إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [10]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لما دخل علم الكلام على المسلمين أفسد على كثير منهم معتقداتهم في أسماء الله وصفاته وإرادته وقدره، فلم يفرقوا بين الإرادة الشرعية والقدرية، ولا أثبتوا له صفات الكمال. والناس في الأسماء والصفات أقسام، فمن مثبتها مع التشبيه وهم المشبهة، ومن معطلها أو بعضها وهم المعطلة، وأهل السنة هم وسط بين ذلك، فهم يثبتون الأسماء والصفات دون تشبيه ولا تعطيل.

    1.   

    معنى قوله: (قديم بلا ابتداء دائم بلا انتهاء)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: ( قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء ).

    قال الله تعالى: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِر [الحديد:3]، وقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء)، فقول الشيخ: (قديم بلا ابتداء، دائم لا انتهاء) هو معنى اسمه: الأول والآخر.

    والعلم بثبوت هذين الوصفين مستقر في الفطر، فإن الموجودات لا بد أن تنتهي إلى واجب الوجود لذاته؛ قطعاً للتسلسل، فإنا نشاهد حدوث الحيوان، والنبات، والمعادن، وحوادث الجو، كالسحاب والمطر وغير ذلك، وهذه الحوادث وغيرها ليست ممتنعة، فإن الممتنع لا يوجد، ولا واجبة الوجود بنفسها، فإن واجب الوجود بنفسه لا يقبل العدم، وهذه كانت معدومة ثم وجدت، فعدمها ينفي وجوبها، ووجودها ينفي امتناعها.

    وما كان قابلاً للوجود والعدم لم يكن وجوده بنفسه، كما قال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35]، يقول سبحانه: أحدثوا من غير محدث، أم هم أحدثوا أنفسهم؟ ومعلوم أن الشيء المحدث لا يوجد نفسه، فالممكن الذي ليس له من نفسه وجود ولا عدم، لا يكون موجوداً بنفسه، بل إن حصل ما يوجده وإلا كان معدوماً، وكل ما أمكن وجوده بدلاً عن عدمه، وعدمه بدلاً عن وجوده، فليس له من نفسه وجود ولا عدم لازم له.

    وإذا تأمل الفاضل غاية ما يذكره المتكلمون والفلاسفة من الطرق العقلية، وجد الصواب منها يعود إلى بعض ما ذكر في القرآن من الطرق العقلية بأفصح عبارة وأوجزها، وفي طرق القرآن من تمام البيان والتحقيق ما لا يوجد عندهم مثله، قال تعالى: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [الفرقان:33].

    ولا نقول: لا ينفع الاستدلال بالمقدمات الخفية، والأدلة النظرية، فإن الخفاء والظهور من الأمور النسبية، فربما ظهر لبعض الناس ما خفي على غيره، ويظهر للإنسان الواحد في حال ما خفي عليه في حال أخرى.

    وأيضاً فالمقدمات وإن كانت خفية، فقد يسلمها بعض الناس وينازع فيما هو أجلى منها، وقد تفرح النفس بما علمته من البحث والنظر، ما لا تفرح بما علمته من الأمور الظاهرة، ولا شك أن العلم بإثبات الصانع ووجوب وجوده أمر ضروري فطري، وإن كان يحصل لبعض الناس من الشبه ما يخرجه إلى الطرق النظرية].

    الأدلة العقلية والنقلية في إثبات الأولية والآخرية لله تعالى

    نعرف أن هذا الوصف وهو قوله: (قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء) وصف ثابت للإله، ولكن العبارة التي في القرآن والسنة أوضح، وهي قول الله تعالى: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ [الحديد:3]، وفسر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم بقوله: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء)، وفسره أيضاً في حديث عمران بقوله: (كان الله ولم يكن شيء قبله).

    وهذا دليل على أن الله تعالى قديم ولم يسبق بعدم، وأنه دائم ولا يلحقه فناء، وأن المخلوقات حادثة معدومة ثم وجدت، ثم يأتي عليها العدم، ويستدل على هذا بحدوث الحوادث، فيقال: هذه الحوادث لا بد لها من محدث.

    وهذا قد يعتبر دليلاً عقلياً، ولكن قيدته الآيات كهذه الآية التي في سورة الطور، وهي قوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35]، يقول: فإذا تحققوا أنهم لم يكونوا هم الذين خلقوا أنفسهم وتحقق أنهم لم يخلقوا من غير شيء، تعين أنهم خلقوا من شيء وأن لهم خالقاً خلقهم، ويستدل بهذا على الطبائعيين الدهريين، والذين يسمون في هذه الأزمنة بالشيوعيين الذين ينكرون الخالق، وقديماً كانوا يسمون بالطبائعيين، ومنهم الفلاسفة الطبائعيون، فهناك فلاسفة يقرون بالخالق ويسمون الفلاسفة الإلهيين.

    فهؤلاء جميعاً يحتج عليهم بالعقل فيقال: هذه الموجودات نشاهد أنها كانت معدومة ثم وجدت، فلا بد لها من موجد، نشاهد مثلاً: أن السماء ليس فيها سحاب ثم يتراكم فيها السحاب، فلا بد له من موجد، ونشاهد أن الأرض تكون يابسة ثم نشاهدها بعد ذلك تهتز خضراء وفيها أشجار وثمار، فلا بد لها من موجد، ونشاهد مثلاً أن الإنسان يكون صغيراً ثم نشاهده بعد ذلك قد حصل له أولاد وصاروا بجانبه، لقد كانوا معدومين ثم وجدوا، فلا بد لهم من موجد، وهكذا توالد الحيوانات والدواب ونحوها لا بد لها من موجد، فإن الإنسان ليس هو الذي يوجد نفسه، وليس هو الذي يخلق أولاده، ولو كان هو الذي يتصرف بنفسه لحرص على أن يكون خلقه أحسن من خلق غيره، ولو كان هو الذي يوجد ولده لحرص على أن يكون أولاده ذكوراً أو نحو ذلك، فتعين أن هناك خالقاً يتصرف في هذا الكون، فهو الذي يعطي ويمنع، يصل ويقطع، يخفض ويرفع، يسعد ويشقي، يفقر ويغني.

    فإذاً لا بد أن هذه الموجودات تنتهي إلى موجد، وذلك الموجد لا بد أن يكون غنياً بنفسه، وأن ما سواه فقير إليه، وهذا الوصف هو وصف الخالق تعالى، قال عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر:15-17]، أي: ليس ذلك شاقاً ولا صعباً على الله، بل هو سهل يسير: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].

    اعتقاد أهل السنة في أولية الله وأزليته

    يعتقد أهل السنة أن رب هذا الكون واحد، وأنه الذي يتصرف في الكون، وأنه قديم ليس له بداية وأنه دائم ليس له نهاية، وقد ذكر الله تعالى أن كلامه لا ينفد بقوله: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي [الكهف:109]، وما ذاك إلا أن كلام الله ليس له بداية ولا نهاية، فالبحر ولو كان معه سبعة أبحر تمده، وكانت الأشجار من أول الدنيا إلى آخرها أقلاماً، فكتب بتلك الأقلام بمداد هذه البحار، لنفدت البحار ولتكسرت الأقلام ولم ينفد كلام الله؛ وذلك لأنه لا بداية له ولا نهاية، ولا شك أن هذه من الحجج العقلية التي تقطع مخاصمة أولئك.

