إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [6]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الكون مليء بالآيات الدالة على وحدانية الله، وبينات الرسل وأحوالهم شواهد صدق على أن الله أرسلهم، وأسماء الله وصفاته من ألطف الأدلة على وحدانيته وصدق رسله.

    1.   

    فضل العلم وشرفه

    العلم في الأصل أفضل من الجهل، وكل يحب الانتماء والانتساب إلى العلم، ويهرب ويربأ بنفسه أن ينسب إلى الجهل، والعلوم تتفاوت في الأهمية، فأهم العلوم هو العلم الذي يفقه به العبد دينه، فيعرف كيف يعبد ربه؛ بل يعرف ربه ويعرف دينه، فهذا هو أشرف وأفضل العلوم.

    وطريق تعلمه وتحصيله سهل ويسير على من يسره الله عليه، وذلك لأن الله سبحانه لما أقام الحجة على عباده ببعثة الرسل وإنزال الكتب، تكفل بحفظ ذلك حتى لا يكون للمتأخر حجة كما لم تكن للمتقدم.

    فيسر الله حفظ ذلك العلم الذي هو ميراث الأنبياء، حتى وصل إلى المتأخرين كما هو عند المتقدمين، ولكن حيث كان هناك أعداء لهذا الدين ولهذا العلم، فإن أولئك الأعداء قد حرصوا على أن يشوهوا سمعة هذا العلم الصحيح، وأن يلبسوا على أهله، وأن يرموهم بالعيوب، ولكن الله سبحانه حفظ شريعته وقيض لأولئك من يدفع شبههم، ويبين ضلالهم وخطأهم، فقيض الله أهل السنة الذين ساروا على نهج الرسل، وساروا على نهج الصحابة، وعرفوا -حتى عند الأعداء- بأنهم السائرون على طريقة السلف، أو بأنهم المتمسكون بالسنة، والفضل ما شهدت به الأعداء.

    ولا شك أن من جملة العلوم التي حصل فيها شيء من الاشتباه والاختلاف هو علم العقيدة، الذي هو موضوعنا في هذه الدروس، ونأمل -إن شاء الله- أن قد فقهنا في أصل هذا العلم الذي هو علم الاعتقاد.

    وبلا شك أن أصله معرفة الله تعالى المعرفة التي ينتج منها عبادته، وأن يترك ويعرض عن عبادة ما سواه، فإذا عرف الإنسان أهمية هذا العلم استطاع بعد ذلك أن يعرف مفرداته، وتفاصيله، حيث إنها موجودة ميسرة في متناول الأيدي، وقد يسر الله لها من اعتنى بها، فما على المسلم الذي يريد العلم الصحيح إلا أن يتناولها بالتعلم والتفقه ليعبد ربه على بصيرة.

    1.   

    دلالة النظر والتفكر على وحدانية الله

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما آياته العيانية الخلقية: فالنظر فيها والاستدلال بها يدل على ما تدل عليه آياته القولية السمعية، والعقل يجمع بين هذه وهذه فيجزم بصحة ما جاءت به الرسل، فتتفق شهادة السمع والبصر والعقل والفطرة].

    قد عرفنا أن أهم العلوم معرفة الله، ثم عبادته، ولكونها أهم من غيرها جاءت الشريعة ببيانها، فبينها الله عن طريق السمع وعن طريق البصر وعن طريق العقل.

    فأما البيان السمعي فهو ما بلغه الرسل من كلام الله، ومن كلام الأنبياء الذين بينوه، فإن بيان هذه العقيدة يأخذه الناس عن طريق السمع، وتسمى الآيات السمعية، فالقرآن والأحاديث أدلة سمعية منقولة عن عالم بعد عالم، إلى أن تنتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو إلى الأنبياء قبله.

    أما الأدلة النظرية فهي الآيات التي ترى بالعين ويقال لها المخلوقات؛ وذلك لأن النظر فيها يكسب الناظر عبرة وعظة، ويكسب الناظر معرفة وبصيرة، ولأجل ذلك كثيراً ما يرشد الله العباد إلى النظر في الآيات والبراهين، كقوله تعالى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ق:6] وكقوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [يوسف:109]، وأشباه ذلك من الآيات كثيرة.

    النظر في هذه المخلوقات هو الدليل النظري والبصري، وكلما كان العاقل فاهماً ذكياً كان نظره أتم، وأما إذا نقصت العقلية فإن النظر يكون أنقص؛ وذلك لأن مجرد النظر بالعين لا يفيد، حتى يكون نظراً في القلب، فالعين توصل إلى القلب، فإذا لم يكن هناك قلب واع حي لم ينفع النظر بالعين.

