إسلام ويب

شرح عمدة الأحكام [63]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • شرع الله العدة لحق الزوج وبراءة الأرحام، وفي هذه العدد معان وحكم تختلف من عدة إلى أخرى، وهي من محاسن الشريعة في تنظيم المجتمع وحفظ الأنساب.

    1.   

    أنواع العدد

    قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب العدة.

    عن سبيعة الأسلمية : (أنها كانت تحت سعد بن خولة وهو من بني عامر بن لؤي، وكان ممن شهد بدراً، فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك -رجل من بني عبد الدار- فقال لها: ما لي أراك متجملة! لعلك تريدين النكاح؟ والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر. قالت سبيعة : فلما قال لي ذلك، جمعت عليّ ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزويج إن بدا لي)، قال ابن شهاب : ولا أرى بأساً أن تتزوج حين وضعت وإن كانت في دمها غير أنه لا يقربها زوجها حتى تطهر.

    وعن زينب بنت أم سلمة قالت: (توفي حميم لـأم حبيبة فدعت بصفرة فمسحت بذراعيها، وقالت: إنما أصنع هذا؛ لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاث إلا على زوج)، الحميم: القرابة].

    هذا الباب يتعلق بالعدة أي: عدة المطلقة أو المفارقة أو المتوفى عنها، وقد أخبر الله تعالى بأن المطلقة لها عدة قال تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228] والتربص هو الانتظار، أي: لا تتزوج حتى يمر بها ثلاثة قروء، وفسرت القروء بأنها الحيض أي: حتى تحيض ثلاث حيض، وفسرت أيضاً بأنها الأطهار، أي: حتى تطهر ثلاثة أطهار أي: طهر ثم حيضة ثم طهر ثان ثم طهر ثالث.

    المرأة التي يأتيها الحيض منتظماً أو التي لم تزل في سن تحيض فيه أمثالها، عدتها ثلاثة قروء. وإذا أراد أن يطلقها فقد تقدم أنه ينتظر حتى تطهر من حيضها ثم يطلقها بعدما تطهر قبل أن يجامعها؛ وذلك لقول الله تعالى: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [الطلاق:1] طلقوهن لعدتهن أي: في ابتداء العدة، وأحصوا العدة أي: احفظوا العدة حتى لا تزيدوا عليها في العدة ولا تظلموها.

    فهذا يبين أن المرأة المطلقة لها عدة لابد أن تتربصها، هذا إذا كانت ذات أقراء، أما إذا انقطع حيضها للكبر أو كانت لم تحض بعد كالصغيرة فبين الله عدتها في قوله تعالى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4]، فالكبيرة التي لا تحيض إذا طلقت تربصت ثلاثة أشهر، والصغيرة التي لم تحض إذا طلقت عدتها ثلاثة أشهر أيضاً.

    وذكر الله عدة الحامل في قوله تعالى: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4]، وذكر عدة المتوفى عنها في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]، فبين الآيتين عموم وخصوص، فقيل: إن آية سورة البقرة أعم، يعني: أن كل متوفى عنها لابد أن تمكث أربعة أشهر وعشراً بعد موت زوجها، فإن كانت حاملاً ووضعت حملها انتظرت بعد وضع الحمل حتى تتم أربعة أشهر وعشراً، وإن لم تكن حاملاً أتمتها. وهذا قول روي عن بعض السلف، قالوا: وإن أتمت الأربعة أشهر وحملها باقٍ فإنها تنتظر حتى تضع حملها ولو بقي بعد موت زوجها تسعة أشهر، فلا تنقضي عدتها حتى تضع؛ لقوله تعالى: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4].

    ولكن قصة سبيعة التي ذكرت في هذا الحديث تبين أن الحامل تنقضي عدتها ولو وضعت حملها قبل أن يوارى زوجها أو قبل أن يجهز؛ لعموم الآية: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4].

    وفي هذه القصة: أن سبيعة كانت تحت سعد بن خولة وهو من بني عامر من قريش، فمات عنها في حجة الوداع في السنة العاشرة، وكانت حاملاً، فوضعت حملها بعد موته بأيام قليلة، فلما وضعت حملها اعتقدت أنها قد حلّت، فلما انتهت من نفاسها أو تعلت من نفاسها تجملت للخطّاب.