    وإذا عرف المسلمون أن لهم خالقاً خلقهم وخلق هذا الكون، عرفوا أنهم ما خلقوا عبثاً، فلا بد أن للخالق الذي خلقهم وأنعم عليهم حقاً عليهم، فيعرف العبيد حق الله عليهم وهو عبادته وحده لا شريك له، فيكون هذا دافعاً لهم إلى أن يقوموا بهذا الحق، ثم بعد ذلك يعلقون آمالهم راجين الثواب الذي رتب لهم على تلك العبادة.

    والحاصل أن كل عاقل إذا فكر في هذا الكون ورأى تواجده ورأى أنه حدث بعد أن كان معدوماً، عرف أنه قد كان معدوماً وأنه لا بد له من محدث، وذلك المحدث لو كان مفتقراً إلى محدث آخر لكان فقيراً، ثم قد يقال أيضاً: من الذي أحدث المحدث الأول، وإذا كان له محدث فمن الذي أحدث الذي قبله؟ فيلزم من ذلك التسلسل.

    فإذا قيل: إن المحدث واحد، وإنه غير مسبوق بعدم، وإنه الأول بلا بداية، انقطع التسلسل ولم يكن هناك تسلسل في الماضي ولا في المستقبل.

    وهذه حجة عقلية، ولكن تكفي عنها هذه الآية النقلية وما يشابهها من الآيات التي يحتج الله بها على عباده، ففي قدرته وكمال تصرفه في هذا الكون، وما فيه من الآيات عبرة وعظة، ولكن تلك العبرة والعظة إنما ينتفع بها أهل العقول.

    1.   

    إدخال المتكلمين لفظ (القديم) في أسماء الله تعالى

    قال المؤلف رحمه الله: [وقد أدخل المتكلمون في أسماء الله تعالى (القديم)، وليس هو من الأسماء الحسنى، فإن القديم في لغة العرب التي نزل بها القرآن هو المتقدم على غيره، فيقال: هذا قديم للعتيق، وهذا حديث للجديد، ولم يستعملوا هذا الاسم إلا في المتقدم على غيره، لا فيما لم يسبقه عدم، كما قال تعالى : حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس:39]، والعرجون القديم: الذي يبقى إلى حين وجود العرجون الثاني، فإذا وجد الجديد قيل للأول قديم.

    وقال تعالى: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ [الأحقاف:11] أي: متقدم في الزمان، وقال تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ [الشعراء:75-76]، فالأقدم مبالغة في القديم، ومنه: القول القديم والجديد للشافعي رحمه الله تعالى.

    وقال تعالى: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود:98] أي: يتقدمهم، ويستعمل منه الفعل لازماً ومتعدياً، كما يقال: أخذت ما قدم وما حدث، ويقال : هذا قَدُمَ هذا وهو يقدمه، ومنه سميت القدم قدما؛ لأنها تقدم بقية بدن الإنسان.

    وأما إدخال القديم في أسماء الله تعالى، فهو مشهور عند أكثر أهل الكلام، وقد أنكر ذلك كثير من السلف والخلف، منهم ابن حزم .

    ولا ريب أنه إذا كان مستعملا في نفس التقدم، فإن ما تقدم على الحوادث كلها، فهو أحق بالتقدم من غيره، لكن أسماء الله تعالى هي الأسماء الحسنى التي تدل على خصوص ما يمدح به.

    والتقدم في اللغة مطلق لا يختص بالتقدم على الحوادث كلها، فلا يكون من الأسماء الحسنى، وجاء الشرع باسمه (الأول)، وهو أحسن من القديم؛ لأنه يشعر بأن ما بعده آيل إليه وتابع له بخلاف القديم، والله تعالى له الأسماء الحسنى لا الحسنة].

    وصف المتكلمين لله بالقديم ومعناه عندهم

    مشهور في كلام المتكلمين وصف الله بأنه قديم، بل عندهم أن القديم أخص أوصاف الله، ويعنون بذلك أنه الذي لم يتقدمه شيء، ولذلك فهم ينفون الصفات، ويقولون: إن تعدد الصفات يلزم منه تعدد القدماء، يعني: أن القديم واحد وهو الله، فلا يكون هناك قدماء غيره، فلو قيل: إن لله صفات لكانت أيضاً موصوفة بالقدم، أي فيقال: الله قديم وسمعه قديم وبصره قديم ونحو ذلك.

    وقد أجاب أهل السنة عليهم بأجوبة منها:

    أولاً: أن لفظة القديم لا تدل على الأولية.

    ثانياً: أن نفي الصفات لاستلزامها تعدد القدماء لا يلزم هذا الاستلزام؛ وذلك لأن القديم ليس بلفظ شرعي ولا لغوي، ولأن الله تعالى واحد بذاته وبصفاته، وأن الصفات من جملة الذات، فلا يكون في إثباتها تعدد.

    وهاهو الشارح ينكر على هؤلاء الذين يقولون إن القديم من أسماء الله، ويذكر أن الاسم الصحيح الذي سمى الله به نفسه هو: الأَوَّلُ وَالآخِرُ [الحديد:3]، فأما القديم أو الأزلي فهي أسماء اصطلاحية، لا يلزم من الاصطلاح عليها ثبوتها.

    قصدهم بالقديم عدم تقدم شيء عليه، وقصدهم بالأزلي أو بالدائم عدم إتيان الفناء عليه، ولو أتوا على هذه الآية أو على هذين الاسمين في هذه الآية وهما قول الله تعالى: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ [الحديد:3]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء)، لكان ذلك كافياً، ولكان التفسير واضحاً، ولكانت الأسماء واقعة موقعها.

    معنى كلمة (القديم) في لغة العرب

    يقول: إن كلمة القديم عند العرب لا تدل على تقدم الإنسان على غيره كله، وإنما تدل على تقدمه على جنسه، فإذا وجد له جنس جديد سمي الأول قديماً، ومنه قوله تعالى: حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس:39]، فإن العراجين هي قنوان النخل، يعني: العذوق التي يكون فيها التمر، ومتى يكون قديماً؟ إذا حملت النخل مرة ثانية قيل للعراجين التي من العام الماضي: هذه عراجين قديمة.

    وكذلك قوله تعالى: أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ [الشعراء:76]، يعني: أن آباءكم قد تقدموا عليكم، ومعلوم أن الآباء قبلهم أجداد وقبل الأجداد أجداد وهلم جراً، فسمي الآباء القريبون أقدمين، فدل على أن القديم لا يدل على السبق المطلق، وإنما يدل على سبق بعض الجنس.

    فالوصف بأن الله هو الأول أبلغ من الوصف بأنه القديم، وهذه الكلمة (الأول) تعطي معنى الأولية، و(الآخر) تعطي معنى الأزلية، يعني الأبدية والديمومة؛ وذلك لأن الله موصوف بأنه دائم أبدي وأزلي، لا يأتي عليه الفناء ولا التغير، وأنه هو كما وصف نفسه بأنه الحي الذي لا يموت: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون)، يعني: بعد موت الناس في هذه الحياة وفناء المخلوقات يبقى الله تعالى، كما قال تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:27]، وقال: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88].

