إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [21]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الإيمان بالله تعالى كما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم نفياً وإثباتاً هو تمام الإيمان وكماله، ولا يتم ذلك إلا بالوقوف مع دلالات النصوص والبعد عن مقالات أهل الكلام.

    1.   

    المتشابه في القرآن والمراد به

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقول الأصحاب رحمهم الله في الأصول: إن المتشابه الحروف المقطعة في أوائل السور ويروى هذا عن ابن عباس ، مع أن هذه الحروف قد تكلم في معناها أكثر الناس، فإن كان معناها معروفاً فقد عرف معنى المتشابه، وإن لم يكن معروفاً وهي المتشابه كان ما سواها معلوم المعنى وهذا المطلوب.

    وأيضا فإن الله قال: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7]، وهذه الحروف ليست آيات عند جمهور العادين.

    والتأويل في كلام المتأخرين من الفقهاء والمتكلمين هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدلالة توجب ذلك، وهذا هو التأويل الذي يتنازع الناس فيه في كثير من الأمور الخبرية والطلبية، فالتأويل الصحيح منه الذي يوافق ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وما خالف ذلك فهو التأويل الفاسد، وهذا مبسوط في موضعه.

    وذكر في التبصرة أن نصير بن يحيى البلخي روى عن عمرو بن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة عن محمد بن الحسن رحمهم الله أنه سئل عن الآيات والأخبار التي فيها من صفات الله تعالى ما يؤدي ظاهره إلى التشبيه فقال: نمرها كما جاءت ونؤمن بها، ولا نقول: كيف وكيف.

    ويجب أن يعلم أن المعنى الفاسد الكفري ليس هو ظاهر النص ولا مقتضاه، وأن من فهم ذلك منه فهو لقصور فهمه ونقص علمه، وإذا كان قد قيل في قول بعض الناس :

    وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم

    وقيل :

    عليَّ نحت القوافي من أماكنها وما عليَّ إذا لم تفهم البقر

    فكيف يقال في قول الله الذي هو أصدق الكلام وأحسن الحديث، وهو الكتاب الذي أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1].

    إن حقيقة قولهم أن ظاهر القرآن والحديث هو الكفر والضلال، وأنه ليس فيه بيان لما يصلح من الاعتقاد، ولا فيه بيان التوحيد والتنزيه، هذا حقيقة قول المتأولين، والحق أن ما دل عليه القرآن فهو حق، وما كان باطلاً لم يدل عليه، والمنازعون يدعون دلالته على الباطل الذي يتعين صرفه، فيقال لهم: هذا الباب الذي فتحتموه، وإن كنتم تزعمون أنكم تنتصرون به على إخوانكم المؤمنين في مواضع قليلة حقيقة، فقد فتحتم عليكم باباً لأنواع المشركين والمبتدعين لا تقدرون على سده.

    فإنكم إذا سوغتم صرف القرآن عن دلالته المفهومة بغير دليل شرعي، فما الضابط فيما يسوغ تأويله وما لا يسوغ؟ فإن قلتم: ما دل القاطع العقلي على استحالته تأولناه وإلا أقررناه، قيل لكم: وبأي عقل نزن القاطع العقلي؟ فإن القرمطي الباطني يزعم قيام القواطع على بطلان ظواهر الشرع، ويزعم الفيلسوف قيام القواطع على بطلان حشر الأجساد، ويزعم المعتزلي قيام القواطع على امتناع رؤية الله تعالى، وعلى امتناع قيام علم أو كلام أو رحمة به تعالى، وباب التأويلات التي يدعي أصحابها وجوبها بالمعقولات أعظم من أن تنحصر في هذا المقام.

    ويلزم حينئذ محذوران عظيمان:

    أحدهما: أن لا نقر بشيء من معاني الكتاب والسنة حتى نبحث قبل ذلك بحوثاً طويلة عريضة في إمكان ذلك بالعقل، وكل طائفة من المختلفين في الكتاب يدعون أن العقل يدل على ما ذهبوا إليه، فيئول الأمر إلى الحيرة.

    المحذور الثاني: أن القلوب تنحل عن الجزم بشيء تعتقده مما أخبر به الرسول؛ إذ لا يوثق بأن الظاهر هو المراد، والتأويلات مضطربة، فيلزم عزل الكتاب والسنة عن الدلالة والإرشاد إلى ما أنبأ الله به العباد، وخاصةُ النبي هي الإنباء، والقرآن هو النبأ العظيم، ولهذا نجد أهل التأويل إنما يذكرون نصوص الكتاب والسنة للاعتضاد لا للاعتماد إن وافقت ما ادعوا أن العقل دل عليه، وإن خالفته أولوه، وهذا فتح باب الزندقة والانحلال، نسأل الله العافية].

    قد تقدم أن الله ذكر في القرآن: آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7]، ومعلوم أن المفسرين قد تكلموا على الآيات كلها، وعلى القرآن كله، ولم يسكتوا عن آية أو آيات فقالوا: هذه من المتشابه، إلا أن بعضهم لا يتكلمون على الحروف المقطعة التي في أوائل السور، وكثير منهم تكلموا عليها، وقالوا: يراد بهذا كذا وكذا، وإن اختلفت الآراء فيها.

    وما دام أن القرآن قد فسر كله فهذه الآيات المتشابهات يظهر أنها الكيفيات للأمور الغيبية، أعني الأشياء التي أخبر فيها عن أمور غيبية ولكنا لا نعلم كيفيتها، فإذا أخبر الله أن في الجنة أنهاراً تجري فإنا لا ندري ما كيفية تلك الأنهار كقوله تعالى: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ [محمد:15] إلى آخر الآية، وفي الحديث أنها: (تجري في غير أخدود) أي: تجري على وجه الأرض ومع ذلك لا تسيح، وهذا من علم الغيب الذي نقول: الله أعلم بكيفيته.

    وهكذا أيضاً الأشجار التي في الجنة، وكذلك الأشجار التي في النار، ذكر الله أن في النار شجرة الزقوم، فلا ندري ما كيفية تلك الشجرة، وكيف لا تحترق بالنار، وكل هذا نقول فيه: الله أعلم، فهو من المتشابه.

