إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [37]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من المسائل التي تكلم عليها العلماء: مسألة التفضيل بين الملائكة والبشر، والمراد بالبشر الأنبياء وغيرهم من المؤمنين، وقد وردت أدلة كثيرة في هذه المسألة تدل على هذا وعلى هذا، وجمع بعض العلماء بأن الملائكة أفضل من البشر ابتداءً، وأن البشر أفضل منهم انتهاءً حينما يدخلون الجنة.

    1.   

    الإيمان بالملائكة وما يتضمنه

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما الملائكة فهم الموكلون بالسماوات والأرض، فكل حركة في العالم فهي ناشئة عن الملائكة، كما قال تعالى: فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً [النازعات:5].. فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً [الذاريات:4] وهم الملائكة عند أهل الإيمان وأتباع الرسل، وأما المكذبون بالرسل المنكرون للصانع فيقولون: هي النجوم.

    وقد دل الكتاب والسنة على أصناف الملائكة، وأنها موكلة بأصناف المخلوقات، وأنه سبحانه وكل بالجبال ملائكة، ووكل بالسحاب والمطر ملائكة، ووكل بالرحم ملائكة تدبر أمر النطفة حتى يتم خلقها.

    ثم وكل بالعبد ملائكة لحفظ ما يعمله وإحصائه وكتابته.

    ووكل بالموت ملائكة، ووكل بالسؤال في القبر ملائكة، ووكل بالأفلاك ملائكة يحركونها، ووكل بالشمس والقمر ملائكة، ووكل بالنار وإيقادها وتعذيب أهلها وعمارتها ملائكة، ووكل بالجنة وعمارتها وغراسها وعمل آلاتها ملائكة.

    فالملائكة أعظم جنود الله، ومنهم: المرسلات عرفاً، والناشرات نشراً، والفارقات فرقاً، والملقيات ذكراً. ومنهم: النازعات غرقاً، والناشطات نشطاً، والسابحات سبحاً، والسابقات سبقاً. ومنهم: الصافات صفاً، والزاجرات زجراً، والتاليات ذكراً.

    ومعنى جمع التأنيث في ذلك كله: الفرق والطوائف والجماعات، التي مفردها: (فرقة) و(طائفة) و(جماعة).

    ومنهم: ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، وملائكة قد وكلوا بحمل العرش، وملائكة قد وكلوا بعمارة السماوات بالصلاة والتسبيح والتقديس، إلى غير ذلك من أصناف الملائكة التي لا يحصيها إلا الله تعالى.

    ولفظ الملك يشعر بأنه رسول منفذ لأمر مرسله، فليس لهم من الأمر شيء، بل الأمر كله لله الواحد القهار، وهم ينفذون أمره: لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:27-28]، يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل:50] فهم عباد مكرمون، منهم الصافون، ومنهم المسبحون، ليس منهم إلا له مقام معلوم، لا يتخطاه، وهو على عمل قد أمر به، لا يقصر عنه ولا يتعداه، وأعلاهم الذين عنده لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:19-20]].

    حقيقة خلق الملائكة وذكر أسماء بعضهم في القرآن والسنة

    ذكرنا أن من أركان الإيمان: الإيمان بالملائكة، الملائكة واحدهم ملَك، بفتح اللام، هذا النوع خلق من خلق الله، وهم أرواح لا نراهم، لا نشك بأنهم يتجسدون وأنهم يصعدون وينزلون، وأنهم يتصلون بالإنسان ويتكلمون، وأن الملك يتمثل إنساناً ويكلم النبي، وينزل عليه بالوحي.

    وقد سمى الله تعالى منهم في القرآن اثنين كما في قوله تعالى: مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:98] سمى الله جبريل وميكال، وجِبريل قرئ جبرائيل وجبريل وجَبريل، يعني: بعدة قراءات، وهو مسمى واحد، وذكر الله ملك الموت في قوله تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السجدة:11] وسمي في بعض الروايات بعزرائيل، وسمي في الحديث أيضاً ملك رابع وهو: إسرافيل، وسمي ملك خامس وهو: مالك، كما في قوله تعالى: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف:77] ، وذكر الله في القرآن خزنة النار وخزنة الجنة كما في قوله تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الزمر:71] ، وفي الجنة: وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ [الزمر:73] ، وفي قوله تعالى: تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا [الملك:8] الخزنة: هم الموكلون بها، فالملائكة خلق من خلق الله تعالى، لا يحصي عددهم إلا الله تعالى، لما نزل قول الله تعالى في النار: عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر:30] قال المشركون: ما داموا تسعة عشر فنحن أكثر منهم؛ سنغلبهم، فأنزل الله قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً [المدثر:31] إلى قوله: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ [المدثر:31] أي: جنوده الذين هم الملائكة لا يعلم عددهم إلا هو، وورد في الحديث: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك قائم أو ملك راكع أو ساجد).