    فإذا كان هو الباقي فإنه أيضاً هو الذي يبعث العباد.

    وهو سبحانه لا يأتي عليه فناء أبداً، وذلك هو الأصل في الدوام، وهو الأصل في البقاء الذي هو وصف الله وحده.

    فيعتقد المسلمون أن ربهم سبحانه الذي خلق هذا الكون لم يسبق بعدم بل هو قديم، وأنه لا يأتي عليه الفناء بل هو دائم، ولكن يعبرون بالأول والآخر، فهما أوضح من القديم والدائم أو الأزلي أو نحو ذلك.

    1.   

    معنى قوله: (لا يفنى ولا يبيد)

    قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (لا يفنى ولا يبيد).

    إقرار بدوام بقائه سبحانه وتعالى، قال عز من قائل : كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27]، والفناء والبيد متقاربان في المعنى، والجمع بينهما في الذكر للتأكيد، وهو أيضا مقرر ومؤكد لقوله: (دائم بلا انتهاء)].

    أي: أن قوله: (لا يفنى ولا يبيد) مؤكد لقوله: ( دائم بلا انتهاء )، ودليله من القرآن قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]، وقوله: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27]، وقوله: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون)، مثل بالجن والإنس لأنهم الثقلان المكلفان.

    إذاً: كل شيء يفنى إلا وجه الله تعالى، وذلك دليل على الكمال، والذي يكون له الكمال يستحق أن يقدس وأن يعبد وحده، وأن يقوم عباده الذين هم خلقه وملكه بواجبهم نحوه، وذلك بالعبادة المستمرة له سبحانه.

    1.   

    معنى قوله: (ولا يكون إلا ما يريد)

    قال المؤلف رحمه الله: [قوله: ( ولا يكون إلا ما يريد ).

    هذا رد لقول القدرية والمعتزلة، فإنهم زعموا أن الله أراد الإيمان من الناس كلهم، والكافر أراد الكفر، وقولهم فاسد مردود؛ لمخالفته الكتاب والسنة، والمعقول الصحيح، وهي مسألة القدر المشهورة، وسيأتي لها زيادة بيان إن شاء الله تعالى.

    وسموا قدرية لإنكارهم القدر، وكذلك تسمى الجبرية المحتجون بالقدر: (قدرية) أيضاً، والتسمية على الطائفة الأولى أغلب.

    أما أهل السنة فيقولون: إن الله وإن كان يريد المعاصي قدراً، فهو لا يحبها ولا يرضاها ولا يأمر بها، بل يبغضها ويسخطها ويكرهها وينهى عنها، وهذا قول السلف قاطبة، فيقولون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

    ولهذا اتفق الفقهاء على أن الحالف لو قال : والله لأفعلن كذا إن شاء الله لم يحنث إذا لم يفعله، وإن كان واجباً أو مستحباً، ولو قال : إن أحب الله حنث، إذا كان واجباً أو مستحباً].

    قوله: (ولا يكون إلا ما يريد) هذا مثل قول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وقوله تعالى: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:107] يعني: أن ما أراده تعالى فإنه لا بد أن يحصل وما لم يرده فإنه لا يكون، والمراد هنا الإرادة الكونية؛ وذلك لأن الإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة كونية، وإرادة شرعية.

    فالله تعالى قدر الكائنات فلا يحدث في الوجود شيء إلا بإرادته، وهذا أكثر ما تطلق الإرادة عليه.

    الإرادة الكونية: كما في قوله: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:125]، (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ)، والآيات في هذه الإرادة كثيرة.

    فأهل السنة يعتقدون أنه لا يكون شيء في الوجود إلا بإرادته، ولو شاء لهدى الناس جميعاً، ولكن لا يتخذون ذلك حجة في المعصية كما تفعله طائفة الجبرية الذين يزعمون أنهم لا اختيار لهم، وأن العباد مجبورون على المعاصي وعلى الكفر، وليس لهم أي اختيار.

    ونقول: بل الإرادة الكاملة لله سبحانه فلا يُعصى قسراً ولا قهراً، ولا تكون إرادة الخلق أقوى من إرادة الله، ولكن قد منحهم سبحانه إرادة تناسبهم، وهي مغلوبة بقدرة الله، فللعباد قدرة على أفعالهم ولهم إرادة، ولكن إرادتهم وقدرتهم مسبوقة بإرادة الله تعالى وبقدرته.

    أقسام القدرية وحكم كل قسم

    القدرية ينقسمون إلى قسمين: قدرية نفاة، وقدرية مجبرة، وكلاهما ضلال.

    النفاة: هم الذين نفوا قدرة الله، وقالوا: إن الله لا يقدر على أفعال العباد.

    والمجبرة: هم الذين يقولون: إن الله أجبر العباد على المعاصي وعلى الطاعات وقسرهم عليها، تعالى الله عن ذلك.

    وهدى الله أهل السنة فقالوا: إن الله على كل شيء قدير، ولكن منح العبد قدرة يكلف بها، فإذا اعتقدنا ذلك سلمنا من الاعتراضات.

    1.   

    أنواع الإرادة

    قال المؤلف رحمه الله: [والمحققون من أهل السنة يقولون: الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة قدرية كونية خلقية، وإرادة دينية أمرية شرعية.

    فالإرادة الشرعية هي المتضمنة للمحبة والرضا.

    والكونية هي المشيئة الشاملة لجميع الموجودات، وهذا كقوله تعالى : فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125]، وقوله تعالى عن نوح عليه السلام : وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [هود:34]، وقوله تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253].

    وأما الإرادة الدينية الشرعية الأمرية: فكقوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، وقوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النساء:26]، وقوله: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:27-28]، وقوله تعالى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ [المائدة:6]، وقوله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33].

    فهذه الإرادة هي المذكورة في مثل قول الناس لمن يفعل القبائح: هذا يفعل ما لا يريده الله، أي: لا يحبه ولا يرضاه ولا يأمر به.

    وأما الإرادة الكونية فهي الإرادة المذكورة في قول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

    والفرق ثابت بين إرادة المريد أن يفعل، وبين إرادته من غيره أن يفعل، فإذا أراد الفاعل أن يفعل فعلاً، فهذه الإرادة المعلقة بفعله، وإذا أراد من غيره أن يفعل فعلاً، فهذه الإرادة لفعل الغير، وكلا النوعين معقول للناس، والأمر يستلزم الإرادة الثانية دون الأولى.

    فالله تعالى إذا أمر العباد بأمر، فقد يريد إعانة المأمور على ما أمر به، وقد لا يريد ذلك وإن كان مريداً منه فعله، وتحقيق هذا مما يبين فصل النزاع في أمر الله تعالى: هل هو مستلزم لإرادته أم لا ؟

    فهو سبحانه أمر الخلق على ألسن رسله عليهم السلام بما ينفعهم، ونهاهم عما يضرهم، ولكن منهم من أراد أن يخلق فعله، فأراد سبحانه أن يخلق ذلك الفعل، ويجعله فاعلاً له، ومنهم من لم يرد أن يخلق فعله، فجهة خلقه سبحانه لأفعال العباد وغيرها من المخلوقات غير جهة أمره للعبد على وجه البيان لما هو مصلحة للعبد أو مفسدة، وهو سبحانه إذ أمر فرعون وأبا لهب وغيرهما بالإيمان، كان قد بين لهم ما ينفعهم ويصلحهم إذا فعلوه، ولا يلزم إذا أمرهم أن يعينهم، بل قد يكون في خلقه لهم ذلك الفعل وإعانتهم عليه وجه مفسدة من حيث هو فعل له، فإنه يخلق ما يخلق لحكمة، ولا يلزم إذا كان الفعل المأمور به مصلحة للمأمور إذا فعله، أن يكون مصلحة للآمر إذا فعله هو، أو جعل المأمور فاعلاً له، فأين جهة الخلق من جهة الأمر؟!