    فالكيفيات الغيبية هي التي يتوقف عنها، ويقال: الله أعلم بكيفيتها فهي من المتشابه.

    ويقال أيضاً كذلك في كيفيات صفات الله، فنحن لا ندري ما كيفيتها إلا أنَّ نتحقق معانيها، فنتحقق أن الله متكلم بكلام يسمع، ونتحقق أن الله يعلم الخفي والجلي ويسمع القريب والبعيد وهكذا، ولكن كيفية تلك الصفات نفوضها ونقول: الله أعلم بها.

    وهذا أقرب الأقوال في الآيات المتشابهات، أي: أنها كيفيات الأمور الغيبية.

    نقد التأويل

    أما التأويل الذي ذكروه، وهو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح بدليل يقترن به، أو لقرينة تؤيد المرجوح وترجحه، فهذا اصطلاح جديد للمتأخرين، لم يكن عند السلف ولا يعرفون هذا، وهو في الحقيقة تحريف وتكلف، وفي الحقيقة إذا جمعنا الأدلة عرفنا أنه يصعب صرفها، سيما وقد اجتمعت الدلالة من كل من مفرداتها.

    بعد ذلك قد يقولون: إن ظاهر هذه النصوص يوهم التشبيه، فيوهم أن الله مثل خلقه، وإنا إذا أثبتنا الرؤية أو أثبتنا الكلام أو ما أشبه ذلك أثبتنا أنه مثل الخلق والله تعالى يقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وقال تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، فيقولون: إن هذه النصوص أو هذه الأدلة يفهم منها التشبيه؛ هكذا قالوا.

    ونحن نقول: لا يفهم ذلك، وحاشا وكلا أن تكون صفات الله دالة على شيء باطل، أو تكون نصوص القرآن والحديث دالة على ما هو كفر، بل كلام الله أفصح الكلام، وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم أوضح، وهو عليه الصلاة والسلام أنصح الخلق لأمته، وإذا اجتمعت فصاحته ونصحه، والبيان الذي أعطيه، وأضيف إلى ذلك أن كلام الله واضح الدلالة، فلا يجوز أن يقال: إن ظاهره غير مراد، أو: إن ظاهره يقتضي كفراً أو نحو ذلك.

    وكثيراً ما يقول المتكلمون: ظاهر النصوص غير مراد. ونقول: ما مرادكم بظاهرها؟ هل تريدون: أن ظاهرها ما يليق بالمخلوق؟ وأنا إذا قلنا -مثلاً-: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14] فالمعنى أن الله له عينان كعيني المخلوق؟! أو له يدان كأيدي المخلوق؟!

    فهذا ليس بمراد، ولكن أخطأتم في قولكم: إنه ظاهرها. ولا يمكن أن يفهم من نصوص الصفات ما هو ضلال، بل معروف أن صفات الله تعالى تليق به، وإذا كنتم تقولون: إن لله ذاتاً لا تشبه غيره فكذلك له صفات لا تشبه غيره، فإن القول في الصفات كالقول في الذات، يحذو حذوه ومثاله، وإذا كان الكلام واضحاً وفصيحاً فلا عبرة بمن خفي عليه وبمن لم يظهر له، كما قال القائل:

    عليَّ نحت القوافي من أماكنها وما عليَّ إذا لم تفهم البقر

    يقول هذا الشاعر: أنا عليَّ أن آتي بالكلام الفصيح، وأختار الكلام البليغ، ولكن إذا لم يفهموا فلست بملوم، فيقال: كذلك كلام الله واضح، وإذا لم تفهموا فالنقص في أذهانكم أنتم وليس النقص في كلام الله، فكلام الله سبحانه واضح، وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام واضح وفصيح، ولكن ما أتيتم إلا من سوء أفهامكم ومن سوء تفكيركم، وإلا فلو أعطيتم الكلام حقه لقلتم بأنه لا يدل على محذور.

    وعلى كل حال معلوم أنهم ما خابوا في ذلك إلا لما ارتسم في أذهانهم وأفكارهم أن صفات الله كصفات المخلوق، وأن النصوص دالة على ما هو تشبيه، فعند ذلك أكثروا من البحث ومن التنقيب حتى وقعوا فيما وقعوا فيه مما هو تحريف.

    1.   

    أمراض القلوب الناشئة من التشبيه والتعطيل

    قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه) النفي والتشبيه مرضان من أمراض القلوب، فإن أمراض القلوب نوعان: مرض شبهة، ومرض شهوة.

    وكلاهما مذكور في القرآن، قال تعالى: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]، فهذا مرض الشهوة، وقال تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة:10]، وقال تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة:125]، فهذا مرض الشبهة وهو أردأ من مرض الشهوة؛ إذ مرض الشهوة يرجى له الشفاء بقضاء الشهوة، ومرض الشبهة لا شفاء له إن لم يتداركه الله برحمته.

    والشبهة التي في مسألة الصفات نفيها وتشبيهها، وشبهة النفي أردأ من شبهة التشبيه، فإن شبة النفي رد وتكذيب لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وشبهة التشبيه غلو ومجاوزة للحد فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.

    وتشبيه الله بخلقه كفر؛ فإن الله تعالى يقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، ونفي الصفات كفر؛ فإن الله تعالى يقول: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وهذا أحد نوعي التشبيه، فإن التشبيه نوعان:

    تشبيه الخالق بالمخلوق، وهذا الذي يتعب أهل الكلام في رده وإبطاله، وأهله في الناس أقل من النوع الثاني الذين هم أهل تشبيه المخلوق بالخالق، كعباد المسيح وعزير والشمس والقمر والأصنام والملائكة والنار والماء والعجل والقبور والجن وغير ذلك، وهؤلاء هم الذين أرسلت إليهم الرسل يدعونهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له].

    قول الطحاوي: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه).

    يريد بالنفي نفي الصفات أو المبالغة في نفيها، ويريد بالتشبيه إثبات أن صفات الله كصفاتنا، فيكون بذلك مشبهاً، ومذهب الأئمة وأهل السنة وسط بين المذهبين، فإنهم يقولون: إن من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن نفى ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس في إثبات صفات الله تشبيه.