    الأعمال التي أوكلت إلى الملائكة من قبل الله

    الملائكة خلق الله تعالى، وقد سمعنا في كلام الشارح بعضاً من صفاتهم وما وكلوا به، الموكلون بالقطر يعني: بالمطر وتصريفه والسحب وتصريفها، وكذلك الموكلون بحفظ بني آدم كما في قول الله تعالى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11] وكذلك الموكلون بحفظ الأعمال كما في قوله تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، وفي قوله تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ [الانفطار:10-11] وكذلك الذين ينزلون بالوحي ذكروا في قوله تعالى: بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ [عبس:15-16] وصفهم بأنهم سفرة يعني: بأنهم وسطاء بين الله وبين رسله، وأنهم كرام، وأنهم بررة، وكذلك أقسم الله بهم في قوله تعالى: وَالصَّافَّاتِ صَفّاً [الصافات:1] يعني: الملائكة الذين يصفون صفوفاً فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً [الصافات:2] الذين يزجرون السحب ونحوها، فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً [الصافات:3] الذين يتلون كلام الله ويذكرون الله تعالى به.

    وقوله: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً [المرسلات:1]، هم الذين يرسلهم الله تعالى ليعرفوا عباده، والآيات التي بعدها، وقوله: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً [النازعات:1]، النازعات: هي التي تنزع أرواح الكفار نزعاً شديداً يعني: عند الموت، وهم ملائكة العذاب، والناشطات: هي التي تنشط أرواح المؤمنين عند الموت نشطاً، وهكذا في الآيات التي بعدها، لا شك أن هذه ألقاب تبين أنواعاً من الملائكة هذه أعمالهم، فنصدق بهم وإن لم نر الملائكة، ولكن نصدق أنهم خلق الله تعالى، كما أننا نصدق بالجن وبأنهم يدخلون في الإنس ويداخلونهم، وأنهم أرواح مستغنية عن أجساد تقوم بها، وإن لم نر الجن، وإن كذب بهم من كذب وقال: الجن لو كانوا موجودين لرأيناهم بالمجهر، نقول: إنهم لا يرون، فإنهم بمنزلة شعاع النور الذي يشع من هذه الأنوار ونحوها وليس لهم جرم، ولكن يخرقهم البصر، فليس لهم جسد حقيقي حتى ينعكس وحتى يكبره المكبر وحتى يراه البصر، فالملائكة والجن والشياطين أرواح ليس لهم أجساد تقوم بها، الإنسان مركب من روح وجسد، فإذا خرجت الروح بالموت فإننا لا نرى الروح تخرج وتفارق جسدها، بل يبقى الجسد ليس فيه هذه الروح التي تحركه، فإذا أراد الله تعالى إحياءه جمع الجسد مرة ثانية وأعاد إليه الروح فعاش وحيي، فنقول: إن الروح التي يحيا بها الجسد لا يعلم كيفيتها، قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:85] فالأرواح التي ليست لها أجساد تعيش وتتقلب وتذهب وتجيء وهي خفيفة الحركة كالملائكة وكالجن الذين ذكر الله تعالى أنهم يصلون إلى السماء كما في قوله تعالى: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ [الجن:8] فلا يستغرب أن تكون الملائكة يصعدون إلى السماء في طرفة عين، ويقطعون المسافات الطويلة في لحظة؛ وذلك لخفة أجسادهم؛ ولأن الله تعالى أعطاهم من القدرة على الصعود وعلى قطع المسافات ما لم يعطه الإنسان في أية حال، فعلى المسلم أن يصدق بمثل هذه الأمور وإن كان لم يدركها ببصره؛ وذلك لإخبار الله عنها وهو الصادق المصدوق: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً [النساء:122].

