إسلام ويب

شرح عمدة الأحكام [69]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من قواعد الشريعة حفظ الأموال لأصحابها، ولهذا حرمت الشريعة أخذ مال المسلم بغير حق، ومن أخذ مالاً بغير حق من حرز وقد بلغ النصاب فهو سارق تقطع يده، والسرقة لها أحكام بينها العلماء.

    1.   

    أحكام السرقة

    قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه:

    [باب حد السرقة:

    عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته -وفي لفظ: ثمنه- ثلاثة دراهم).

    وعن عائشة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً)].

    هذا الباب يتعلق بحد السرقة، والسرقة هي: أخذ المال من حرزه على وجه الاختفاء، ويُسمى الآخذ له لصاً، والمتلصص هو: الذي يسرق الأموال.

    أنواع أخذ المال بغير حق

    أخذ المال له عدة مسميات:

    الأول: الغصب، فالذي يغتصب المال ويأخذه بالقوة وبالغلبة وبالقهر يُسمى غاصباً، كأن يقول الإنسان: أعطني كذا من المال وإلا قتلتك، أو يقهره فيأخذ ما معه من نقود أو من أي مال، هذا هو الغاصب، وحده: التعزير، فإذا قُدر عليه فإنه يُعزر، فيرد المال الذي أخذه، ويُعاقب عقوبة تردعه وتردع أمثاله، سواء بجلد أو بحبس أو بتنكيل أو بأخذ مال أو نحو ذلك؛ حتى لا يجرأ أحد على أخذ المال بغير حق، وإذا تكرر ذلك منه جاز تعزيره ولو بأن يقتل، زجراً له ولأمثاله.

    الثاني: الاختطاف والنهب، وهو أن يهتبل الخاطف غفلة آخر فيختطف ما معه، فإذا كان إنسان عنده مال قد نشره في الأرض ليبيعه مثلاً، فجاء آخر إنسان واختطف منه شيئاً وهرب به، فمثل هذا يُسمى: مختطفاً ومنتهباً، وهذا النهب لا شك أنه ذنب كبير، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن)، ومتى قدر على هذا المنتهب فإنه يعاقب بما يرتدع به، فيرد المال الذي انتهبه ويُجلد أو يُحبس أو يُعزر أو يغرم مالاً، أو نحو ذلك.

    الثالث: المختلس، وهو الذي يهتبل غفلة الإنسان الذي عنده مال ويأخذه وهو لا يدري، كأن يدخل إلى دكان -مثلاً- فإذا رأى صاحبه قد صد أخذ منه ثوباً أو نعلاً أو قدحاً أو نقداً أو نحو ذلك بخفية ويخرج كأنه لم يأخذ شيئاً، ولم يتفطن له صاحب المال، فهذا يُسمى: مختلساً، فإذا عُرف أو اعترف أو شُهد عليه أو رآه من شهد عليه فلابد من عقوبته، بأن يعزر بما يرتدع به هو وأمثاله، ويرد المال الذي اختلسه.

    الرابع: السارق، وهو الذي تقطع يده، قال تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]، وذكر في سورة يوسف في قوله تعالى: قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [يوسف:75]، وكانت عقوبة أولاد يعقوب أنهم يسترقّون السارق، فإذا سرق السارق فإن المسروق منه يؤخذ رقيقاً يتصرف فيه كبقية المال.

    الحكمة في قطع يد السارق

    جاء الشرع بقطع يد السارق حفظاً للمال أي: لأجل المحافظة على أموال المسلمين شرع قطع يد من سرق، ومعلوم أن قطعها يشين صاحبها، فإذا قطعت يده فإنه يبقى مشلولاً، ويبقى معيباً ليس له إلا يد واحدة، ولذلك لما رفع بعض السراق إلى بعض الولاة وعزم على قطع يده أنشد يقول:

    يدي يا أمير المؤمنين أعيذها بعدلك أن تلقى عقاباً يشينها

    فلا خير في الدنيا ولا في حياتها إذا ما شمال فارقتها يمينها

    يمثل أنه إذا عاش بلا يمين فإن في عيشته وحياته تعب وبؤس، ولكن الله تعالى شرع العقوبة هذه حفظاً للأموال؛ وذلك لأنه إذا عرف أنه مقابل هذا المال القليل ستقطع يده الثمينة انزجر وارتدع، وخاف على يده، فترك السرقة ولم يتعد، فأمن الناس عند ذلك على أموالهم، فهذا هو السبب وإلا فإن من شرف اليد أن ديتها نصف دية الإنسان، فاليد الواحدة ديتها الآن خمسون ألفاً، ومع ذلك تقطع في ثلاثة دراهم أو نحوها، وما ذاك إلا أنها لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت وصغرت وذلت.

    ذكروا أن أبا العلاء المعري اعترض على الشرع فقال: كيف تقطع اليد بربع دينار، وديتها خمسمائة دينار من العسجد يعني: من الذهب؟! وأنشد قوله:

    يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار

    فردوا عليه وقالوا:

    عز الأمانة أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة الباري

    شروط قطع يد السارق

    ذكروا للقطع شروطاً لابد منها حتى يلزم القطع:

    الشرط الأول: تكليف ذلك السارق، والتكليف هو: أن يكون بالغاً عاقلاً ملتزماً، فإذا سرق الصبي فلا قطع عليه؛ لأنه لم يتكامل عقله الذي يزجره عن السرقة، وكذلك إذا سرق المجنون فلا قطع عليه، وأما إذا سرق من مال الحربي فإن المجاهد له أن يأخذ من مال المحاربين ما يقدر عليه، فلا يقطع إذا قدر عليه، وإذا كان السارق كافراً محارباً فإنه يقتل.

    الشرط الثاني: أن يكون المال محترماً، فإذا كان غير محترم أو لم يكن له قيمة فلا قطع عليه، فإذا سرق خمراً فلا قطع عليه؛ لأنه لا قيمة لها، ومثلها سائر المحرمات كالدخان والقات والنرجيل وما أشبهها مما لا قيمة لها في الشرع، فلا قطع على من سرقها.

    وكذلك لو سرق آلات الملاهي كالعود والطنبور والطبول وما أشبهها، وكذلك لو سرق ما يجب إتلافه كالصور والأفلام التي فيها صور خليعة، وكتب الزندقة والإلحاد، والمجلات التي فيها خلاعة ومجون، وفيها إلحاد وزندقة، فهذه إذا سرقت فلا قطع على من سرقها؛ لأنه لا قيمة لها شرعاً، ولو أنها مقرة وتباع.

    الشرط الثالث: بلوغ النصاب، فلابد أن يكون المسروق نصاباً، وقدر النصاب بأنه مقدار ربع دينار أو ثلاثة دراهم، والدينار هو: أربعة أسباع الجنية، وربعه معروف، فربع الدينار هو نصاب السرقة، ومن الدراهم الفضة ثلاثة دراهم، والدرهم: قطعة من الفضة صغيرة، فإذا بلغ المسروق نصاباً أو كانت قيمته نصاباً فإنه يقطع فيه السارق.

    والمجن الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم ثمنه ثلاثة دراهم، وثلاثة درهم هي ربع دينار؛ لأن صرف الدينار في ذلك الوقت كان اثني عشر درهماً.

    والمجن هو: الترس الذي يلبسه المقاتل فوق رأسه، يُسمى مجناً ويُسمى مغفراً ويُسمى ترساً؛ لأنه يستر الرأس، ويكون على الرأس وعلى الأذنين ونحوها، وهو من حديد، فله ثمن، وهذا الرجل الذي سرق هذا الترس أو هذا المجن قطع بهذه السرقة فدل على أن هذا نصاب.

    ومعلوم أن آلات الملاهي ليس لها قيمة في الشرع لا ربع دينار ولا ثلاثة دراهم؛ فلأجل ذلك لا قطع في سرقتها، ولا يغرمها من أتلفها. هكذا الحكم شرعاً.