    وقد يكون هناك من هو ضرير لا يبصر ولكن يعتبر بما يحسه، فيكون نظره بقلبه أقوى من نظر المبصرين، ويكون من المبصرين من يشاهد هذه الآيات والعجائب، ولكن قلوبهم في غي، وفي غفلة، وفي أغشية وفي أكنة.. قلوبهم غلف مقفل عليها والعياذ بالله، ولذلك قال تعالى: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46]

    والحاصل أن الله سبحانه بين هذه الآيات والبراهين بياناً واضحاً عن طريق السمع للآيات السمعية، وعن طريق النظر للآيات البصرية ومن رزقه الله حياة قلب انتفع بما يسمع وبما يرى، ومن فقد ذلك فالعمى خير له.

    1.   

    من رحمة الله وإحسانه إقامة الحجج والبينات على صدقه وصدق رسله

    قال المؤلف رحمه الله: [فهو سبحانه لكمال عدله ورحمته وإحسانه وحكمته ومحبته للعذر وإقامة الحجة، لم يبعث نبياً إلا ومعه آية تدل على صدقه فيما أخبر به، قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25]

    وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ [النحل:43-44] وقال تعالى: قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ [آل عمران:183] وقال تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ [آل عمران:184] وقال تعالى: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ [الشورى:17] حتى إن من أخفى آيات الرسل آيات هود، حتى قال له قومه: يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ [هود:53]، ومع هذا فبينته من أوضح البينات لمن وفقه الله لتدبرها، وقد أشار إليها بقوله: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:54-56].

    فهذا من أعظم الآيات: أن رجلاً واحداً يخاطب أمة عظيمة بهذا الخطاب، غير جزع ولا فزع ولا خوار، بل هو واثق بما قاله، جازم به، فأشهد الله أولاً على براءته من دينهم وما هم عليه إشهاد واثق به معتمد عليه، معلنٍ لقومه أنه وليه وناصره وغيرُ مسلِّط لهم عليه، ثم أشهدهم إشهاد مجاهر لهم بالمخالفة أنه بريء من دينهم وآلهتهم التي يوالون عليها ويعادون عليها، ويبذلون دماءهم وأموالهم في نصرتهم لها.

    ثم أكد ذلك عليهم بالاستهانة لهم واحتقارهم وازدرائهم، ولو يجتمعون كلهم على كيده وشفاء غيظهم منه، ثم يعاجلونه ولا يمهلونه، لم يقدروا على ذلك إلا ما كتبه الله عليه، ثم قرر دعوتهم أحسن تقرير، وبين أن ربه تعالى وربهم الذي نواصيهم بيده هو وليه ووكيله القائم بنصره وتأييده، وأنه على صراط مستقيم، فلا يخذل من توكل عليه وأقر به، ولا يشمت به أعداءه.

    فأي آية وبرهان أحسن من آيات الأنبياء عليهم السلام وبراهينهم وأدلتهم؟! وهي شهادة من الله سبحانه لهم بينها لعباده غاية البيان].

    معجزات كل نبي تناسب أهل زمانه

    قطع الله المعذرة ببينات الرسل، قال تعالى: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النساء:164] إلى قوله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] أي: أرسلنا أولئك الرسل لتنقطع الحجة وينقطع العذر، لئلا يقولوا: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ [المائدة:19]، كما حكى الله ذلك عنهم وقال تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ [القصص:48] فالله سبحانه أرسل الرسل، وجعل معهم بينات ترجح جانبهم، وجعل لهم معجزات يظهر بها صدقهم.

    كل نبي فمعجزاته تناسبه وتعجز أهل زمنه، ومنهم من أخبرنا الله بمعجزاته، كما أخبر عن صالح أن من معجزاته تلك الناقة التي قال لهم عنها: لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء:155].

    وعن معجزات موسى أنها تسع آيات، منها: اليد، والعصا، وفلق البحر، والطوفان، والقمل، والضفادع، والدم، وما أشبهها من الآيات المعجزة لأهل زمانه.

    وعن معجزات عيسى: أنه يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، ويخبرهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم.

    وعن معجزات داود، منها قوله: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [ص:18-19].

    ومعجزات سليمان: في قوله: فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ [ص:36-38].