    ويقول بعضهم: المشبه يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً، والموحد -يعني: المثبت- يعبد إلهاً واحداً فرداً صمداً، وأخذ ذلك ابن القيم في النونية بقوله:

    لسنا نشبه ربنا بصفاتنا إن المشبه عابد الأوثان

    كلا ولا نخليه من أوصافه إن المعطل عابد البهتان

    فالذين شبهوا يقال فيهم: قد غلوا في الإثبات، فقالوا: لله يد كأيدينا، ولله وجه كوجوهنا، وما أشبه ذلك، فوقعوا في تشبيه الخالق بخلقه -تعالى الله- وهذا فيه أنهم عبدوا الأوثان والأصنام.

    أما الذين نفوا فإنهم في الحقيقة لم يثبتوا خالقاً، أي: الذين نفوا هذه الصفات ونفوا كل الصفات، فقالوا: الله تعالى لا يعلم، ولا يتكلم، ولا يسمع، ولا يرى، وليس له يد، وليس له وجه، وليس له كذا وكذا، آل بهم الأمر إلى أن صاروا يعبدون عدماً، ولا يثبتون خالقاً.

    ثم قد عرفنا أنهم لما جاءتهم هذه النصوص صارت مخالفة لما في أفكارهم، فسلطوا عليها التأويلات، وفتحوا باب التأويل لغيرهم ممن أنكروا حقيقة المعاد كالفلاسفة، وفتحوا باب التأويل للذين أنكروا الأحكام والأوامر والنواهي كغلاة الصوفية وكالباطنية ونحوهم، فأصبحوا في الحقيقة هم الذين جلبوا الشر وفتحوا بابه على الإسلام والمسلمين.

    فالذي يريد السلامة هو الذي يتوقى مرض التشبيه ومرض التعطيل، مرض النفي ومرض الإثبات الزائد الذي هو غلو في الإثبات، جعلهما الشارح كالأمراض، والمعروف أن المرض هو الذي ينهك الجسم حتى يلزم صاحبه الفراش، هذا هو المرض المعروف، ولكن هذا مرض الأبدان؛ لأن المرض نوعان:

    مرض قلب، ومرض بدن.

    فمرض البدن يعالج عند الأطباء وله أدوية، ففي الحديث: (ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاء)، ولكن المرض الشديد هو مرض القلب، ومرض القلب أيضاً نوعان:

    مرض الشبهة، ومرض الشهوة.

    ومرض الشهوة هو الشهوة إلى الزنا أو إلى المعاصي ونحوها، كما قال تعالى: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]، نهى الله المرأة أن ترقق كلامها، فإنه إذا سمعها الفاسق طمع في الاتصال بها، هذا مرض شهوة الزنا ونحوه.

    أما مرض الشبهة فهو أشد، فمرض الشهوة قد يزول بالعفة أو بالنكاح الحلال، أما مرض الشبهة فإنه الذي يتمكن في القلب، فهذان المرضان من أشد أمراض الشبهة، أعني مرض التشبيه، ومرض التعطيل.

    وذكر أن مرض التعطيل أشد، وذلك لأن المشبه غلا به الإثبات إلى أن وقع في أن الله كخلقه -تعالى الله عن ذلك- ولكن الذي يقول ذلك فئة قليلة، فالذين يذهبون إلى التشبيه قليلون بالنسبة إلى المعطلة فإنهم كثيرون.

    السلامة في البراءة من مرضي التشبيه والتعطيل

    وعلى كل حال فنحن نبرأ إلى الله ونحذر من كلا المرضين، فمرض التعطيل أشد لأن أهله أكثر، ولأن الدعايات إليه أكثر، وقد يتكرر كثير في كلام العلماء النهي عن التعطيل وعن التشبيه، فيقولون في آيات الصفات وأحاديثها: أمروها كما جاءت بلا كيف. ويقولون: نقبلها ونتقبلها من غير تحريف ولا تأويل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل، ومن غير تكييف ولا تعطيل. فينفون عنها هذه الأشياء.

    وكذلك ينفون عنها الإلحاد الذي هو الميل بها عما قصد بها، فإن الله تعالى ذم فاعل ذلك، قال تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180] يعني: بالأسماء الحسنى، وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف:180] يعني: اتركوهم وابتعدوا عنهم.

    والإلحاد في أسمائه إنكار حقائقها أو إنكار دلالاتها، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا [فصلت:40].

    فعلينا أن نتجنب هذه الأشياء، ومن أهمها الإلحاد في أسماء الله، والإلحاد في آياته، فإذا قرأنا القرآن وسمعنا الأحاديث وقلنا: نمرها كما جاءت وننزه ربنا عما لا يليق به، سلمنا من هذه الأمراض كلها إن شاء الله.

    تنزيه الله عن الشبيه والكفؤ

    قال رحمه الله تعالى: [قوله: (فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية منعوت بنعوت الفردانية ليس في معناه أحد من البرية).

    يشير الشيخ رحمه الله إلى أن تنزيه الرب تعالى هو وصفه كما وصف نفسه نفياً وإثباتاً، وكلام الشيخ هنا مأخوذ من معنى سورة الإخلاص، وقوله: موصوف بصفات الوحدانية مأخوذ من قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1].

    وقوله: (منعوت بنعوت الفردانية) من قوله تعالى: اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:2-3].

    وقوله: (ليس في معناه أحد من البرية) من قوله تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، وهو أيضاً مؤكد لما تقدم من إثبات الصفات ونفي التشبيه.

    والوصف والنعت مترادفان، وقيل: متقاربان، فالوصف للذات والنعت للفعل، وكذلك الوحدانية والفردانية، وقيل في الفرق بينهما: إن الوحدانية للذات، والفردانية للصفات، فهو تعالى موحد في ذاته متفرد بصفاته، وهذا المعنى حق ولم ينازع فيه أحد، ولكن في اللفظ نوع تكرير، وللشيخ رحمه الله نظير هذا التكرير في مواضع من العقيدة، وهو بالخطب والأدعية أشبه منه بالعقائد، والتسجيع بالخطب أليق.

    ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، أكمل في التنزيه من قوله: (ليس في معناه أحد من البرية)].

    قصد الطحاوي رحمه الله بذلك الزيادة في التوضيح والإثبات؛ فإن قوله: (فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية، منعوت بنعوت الفردانية، ليس في معناه أحد من البرية) يؤكد بذلك ما تقدم من إثبات الصفات ونفي التشبيه، فالله سبحانه وتعالى هو الواحد الأحد، موصوف بأنه هو الواحد، وقد ذكر ذلك في قوله: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [البقرة:163]، وفي قوله: وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ [المائدة:73].

    فالوحدانية لا شك أنها خاصة به، فهو الواحد في صفاته، وهو الواحد في ذاته، ومعناه أنه لا يصلح أن يكون معه خالق غيره ولا معبود سواه.

    كذلك هذا دل عليه قول الله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]؛ فإن الأحد يراد به المتوحد بجميع الخصائص، وكذلك قوله: (منعوت بنعوت الفردانية) دل عليه كونه لم يلد ولم يولد؛ فإن الله تعالى نزه نفسه عن الولد في عدة آيات رداً على من جعل لله ولداً، كالنصارى الذين قالوا المسيح ابن الله، واليهود في قولهم عزير ابن الله. وكفار العرب في جعلهم الملائكة بنات الله، رد الله عليهم ذلك وأنكر عليهم في قوله تعالى: أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ [الصافات:153]، وفي قوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [الزخرف:19].

    واجب المسلم مع ربه تعالى في صفاته

    فواجب المسلم أن ينزه ربه تعالى عن الصفات المحدثات، وعن صفات الخلق التي تختص بهم، وأن يعتقد أن لله سبحانه صفات الكمال التي يعرف منها أنه هو الواحد الأحد المنزه عن النقص وعن العيب، وأن صفاته تختص بذاته، وأنه منزه عما لا يليق به، فإذا عرف ذلك عرف بذلك أنه تم بذلك توحيده -إن شاء الله- وصلحت عقيدته، فصلاحها بهذين الأمرين:

    فالواجب إثبات ما يليق بالله، وتنزيهه عن مشابهة المخلوقين، سواءٌ في الذات أو في الصفات أو في الأفعال، فبذلك يرد على الطوائف المنحرفة الذين غلوا في الإثبات والذين زادوا في النفي.

    فمن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه، وهو سبحانه موصوف بصفات الكمال منزه عن صفات النقص، وقوله: (وليس في معناه أحد من البرية) أي: لا يشبهه أحد من مخلوقاته، هذه خلاصة العقيدة، ومن أقر بها عصمه الله تعالى من الأخطاء.

    مصطلحات أهل الكلام وكيفية التعامل معها

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (وتعالى عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات).

    أذكر بين يدي الكلام على عبارة الشيخ رحمه الله مقدمة، وهي أن للناس في إطلاق مثل هذه الألفاظ ثلاثة أقوال، فطائفة تنفيها، وطائفة تثبتها، وطائفة تفصل وهم المتبعون للسلف، فلا يطلقون نفيها ولا إثباتها إلا إذا بين ما أثبت بها فهو ثابت، وما نفي بها فهو منفي؛ لأن المتأخرين قد صارت هذه الألفاظ في اصطلاحهم فيها إجمال وإبهام كغيرها من الألفاظ الاصطلاحية، فليس كلهم يستعملها في نفس معناها اللغوي، ولهذا كان النفاة ينفون بها حقاً وباطلاً، ويذكرون عن مثبتها ما لا يقولون به، وبعض المثبتين لها يدخل فيها معنى باطلاً مخالفاً لقول السلف ولما دل عليه الكتاب والميزان، ولم يرد نص من الكتاب ولا من السنة بنفيها ولا إثباتها.

    وليس لنا أن نصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه ولا وصفه به رسوله نفياً ولا إثباتاً، وإنما نحن متبعون لا مبتدعون، فالواجب أن ينظر في هذا الباب -أعني باب الصفات- فما أثبته الله ورسوله أثبتناه، وما نفاه الله ورسوله نفيناه.

    والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفي، فنثبت ما أثبته الله ورسوله من الألفاظ والمعاني، وننفي ما نفته نصوصهما من الألفاظ والمعاني، وأما الألفاظ التي لم يرد نفيها ولا إثباتها فلا تطلق حتى ينظر في مقصود قائلها، فإن كان معنى صحيحاً قبل، لكن ينبغي التعبير عنه بألفاظ النصوص دون الألفاظ المجملة إلا عند الحاجة مع قرائن تبين المراد والحاجة، مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يخاطب بها ونحو ذلك.

    والشيخ رحمه الله تعالى أراد الرد بهذا الكلام على المشبهة كـداود الجواربي وأمثاله القائلين إن الله جسم، وإنه جثة وأعضاء، وغير ذلك -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- فالمعنى الذي أراده الشيخ رحمه الله من النفي الذي ذكره هنا حق، ولكن حدث بعده من أدخل في عموم نفيه حقاً وباطلاً، فيحتاج إلى بيان ذلك، وهو أن السلف متفقون على أن البشر لا يعلمون لله حداً، وأنهم لا يحدون شيئاً من صفاته].

    الطريقة في هذا هي ما ذكر في باب الأسماء والصفات أن الرجوع إلى النقل، ولا دخل للعقل.

    والنقل: هو الكتاب والسنة، أي: النقل الصحيح؛ لأنه منقول لنا بنقل ثابت وليس فيه تشكيك، فنقتصر على النقل، وذلك لأن العقول لا تستطيع أن تتدخل في هذا الأمر، ولا أن تعرف حقائقه، ولا أن تفكر تفكيراً تتدخل فيه، فإذا قال المتكلمون: إن هذا الوصف لا يقره العقل أو لا يثبته، فالجواب أن نقول: ما للعقول ولأمر الغيب؟ هذا من أمر الغيب، والعقول محجوزة عن هذا الأمر.