    الشرط الرابع: الحرز، فالمسروق لابد أن يكون محرزاً، فإذا أخذه من الشوارع والطرق فلا يُسمى سارقاً، وكذلك إذا وجد الباب مفتوحاً فدخل وأخذ قدحاً أو ثوباً فلا يُسمى سارقاً، وهكذا لو دخل الدكان فأخذ إناءً أو أخذ نعلاً أو شيئاً من المال قيمته نصاب فلا قطع عليه، وما ذاك إلا أنه لا يُسمى سارقاً؛ لأنه لم يسرقه من حرز، ومعلوم أن الأبواب التي تغلق تحرز ما في داخل البيت، فإذا كسر الباب ودخل فهذا قد أخذ من الحرز.

    ومعلوم أن الأسوار حروز، فإذا صعد مع السور وقفز ودخل الدار فهذا قد هتك الحرز.

    ومعلوم مثلاً أن الصناديق الكبيرة حروز، فإذا كسر الصندوق وأخذ ما فيه فإنه قد أخذ من الحرز، فيعتبر قد انطبق عليه اسم السارق الذي أخذ من الحرز.

    وإذا وجد الغنم في زريبة ففتح الباب عليها وأخذ منها فقد أخذ من الحرز، وإذا وجدها مع الراعي فإن الراعي أيضاً هو الحرز، فإذا اهتبل غفلته وأخذ فإنه قد أخذها من الحرز.

    وإذا وجد مالاً محرزاً بما يحرز به عادة كحجرة أو دار مقفلة أو نحو ذلك، فهتك ذلك الحرز وأخذ فإنه يصدق عليه أنه قد أخذ من الحرز، فيجب قطعه.

    الشرط الخامس: انتفاء الشبهة: فإذا كان له شبهة في هذا المال فلا قطع عليه، فإذا ادعى أن هذا المال وقف على المساكين، وأنا من المساكين، وكان قوله صحيحاً فلا قطع عليه، وإذا سرق من مال غنيمة وهو من جملة الغانمين قبل أن يقسم فلا قطع عليه؛ وذلك لأن له شبهة، وكذلك لو كان ولده من جملة المقاتلين، وكما إذا سرق من مال له فيه حق كبيت المال، لأن له فيه حقاً، وهو من جملة المستحقين، أو سرق من وقفٍ على فئة هو منهم، كالوقف على الفقراء أو على المساكين أو على هؤلاء المسمين وهو من جملتهم، فلا قطع في مال له فيه شبهة، بل لابد أن تنتفي الشبهة.

    الشرط السادس: ثبوت السرقة، وتثبت بأحد أمرين: بالبينة، وبالاعتراف، فإذا أقر واعترف بأنه الذي سرق فإنه تقطع يده.

    وإذا أنكر وجحد، ولكن شهد عليه شاهدان فإنه تقطع يده، ولابد في الشاهدين من العدالة، والعدالة هي: أن يكون الشاهد ذكراً عدلاً موثوقاً مقبولاً خبره، فلا تُقبل شهادة عدو له مثلاً؛ لأنه يطعن فيه ويقول: هذا يحب الإضرار بي، وكذلك لا يشهد عليه فاسق غير مقبول الشهادة عند المسلمين وغير مقبول الشهادة عند الحاكم.

    موضع قطع اليد

    إذا ثبتت السرقة وتمت الشروط فإنها تقطع يده اليمنى، وتقطع من مفصل الكف، أي: يقتصر على قطع الكف من المفصل، ولا يؤخذ شيء من الذراع.

    وذكروا أيضاً أنها تعلق حتى ينتشر خبره، فقيل: تعلق في صدره مدة، وقيل: تعلق في خشبة أمام الناس حتى يشتهر أمره.

    وإذا قطعت فبعد القطع تحسم، والحسم هو: أن تغمس في زيت مغلي حار حتى تنسد مجاري العروق، لئلا يجري دمه فيموت، فهذا الحسم يوقف الدم.

    وإذا وجد في هذه الأزمنة علاج يوقف الدم غير الزيت المغلي استعمل لإيقاف الدم؛ لأن المطلوب قطع يده، وليس المطلوب إماتته؛ لأنه غالباً لو ترك فسال دمه ولم يتوقف لقضى على حياته، فإذا سال دمه إلى أن ينقضي فسيموت، بخلاف ما إذا حُسم فإنه يتوقف، هذا هو الأصل.