    وكذلك معجزات نبينا ودلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، ومنها هذا القرآن الذي تحدى به فصحاء العرب في زمانه فعجزوا عن معارضته، ومنها ما أجرى الله على يديه من الآيات التي منها إخباره بالأمور المغيبة، ومنها نصره وتأييده على أعدائه، ونحو ذلك من المعجزات.

    ولا شك أن هذه المعجزات يراد منها ظهور صدق أولئك الرسل، وذلك أن الله تعالى يحب أن يقطع العذر عن العاصي والمفرط، ويحب العذر إلى العباد، ولذلك ورد في حديث: (لا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل)، وقال في الحكمة من إرسالهم: عُذْرًا أَوْ نُذْرًا [المرسلات:6] يعني إعذاراً وإنذارا، فهذا دليل على أنه سبحانه قطع الحجة على الناس بقوله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165].

    ومن تأمل آيات الرسل عرف صدقهم، ولكن إنما صد عنهم من أعمى الله بصيرته، ولأجل ذلك عاقب الله من كذبهم بأنواع من العقوبات، فأهلك قوم نوح بالغرق، ثم عاداً وهم قوم هود، فأرسل الله عليهم الريح، وقوم صالح وهم ثمود عاقبهم الله بالصيحة، وأشباه ذلك.

    عظم معجزة هود مع أنها أخفى معجزات الأنبياء

    ذكر الشارح أن قوم هود كأنهم أنكروا رسالته لما لم يأتهم بآية ومعجزة بينة، ولكن قرر الشارح آية هود ومعجزته التي أخذت من هذه الآيات في سورة هود، وهي قول الله تعالى حكاية عنهم: مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ [هود:53] يعني بآية معجزة، ثم ظنوا أنه إنما به جنون! فقالوا: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ [هود:54] يعني: أن آلهتنا تسلطت عليك فأصبتك بجنون.

    ولكنه رد عليهم هذا الرد المتزن الذي يدل على ثباته، فقرر أنه لا يخافهم ولو حصل اجتماعهم كلهم، حيث قال: فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:55-56] وتقدم تفصيل الشارح وتفسيره لهذا، وأخذه من كونه فرداً يتحدى أمة من أقوى الأمم حتى إنهم قالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت:15] وقد وصفهم الله بالجبروت في قوله: وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشعراء:130].

    فهذا شخص واحد يتحداهم ويقول لهم: ائتوا بكل كيد، ائتوا بكل حيلة إن كنتم تستطيعون! ولكنكم لا تستطيعون؛ لأني معتمد على الله، متوكل على الله ربي وربكم، والذي يأخذ بنواصي جميع الدواب، فكل الدواب مسخرة مذللة بأمره، فهذا ونحوه دليل على أن الله قوى قلبه وثبته وذلك أعظم من بقية المعجزات.

    وبلا شك أن الله أيده بمعجزات أخرى لا ندري ما هي، لكن بهذا تقوم الحجة على العباد.

    إذاً: ما بقي لأحد على الله تعالى حجة بعد الرسل.

    تصديق الله لعباده وأنبيائه حجة على من خالفهم

    قال رحمه الله: [ومن أسمائه تعالى (المؤمن) وهو في أحد التفسيرين: المصدق الذي يصدق الصادقين بما يقيم لهم من شواهد صدقهم، فإنه لا بد أن يري العباد من الآيات الأفقية والنفسية ما يبين لهم أن الوحي الذي بلغه رسله حق، قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53] أي: القرآن، فإنه هو المتقدم في قوله قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [فصلت:52] ثم قال: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت:53]

    فشهد سبحانه لرسوله بقوله إن ما جاء به حق، ووعد أنه يري العباد من آياته الفعلية الخلقية ما يشهد بذلك أيضا، ثم ذكر ما هو أعظم من ذلك كله وأجل، وهو شهادته سبحانه بأنه على كل شيء شهيد، فإن من أسمائه الشهيد الذي لا يغيب عنه شيء ولا يعزب عنه، بل هو مطلع على كل شيء مشاهد له، عليم بتفاصيله.

    وهذا استدلال بأسمائه وصفاته، والأول استدلال بقوله وكلماته، واستدلاله بالآيات الأفقية والنفسية استدلال بأفعاله ومخلوقاته].

    كل هذا تفصيل لبيان أنه سبحانه أقام الحجة وقطع المعذرة.