    صفات الملائكة في القرآن

    مر بنا أن من أركان الإيمان: الإيمان بالملائكة، والإيمان بما أخبر الله تعالى عنهم في كتابه حيث وصفهم بقوله: بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:26-27]، وبقوله: لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:19-20]، وبقوله: لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [الأعراف:206]، ونحو ذلك من الآيات التي مدحهم بها، وكذلك الإيمان بمن سمي منهم، والإيمان بأعمالهم التي أسندت إليهم، والإيمان بما نقل من أوصافهم وأخبارهم، وهذا يدخل في الإيمان بالغيب، والإيمان بالغيب يعم كل شيء غائب عنا، أخبرنا الله به خبراً يقينياً يلزمنا أن نصدق به كما وصف لنا، وليس لنا أن نتكلف أكثر من ذلك.

    معلوم أن الملائكة لا يمكننا رؤيتهم فهم أرواح مستغنية عن أجساد تقوم بها، والذي خلق الأجساد خلق الأرواح، ومعلوم أن لهم أجساماً خفيفة علوية نورانية حية متحركة تسمع وتعقل، وتمتثل، وتركع، وتسجد، وتأتمر بأمر الله، وتقطع المسافات الطويلة الشاسعة في زمن قصير، وكل ذلك بقدرة الله الذي أقدرهم على ذلك كله.

    1.   

    المفاضلة بين البشر والملائكة

    قال المصنف رحمه الله: [ومنه: قوله تعالى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75].

    قال الآخرون: هذا دليل الفضل لا الأفضلية، وإلا لزم تفضيله على محمد صلى الله عليه وسلم، فإن قلتم: هو من ذريته؟ فمن ذريته البر والفاجر، بل يوم القيامة إذا قيل لآدم: (ابعث من ذريتك بعثاً إلى النار)، (يبعث من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، وواحداً إلى الجنة). فما بال هذا التفضيل سرى إلى هذا الواحد من الألف فقط؟!

    ومنه: قول عبد الله بن سلام رضي الله عنه: (ما خلق الله خلقاً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم). الحديث، فالشأن في ثبوته وإن صح عنه، فالشأن في ثبوته في نفسه، فإنه يحتمل أن يكون من الإسرائيليات.

    ومنه: حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الملائكة قالت: يا ربنا، أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون، ونحن نسبح بحمدك، ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو، فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة؟ قال: لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له: كن فكان) أخرجه الطبراني، وأخرجه عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل عن عروة بن رويم أنه قال: أخبرني الأنصاري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الملائكة قالوا...)، الحديث، وفيه: (وينامون ويستريحون، فقال الله تعالى: لا، فأعادوا القول ثلاث مرات، كل ذلك يقول: لا). والشأن في ثبوتهما، فإن في سندهما مقالاً، وفي متنهما شيئاً، فكيف يظن بالملائكة الاعتراض على الله مرات عديدة؟ وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم: لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:27] وهل يظن بهم أنهم متبرمون بأحوالهم، متشوفون إلى ما سواها من شهوات بني آدم؟ والنوم أخو الموت، فكيف يغبطونهم به؟ وكيف يظن بهم أنهم يغبطونهم باللهو، وهو من الباطل؟

    قالوا: بل الأمر بالعكس، فإن إبليس إنما وسوس إلى آدم ودلاه بغرور، إذ أطمعه في أن يكون ملكاً بقوله: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [الأعراف:20]، فدل أن أفضلية الملك أمر معلوم مستقر في الفطرة، يشهد لذلك قوله تعالى حكاية عن النسوة اللاتي قطعن أيديهن عند رؤية يوسف: وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف:31]،وقال تعالى: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [الأنعام:50].

    قال الأولون: إن هذا إنما كان لما هو مركوز في النفس: أن الملائكة خلق جميل عظيم، مقتدر على الأفعال الهائلة، خصوصاً العرب، فإن الملائكة كانوا في نفوسهم من العظمة بحيث قالوا: إن الملائكة بنات الله، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.

    ومنه قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [آل عمران:33].

    قال الآخرون: قد يذكر العالمون، ولا يقصد به العموم المطلق، بل في كل مكان بحسبه، كما في قوله تعالى: لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان:1]، قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنْ الْعَالَمِينَ [الحجر:70]، أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ [الشعراء:165]. وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [الدخان:32]].