    ولاشك أن القطع خاص بالسرقة التي ثبتت فيها هذه الشروط وهذه الصفات، أما بقية الأشياء التي ذكرنا فإنه لا قطع فيها، وإنما فيها عقوبة تزجر عن أمثال هذا، ولا شك أن القطع حد شرعي؛ ولأجل ذلك شرع لأجل حفظ الأموال، فإن السارق إذا عرف أن يده ستقطع هانت عليه هذه الأموال التي سيتحصل عليها، ولكن الكثير من الناس لا ينتبهون لعاقبة الأمور، فيقدم وهو يعتقد أنه سيسلم، فيفتضح وتقطع يده، ثم قد لا ينتبه فتراه مرة أخرى يعود ويسرق، فبعد ما قطعت يده الأولى يسرق بيده الأخرى.

    حكم من سرق مرة أخرى بعد أن قطعت يده

    إذا سرق السارق للمرة الثانية فإنها تقطع قدمه، فتقطع نصف القدم، ويترك العرقوب وما يحاذي الساق من القدم حتى يطأ عليه.

    ولو قدر أنه سرق للمرة الثالثة فالصحيح أنه لا تقطع يده؛ لأنه إذا قطعت يده بقي حسيراً لا يستطيع أن يأكل ولا أن يتناول حاجة، وهو بحاجة إلى إحدى يديه ليأكل بها، ويتنظف ويستنجي ويتطهر بها، فإذا قطعت تحسر، فإذا سرق للمرة الثالثة فإنه إما إن يُعزر وإما أن يُحبس إلى أن يتوب، وما روي من قطع يده اليسرى وقطع رجله اليمنى إذا تكرر منه فهذا لعلة عقوبة خاصة بذلك الشخص.

    الحكمة من تشريع الحدود وإقامتها

    قطع يد السارق من حماية الشريعة الإسلامية لمصالح المسلمين، فإنهم بحاجة إلى من يحمي لهم مصالحهم، وهم بحاجة إلى من يحمي لهم أموالهم، فشرع القطع لحماية الأموال.

    وهم بحاجة إلى من يحمي لهم دماءهم؛ فشرع القصاص حماية للدماء.

    وهم بحاجة إلى من يحمي لهم أعراضهم وسمعتهم؛ فشرع الجلد الذي هو حد الفرية والقذف حماية للأعراض.

    وهم بحاجة إلى من يحمي لهم الأنساب؛ فشرع رجم الزاني أو جلده حماية للأنساب؛ لأن الزنا يسبب أن تختلط الأنساب هذا بهذا، فإذا زنى هذا بامرأة هذا وحملت صار ينفق على غير ولده، فينتسب إليه غير ولده، فحماية الأنساب أمر يهتم به المسلمون.

    كذلك أيضاً لحماية العقول شرع عقوبة تزجر من يتهاون بعقله، وهو حد الشرب؛ لأن الخمر تزيل العقل، فشرعت العقوبة التي تحفظ على المسلم عقله، بجلد من شرب حتى يتوب، وهذا ونحوه دليل على كمال هذه الشريعة.

    1.   

    شرح حديث: (أن قريشاً أهمهم شأن المخزومية التي سرقت ...)

    قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه:

    [وعن عائشة رضي الله عنها: (أن قريشاً أهمهم شأن المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه أسامة فقال: أتشفع في حد من حدود الله تعالى؟! ثم قام فاختطب فقال: إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)، وفي لفظ: (كانت امرأة تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها)].

    هذه قصة وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، امرأة من بني مخزوم سرقت وثبتت عليها السرقة.