    وقوله: (ومن أسمائه المؤمن) قال تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر:23]، فهو الذي يصدق عباده، أي: رسله وعباده المؤمنين، فيصدق الرسل بما يظهر على أيديهم من المعجزات والبراهين، ويصدق المؤمنين بما يذكرهم به ويؤيدهم عند خصوماتهم للأعداء، أو عند قتالهم للكفار، فالنصر الذي يجريه على أيديهم هذا من التوفيق لهم، وكذلك الحجة التي يجريها على ألسنتهم من التوفيق لهم، يصدقهم حتى يعرف صدقهم، ويعرف ذلك من قصده الحق والصواب.

    وأما من زاغ عقله فإنه لا تغني عنه النذر: وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس:101].

    كذلك من أسمائه تعالى (الشهيد)، قال تعالى: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [سبأ:47]، والشهيد: الشاهد، والشاهد مأخوذ من المشاهدة، وذلك لأنه تعالى شاهد على عباده ومن جملتهم رسله، وشهادته على رسله سبحانه أنه شهد بصدق ما جاءوا به، وذلك بما أجرى على أيديهم من الآيات والبراهين، وبذلك كله يعرف أنه ما بقي لأحد حجة بعد الرسل وبعد الكتب، فما بقي إلا المعاندون الذين يخالفون الحق عناداً.

    1.   

    بيان صحة الاستدلال بأسماء الله وصفاته على صحة رسالة أنبيائه

    قال المؤلف رحمه الله: [فإن قلت: كيف يستدل بأسمائه وصفاته، فإن الاستدلال بذلك لا يعهد في الاصطلاح ؟

    فالجواب: أن الله تعالى قد أودع في الفطرة التي لم تتنجس بالجحود والتعطيل، ولا بالتشبيه والتمثيل، أنه سبحانه الكامل في أسمائه وصفاته، وأنه الموصوف بما وصف به نفسه ووصفه به رسله، وما خفي عن الخلق من كماله أعظم وأعظم مما عرفوه منه.

    ومن كماله المقدس شهادته على كل شيء واطلاعه عليه، بحيث لا يغيب عنه ذرة في السماوات ولا في الأرض باطناً وظاهراً، ومن هذا شأنه كيف يليق بالعباد أن يشركوا به، وأن يعبدوا غيره ويجعلوا معه إلهاً آخر؟! وكيف يليق بكماله أن يقر من يكذب عليه أعظم الكذب، ويخبر عنه بخلاف ما الأمر عليه، ثم ينصره على ذلك ويؤيده، ويعلي شأنه، ويجيب دعوته، ويهلك عدوه، ويظهر على دينه من الآيات والبراهين ما يعجز عن مثله قوى البشر، وهو مع ذلك كاذب عليه مفتر؟!

    ومعلوم أن شهادته سبحانه على كل شيء، وقدرته وحكمته وعزته، وكماله المقدس يأبى ذلك، ومن جوز ذلك فهو من أبعد الناس عن معرفته].

    تمكين الله لرسوله ونشر دينه وقهر أعدائه دليل على صحة الرسالة

    ذكر ابن القيم رحمه الله في بعض كتبه أنه لقي بعض النصارى الذين يكذبون برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: أنتم أيها النصارى! قد طعنتم في حكمة الله، وطعنتم في قدرته، وطعنتم في علمه واطلاعه! فاستغرب ذلك النصراني من هذا الكلام! فقال: إن تكذيبكم برسالة محمد صلى الله عليه وسلم طعن في الله، وذلك أننا وأنتم نشاهد أنه ادعى أنه نبي، وقامت على يديه هذه المعجزات وهذه الدلالات التي هي دلائل نبوة، فكيف يقيمها الله على يديه وهو كذاب؟! ثم نصره الله في مواطن كثيرة! فانتصر على الأعداء وهم كثيرون، والمسلمون قلة، فكيف ينصره على أولئك الأعداد وهو يكذب عليه ويقول عليه ما لم يقل؟!

    ثم مكن الله لدينه، وانتشر هذا الدين الذي هو في زعمكم دين باطل مكذوب! فهل يليق بحكمة الله أن يعلي هذا الدين وهو دين باطل، وأن يظهره وأن يمكن لأهله، وأن يسلطهم على الناس: يقتلون.. ويأسرون.. ويفتحون البلاد، ويدوخون العباد، وهم مع ذلك كذبة متبعون لنبي كذاب؟! لا شك أن هذا طعن في الله، فأنتم يا معشر النصارى قد طعنتم في ربكم من حيث لا تشعرون؛ حيث كذبتم هذا النبي الذي هو في زعمكم ليس بنبي.