    فالواحد من الناس يأمر غيره وينهاه مريداً النصيحة، ومبيناً لما ينفعه، وإن كان مع ذلك لا يريد أن يعينه على ذلك الفعل، إذ ليس كل ما كان مصلحتي في أن آمر به غيري وأنصحه يكون مصلحتي في أن أعاونه أنا عليه، بل قد تكون مصلحتي إرادة ما يضاده، فجهة أمره لغيره نصحاً غير جهة فعله لنفسه، وإذا أمكن الفرق في حق المخلوقين، فهو في حق الله أولى بالإمكان].

    الفرق بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية

    هذا الكلام يوضح ما قلنا: من أن الإرادة قسمان:

    إرادة دينية شرعية أمرية، وإرادية كونية قدرية خلقية.

    والفرق بينهما: أن الإرادة الكونية لا بد من وجود المراد فيها، فكل شيء أراده الله كوناً وقدراً فلا بد من وجوده، ولكن قد يحبه وقد لا يحبه.

    والذي يريده شرعاً وديناً قد لا يوجد، فالطاعات والأعمال الصالحة أرادها الله ديناً وشرعاً من جميع الخلق، وأحبها منهم، ولكن قد تحصل من بعضهم وقد لا تحصل من البعض الآخر.

    فيقول: إن الله أراد من فرعون وأبي لهب أن يؤمنا؛ أراد ذلك ديناً وشرعاً وأمراً، ولكن ما أراد ذلك كوناً ولا قدراً ولا خلقاً، فلذلك لم يوجد منهما الإيمان والأعمال الصالحة.

    وأراد من الأنبياء وأتباعهم الإيمان ديناً وشرعاً، وأراده منهم كوناً وقدراً فوجد.

    فكل الأعمال الصالحة محبوبة عند الله، وإذا وقعت فإنها مرادة ديناً وشرعاً، ومرادة كوناً وقدراً، وكل الحوادث حتى المعاصي والكفر والمخالفات، فهي واقعة لإرادة الله الكونية القدرية الخلقية، ولكنها ليست محبوبة ولا مَرْضية ولو كان الله قد أرادها، قال تعالى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7]، فأخبر بأنه لا يرضى الكفر ولكن يرضى الشكر.

    ذكر الآيات الدالة على الفرق بين الإرادة الشرعية والقدرية

    ذكر الشارح الأدلة من الآيات على الفرق بين الإرادتين، فإن قوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ [الأنعام:125]، هذه إرادة كونية، يعني: من قدر الله له كوناً أنه يهديه، فإنه يشرح صدره للإسلام، وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ [الأنعام:125]، أي: من قدر الله له أنه يضل ولا يهتدي، فإنه يجعل صدره ضيقاً حرجاً، فهذه إرادة كونية قدرية.

    ومثلها قوله تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253]، وقوله: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16]، وقوله: إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [هود:34] هذه إرادة كونية، يعني: إذا كان الله يريد كوناً وقدراً أن يغويكم فلا راد لما أراده، وهذا معنى قول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

    لكن إذا احتج بعض العصاة وقال: إن الله ما أراد هدايتي، فكيف أهتدي والله لم يرد؟ نقول له: اسأل الله الهداية حتى يستجيب لك وافعل السبب، فإن الله أعطاك قدرة وأعطاك استطاعة على الأسباب، وأقدرك على الأسباب المحسوسة، فافعلها حتى تكون أسباباً في حصول الإرادة ووجودها.

    وإذا قال بعض العصاة مثلاً: هكذا أراد الله مني هذه المعصية، نقول: أرادها كوناً ولم يردها شرعاً، الله تعالى أراد منك الإيمان شرعاً وأمرك به، بل أمر الناس كلهم أن يتقوا الله، وأن يؤمنوا به، وأحب ذلك منهم: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل:36].

    وبلا شك أن الخير دائماً ينسب إلى الله تعالى، وأما الشرور فلا يجوز نسبتها إليه، كما حكى الله عن مؤمني الجن أنهم قالوا: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10]، فالإرادة هنا في هذه الآية إرادة شرعية، يعني: أراد الله بهم الخير إرادة شرعية، والإرادة في الأولى: أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ [الجن:10] إرادة كونية، وبهذا يحصل للمؤمن معرفة الفرق بين الإرادتين.

    اجتماع الإرادة الشرعية والقدرية في إيمان المؤمن وعمله الصالح

    هو يقول: كل ما في الوجود من الحوادث فهو مراد كوناً وقدراً، ولكن قد لا يكون محبوباً، قد يكون محبوباً كالطاعات وقد يكون مكروهاً كالمعاصي، وكل الطاعات التي تحدث من أهلها فإنها مرادة ديناً وشرعاً، أرادها الله ديناً وشرعاً، فهي مرادة ومحبوبة.

    يعني: أن الله تعالى أراد الإيمان من الناس كلهم ديناً وشرعاً، ولكن تحقق ذلك في المؤمنين، فأصبح إيمان المؤمنين وأعمالهم الصالحة مجتمعاً فيها الإرادتان: الشرعية، والكونية القدرية، فإيمان المؤمنين وصلاتهم وعباداتهم مرادة كوناً وقدراً لوجودها، ومرادة ديناً وشرعاً للأمر بها ولمحبتها.

    ومع ذلك فإن على المسلم أن يسأل ربه الهداية، حتى ييسر له هذه الأسباب ويجعله من أهلها، فإذا قام بالأسباب وفعلها رُجي بذلك أن يكون ممن أراد الله تعالى هدايته كوناً وقدراً، ووفقه لذلك ديناً وشرعاً، ولا يبقى على حاله التي هو عليها ويقول: ما أراد الله هدايتي، ويستمر على الضلال والعياذ بالله، فإن الذين يحتجون بالقدر يحتجون به في أمر دون أمر، حيث إنهم لا يسلمون ذلك في الأمور الدنيوية بل تراهم مجدين ومجتهدين ومشمرين، بخلاف أمورهم الدينية فإنهم يحتجون بالقضاء وبالقدر، ويحتجون بأن الله ما أراد منهم كذا وكذا، فيقال لهم: الباب واحد، فإذا اجتهدتم في أمور الدنيا فاجتهدوا في أمور الدين، والله تعالى هو الموفق لمن أراد الخير والعمل الصالح.

    1.   

    وجه إنكار القدرية لقدرة الله والرد عليهم

    قال المؤلف رحمه الله: [والقدرية تضرب مثلا بمن أمر غيره بأمره، فإنه لا بد أن يفعل ما يكون المأمور أقرب إلى فعله، كالبشر، والطلاقة، وتهيئة المساند، والمقاعد ونحو ذلك.