    وبنو مخزوم قبيلة من أشراف قريش، ومن أكابر قريش ومشهوريهم، كانت لهم مكانة وشهرة وشرف في قومهم، ولما ثبتت السرقة على هذه المرأة تحتم أن يقام عليها الحد، وأن يطبق عليها الشرع، وأن تقطع يدها كما تقطع يد غيرها، ولكن أكابر قريش عظم عليهم ذلك، فأهمهم شأنها، وصعب عليهم أن تقطع يدها، حتى قالوا: نفديها يا رسول الله! ولو بعشرة آلاف دينار، نفديها ولو بعشرين، حتى وصلوا إلى أربعين ألف دينار، مع أن الدية في ذلك الوقت هي ألف دينار، ولكنهم قالوا: نفديها بأربعين ألفاً، أي: بأربعين دية؛ وذلك خوفاً عليهم من العار، ومن أن تكون هذه المرأة التي هي من أشرافهم عاراً عليهم.

    ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يغار على حدود الله وحرماته، ولما ثبتت سرقة هذه المرأة المخزومية، وثبت عليها إقامة الحد؛ عزم على قطع يدها مهما كانت؛ ولو كانت شريفة ولو كانت كبيرة ولو كانت من ذوي قوم لهم منزلة؛ فإن حدود الله يستوي فيها الشريف والضعيف، ويستوي فيها الصغير والكبير، ويستوي فيها الغني والفقير، كلهم على حد سواء؛ وذلك لأن الله تعالى سوى بينهم في عبادته، فكذلك في سائر حقوقه.

    فلما سمعوا بأنه قد عزم على إقامة الحد عليها، وقطع يدها؛ التمسوا من يشفع لهم في إعفائها وفي ترك قطع يدها وفي قبول الفدية التي هي أربعون ألفاً، فلم يجدوا إلا أسامة ، وعرفوا أنه حبّ النبي صلى الله عليه وسلم وابن حبه؛ لأنه كان مولاه صلى الله عليه وسلم، ولما ولاه مرة على جيش وكان صغيراً طعنوا في ولايته وإمارته، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن تطعنوا في ولايته أو في إمارته فقد طعنتم في ولاية أبيه من قبله، وايم الله! إنه لخليق للإمارة، وإنه لمن أحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده)، فشهد له بأنه يحبه، فصار يقال له: حب النبي، أي: محبوب النبي صلى الله عليه وسلم، يحبه لشهامته، ويحبه لفضله، ويحبه لتقواه، ويحبه لقرابته، ولكونه مولاه، وقد كان أبوه يُسمى زيد بن محمد ، ولكنه بعد ما نزل قول الله تعالى: ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ [الأحزاب:5] قال: أنا زيد بن حارثة .

    والحاصل: أنهم توسلوا بـأسامة وقالوا له: كلّمه لعله يعفو عنها، اشفع لها لعله يسقط هذا الحد، فلما كلمه غضب صلى الله عليه وسلم حيث إن قريشاً لشرفهم أرادوا ألا يقام هذا الحد عليهم، ويكون هذا إسقاطاً لحد من حدود الله، فغضب وقال: (أتشفع في حد من حدود الله؟!)، أتطلب تعطيل حد الله الذي أمر به وفرضه في قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا [المائدة:38]؟ فأمر الله بقطع يد السارق في هذه الآية، فلابد من تنفيذ أمر الله، وإلا فالوالي يكون معطلاً لحد من حدود الله، ولا شك أن إقامة حدود الله تعالى عمارة للأرض، كما ورد في حديث: (لحد يقام في الأرض خير من أن يمطروا أربعين صباحاً) أي: أنه إذا أقيم حد في بلد فإن البلد تأمن على وطنها وعلى أنفسها، وكذلك يأمنون من عقاب الله، ويأمنون من تسليط الله الأعداء عليهم أو تسليط اللصوص ونحوهم.

    إذاً: الحدود أمنة للبلاد؛ لذلك يتأكد إقامتها، ويحرم أن يتوسط أحد في تعطيلها، ولو كان الذي يحد شريفاً، أو أميراً أو وزيراً، أو قرشياً أو نسيباً، أو مهما كانت درجته؛ يسوى في الحدود بين الصغير والكبير، ولهذا ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن الشفاعة في الحدود، ويقول: (إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع) أي: إذا بلغت القاضي أو وصلت إلى الأمير فقد وجبت ووجب تنفيذها، ولا يجوز بعد ذلك الشفاعة فيها، ولا يجوز قبول شفاعة أحد أياً كان، سواء كان والداً أو كبيراً أو صغيراً، ويجب أن ترد شفاعة من شفع في إبطال هذه الحدود، وقد تُوعد بهذا الوعيد وهو اللعن: (لعن الله الشافع والمشفع)، وهذا وعيد شديد.