    وطعنتم في حكمة الله، فإن الله حكيم يضع الأشياء في مواضعها، فكيف يليق بالله أن ينصره وأن يعلي سلطانه وأن يؤيده، وأن يظهر على يديه هذه المعجزات وهو يسمع كلامه الذي هو افتراء عليه وكذب! كيف ينصره ويمكن له في الأرض؟! وكيف يهدي قلوب الناس إلى اتباعه؟! وكيف يقبل بقلوبهم عليه؟! وكيف يظهر من صفاته ما يكون سبباً في تصديقه؟!

    ولا شك أن هذا شيء واقعي حقيقي، فإن الذين يكذبون برسالته عليه الصلاة والسلام، وهم يشاهدون أن دينه الحق قد انتشر وتمكن حتى غطى ثلثي المعمورة، وحتى دان به أكثر العباد، وشهدوا بحسنه وبملائمته، حتى الأعداء بمجرد ما يسمعون دعوته، ويعرفون شريعته وطريقته، تنطلق ألسنتهم بحسن ما جاء به، وتشهد بذلك عقولهم ويتبعونه دون تلكؤ ودون توقف، فإن هذا كله دليل على صحة هذا الدين، ودليل على قبول النفوس له، وأن الذين أنكروه إنما انتكست فطرهم ولم يعرفوا الحق مع قيام الأدلة الواضحة عليه.

    فعلى هذا يعتبر هذا التمكين من أكبر الآيات، وأكبر المعجزات التي تدل على صدق رسالته صلى الله عليه وسلم، حيث مكن الله له وحقق قول الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ [النور:55]، وصدق الله هذا الوعد، فمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وفتح لهم القلوب، وهيَّأ لهم الأسباب ويسر لهم العسير وظهر دين الله تعالى، وتحقق قول الله عز وجل: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33]

    وقوله تعالى: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [التوبة:32] ، وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ [الصف:8] فتمم الله نوره الذي هو هذه الشريعة، وأظهر هذا الدين على سائر الأديان، ولا شك أن ذلك من أكبر المعجزات.

    ولو لم يكن هناك من دلائل نبوته التي تدل على صدقه عليه الصلاة والسلام، وصحة ما جاء به إلا النصر والتمكين وفتح القلوب والبلاد له، وما أيده به من هذا التمكين حتى أقبلت قلوب الناس إليه، وكان أحدهم يصبح وهو عدو له، فإذا أسلم في أول النهار لم يأته الليل إلا والإسلام أحب إليه من الدنيا وما فيها؛ وذلك لما يشاهدونه في هذا الإسلام من سهولة ومحبة وصلاحية وانشراح صدر وفرح وانبساط، وقوة يقين، لا شك أن هذا من أكبر الآيات والمعجزات، ولو لم يكن هناك آيات أخرى لكان هذا كافياً لإثبات أن هذا الدين حق وأنه من عند الله سبحانه وتعالى، هذا ما قرره الشارح في هذا الموضع.

    عدم نزول العقوبة بمحمد صلى الله عليه وسلم دليل على صدقه وكذب أعدائه

    قال رحمه الله: [والقرآن مملوء من هذه الطريق وهي: طريق الخواص، يستدلون بالله على أفعاله وما يليق به أن يفعل ولا يفعله قال تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [الحاقة:44-47] وسيأتي لذلك زيادة بيان إن شاء الله تعالى.

    ويُستدل أيضا بأسمائه وصفاته على وحدانيته وعلى بطلان الشرك، كما في قوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الحشر:23] وأضعاف ذلك في القرآن، وهذه الطريق قليل سالكها لا يهتدي إليها إلا الخواص، وطريقة الجمهور الاستدلال بالآيات المشاهده؛ لأنها أسهل تناولا وأوسع، والله سبحانه يفضل بعض خلقه على بعض].

    قوله تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة:44-46] حق وصحيح، فإن كل من كذب على الله فإن الله ينتقم منه ولو بعد حين، فإن فرعون لما كذب وادعى الربوبية عاقبه الله مع كون مصر قد أطاعت له، حتى قال لهم: وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ولا يكاد يبين [الزخرف:51-52] يعني: موسى.

    فماذا كانت عاقبته؟ انتقم الله منه وأغرقه وهم ينظرون.

    كذلك الكذابون في زمن النبي عليه الصلاة والسلام لما ظنوا أن محمداً كاذب فقالوا: سوف ندعي مثلما ادعى، فتنبأ شخص يقال له: مسيلمة، فانخدع به بعض الجهلة من عشيرته، ولكن الله انتقم منه وسلط عليه المسلمين فقتل وضل أتباعه.