    هذه بعض الأدلة التي يفاضلون بها بين الملائكة وبين صالحي البشر، فإن الآية وهي قوله في سورة (ص) مخاطباً لإبليس: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] فيها تفضيل آدم، وقد تقدم في أول الكلام أنهم فضلوا آدم حيث إنه سجد له الملائكة، قالوا: والمسجود له أفضل من الساجد، وأجيب بأن السجود امتثال لأمر الله تعالى لا أنه لسجودهم لآدم، وإنما هو تعظيم لله وطواعية له، فإبليس لما امتنع من السجود له اعتبر عاصياً لله ولم يعتبر عاصياً لآدم، ولكنه تكبر حيث قال: أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً [الإسراء:61] أو قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12] فالله تعالى قال له: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] أي: لآدم الذي خلقت بيدي، وهذا تفضيل لآدم، ولكن ما يلزم أن يكون أفضل من الملائكة، ولو لزم لكان أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم، مع الإجماع أن محمداً أفضل البشر وهو خير البرية، وإذا قالوا: إن محمداً من ذرية آدم وإنما شرف بشرف أبيه، فالجواب: أنه قد أخبر أن من ذريته الصالح وغير الصالح، وإذا كان ذلك فلا يلزم في الآية تفضيل.

    وقوله تعالى للملائكة في الحديث: (لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت: له كن فكان) فهذا الحديث فيه ضعف، وفيه اعتراض الملائكة على الله تعالى وتمنيهم أن تكون لهم الآخرة ولبني آدم الدنيا، يأكلون فيها ويتمتعون وينامون وينكحون ويتصرفون، فهم يقولون: ما دام أنك جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة، فلا يظن بالملائكة أنهم يتمنون أعمال الدنيا، ولا يظن بهم أنهم يعترضون على الله مع طواعيتهم له، وامتثالهم لأمره، ومع أن الله وصفهم بأنهم لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون، وبذلك يعلم بأن هذا لا يليق بمقام الملائكة.

    وأما ما استدل به من فضل الملائكة من قصة يوسف في قول النسوة: مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف:31] فإنه يفهم منه أن الملك أفضل من البشر، ولكن لا يلزم ذلك، حيث إنه لما رأينه في تلك الحال وهو في غاية الجمال، كان مغروساً في فطرهم أن الملك له هيئة ليست كهيئة البشر.

    وكذلك ما حكى الله عن نوح أنه قال: وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمْ اللَّهُ خَيْراً [هود:31] وما أشبه ذلك لا يدل أيضاً على أن الملك أفضل؛ وذلك لأن العرب كانوا يعتقدون أن للملائكة منزلة أرفع من منزلتهم؛ فلذلك كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله،يعني: من قربهم منه، ولذلك أنكر الله تعالى عليهم بقوله: أصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ [الصافات:153]، وبقوله: أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمْ الْبَنُونَ [الطور:39] وما أشبه ذلك.

    وعلى كل حال: هذه الأدلة ونحوها ليست دليلاً واضحاً في تفضيل الملك ولا في تفضيل البشر، والصحيح أن التفاضل بينهم كالتفاضل بين البشر إنما هو بالأعمال والقربات.

    من أدلة التفضيل بين البشر وبين الملائكة

    قال الشارح رحمه الله: [ومنه قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [البينة:7]، والبرية: مشتقة من البرء، بمعنى: الخلق، فثبت أن صالحي البشر خير الخلق.

    وقال الآخرون: إنما صاروا خير البرية؛ لكونهم آمنوا وعملوا الصالحات، والملائكة في هذا الوصف أكمل، فإنهم لا يسأمون ولا يفترون، فلا يلزم أن يكونوا خيراً من الملائكة، هذا على قراءة من قرأ (البريئة)، بالهمز، وعلى قراءة من قرأ بالياء، إن قلنا: إنها مخففة من الهمزة، وإن قلنا: إنها نسبة إلى البري وهو التراب، كما قاله الفراء فيما نقله عنه الجوهري في الصحاح؛ يكون المعنى: أنهم خير من خلق من التراب، فلا عموم فيها -إذاً- لغير من خلق من التراب.

    قال الأولون: إنما تكلمنا في تفضيل صالحي البشر إذا كملوا، ووصلوا إلى غايتهم، وأقصى نهايتهم، وذلك إنما يكون إذا دخلوا الجنة، ونالوا الزلفى، وسكنوا الدرجات العلى، وحباهم الرحمن بمزيد قربه، وتجلى لهم ليستمتعوا بالنظر إلى وجهه الكريم.