    وفي هذا الحديث: أن أبا السنابل بن بعكك دخل عليها، وأخبرها بأنها لا تزال في العدة حتى تكمل الأربعة الأشهر والعشر؛ لأنه ما مضى على موت زوجها إلا أيام قليلة، فأنكرت ذلك وقالت: إن الله يقول: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4]، فكيف تبقى في العدة بعد أن وضعت الحمل؟

    فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، فأقرها على ما فهمت، وأجرى آية سورة الطلاق على عمومها، وأن كل حامل متى وضعت حملها انقضت به عدتها، سواء وضعته بعد ستة أشهر أو بعد ستة أيام، أو أقل أو أكثر، فلو وضعت حملها بعد موت زوجها بدقائق انقضت عدتها، ولو وضعت حملها بعد موته بتسعة أشهر؛ بأن مات وقد علقت منه لم تنقض عدتها إلا بعد أن تضعه، ولو تعدد الحمل بأن كان في بطنها اثنان أو أكثر، لم تنقض عدتها إلا بوضع آخر ما في بطنها؛ لعموم الآية: أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4].

    وإذا أرادت أن تتزوج بعد وضع الحمل فلها ذلك، ولو كانت في دمها، حتى ولو بعد وضع الحمل بدقائق، ولكن معلوم أنه لا يحل وطؤها للزوج الجديد إلا بعد أن تطهر من نفاسها، فهذه هي المتوفى عنها.

    أما إذا لم يكن بها حمل فإنها تمكث أربعة أشهر وعشرة أيام كما في الآية، وقد كان الجاهليون تمكث الزوجة بعد زوجها سنة كاملة، ونزل في ذلك آية هي قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ [البقرة:240] ثم نسخ الحول، واقتصر على أنها تمكث أربعة أشهر وعشرة أيام.

    الحكمة من العدة

    الحكمة في العدة ظاهرة، فالحامل لا تتزوج حتى تضع حملها؛ لأن هذا الحمل من الزوج السابق، ولا يجوز لها أن تتزوج فيطؤها الزوج الجديد فيختلط الماءان، وقد ورد النهي الشديد عن وطء الحبلى، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماءه ولد غيره) يعني: لا يطأ الحامل التي حملها من غيره؛ وذلك لأن الوطء يكون زيادة لهذا الحمل أو تنمية له، يزيد المني في سمعه أو في حواسه أو نحو ذلك، فلأجل ذلك سماه سقيا: (لا يسقي ماءه ولد غيره)، وفي رواية: (زرع غيره) ، حتى لا تختلط الأنساب؛ لأنها إذا تزوجت وهي حامل فربما تنسب الولد إلى الزوج الجديد، وتنكر أنه لزوجها القديم، فيحصل بذلك اختلاط الأنساب، وكون هذا الإنسان انتسب إلى غير أبيه، والأم تعرف أنه قد انعقد الحمل في رحمها، فلا يحل لها أن تتزوج وهي حامل، بل عليها أن تخبر بما في رحمها، قال تعالى: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:228]، فلا تكتم الحمل الذي في رحمها، ولا تكتم الحبل الذي في رحمها، بل تخبر بحقيقة الأمر، وهي مصدقة ومقبولة الكلام، والأمر يرجع إليها.

    أما تربص المطلقة فمعلوم أن الحكمة في ذلك الرفق بزوجها، فإذا طلقها ثلاثاً أو طلقها آخر ثلاث، أو طلقها واحدة أو اثنتين، فإنها لا تتزوج حتى تمكث ثلاث حيض، فإن كانت رجعية بأن كان الطلاق واحداً أو اثنتين أمكنه أن يراجعها في هذه المدة، قال الله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا [البقرة:228] أي: في ذلك الوقت والزمان الذي هو العدة، أي: أن الزوج إذا طلقها واحدة ومكثت ثلاثة قروء يمكن أن يستردها بأن يعيدها إلى عصمته، يقول الله تعالى: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق:1] فأمره أن يطلقها لعدتها، وأن يتركها في بيتها، وأن تبقى على حالتها معه لا تحتجب عنه، فإذا بدا له في هذه المدة مراجعتها، وتغيرت نيته وراجعها، رجعت إلى عصمته، وعادت الأمور إلى ما كانت عليه، ورجعت الزوجية وحسنت الحال، فقد يحصل تأسف من أحدهما بعد وقوع الطلاق، فإذا كان الطلاق رجعياً وكانت المدة طويلة ثلاثة أشهر أو ثلاث حيض كان في الإمكان أن يتراجعا، فجعلت هذه المدة فسحة للزوج حتى يراجع نفسه.