    فيقال لهم: هذا يكون على وجهين:

    أحدهما: أن تكون مصلحة الأمر تعود إلى الآمر، كأمر الملك جنده بما يؤيد ملكه، وأمر السيد عبده بما يصلح ملكه، وأمر الإنسان شريكه بما يصلح الأمر المشترك بينهما ونحو ذلك.

    الثاني: أن يكون الآمر يرى الإعانة للمأمور مصلحة له، كالأمر بالمعروف، وإذا أعان المأمور على البر والتقوى، فإنه قد علم أن الله يثيبه على إعانته على الطاعة، وأنه في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.

    فأما إذا قدر أن الآمر إنما أمر المأمور لمصلحة المأمور، لا لنفع يعود على الآمر من فعل المأمور كالناصح المشير، وقدر أنه إذا أعانه لم يكن ذلك مصلحة للآمر، وأن في حصول مصلحة المأمور مضرة على الآمر، مثل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى وقال لموسى عليه السلام : إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ [القصص:20]، فهذا مصلحته في أن يأمر موسى عليه السلام بالخروج، لا في أن يعينه على ذلك، إذ لو أعانه لضره قومه، ومثل هذا كثير.

    وإذا قيل: إن الله أمر العباد بما يصلحهم، لم يلزم من ذلك أن يعينهم على ما أمرهم به، لاسيما وعند القدرية لا يقدر أن يعين أحداً على ما به يصير فاعلاً، وإذا عللت أفعاله بالحكمة فهي ثابتة في نفس الأمر، وإن كنا نحن لا نعلمها، فلا يلزم إذا كان نفس الآمر له حكمة في الأمر أن يكون في الإعانة على فعل المأمور به حكمة، بل قد تكون الحكمة تقتضي أن لا يعينه على ذلك، فإنه إذا أمكن في المخلوق أن يكون مقتضى الحكمة والمصلحة أن يأمر بأمر لمصلحة المأمور، وأن تكون الحكمة والمصلحة للآمر أن لا يعينه على ذلك، فإمكان ذلك في حق الرب أولى وأحرى].

    قد عرفنا أن المعتزلة ينكرون قدرة الله على أفعال العباد مع عموم قدرة الله، فيقولون: إن الله لا يقدر على أفعال العباد، فإذاً معنى خلقه لأفعال العباد عندهم تهيئة الأسباب، لا أنه يحرك جوارحهم أو يبعث فيهم البواعث التي تباشر الأفعال.

    وعقيدة المسلمين أن الله تعالى هو الخالق للعبد ولما يعمل، قال تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96]، ولكن قدرة الله عامة لكل شيء وتدخل فيها أفعال العباد، ومع ذلك فلا نجعل العبد آلة ليس له أية اختيار بل له قدرة وإرادة، وقدرة الله وإرادته غالبة على قدرة العبد وإرادته، وبحسب تلك القدرة التي مكنه الله بها وجعله فاعلاً بسببها يثاب ويعاقب، حيث بها يباشر العباد الأفعال خيراً وشراً، فيعصي العاصي ويطيع المطيع.

    فالعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر، والمصلي والصائم، أي: أنه تنسب إليه أفعاله؛ لأنه الذي باشرها وإن كانت مخلوقة لله تعالى في الأزل، فيقول الشارح: إن الآمر قد يعين المأمور وقد لا يعينه.

    فمثلاً إذا أمر الملك أحد وزرائه فإنه يهيئ له الأسباب؛ لأن له مصلحة بهذا الأمر، وهكذا أيضاً إذا أمر الملك أحد خدمه فإنه يعينه ويساعده، وإذا أمر الشريك شريكه بأمر فيه مصلحة لهما فإنه يساعده، وإذا أمر السيد عبده بأمر فإن ذلك الفعل فيه مصلحة له، فهي مثل هذا يساعد الآمر المأمور.

    وضرب أيضاً مثلاً لمن لا يحتاج أن يساعد، وهو إذا لم يكن فيه مصلحة، ومثل بذلك الرجل الذي نصح موسى بقوله: فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ [القصص:20] أمره بالخروج وليس من مصلحته أن يساعده على الخروج؛ لأن في ذلك مضرة على الآمر؛ لأنه من قوم فرعون، فأراد أن يحذر موسى فقال: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ [القصص:20]، هذا مثال.

    فيقال: الله سبحانه وتعالى قد تقتضي حكمته أن يعين المؤمن على الأوامر ويهيئ له الأسباب ويمكنها له، فيعمل الأعمال الصالحة، ويكون ذلك فضلاً منه ومنَّة، وقد تقتضي حكمته أن يخذل بعض العباد ويخلي بينهم وبين أهوائهم وأعدائهم ولا يعينهم ولا يحميهم، فيعصون ويقعون في الكفر أو في مقدمات الكفر، وذلك فتنة منه وعدل ليس بظالم لهذا ولا بجائر مع هذا، بل هكذا تقتضي حكمة الله.

    فلا اعتراض للمعتزلة والقدرية على أفعال الله، فإنه يفعل ما يشاء كما يشاء: يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [فاطر:8]، حكمة وعدلاً ونعمة وفضلاً.

    1.   

    حكمة الله تعالى في إعانة العبد على ما أمره أو عدم إعانته

    قال المؤلف رحمه الله: [والمقصود أنه يمكن في حق المخلوق الحكيم أن يأمر غيره بأمر ولا يعينه عليه، فالخالق أولى بإمكان ذلك في حقه مع حكمته، فمن أمره وأعانه على فعل المأمور كان ذلك المأمور به قد تعلق به خلقه وأمره نشأةً وخلقاً ومحبة، فكان مراداً بجهة الخلق ومراداً بجهة الأمر، ومن لم يعنه على فعل المأمور كان ذلك المأمور قد تعلق به أمره ولم يتعلق به خلقه؛ لعدم الحكمة المقتضية لتعلق الخلق به، ولحصول الحكمة المقتضية لخلق ضده.

    وخلق أحد الضدين ينافي خلق الضد الآخر، فإن خلق المرض الذي يحصل به ذل العبد لربه، ودعاؤه، وتوبته، وتكفير خطاياه، ويرق به قلبه، ويذهب عنه الكبرياء والعظمة والعدوان، يضاد خلق الصحة التي لا تحصل معها هذه المصالح، ولذلك كان خلق ظلم الظالم الذي يحصل به للمظلوم من جنس ما يحصل بالمرض، يضاد خلق عدله الذي لا يحصل به هذه المصالح وإن كانت مصلحته هو في أن يعدل.

    وتفصيل حكمة الله عز وجل في خلقه وأمره يعجز عن معرفتها عقول البشر، والقدرية دخلوا في التعليل على طريقة فاسدة، مثلوا الله فيها يخلقه ولم يثبتوا حكمة تعود إليه].