    نقول بعد ذلك: إن الطحاوي الذي هو صاحب المتن رحمه الله عاش في أواخر عهد السلف، وبعدما أحدث كثيرٌ من المبتدعة، وبعدما انتشر أهل البدع وتمكنوا، فهناك مبتدعة المشبهة الذين بالغوا في الإثبات حتى شبهوا الخالق بالمخلوقين، ومنهم هذا الذي حكى عنه، وهو داود الجواربي .

    وطائفة أخرى هم المعطلة، ومنهم أكابر المعتزلة، كـأبي الهذيل العلاف ، وأبي علي الجبائي ، وكذلك الجاحظ ، وسائر المعتزلة بالغوا في النفي، فعطلوا الله تعالى عن صفات الكمال، واشتهرت أقوال هؤلاء وأقوال هؤلاء، إلا أن المعطلة أكثر من المشبهة؛ لأن النفوس تنفر من إثبات التشبيه، فلما كان كذلك ألف الطحاوي هذه الرسالة وقصد بذلك الرد على هؤلاء وهؤلاء، فأثبت فيها الصفات كما يليق بالله، ورد فيها على المشبهة الذين بالغوا في الإثبات، وتكلم بهذه الكلمات، وإن كان الأفضل تركها، أعني: الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات والجهات الست، فالأولى تركها؛ لأن المتكلمين الذين هم النفاة صاروا ينفون بها حقاً وباطلاً، فلما أدخلوا فيها حقاً كان الأولى أن ينفى الباطل بعبارة كريمة ليس فيها شيء من الشبهة.

    كذلك ذكر أن للناس في استعمالها ثلاثة أقوال:

    قول أنه لا يجوز إثباتها، وقول أنه لا يجوز نفيها، وقول بالتفصيل.

    ويمكن أن يكون هناك قول رابع، وهو التوقف عنها، فلا إثبات ولا نفي، فيقال: هذه من الأمور المبتدعة، فنحن لا نثبتها إطلاقاً ولا ننفيها، ولكن التفصيل أولى، وهو أن يقال: ماذا تريدون بالحدود؟ وماذا تريدون بالأعضاء والأدوات؟ وماذا تريدون بالجهات؟ ففي كلامكم هذا حق وباطل.

    فالحق الذي تنفونه عبروا عنه بعبارة كريمة، والباطل الذي تنفونه أيضاً عبروا عنه بعبارة كريمة حتى نوافقكم على نفي الباطل ونخالفكم في نفي الحق، ونتحقق أن الصواب مع من أثبت لا مع من نفى، أو نحو ذلك.

    قال: (تعالى عن الحدود)، فنقول: الأولى عدم إطلاق هذه اللفظة، ولكن الذين أطلقوها لهم عذر، أي: الذين قالوا إنه يتعالى عن الحدود؛ لأن الحد له تفسيران كما سيأتي.

    وكذلك الغايات والأركان والأعضاء والأدوات إلى آخرها، فالأولى التوقف عن ذلك، فنقتصر على ما أثبته الله، حيث إننا نقول: إن الله تعالى بذاته فوق سماواته على عرشه عليٌّ على خلقه، وأنه سبحانه قريب من عباده يطلع عليهم ولا يخفى عليه منهم خافية، وأنه موصوف بصفات الكمال منزه عن النقائص، فإذا أثبتنا ذلك لم يدخل علينا أهل البدع بحجة، ولم يجدوا علينا قولاً أننا ممثلة أو نحو ذلك.

    بيان أن أهل السنة لا يحدون الله تعالى

    قال رحمه الله تعالى: [قال أبو داود الطيالسي : كان سفيان وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحدون ولا يشبهون ولا يمثلون، يروون الحديث ولا يقولون: كيف؟ وإذا سئلوا قالوا بالأثر. وسيأتي في كلام الشيخ: (وقد أعجز عن الإحاطة خلقه) فعلم أن مراده أن الله يتعالى عن أن يحيط أحد بحده، لا أن المعنى أنه غير متميز عن خلقه منفصل عنهم مباين لهم، سئل عبد الله بن المبارك : بم نعرف ربنا؟ قال: بأنه على العرش بائن من خلقه. قيل: بحد؟ قال: بحد. انتهى.

    ومن المعلوم أن الحد يقال على ما ينفصل به الشيء ويتميز به عن غيره، والله تعالى غير حال في خلقه ولا قائم بهم، بل هو القيوم القائم بنفسه المقيم لما سواه، فالحد بهذا المعنى لا يجوز أن يكون فيه منازعة في نفس الأمر أصلاً؛ فإنه ليس وراء نفيه إلا نفي وجود الرب، ونفي حقيقته.

    وأما الحد بمعنى: (العلم والقول)، وهو أن يحده العباد فهذا منتف بلا منازعة بين أهل السنة، قال أبو القاسم القشيري في رسالته: سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي : سمعت منصور بن عبد الله : سمعت أبا الحسن العنبري : سمعت سهل بن عبد الله التستري ، يقول وقد سئل عن ذات الله فقال: ذات الله موصوفة بالعلم غير مدركة بالإحاطة ولا مرئية بالأبصار في دار الدنيا، وهي موجودة بحقائق الإيمان من غير حد ولا إحاطة ولا حلول، وتراه العيون في العقبى ظاهراً في ملكه وقدرته، قد حجب الخلق عن معرفة كنه ذاته، ودلهم عليه بآياته، فالقلوب تعرفه، والعيون لا تدركه، ينظر إليه المؤمنون بالأبصار من غير إحاطة ولا إدراك نهاية.].

    عرفنا أن الأولى ترك الخوض في ذكر الحد، ولكن السلف رحمهم الله قصدوا بالإثبات بيان أن الرب تعالى متميز عن خلقه، فإنه فوق سماواته، وعلى عرشه، وعلي على خلقه، وهذا معنى قولهم: بائن من خلقه.

    وقولهم: إنه ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، يردون بذلك على الحلولية الذين تقدم قولهم بأول الكتاب، فيقصدون بذلك الجواب الواضح بأن الرب سبحانه وتعالى بذاته فوق سماواته على عرشه، وأنه بائن من خلقه، ومعنى قولهم: (بحد) أي: بينه وبين الخلق حد وهو معنى البينونة، ويتوقفون عند هذا.