    إسقاط الحد والعفو عنه قبل بلوغه إلى السلطان

    يقول صلى الله عليه سلم: (تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب)، أي: متى وصلني وجب تنفيذه؛ وذلك لأنه عرف أنه ثبت عنده هذا الحد فلم يمكنه تعطيله، بل يتحتم إقامته، هكذا أخبر عليه الصلاة والسلام، أما قبل أن يرفع إليه فإن أهل الحقوق إذا تنازلوا وأسقطوا حقهم لم يلزمه شيء.

    ولهذا جاء أن صفوان بن أمية كان نائماً في المسجد، وقد توسد رداءه، فجاءه لص فأخذ الرداء من تحت رأسه، وجعل تحت رأسه لبنة، ولما أخذه شعر به صفوان فاستيقظ، ثم قبض عليه، والرداء يساوي نحو ثلاثين درهماً، أي: أقل من ثلاثة دنانير، فلما قبضه ذهب به حتى أوصله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر بقطع يده، فقال صفوان : إني قد عفوت عنه، فقال: (هلا قبل أن تأتيني به؟) أي: لماذا لم تسقط الحد عنه قبل أن تأتيني؟ ولماذا لم تعف عنه قبل أن ترفعه إلي؟ أما بعد أن رفعته إلي وعرفت أنا أنه سارق فلابد من قطع يده؛ وذلك لأنه اتصف بالسرقة، فهذا مثال في أنه يتعافى في الحدود قبل أن ترفع إلى السلطان.

    مثلاً: لو قبضت على سارق في بيتك أو قد خرج بالسرقة ووجدتها عنده، ثم عفوت عنه وطلبت منه أن يرد إليك مالك، أو سرق من جيبك أو من مخبئك نقوداً ثم قبضت عليه وعرفت أنه هو الذي سرق، واعترف بذلك، وعفوت عنه فيما بينك وبينه، ولم ترفع بأمره إلى الحاكم؛ فلا حرج عليك، أما إذا رفعت بأمره فلا يفيد أن تتنازل عنه بعد ذلك؛ لأن حق الله تعالى قد وجب، والسرقة هي حق لله؛ ولأنه حد من حدوده، وفيها حق للآدمي؛ لأنه اعتدى عليك.

    وأما القذف فإنه حق لآدمي فله أن يسقطه، وأما الزنا فإنه حق لله وذلك لما فيه من انتهاك الحرام، وحق للزوج، وحق للأولياء، ولكن ليس لهم أن يتسامحوا أو يتغاضوا عن مثل هذه الحقوق.

    إقامة الحدود لا يفرق فيها بين شريف ولا وضيع

    النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشفاعة في الحدود، وأمرهم أن يحرصوا على إقامة الحدود: على رجم الزاني أو جلده، ورجم القاذف، وجلد الشارب للخمر، وكذلك تعزيز المنتهب والمعتدي، أو جلد كل من أتى حداً فيه جلد، فمن زنى وهو غير محصن يجلد، أو قذف يجلد، أو نحو ذلك، ولابد من إقامتها إذا وصلت السلطان، ولا تجوز الشفاعة فيها ولا التعطيل، ولا تجوز الوساطة، ولا يجوز أن يصيروا وسطاء في إبطال حق لله وحد من حدود الله.

    ولهذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم بشدة على أسامة ، ثم قام وخطب وأخبر بأن الأمم الذين قبلنا أهلكهم الله وعاقبهم بأسباب، وكان من تلك الأسباب تعطيل حدود الله، تعطيل حد الزنا، وتعطيل حد السرقة، قال عليه الصلاة والسلام: (إنه إذا سرق فيهم الضعيف قطعوا يده، وإذا سرق فيهم الشريف تركوه) أي: إذا سرق فيهم الشريف تركوه لشرفه وخوفاً من منصبه، سواءً كان ذا منصب أو كان أميراً أو كان وزيراً، أو كان ابن أمير، أو ابن ذي شرف أو نحو ذلك، فلا يقتلونه إن قتل، ولا يقطعونه إن سرق، ولا يرجمونه إن زنى ونحو ذلك، وهذا لا شك أنه تعطيل لحدود الله، فأخبر صلى الله عليه وسلم بأن الله عاقبهم بسبب تساهلهم في هذه الحدود، وإقامتها على الضعفاء دون الأشراف ونحوهم، ثم أقسم صلى الله عليه وسلم فقال: (وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) وفاطمة ابنته عليه الصلاة والسلام هي سيدة نساء أهل الجنة، وابنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهي البتول، وأم الحسن والحسين ، وزوجة علي رضي الله عنه، ولا شك أن لها منزلتها، ومع ذلك -وحاشاها أن تسرق- ضرب مثالاً بها، إذ لم يكن عنده أغلى منها، ولا أقرب منها لكونها ابنته، فيقول: (لو سرقت لقطعت يدها).

    هذا هو العدل، وهذه هي المساواة والتسوية بين الناس، ألا يترك أحد لمنزلة ولا لشرف، وعدم التسوية هو الذي أهلك الأمم قبلنا.

    كذلك أيضاً إقامة الحد في الزنا، ذُكر في التاريخ أنه كان من شريعة اليهود رجم الزاني إذا كان محصناً، وأنه زنى رجل من أشرافهم، ولما زنى تركوا إقامة الحد عليه ورجمه لشرفه، ولشرف قومه، أي: لأنهم أهل ثروة وأهل منصب فلم يرجموه، ولما كان بعد أيام أو بعد أشهر زنى رجل من أطراف الناس ومن ضعفائهم، فعزموا على أن يرجموه، فحال دونه قومه، وقالوا: لا نتركه يرجم حتى ترجموا فلاناً الذي هو ذو شرف، فعند ذلك عزموا على إلغاء هذا الحد الذي هو الرجم وتبديله، فاتفقوا على أنه متى زنى لا يرجم، فكانوا يسودون وجهه، ويطوفون به على حمار، يطوفون بالزاني والزانية منكسين، أي: كل منهما ظهره إلى ظهر الآخر، ولا يجلدون ولا يرجمون، وقالوا: نجعل هذا حداً يستوي فيه الشريف والطريف.

    وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم زنى يهودي يهودية، فمُر عليه بهما محممين، فقال: (ما هذا؟ قالوا: قد زنيا، قال: ما تجدون في كتابكم؟ قالوا: الجلد والتحميم، وكان عبد الله بن سلام قد عرف ما في كتابهم، وكان من مرشدة اليهود، فقال: كذبتم؛ بل تجدون في كتابكم الرجم، فأمرهم أن يحضروا التوراة فأحضروها، ولما أحضروها قرأ اليهودي ما قبل آية الرجم وما بعدها، وسترها بيده، فقال عبد الله : ارفع يدك، فرفعها فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد! فيها الرجم، ولكنه كثر -أي: الزنا- في أشرافنا، فخفنا ألا نسوي بين الناس فتركنا الرجم وعدلنا إلى التحميم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أول من أحيا سنة قد أماتوها).

    وفي بعض الروايات أنه لما وقع فيهم الزنا وأرادوا أن يقيموا الحد على ذينك الزانيين قالوا: اسألوا محمداً، فإن أفتاكم بالرجم فلا تقبلوا منه، وإن أفتاكم بالجلد فاقبلوا منه، فنزل في ذلك قول الله تعالى: وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [المائدة:49]، وخيره قبل ذلك في قوله تعالى: فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ [المائدة:42-43].

    وبكل حال فالرجم والقطع من حدود الله تعالى التي أمر بأن تقام على من اقترف جرماً من هذه الجرائم، حتى تأمن البلاد، وحتى يأمن الناس على أنفسهم، وعلى أموالهم، وحتى يرتدعوا عن فعل هذه الجرائم التي هي محرمة.