    يمثلون بهذا في أن حكمة الله تعالى قد تقتضي إعانة المأمور وقد تقتضي عدم إعانته، فالله تعالى أمر الجميع مؤمنهم وكافرهم بالتقوى في قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1]، ولكن من الناس من اتقى ومنهم من لم يتق الله، فالذين اتقوا الله هؤلاء قد أراد الله بهم الخير وهداهم وأعانهم، فله عليهم نعمة الإعانة ونعمة الفضل، والذين لم يتقوه هؤلاء قد خذلهم وخلى بينهم وبين أهوائهم ولم يعنهم، حكمة منه وعدلاً، فهذا خلق فيه الإيمان وهذا خلق فيه الكفر، بمعنى: مكنه منه وأقدره عليه.

    وله الحكمة في هذا وهذا؛ وذلك لأنه خلق ضدين مؤمناً وكافراً، وخلق دارين جنة وناراً، ولا بد لكل من الدارين من أهل يؤهلون لها، ولهذا يخبر تعالى بأنه لو شاء لهدى الناس جميعاً، ويخبر بأنه لو شاء لضلوا كلهم، فيقول تعالى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ [الزخرف:33]، يعني: لولا أن يكونوا كلهم على الكفر لجعلنا للكفار هذه الأشياء؛ فينخدع الناس بهم ويعتقدون أنهم خصوا بذلك لشرفهم ولأهليتهم فيكفرون مثلهم، وهو واقع كثيراً.

    وخلق تعالى المرض والصحة وله الحكمة في ذلك، ففي خلقه للمرض مصلحة، هذه المصلحة تكمن في أن المريض يشعر بالذل وبالضعف ويشعر بالحاجة، إذا مرض تذكر ضعفه وتذكر فاقته وحاجته، وتذكر مسكنته وتعلق قلبه بربه ودعاه واستكان إليه.

    وإذا كان دائماً في صحة ونعمة ورفاهية ونشاط وثروة وشهوات متتابعة؛ فإنه لا يأمن أن يأخذه الأشر والبطر والكبرياء والإعجاب بالنفس، ويكون منطلقاً إلى الكفر وإلى المعاصي كما هو الواقع، ولهذا يخبر تعالى بأنه لو وسع على الناس لتجبروا، قال تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لعباده لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ [الشورى:27]، يعني: لتكبروا ولتجبروا، فبذلك نعرف أنه عندما خلق هؤلاء واختار أن يكونوا مؤمنين، وهؤلاء وجعلهم كافرين، فذلك كما أنه خلق المرض وخلق الصحة وله الحكمة في خلق الضدين.

    1.   

    عجز البشر عن معرفة كنه صفات الله وكنه ذاته سبحانه

    قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (لا تبلغه الأوهام ولا تدركه الأفهام).

    قال الله تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110]، قال في الصحاح: توهمت الشيء: ظننته، وفهمت الشيء: علمته.

    فمراد الشيخ رحمه الله أنه لا ينتهي إليه وهم ولا يحيط به علم، قيل: الوهم ما يرجى كونه، أي: يظن أنه على صفة كذا، والفهم: هو ما يحصله العقل ويحيط به، والله تعالى لا يَعْلَمْ كيف هو إلا هو سبحانه وتعالى، وإنما نعرفه سبحانه بصفاته، وهو أنه أحد صمد لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [البقرة:255]، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر:23-24]].

    يعتقد المسلمون أن ربهم سبحانه وتعالى موصوف بصفات الكمال منزه عن صفات النقص، ويعتقدون أنه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وأنهم لا يستطيعون معرفة كيفيته ولا كنه صفاته ولا كنه ذاته، ويقولون: الله أعلم بكيفية صفاته وبكيفية أفعاله، فلا يجوز أن يسأل عنه بكيف.

    كما قال الإمام مالك لما سئل عن الاستواء: الاستواء معلوم والكيف مجهول، يعني: كيفية استوائه سبحانه مجهولة لا يعلمها سواه، وهذا أيضاً يقال في سائر الصفات كصفة النزول والمجيء والعلو والغضب والرحمة والمحبة وما أشبهها.

    فالمسلمون يعتقدون ثبوت هذه الصفات، ولكن يعجزون عن إدراك كيفيتها، فكيفية ذات الله وكيفية صفاته لا يستطيع فهم أن يدركها ولا وهم أن يتخيلها، لو فكر الإنسان بفكره لما استطاع أن يصل إلى كيفية الخالق.

    وقد عجز العباد عن إدراك أقرب شيء إليهم وهي الأرواح التي تحيا بها الأجساد، قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85].

    وقد أخبر الله أن ها هنا ملائكة ونحن نؤمن بهم وإن لم نرهم، ولا ندري مم خلقوا ولا كيفية خَلْقِهِم، خَلَقَهُم الله تعالى لعبادته ولكن ما تركيبهم؟ وما أعضاؤهم؟ وما أجسادهم؟ الله أعلم بذلك.

    وهكذا فقد أخبرنا الله تعالى بأن هناك شياطين، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأن الشيطان يجري من ابن آدم مجري الدم، ولكن لا ندري ما كيفية هذا الشيطان؟! ولا نعرف ما مثاله؟! ولا ما وزنه؟! ولا غير ذلك؟!.

    وأخبرنا تعالى بأن هناك جناً، وأن الجن ينفذون في الإنسان، وأنهم يدخلون في الأرض، وحُكيت عنهم الأقوال وسمعوا وشوهدوا، ومع ذلك لم ندر ماهيتهم؟! ولا ما كيفية خلقهم؟! وإذا عجزنا عن هؤلاء، فَعَجْزُ الإنسان عن كيفية وماهية الرب تعالى بطريق الأولى، فما عليه إلا أن يستسلم، ويعرف أن هذا الكون لا بد له من مكون، وأن المكون الذي كون هذه الكائنات أجرامها وأعلامها وعلويها وسفليها هو الواحد وحده، وهو الذي لا تبلغه الأفهام ولا تتوهمه الأوهام ولا تدركه العقول: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة:255]، ولا يوصف إلا بما وصف به نفسه على وجه الكمال، كما في الآيات التي سمعنا، فإن الله وصف نفسه بهذه الصفات، لِيُعْتَقَدَ أنه الإله الحق، وأنه رب الأرباب، وأنه الخالق البارئ المصور، وأنه الملك القدوس السلام، وأنه الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم.

    1.   

    عقيدة أهل السنة في الصفات بين المعطلة والمشبهة

    [قوله: (ولا يشبهه الأنام).

    هذا رد لقول المشبهة الذين يشبهون الخالق بالمخلوق سبحانه وتعالى، قال عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

    وليس المراد نفي الصفات كما يقول أهل البدع، فمن كلام أبي حنيفة رحمه الله في الفقه الأكبر: لا يشبه شيئاً من خلقه ولا يشبهه شيء من خلقه، ثم قال بعد ذلك: وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين، يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا انتهى.

    وقال نعيم بن حماد : من شبه الله بشيء من خلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه.

    وقال إسحاق بن راهويه : من وصف الله فشبه صفاته بصفات أحد من خلق الله فهو كافر بالله العظيم، وقال: علامة جهم وأصحابه دعواهم على أهل السنة والجماعة ما أولعوا به من الكذب أنهم مشبهة، بل هم المعطلة.