    قال الآخرون: الشأن في أنهم هل صاروا إلى حالة يفوقون فيها الملائكة أو يساوونهم فيها؟

    فإن كان قد ثبت أنهم يصيرون إلى حال يفوقون فيها الملائكة، سلم المدعى، وإلا فلا.

    ومما استدل به على تفضيل الملائكة على البشر: قوله تعالى: لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء:172] وقد ثبت من طريق اللغة أن مثل هذا الكلام يدل على أن المعطوف أفضل من المعطوف عليه، لأنه لا يجوز أن يقال: لن يستنكف الوزير أن يكون خادماً للملك، ولا الشرطي أو الحارس! وإنما يقال: لن يستنكف الشرطي أن يكون خادماً للملك ولا الوزير، ففي مثل هذا التركيب يترقى من الأدنى إلى الأعلى، فإذا ثبت تفضيلهم على عيسى عليه السلام ثبت في حق غيره، إذ لم يقل أحد إنهم أفضل من بعض الأنبياء دون بعض.

    أجاب الآخرون بأجوبة أحسنها أو من أحسنها: أنه لا نزاع في فضل قوة الملك وقدرته وشدته وعظم خلقه، وفي العبودية خضوع وذل وانقياد، وعيسى عليه السلام لا يستنكف عنها ولا من هو أقدر منه وأقوى وأعظم خلقاً، ولا يلزم من مثل هذا التركيب الأفضلية المطلقة من كل وجه.

    ومنه قوله تعالى: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [الأنعام:50]، ومثل هذا يقال بمعنى: إني لو قلت ذلك، لادعيت فوق منزلتي، ولست ممن يدعي ذلك.

    أجاب الآخرون: إن الكفار كانوا قد قالوا: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ [الفرقان:7]. فأمر أن يقول لهم: إني بشر مثلكم أحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر من الاكتساب والأكل والشرب، لست من الملائكة الذين لم يجعل الله لهم حاجة إلى الطعام والشراب، فلا يلزم حينئذ الأفضلية المطلقة].

    هذه الأدلة ساقها الشارح للاستدال في مسألة التفضيل بين البشر والملك، فقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [البينة:7] هل المراد الإنس الذين هم البشر خير البرية أو الخلق المؤمنون من الملائكة ومن الإنس ومن الجن خير البرية؟

    الصحيح أن الآية على عمومها، يدخل فيها الملائكة ويدخل فيها الجن المؤمنون، ويدخل فيها الإنس المؤمنون، فكل من آمن وعمل صالحاً من الإنس والجن والملائكة فهو من خير البرية أي: خير الخليقة، ويدخل في الخليقة جميع المخلوقات، يدخل فيها حتى الشياطين، ويدخل فيها الجماد، ويدخل فيها الحيوان، ويدخل فيها الأفلاك السائرة والأفلاك الثابتة ونحوها، كلها من البرية، البرء: الخلق، وعلى هذا الآية عامة في كل مؤمن عامل للصالحات من الملائكة والبشر فهو من خير البرية.

    روي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا خير البرية! فقال النبي صلى الله عليه وسلم تواضعاً: ذاك إبراهيم) يعني: الخليل عليه السلام، قاله من باب التواضع لله تعالى وإلا فهو خير البرية، وكأنه لا يحب أن يكون هناك مفاضلة بين الأنبياء؛ حتى لا يكون في ذلك شيء من التنقص لبعض الأنبياء أو الازدراء والاحتقار لهم، أو تعصب أتباعهم أو نحو ذلك.

    وأما الآية الثانية التي استدل بها من فضل الملائكة وهي قوله تعالى: لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء:172] فالاستدلال بها حيث وصف الملائكة بالقرب، والملائكة كلهم مقربون؛ لأنهم عند الله كما أخبر بذلك في قوله: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [الأعراف:206] فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ [فصلت:38] وعلى كل حال فالله وصف الملائكة بأنهم عنده، فالتقريب في حقهم تقريب ذاتي، هم مقربون إلى الله حساً ومقربون عند الله معنى، ولكن الصحيح أن كل من اتقى الله وآمن به فإنه من المقربين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756565839