    إثبات صفة اليد ونحوها وبيان أنها ليست أعضاء ولا أدوات

    قال رحمه الله تعالى: [وأما لفظ الأركان والأعضاء والأدوات فيتسلط بها النفاة على نفي بعض الصفات الثابتة بالأدلة القطعية، كاليد والوجه، قال أبو حنيفة رضي الله عنه في الفقه الأكبر: له يد ووجه ونفس، كما ذكر تعالى في القرآن من ذكر اليد والوجه والنفس، فهو له صفة بلا كيف، ولا يقال: إن يده قدرته ونعمته لأن فيه إبطال الصفة. انتهى.

    وهذا الذي قاله الإمام رضي الله عنه ثابت بالأدلة القاطعة، قال تعالى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، وقال تعالى: وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، وقال تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:27]، وقال تعالى: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة:116]، وقال تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54]، وقال تعالى: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه:41]، وقال تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28].

    وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة لما يأتي الناس آدم فيقولون له: (خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء) الحديث.

    ولا يصح تأويل من قال: إن المراد باليد القدرة، فإن قوله: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، لا يصح أن يكون معناه: بقدرتي مع تثنية اليد، ولو صح ذلك لقال إبليس: وأنا أيضاً خلقتني بقدرتك فلا فضل له عليَّ بذلك، فإبليس مع كفره كان أعرف بربه من الجهمية.

    ولا دليل لهم في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ [يس:71]؛ لأنه تعالى جمع الأيدي لما أضافها إلى ضمير الجمع ليتناسب الجمعان اللفظيان للدلالة على الملك والعظمة، ولم يقل: (أيدي) مضافاً إلى ضمير المفرد، ولا (يدينا) بتثنية اليد مضافة إلى ضمير الجمع، فلم يكن قوله: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يس:71] نظير قوله: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).

    ولكن لا يقال لهذه الصفات: إنها أعضاء أو جوارح أو أدوات أو أركان، لأن الركن جزء الماهية، والله تعالى هو الأحد الصمد لا يتجزأ سبحانه وتعالى، والأعضاء فيها معنى التفريق والتعضية -تعالى الله عن ذلك- ومن هذا المعنى قوله تعالى: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ [الحجر:91].

    والجوارح فيها معنى الاكتساب والانتفاع، وكذلك الأدوات هي الآلات التي ينتفع بها في جلب المنفعة ودفع المضرة، وكل هذه المعاني منتفية عن الله تعالى، ولهذا لم يرد ذكرها في صفات الله تعالى، فالألفاظ الشرعية صحيحة المعاني سالمة من الاحتمالات الفاسدة، فلذلك يجب أن لا يعدل عن الألفاظ الشرعية نفياً ولا إثباتاً لئلا يثبت معنىً فاسد أو ينفى معنىً صحيح، وكل هذه الألفاظ المجملة عرضة للمحق والمبطل].

    قوله: (تعالى عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات) يقول: هذا النفي تسلط به النفاة على الصفات، فقالوا: نحن ننفي عن الله تعالى الأعضاء والأركان والأدوات، وهذا قول السلف ومنهم الإمام الطحاوي ، فتسلطوا بذلك على نفي الصفات الثابتة بالأدلة، فنفوا صفة الوجه لله، ونفوا صفة النفس، ونفوا صفة اليد التي أثبتها، وصفة العين أو الأعين التي أثبتها، وغير ذلك من الصفات الواردة في القرآن والسنة نفوها بهذه الجملة، وقالوا: إنها أعضاء، وإنها أركان، وإنها أدوات.

    والشارح رحمه الله بين أن الصفات ثابتة عن السلف، أعني الصفات التي أثبتها الله تعالى، فأثبت الله لنفسه صفة اليد أو اليدين في قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1]، بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26]، وكذلك قوله مخاطباً إبليس: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، فأضاف الله تعالى لنفسه صفة اليدين، فدل على أنها صفة ثابتة وإن كانت لا تشبه صفة المخلوق، ولا يدي المخلوق، ويقال: الله أعلم بكيفيتها.

    ويستدل على إثبات صفة اليد بأن الله تعالى ذكرها في هذه الآيات، فذكرها مفردة في قوله: بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1]، وذكرها مثناة مضافة إلى ضمير المفرد كما في قوله: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، وفي قوله: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75].

    وذكرها بصيغة الجمع ولكن مضافة إلى ضمير الجمع في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا [يس:71]، فهنا ذكرها مضافة إلى ضمير الجمع ( نا ) الذي يؤتى به للتعظيم، فالله تعالى يذكر نفسه بضمير الجمع للدلالة على التعظيم، كما يقول أحد الملوك: نحن أمرنا بكذا، ونحن فعلنا كذا، وهو واحد لكن يريد بذلك التعظيم.

    فالله تعالى يعظم نفسه بضمير الجمع، كما في قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ [الكوثر:1]، إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ [الفتح:1]، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [الحجر:9]، نَحْنُ قَسَمْنَا [الزخرف:32]، فكذلك قوله: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يس:71]، الضمير للجمع للدلالة على العظمة وأنه المستحق لأن يعظم، فهذا معنى ضمير الجمع هنا؛ لأنه قال: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يس:71] جمع اليد وجمع الضمير كل ذلك لأجل العظمة.

    وأثبت النبي صلى الله عليه وسلم لربه صفة اليدين في قوله صلى الله عليه وسلم: (يمين الله ملأى لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟! فإنه لم يغض ما في يمينه، وبيده الأخرى القسط يخفض ويرفع)، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (المقسطون عند الله يوم القيامة عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين مباركة)، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (يقبض الله السماوات بيمينه ويقبض الأرض بشماله -وفي رواية: بيده الأخرى- ثم يهزهن ويقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ وقرأ قوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16])، وقرأ أيضاً لما سئل عن ذلك قول الله تعالى: وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67].

    ولاشك أن هذه أدلة دالة على إثبات هذه الصفة، فيثبتها أهل السنة كما يليق بالله سبحانه وتعالى.