    وكذلك قال خلق كثير من أئمة السلف: علامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة، فإنه ما من أحد من نفاة شيء من الأسماء والصفات إلا يسمي المثبت لها مشبهاً، فمن أنكر أسماء الله بالكلية من غالية الزنادقة القرامطة والفلاسفة، وقال: إن الله لا يقال له عالم ولا قادر، يزعم أن من سماه بذلك فهو مشبه؛ لأن الاشتراك في الاسم يوجب الاشتباه في معناه، ومن أثبت الاسم وقال هو مجاز كغالية الجهمية، يزعم أن من قال إن الله عالم حقيقة قادر حقيقة فهو مشبه، ومن أنكر الصفات وقال: إن الله ليس له علم ولا قدرة ولا كلام، ولا محبة ولا إرادة، قال لمن أثبت الصفات إنه مشبه، وإنه مجسم.

    ولهذا كُتُبُ نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والرافضة ونحوهم كلها مشحونة بتسمية مثبتة الصفات مشبهة ومجسمة، ويقولون في كتبهم: إن من جملة المجسمة قوماً يقال لهم المالكية، ينسبون إلى رجل يقال له مالك بن أنس ، وقوماً يقال لهم الشافعية، ينسبون إلى رجل يقال له محمد بن إدريس.

    حتى الذين يفسرون القرآن منهم كـعبد الجبار والزمخشري وغيرهما، يسمون كل من أثبت شيئا من الصفات وقال بالرؤية مشبهاً، وهذا الاستعمال قد غلب عند المتأخرين من غالب الطوائف].

    من عقيدة أهل السنة أنهم إذا أثبتوا الصفات نفوا التشبيه، فيقولون: نثبت لله صفات ولكن لا تشبه صفات المخلوق، كما أنهم يثبتون لله أفعالاً ويقولون: لا تشبه أفعال العباد.

    فالصفات مثل صفة اليد والوجه يقولون: لله يد لا كأيدي المخلوقين، ولله وجه لا كوجه المخلوقين.

    وصفات الأفعال: يثبتون أن الله يحب ويكره ويسخط ويغضب ويرضى وما أشبه ذلك، ويقولون: إن هذه أفعال حقيقية، ولكن ليس غضبه سبحانه كغضب المخلوق ولا رضاه كرضا المخلوق، ويثبتون أن الله يسمع وأنه يبصر ويقولون: ليس سمعه سبحانه كسمع المخلوق ولا بصره كبصر المخلوق؛ وذلك لأنه يوجد فرق كبير بين ما يثبت للخالق وما يثبت للمخلوق، فسمع المخلوق مثلاً لا يدرك إلا الأصوات القريبة، وسمع الخالق يدرك القريب والبعيد، سمع المخلوق تشتبه عليه الأصوات، لو تكلم عندك خمسة في حين واحد لما فهمت ما يقوله واحد منهم، الخالق لا يشغله شأن عن شأن بل يسمع الكل، ولا تغلطه كثرة المسائل مع اختلاف اللغات.

    كذلك البصر فالمخلوق لا يخرق بصره الحيطان ونحوها ولا يبصر في الظلمات، والخالق تعالى يبصر كل شيء ولا يخفى عليه شيء، فيبصر النملة الصغيرة في حيالك الظُلَمْ، فأين هذا من هذا؟

    كذلك سمعنا أن كثيراً من نفاة الصفات يسمون من أثبتها مشبهاً، مع أننا نصرح بنفي التشبيه، فيقولون: إنكم إذا قلتم إن الله على العرش فأنتم مشبهة، إذا قلتم إن الله ينزل كما يشاء فأنتم مشبهة، إذا أثبتم أن الله له سمع وله بصر فأنتم مشبهة.

    وهذا خطأ من القول، كيف يصير أهل السنة مشبهة مع نفيهم للتشبيه؟! لكن أولئك النفاة يظنون أن مجرد الإثبات تشبيه، يقولون: مجرد إثبات فعل يوجد للخالق وللمخلوق تشبيه، إذا قلت: إن الخالق يسمع والمخلوق يسمع فقد شبهت، وليس كذلك، بل هناك فرق بين السمعين.

    ويقولون: إذا قلت: إن لله يداً وللمخلوق يداً فقد شبهت، نقول: كلا ليس كذلك، بل هناك فرق بين اليدين، فكل له صفة تناسبه، وإلا فإنكم يا معتزلة إذا قلتم: إن للخالق ذاتاً، تصيرون مشبهين حسب عقيدتكم، وكذلك إذا قلتم: إن الخالق موجود والمخلوق موجود فكيف ترموننا بالتشبيه مع نفينا للتشبيه؟

    هناك فرقة يقال لهم: الباطنية وغلاة القرامطة، هؤلاء ينفون الأسماء والصفات كلها، لا يثبتون لله أسماءً ولا صفات، فمن أثبتها عندهم يسمى مشبهاً.

    وهناك فرقة يثبتون الأسماء وينفون الصفات ولا يجعلون لله صفات تؤخذ من تلك الأفعال، فيقولون: سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، عليم بلا علم، قدير بلا قدرة، تعالى الله عن قولهم. فيسمون من أثبت أن الله يسمع ويبصر مشبهاً، مع أن الذين يثبتونها يقولون: لا تشبه صفات المخلوق.

    وهناك من المعتزلة من ينفي الصفات فينفون القدرة والعلم والكلام وما أشبهها، وينفون أن الله تعالى يرى، ويزعمون أن من أثبت شيئاً من ذلك فإنه مشبه.

    ومنهم من المفسرين الزمخشري صاحب الكشاف -التفسير المطبوع- فإنه معتزلي ممن يقول بخلق القرآن، وممن يقول بأن الله لا يُرى في الآخرة، ولما كان أهل السنة يقولون: إن الله تعالى يرى بلا كيف، أو أنه ينزل بلا كيف، أو استوى على العرش بلا كيف، لم يوافقهم على ذلك وادعى أنهم مشبهة لهذا الفعل، وفي ذلك بيته المشهور الذي يقول فيه:

    قد شبهوه بخلقه فتخوفوا شنع الورى فتستروا بالبلكفة

    يعني تستروا بقولهم: بلا كيف وإلا فقد شبهوه، تعالى الله عن قوله.

    وأما عبد الجبار فهو من المعتزلة المتقدمين، وبلا شك أن مثل هؤلاء لا يلتفت إليهم، ولو انتشرت مع الأسف كتبهم ولو حققت ولو قدست ولو وزعت وبيعت في المكتبات الكبيرة والصغيرة فلا يغتر بها، فمثلاً الكتاب الكبير المسمى بالمغني، لهذا القاضي، الذي هو أكبر مؤلف للمعتزلة، مطبوع في نحو أربعة عشر مجلداً ومحقق ومعتنىً به، وهو مع ذلك يصب في هذا المذهب الباطل، وله كتاب مطبوع في مجلدين أيضاً اسمه: متشابه القرآن تتبع فيه آيات الصفات وحرفها وصرفها عن ظاهرها، وزعم أنه بذلك أجاب عما هو متشابه، وهو في الحقيقة خلط في هذا الكتاب، فلا يغتر بكتبه، وله كتاب في أصول المعتزلة وهو شرح الأصول الخمسة، وأشباه ذلك من كتبهم الموجودة المطبوعة، فلا يغتر بهم، وفي كتب أهل السنة غنية وكفاية.

    1.   