    وكذلك تنبأ آخر في اليمن، فما متّع إلا ثلاثة أشهر حتى انتقم الله منه وأهلكه، وهكذا كل من ظهر منه اعتداء، يعرف ذلك من قرأ التاريخ.

    فمن قرأ كتب التاريخ يجد أن هناك أناساً حاولوا التكبر والتجبر وحصل لهم شيء من الملك ومن القوة، فاستعملوا بطشهم وقوتهم، ثم أمهلوا مدة ولكن أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إن الله ليمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته وقرأ قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] ) فكون هذا الإسلام باقياً، ومستمراً يزيد ويظهر، كلما ضعف في جهة مكن الله له في جهة أخرى، وأهله يحبونه ويقبلون عليه، ويتمسكون به، ويؤثرونه ولو قتلوا وعذبوا، دليل على أنه من الله تعالى، وأن ما يقولونه ويعتقدونه هو الدين الحق.

    وكون الله جل وعلا يعجل العقوبة للكذابين والمفترين ويأخذهم وينتقم منهم، دليل على أن الله لا يؤيد الكذابين ولا يمكنهم، كيف يمكنهم وهم يفترون عليه؟! كيف يمكن لهم في الأرض وهم كذابون يقولون عليه ويضلون عباده؟! هذا لا يليق بحكمة الله تعالى، فإن من أسمائه الحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها.

    فيستدل المرء على صحة هذا الدين وهذه العقيدة وهذا التوحيد بآيات الله، وبمخلوقاته، وبأسمائه وبصفاته، يعني: بآثار تلك الأسماء، وآثار تلك الصفات، فإن من أسماء الله تعالى الحكيم، وهو الذي يضع الأشياء في مواضعها، ومن أسمائه تعالى العزيز، وهو الغالب لكل من خرج عن طاعته، ومن أسمائه أنه عزيز ذو انتقام، يعني: ينتقم ممن خالف أمره، ويأخذه أخذ عزيز مقتدر، كذلك من أسمائه العليم، وهو أنه لا يخفى عليه علم شيء في الأرض ولا في السماء.

    وهكذا يقال أيضاً في حكمته وفي خلقه وفي تدبيره وفيما قدره وقضاه في هذا الكون، لا شك أن هذا كله له آثار تدل على ما أعطاه الله تعالى لعباده من الفكر ومن العقل، الذي رزق ووفق به عباداً صالحين قبلوه وتقبلوه.

    1.   

    بطلان قول من قسم التوحيد إلى: توحيد عامة، وخاصة، وخاصة الخاصة

    قال رحمه الله: [فالقرآن العظيم قد اجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره، فإنه الدليل والمدلول عليه، والشاهد والمشهود له، قال تعالى لمن طلب آية تدل على صدق رسوله: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت:51] الآيات.

    وإذا عرف أن توحيد الإلهية هو التوحيد الذي أرسلت به الرسل وأنزلت به الكتب، كما تقدمت إليه الإشارة، فلا يلتفت إلى قول من قسم التوحيد إلى ثلاثة أنواع:

    وجعل هذا النوع: توحيد العامة.

    والنوع الثاني: توحيد الخاصة، وهو الذي يثبت بالحقائق.

    والنوع الثالث: توحيد قائم بالقدم، وهو توحيد خاصة الخاصة].

    يقول: إن القرآن الذي أنزله الله على قلب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيه الكفاية لمن اعتبر، فإن المشركين لما طلبوا آيات وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ [العنكبوت:50] قال الله: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ [العنكبوت:51] أي: هذا الكتاب كاف عن جميع الآيات، لما فيه من الأخبار عن المتقدمين وعن المتأخرين، فمن نظر فيه واعتبر اكتفى بذلك.

    والقرآن قد بين حقيقة التوحيد الذي أرسلت به الرسل غاية البيان، وهو توحيد العبادة.

    والذين حكى عنهم المؤلف أنهم جعلوا هذا النوع توحيد العامة! هؤلاء هم غلاة الصوفية، أو أهل الوحدة، وجعلوا وراءه توحيدين: توحيد الخاصة، وتوحيد خاصة الخاصة. وكل ذلك لا دليل عليه، وإنما الأصل أن التوحيد الذي هو حق الله على عباده هو التوحيد الأصلي الذي أمر الناس بأن يدينوا به ويتعلموه ويعبدوا الله تعالى بموجبه، وسيأتي بيان الأدلة على أنواع التوحيد، وعلى بقية أنواع العقيدة إن شاء الله تعالى.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755992759