    وقد أورد ابن كثير رحمه الله أدلة كثيرة في إثبات صفة اليد عند تفسير قوله: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ [الزمر:67].

    أدلة إثبات صفة الوجه والنفس

    أما صفة الوجه فذكرت في الآيات كثيراً، كقوله تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام:52]، وقوله تعالى: إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى [الليل:20]، وقوله: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]، ونحوها من الآيات.

    وكذلك الحديث النبوي في قوله صلى الله عليه وسلم: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، وفي قوله: (جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)، ونحو ذلك من الأدلة، فهذه أدلة واضحة من الكتاب والسنة على إثبات هذه الصفة.

    وكذلك صفة النفس، ذكر الله ذلك بقوله: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54]، وقوله عن عيسى: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة:116]، وقوله في آيات كثيرة يذكر الله تعالى فيها إثبات هذه الصفة، فصفة النفس ذكرها الله تعالى وأثبتها وهو أعلم بنفسه، ورسوله أعلم بمرسله، فيقتصر على ما جاء في الكتاب والسنة.

    السلامة في ترك مصطلحات أهل الكلام

    ثم اعتذر الشارح عن الطحاوي في استعماله لهذه الكلمات، وذكر أنه قصد حقاً، وأن هذه الصفات لا تسمى أركاناً ولا تسمى أدواتاً، ولا تسمى أعضاءً، واستدل بأن الأعضاء واحدها عضو وهو ما يتجزأ وما يمكن أن يتجزأ، والله منزه عن ذلك، وقرأ قول الله تعالى: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ [الحجر:91] يعني: أقساماً وأجزاءً.

    وعلى كل حال كان الأولى أن لا تذكر هذه الأشياء؛ لأن فيها حقاً وباطلاً، فينفى بها حق وباطل؛ فإن النفاة الذين هم الجهمية ونحوهم نفوا بها جميع الصفات، وتسلطوا على ما ورد في النصوص فنفوه، وقالوا: إنه أعضاء، وإنه أركان، وإنه أدوات، فلما تسلطوا بها احتاج أهل السنة إلى أن يبينوا أن الصفات لا تدخل في هذا المعنى، فقالوا: الصفات لو أثبتناها لا يصدق عليها أنها أركان ولا أنها أدوات ولا أنها أعضاء ونحو ذلك.

    لفظ الجهة ودلالته

    قال رحمه الله تعالى: [وأما لفظ الجهة فقد يراد به ما هو موجود وقد يراد به ما هو معدوم، ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق، فإذا أريد بالجهة أمر موجود غير الله تعالى كان مخلوقاً، والله تعالى لا يحصره شيء، ولا يحيط به شيء من المخلوقات تعالى الله عن ذلك، وإن أريد بالجهة أمر عدمي وهو ما فوق العالم فليس هناك إلا الله وحده، فإذا قيل: إنه في جهة بهذا الاعتبار فهو صحيح، فمعناه أنه فوق العالم حيث انتهت المخلوقات، فهو فوق الجميع عال عليه.

    ونفاة لفظ الجهة الذين يريدون بذلك نفي العلو يذكرون من أدلتهم أن الجهات كلها مخلوقة، وأنه كان قبل الجهات، وأن من قال: إنه في جهة يلزمه القول بقدم شيء من العالم، أو أنه كان مستغنياً عن الجهة ثم صار فيها، وهذا الألفاظ ونحوها إنما تدل على أنه ليس في شيء من المخلوقات، سواءٌ سمى جهة أو لم يسم، وهذا حق، ولكن الجهة ليست أمراً وجودياً بل أمر اعتباري، ولا شك أن الجهات لا نهاية لها، وما لا يوجد فيها لا نهاية له، فليس بموجود].

    هذا تفسير أو إيضاح لما ذكره الطحاوي من أنه (لا تحيط به الجهات الست كسائر المبتدعات) وقصد الطحاوي صحيح، وهو أن الرب سبحانه وتعالى لا يحيط به شيء من خلقه؛ لأن الجهات مخلوقة، فلا تحيط به جهة بمعنى (تحويه أو تحصره) وقد قال تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110]، وقال: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة:255]، فإذا كانوا لا يحيطون به علماً فكذلك المخلوقات لا تحيط به، أي: لا تحصره أو تحويه، تعالى الله؛ هذا هو قصده.

    والجهات الست معروفة، وهي الفوق والتحت واليمين واليسار والأمام والخلف، فمعنى أنها لا تحيط به، أي: لا يحصره جهة منها، بل هو أعظم من ذلك كما يشاء.

    ثم لا ينافي ذلك أن يوصف الله تعالى بأنه فوق عباده في جهة العلو، ولكن لا يلزم من ذلك حصر ولا إحاطة ولا غير ذلك، وقد دلت الأدلة الشرعية على وصف الرب سبحانه وتعالى بصفة العلو، وسيتكلم الشارح على ذلك بتوسع في أثناء الكتاب، ويذكر الأدلة الدالة على أنه تعالى فوق مخلوقاته كما يشاء، قال الله تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18]، وقال: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50]، وكذلك غيرها من الأدلة.

    استدراك على المصنف رحمه الله تعالى

    قال رحمه الله تعالى: [وقول الشيخ رحمه الله تعالى: (لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات) هو حق باعتبار أنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته، بل هو محيط بكل شيء وفوقه، وهذا المعنى هو الذي أراده الشيخ رحمه الله لما يأتي في كلامه أنه تعالى محيط بكل شيء وفوقه.

    فإذا جمع بين كلاميه وهو قوله: (لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات) وبين قوله: (محيط بكل شيء وفوقه) علم أن مراده أن الله تعالى لا يحويه شيء ولا يحيط به شيء كما يكون لغيره من المخلوقات، وأنه تعالى هو المحيط بكل شيء العالي على كل شيء.

    لكن بقي في كلامه شيئان:

    أحدهما: أن إطلاق مثل هذا اللفظ مع ما فيه من الإجمال والاحتمال كان تركه أولى، وإلا تسلط عليه وألزم بالتناقض في إثبات الإحاطة والفوقية ونفي جهة العلو، وإن أجيب عنه بما تقدم من أنه إنما نفى أن يحويه شيء من مخلوقاته، فالاعتصام بالألفاظ الشرعية أولى.