    فإن كانت هذه الجرائم أقيمت مع توبة الفاعل وندمه فإن هذا الحد يمحو عنه أثر الذنب، وإن كان أقيم عليه كرهاً وهو لم يتب، فإنه يعاقب في الدنيا بهذا الحد، ويعاقب في الآخرة على ذلك الذنب.

    الخلاف في قطع جاحد العارية

    هذه المرأة المخزومية في أكثر الروايات أنها سرقت، وفي بعض الروايات أنها كانت تستعير المتاع فتجحده، وأنها جاءت إلى قوم وقالت: إن آل فلان أرسلوني لأستعير منكم حلياً ليتجملوا به في عرس لهم، ثم لما أعطوها ذلك الحلي ذهبت به وباعته، فسألوها وقالوا: نحن أعرناك، فقالت: ما أعرتموني، وجحدت ذلك، ثم وجد الحلي عند أولئك الذين اشتروه، فقالوا: نعم اشتريناه من فلانة أي: هذه المخزومية، وكان اسمها فاطمة، فاعترفت بعد ذلك أنها أخذته من أولئك وباعته، وأنه ليس لها، فلما ثبت عليها هذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها.

    فقيل: إنها ما قطعت إلا بسرقة سرقتها غير هذا المتاع أو غير هذه الحلي، وقيل: إنه سمُي الجحد للعارية سرقة؛ وذلك لأنه أخذ لمال بغير حق.

    وقد اختلف العلماء في قطع جاحد العارية، فذهب الإمام أحمد إلى أنه تقطع يد من جحد العارية إذا كانت تلك العارية نصاباً أو أكثر من النصاب لهذا الحديث؛ وذلك لأنه لا يمكن التحرز منه؛ فإن جحد العارية يحمل الناس على قطع الإحسان، وعلى قطع المعروف، فإن الإعارة من فعل الخير، فإذا كان الإنسان إذا أعار إنساناً قدراً أو أعاره مشلحاً يتجمل به أو أعاره متاعاً يتمتع به؛ أدى ذلك إلى أنه يجحده، وإذا جحده سلم من الإثم، وسلم من العقوبة، وسلم من إقامة الحد، حتى ولو وجدت عنده؛ فإذا كان هذا كذلك سيتتابع الناس في جحد هذه العواري، فعند ذلك يقل من يعير، وكل من عنده متاع يقول: لا أعيرك؛ أخشى أن تجحدني كما جحد فلان، وكما جحدني فلان، فينقطع الإحسان، وينقطع المعروف، بخلاف ما إذا أقيم الحد على جاحد العارية وقطعت يده فإن الناس يرتدعون فلا يقدم أحد على جحد العارية.

    هكذا ذهب الإمام أحمد إلى أنه يقطع جاحد العارية، وأما الأئمة الباقون فقالوا: لا يقطع جاحد العارية، وقالوا: إن هذه المخزومية ما قطعت إلا لأنها سرقت، ولم تقطع لجحد العارية، وقالوا: هي جمعت بين الأمرين: بين السرقة وبين جحد العارية، وقالوا: من شروط السرقة، أخذ المال خفية، وأخذه من حرز، وهو أن يكسر الأبواب -مثلاً- والصناديق، ويأتي على حين غفلة فيتسلق الحيطان ويأخذ المال المحرز المحفوظ، فهذا هو السارق حقاً، والذي يستعير لا يُسمى سارقاً، بل يُسمى مستعيراً، فإذا جحد يُسمى جاحداً، كجاحد الدين، وكما لا يقطع المنتهب ولا المختلس ولا الغاصب ونحوه فكذلك لا يقطع جاحد العارية.

    والمعمول به عندنا أنه يقطع جاحد العارية، وذلك لمشقة التحفظ عنه وعن أمثاله، وبكل حال فإن قطع يد السارق كما ذكرنا حد من حدود الله تعالى يقام حتى يأمن الناس على أموالهم، وحتى لا يعتدي أحد على مال أخيه بغير حق، والله أعلم.

    والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756554517