    نفي التشبيه غير مستلزم لنفي الصفات وإثبات الصفات غير مستلزم للتشبيه

    قال المؤلف رحمه الله: [ولكن المشهور من استعمال هذا اللفظ عند علماء السنة المشهورين، أنهم لا يريدون بنفي التشبيه نفي الصفات، ولا يصفون به كل من أثبت الصفات، بل مرادهم أنه لا يشبه المخلوق في أسمائه وصفاته وأفعاله، كما تقدم من كلام أبي حنيفة رحمه الله: أنه تعالى يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا، وهذا معنى قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فنفى المثل وأثبت الوصف.

    وسيأتي في كلام الشيخ إثبات الصفات، تنبيهاً على أنه ليس نفي التشبيه مستلزماً لنفي الصفات.

    ومما يوضح هذا: أن العلم الإلهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيلي يستوي فيه الأصل والفرع، ولا بقياس شمولي يستوي أفراده، فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء، فلا يجوز أن يمثل بغيره، ولا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قضية كلية يستوي أفرادها، ولهذا لما سلكت طوائف من المتفلسفة والمتكلمة مثل هذه الأقيسة في المطالب الإلهية، لم يصلوا بها إلى اليقين، بل تناقضت أدلتهم، وغلب عليهم بَعد التناهي الحيرة والاضطراب؛ لما يرونه من فساد أدلتهم أو تكافئها.

    ولكن يستعمل في ذلك قياس الأولى، سواء كان تمثيلاً أو شمولاً، كما قال تعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى [النحل:60]، مثل أن يعلم أن كل كمال ثبت للممكن أو للمحدث، لا نقص فيه بوجه من الوجوه، -وهو ما كان كمالاً للوجود غير مستلزم للعدم بوجه- فالواجب القديم أولى به.

    وكل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه ثبت نوعه للمخلوق المربوب المدبر، فإنما استفاده من خالقه وربه ومدبره، وهو أحق به منه، وأن كل نقص وعيب في نفسه، وهو ما تضمن سلب هذا الكمال، إذا وجب نفيه عن شيء من أنواع المخلوقات، والممكنات والمحدثات فإنه يجب نفيه عن الرب تعالى بطريق الأولى.

    ومن أعجب العجب أن من غلاة نفاة الصفات الذين يستدلون بهذه الآية الكريمة على نفي الصفات والأسماء، ويقولون: واجب الوجود لا يكون كذا، ولا يكون كذا، ثم يقولون: أصل الفلسفة هي التشبه بالإله على قدر الطاقة، ويجعلون هذا غاية الحكمة ونهاية الكمال الإنساني، ويوافقهم على ذلك بعض من يطلق هذه العبارة، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تخلقوا بأخلاق الله)، فإذا كانوا ينفون الصفات، فبأي شيء يتخلق العبد على زعمهم؟! وكما أنه لا يشبه شيئاً من مخلوقاته تعالى، لا يشبهه شيء من مخلوقاته، لكن المخالف في هذا النصارى والحلولية والاتحادية لعنهم الله تعالى.

    ونفي مشابهة شيء من مخلوقاته له، مستلزم لنفي مشابهته لشيء من مخلوقاته، فلذلك اكتفى الشيخ رحمه الله بقوله: (ولا يشبهه الأنام) والأنام: الناس، وقيل: الخلق كلهم، وقيل: كل ذي روح، وقيل: الثقلان، وظاهر قوله تعالى: وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ [الرحمن:10]، يشهد للأول أكثر من الباقي. والله أعلم].

    يعني: أن مؤلف المتن ممن يقول بإثبات الصفات، ومن المعلوم أن من أثبت الصفة فإنه لا يقول بنفيها، مع كونه يصرح بنفي التشبيه، فـالطحاوي الذي هو صاحب المتن يثبت صفات الأفعال كالكلام والعلم والقدرة وما أشبهها، وإذا كان يثبتها فقد صرح هنا بأنه ينفي مشابهة الخالق للمخلوق، وبذلك يعلم أنه لا تناقض بين إثبات الصفات ونفي التشبيه، فنحن أهل السنة نثبت أن الله تعالى موصوف بصفات الكمال، وأن مرجعها إلى خبره عن نفسه وخبر رسله عنه، ونعتقد مع ذلك أنها تختص به ولا تشبه غيرها، كما أن صفات المخلوق تختص به ولا تشبه صفات الخالق.

    ويعتقد المسلمون أيضاً أن الله تعالى موصوف بكل كمال، كما في قوله تعالى: وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى [الروم:27]، وهذا يسمونه قياس الأولى، وقياس الأولى: هو أن كل كمال ثبت للمخلوق فالخالق أولى به؛ وذلك لأن المخلوق لم يكتسبه إلا من الخالق سبحانه، فصفات الكمال التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه، كيف توجد في المخلوق ويخلو عنها الخالق؟! تعالى الله، هذا هو قياس الأولى.

    وأما قياس التمثيل وقياس الشمول الذي يستعمله القياسيون من أهل الكلام فلا يجوز استعماله، فلا يجوز مثلاً أن يقال: كل موصوف فإنه حادث، فصفات الخالق لا يقال: إنها حادثة، فهذا خطأ، بل الخالق بصفاته ليس بحادث، بل هو الأول بصفاته سواء كانت فعلية أو قولية أو ذاتيه.

    وسيأتي أن الطحاوي يصف الرب سبحانه وتعالى حيث يقول: (ليس منذ خلق الخلق استفاد اسم الخالق)، أي: ولا بعد رزقهم استفاد اسم الرازق، والمعنى أنه موصوف بأنه الخالق قبل أن ينشئ الخلق، وموصوف بأنه الرازق قبل أن يوجد الخلق الذين يرزقهم، وهكذا أيضاً الصفات التي لها أثر في العباد نحو (التواب) هو موصوف بأنه التواب وإن لم يكن هناك من يتوب عليهم، وموصوف بأنه الرحمن قبل أن يوجد من يرحمهم.. وهكذا.

    صفات الله تعالى أولية أزلية ليست مسبوقة بعدم، وليست كصفات أي مخلوق، وكل كمال في المخلوق فإنما اكتسبه واستفاده من الخالق، فالله تعالى هو الذي أعطاه وهو الذي أيده وهو الذي سدده، وبالجملة لا يفهم كما تقول المتكلمة: إن إثبات الصفات تشبيه، بل يجتمع أن المسلم يصف الله بصفات الكمال ومع ذلك لا يكون مشبهاً، ولأجل ذلك جمع الله الرد على الطائفتين في قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] فإن قوله: (ليس كمثله شيء) رد على المشبهة، وقوله: (وهو السميع البصير) رد على المعطلة.

    فالمشبهة هم الذين غلوا وأثبتوا الصفات حتى جعلوها كصفات المخلوق، والمعطلة هم الذين غلوا في النفي حتى عطلوا الخالق عن صفاته، وهاتان الطائفتان قد كفرهم كثير من العلماء، ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله:

    لسنا نشبه ربنا بصفاتنا إن المشبه عابد الأوثان

    كلا ولا نخليه من أوصافه إن المعطل عابد البهتان

    يقول بعض السلف: المشبه يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً، والموحد المثبت يعبد إلهاً واحداً فرداً صمداً، وهذا معنى قول بعض السلف: أن من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه تشبيه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756271419