    الثاني: أن قوله: (كسائر المبتدعات) يفهم منه أنه ما من مبتدع إلا وهو محوي، وفي هذا نظر؛ فإنه إن أراد أنه محوي بأمر وجودي فممنوع؛ فإن العالم ليس في عالم آخر وإلا لزم التسلسل، وإن أراد أمراً عدمياً فليس كل مبتدع في العدم، بل منها ما هو داخل في غيره كالسماوات والأرض في الكرسي ونحو ذلك، ومنها ما هو منتهى المخلوقات كالعرش، فسطح العالم ليس في غيره من المخلوقات قطعاً للتسلسل كما تقدم].

    لاحظ الشارح على صاحب المتن هاتين الملاحظتين:

    الأولى: يقول: إن الأولى عدم استعمال هذه الألفاظ لما فيها من الإبهام، ولما فيها من العموم الذي تسلط به الأعداء أو المبتدعة على نفي ما هو حق؛ فإنهم تسلطوا بقوله: (لا تحويه الجهات الست) على نفي جهة العلو، وبنفي الأعضاء والأركان والأدوات على نفي صفات الكمال، وجعلوا هذا دليلاً لهم، مع أن هذا غير مراد للطحاوي رحمه الله، بل مراده حق كما بينه واعتذر عنه الشارح.

    الثانية: لاحظ أن قوله: (كسائر المبتدعات) يفهم منه أن المبتدعات -يعني: المخلوقات- تحويها جهة من الجهات، وهذا ليس بصحيح، فيقول: ليس كل الموجودات محوية حوتها جهة من الجهات، ومثل بالعالم وما أشبهه.

    وعلى كل حال فالاقتصار على السنة والاقتصار على ما ورد في الأدلة الشرعية هو الصحيح الواضح، وهو الذي ليس فيه توقع ولا شك، وفيه كفاية، فالاقتصار على الأدلة الصحيحة والسنة الصريحة فيه الكفاية والمقنع، وكذلك الاستدلال بعبارات السلف، فالسلف رحمهم الله يعبرون بعبارات واضحة، ففيها الكفاية عن التعبير بعبارات موهمة استعملها المتأخرون وأدخلوا فيها حقاً وباطلاً.

    قال رحمه الله تعالى: [ويمكن أن يجاب عن هذا الإشكال بأن (سائر) بمعنى: (البقية) لا بمعنى: (الجميع) هذا أصل معناها، ومنه السؤر، وهو ما يبقيه الشارب في الإناء. فيكون مراده غالب المخلوقات لا جميعها؛ إذ السائر على (الغالب) أدل منه على (الجميع)، فيكون المعنى أن الله تعالى غير محوي كما يكون أكثر المخلوقات محوياً، بل هو غير محوي بشيء -تعالى الله عن ذلك- ولا يظن بالشيخ رحمه الله تعالى أنه ممن يقول: إن الله ليس داخل العالم ولا خارجه بنفي النقيضين كما ظنه بعض الشارحين، بل مراده أن الله تعالى منزه عن أن يحيط به شيء من مخلوقاته، أو أن يكون مفتقراً إلى شيء منها، العرش أو غيره، وفي ثبوت هذا الكلام عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه نظر؛ فإن أضداده قد شنعوا عليه بأشياء أهون منه، فلو سمعوا مثل هذا الكلام لشاع عنهم تشنيعهم عليه به، وقد نقل أبو مطيع البلخي عنه إثبات العلو كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.

    وظاهر هذا الكلام يقتضي نفيه، ولم يرد بمثله كتاب ولا سنة، فلذلك قلت: إن في ثبوته عن الإمام نظراً، وإن الأولى التوقف في إطلاقه؛ فإن الكلام بمثله خطر، بخلاف الكلام بما ورد عن الشارح كالاستواء والنزول ونحو ذلك، ومن ظن من الجهال أنه إذا نزل إلى سماء الدنيا كما أخبر الصادق صلى الله عليه وسلم يكون العرش فوقه، ويكون محصوراً بين طبقتين من العالم، فقوله مخالف لإجماع السلف مخالف للكتاب والسنة].

    لما كان بعض المنتميين إلى أبي حنيفة قد دخلهم شيء من التفسير في العقيدة نسبوا إليه أنه ممن يقول: إن الله تعالى لا داخل العالم ولا خارجه، وهذا لا شك أنه لا يقوله أبو حنيفة ، بل أبو حنيفة قد أثبت الاستواء، وأثبت أن الله تعالى فوق عرشه، وأنه يدعى من أعلى، وأن العباد إذا دعوه رفعوا إليه أيديهم متضرعين إليه، واستدل بذلك كله على أن الله تعالى فوق عباده، ولم يقل هذه المقالة الشنيعة التي يستعملها النفاة.

    فعلى هذا لا يظن بأحد من أئمة الإسلام كـأبي حنيفة ولا غيره من الأئمة المتبعين المقتدى بهم أنهم يدخلون في هذه الأمور المبتدعة التي فيها تعطيل الله تعالى ونفي في صفات كماله؛ وذلك لأن صفات الكمال ثابتة لله سبحانه وتعالى عقلاً ونقلاً، والصفات التي أثبتها كلها صفات كمال، والتي نفاها لأنها تشتمل على نقص فنفاها، ونفي النقص كمال، هذه هي طريقة أهل السنة، أنهم ينفون عن الله الصفات التي نفاها عن نفسه؛ لأن في نفيها إثباتاً لأضدادها، وذلك كله من صفات الكمال.

    ولا شك أن المسلم إذا اعتقد أن ربه تعالى قريب مجيب، واعتقد أنه عليم حكيم، واعتقد أنه سميع بصير، واستحضر ذلك في كل حالاته عظم قدر ربه في قلبه وأكثر من دعائه، وتعلق قلبه برجائه وخافه حق الخوف واستعد للقائه وعظمه غاية التعظيم، وهذا هو السر في تقرير أهل السنة لهذه الصفات حتى يعرف المسلمون صفات ربهم فيعبدوه حق عبادته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756499869