إلى الدرجة الثانية أو المرتبة الثانية، ثم خلصت من المؤمنين خلاصة الخلاصة وصفوة الصفوة، وجعلوا في المرتبة الثالثة، وسموا بالمحسنين أو بأهل الإحسان، كما في حديث جبريل أنه قسم المراتب ثلاثاً: الإسلام، والإيمان والإحسان، فأوسعهم أهل الإسلام، ثم بعد ذلك خلاصتهم أهل الإيمان، ثم بعده خلاصة الخلاصة أهل الإحسان، وهم أقل. فيقال في أولئك الخلاصة: أنتم مسلمون ومؤمنون ومحسنون، أسلمتم أولاً، ثم آمنتم بعد ذلك، ثم أحسنتم ووصلتم إلى الرتبة العالية. ويقال لأهل الإيمان: آمنتم بعدما أسلمتم. ويقال لأهل الإسلام: أسلمتم فقط، لم تصلوا إلى الإيمان.

    فعلى هذا فالإنسان الكامل هو الذي وصل إلى مرتبة الإحسان، أسلم ثم آمن ثم أحسن، وقد تقدم تفسير الإحسان بقوله: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) ، فكذلك يقال: الإيمان الحقيقي هو الذي تنتج عنه الأعمال، أما تصديق لا تنتج عنه أعمال فليس بإيمان.

    الشبه الواردة عن الحنفية لإخراج الأعمال عن الإيمان ليست منقولة عن الإمام أبي حنيفة

    هذه الحجج التي أوردها الشارح على أنها أدلة للحنفية في التفريق بين الإسلام والإيمان، ويجعلون الإيمان مجرد التصديق، ويجعلون أعمال الإسلام ليست داخلة في الإيمان؛ يقول الشارح: إن هذه الأدلة ضعيفة، وإنها لا يمكن أن تصدر من أبي حنيفة مع جلالته ومع معرفته ومع قوة فهمه، لكونها منهارة ضعيفة.

    واستدل على أن أبا حنيفة متى احتج عليه بالحديث توقف عن رده، كما احتج عليه حماد بن زيد -وهو من علماء الحديث- في التفرقة بين المسلمين والتفاوت بينهم، بقوله صلى الله عليه وسلم لما قيل له: (ما أفضل الإسلام؟ فقال: الإيمان بالله، والجهاد في سبيل الله)، فجعل الإيمان زائداً عن مسمى الإسلام، فدل على أن المسلمين يتفاوتون، فإذا كان المسلم ممن تمكن الإسلام في قلبه وصل إلى مرتبة الإيمان، وهي: قوة العقيدة مع الانبعاث على العمل، فـأبو حنيفة لما احتج عليه بهذا الحديث الذي فيه تفاضل أهل الإسلام، وأنه صلى الله عليه وسلم جعلهم متفاضلين، وجعل أفضل أعمال الإسلام هو الإيمان؛ أقر ذلك أبو حنيفة ولم يرد الحديث، مع أن أصحابه يتشوفون إلى رد ذلك الدليل، ولكنه سلم له، فيستدل على أن هذه الاحتجاجات الضعيفة ليست من أبي حنيفة ، وإنما هي من أصحابه الذين يتعصبون لمذهبه.

    وهذه الآية يحتجون بها على تغاير الإسلام والإيمان، قال تعالى: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:35-36]، كأنه أخبر بأنه أخرج من كان فيها من المؤمنين، فلم يجد فيها إلا بيتاً واحداً من المسلمين، وهم لوط وأهل بيته، فلوط عليه السلام وأهل بيته لا شك أنهم جمعوا بين الوصفين: بين الإيمان والإسلام، ولهذا استثنى الله امرأته وقال: إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [الأعراف:83] ، إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ [الشعراء:171].

    إذاً: لا منافاة بين هذا الدليل وتلك الأدلة، بل هو دليل واضح على أن الإسلام يستلزم الإيمان، فلا يتم الإيمان إلا بأركان الإسلام، ولا يتم الإسلام إلا بأركان الإيمان، ومن أتى بواحد منهما دون الآخر لم يقبل منه، فمن أتى بالأعمال الظاهرة، ولم تكن عن يقين وعن عقيدة وعن تصديق بقلبه لم يكن مؤمناً، ولم ينفعه الإسلام، ومن اعتقد اعتقاداً جازماً، وآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وصدق بخبر الله، وصدق بالبعث بعد الموت، ثم لم يعمل ولم يصلِ ولم يصم ولم يحج، ولم يؤد زكاة ماله، ولم يأت بواجباته، ولم يحرم الحرام ولم يحل الحلال؛ فليس بمؤمن، ولو ادعى أنه مطمئن قلبه بالإيمان، هذا مقتضى هذه الآيات.

    هذه هي الشبه التي يدلي بها الحنفية، ويدعون أنهم ينصرون بذلك مذهب أبي حنيفة في أن الأعمال ليست من مسمى الإيمان، وأن الإسلام مغاير للإيمان، حيث يذهبون إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، ويخرجون الأعمال من مسمى الإيمان.

    والصحيح مذهب الجمهور: أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وأن هذه الشبهات التي يستدلون بها، ويدعون أنها أدلة لـأبي حنيفة لم تكن منقولة عن أبي حنيفة نفسه، فهو رحمه الله من أجلاء السلف ومن أجلاء التابعين، ولم يكن ليدلي بهذه الشبهات، ولا يشكك بها في هذه العقيدة، فإن عقيدته سليمة صحيحة، وهي عقيدة أهل السنة والجماعة، ولكن لما اشتهر عن الحنفية أنهم يخرجون الأعمال من مسمى الإيمان أخذوا يجمعون ما يستطيعونه من الشبهات وما يسمونه بالأدلة، فأوردوها كنصرة لمذهبهم، والصحيح: أنه لا دلالة فيها كما ذكرنا، بل الأدلة واضحة في أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وثمرة من ثمراته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756495208