    وكذلك إذا كانت المطلقة تعتد بالأشهر كالآيسة والصغيرة، فإن عدتها ثلاثة أشهر، وفي هذه الثلاثة الأشهر أيضاً فسحة، ربما يتأسف فيعيدها، سيما إذا كانت طويلة الصحبة، وكانت أم أولاده، فإنه قد يندم بعد ذلك، وهي أيضاً قد تندم إذا حصل الطلاق بسبب من قبلها، بأن تكون هي التي طلبت الطلاق أو أساءت المعاملة أو شددت عليه الصحبة، أو في العشرة، ثم وقع الطلاق، وكان الطلاق واحدة أو اثنتين؛ فجعلت العدة لها حتى تراجع نفسها وحتى تنظر في أمرها، فربما تتأسف وتقول له: أريد الرجعة، وأحب أن تعيدني، وسوف أحسن العشرة، وأحسن الخلق، ولا أعود إلى طلب طلاق، ولا أعود إلى سباب، ولا إلى سوء معاملة، ولا إلى عصيان ونشوز ومخالفة.

    فعند ذلك يعيدها إلى ما كانت عليه، فعرف أن شرعية هذه العدة سببه الرفق بالزوج، والإحسان إليه.

    وأما المتوفى عنها إذا كانت حاملاً فمعلوم أن زوجها لا رجوع له عليها في الدنيا، بل قد بانت منه البينونة الكبرى التي هي الموت، فإذا مات فإنه لا جمع بينهما في الدنيا، فإذاً: تحل لغيره، ولكن بعدما تنقضي عدتها، فإن لم تكن حاملاً انتظرت أربعة أشهر مخافة أن يكون في بطنها حمل وهي لم تشعر به.

    والغالب أن الأربعة الأشهر يتقلب فيها الجنين إلى أن ينفخ فيه الروح، أربعة أشهر هي أربعون يوماً نطفة ثم علقة ثم مضغة، ثم بعد الأربعة الأشهر ينفخ فيه الروح فيتحرك، فإذا مضت الأربعة الأشهر جعلت العشرة الأيام احتياطاً حتى تعرف، فإن كان فيها حمل أحست به وبحركته، فإذا لم يكن فيها حمل تبين أنها حائل، وجعلت الأربعة الأشهر وعشرة الأيام لكل مطلقة حتى ولو كان يأتيها الحيض كل شهر، وتتحقق براءة رحمها، فجعلت العدة والاحداد لكل متوفى عنها سواءً كانت حائضاً أو آيسة أو في بطنها حمل لم يتبين، فإذا تبين براءة رحمها في الأربعة الأشهر والعشرة عند ذلك تمت عدتها.

    ومعلوم أنها في هذه المدة تستطيع أن تصبر عن الزواج أربعة أشهر، وقد تصبر أيضاً أكثر من ذلك، ولكن هذه المدة هي التي يخشى إذا طالت المدة فوقها أن يضر ذلك بها، فإن لها شهوة كما للرجال شهوة، فجعل الله هذه المدة لأنها مدة مستطاعة لكل من الزوجين، ولكل منهمـا مراجعة الآخر، والنظر في حاله في الطلاق الرجعي وفي غيره.

    أما المطلقة التي طلقت ثلاثاً فمعلوم أنه لا رجعة لزوجها عليها، ومع ذلك تعتد ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر، ولعل الحكمة في ذلك الاحتياط للنكاح حتى لا تكون مثلاً قد انتهت عدتها في شهر أو في نصف شهر فتستعجل النكاح، فجعل لها ثلاث حيض أو ثلاثة أشهر احتياطاً للحمل، واحتياطاً لحفظ الأرحام، ولتكون عدة المطلقة على نمط وباب واحد.

    واعلم أن باب العدد قد ذكرت أدلته في القرآن كما أشرنا إلى ذلك، فيعرف بذلك أنه من أهم المهمات، وأن أدلته واضحة في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    شرح حديث: (لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث...)

    قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:

    [وعن أم عطية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً، ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عصب، ولا تكتحل ولا تمس طيباً إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار) العصب: ثياب من اليمن فيها بياض وسواد.

    وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، مرتين أو ثلاثاً، ثم قال: إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول، فقالت زينب : كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشاً ولبست شر ثيابها، ولم تمس طيباً ولا شيئاً حتى تمر عليها سنة، ثم تؤتى بدابة حمار أو طير أو شاة فتفتض به، فقلما تفتض بشيء إلا مات، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها، ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره) الحفش: البيت الصغير. تفتض: تدلك به جسدها].

    معنى الإحداد

    هذه الأحاديث تابعة للعدة، ولكنها تختص بالإحداد، والإحداد يختص بالزوجة المتوفى عنها، ولا يحد غيرها من المتوفى عنهن، ولا يحد غير المتوفى عنها من سائر المطلقات، فإذا طلقها ثلاثاً فلا تحد، وإذا خالعها فلا إحداد عليها، سواءً كانت صغيرة أو كبيرة، ذات أقراء أو غيرها، إنما الإحداد على من مات عنها زوجها، فهذه هي التي تحد.

    والإحداد ترك الزينة، وقد كانت مدته في الجاهلية سنة كاملة، وجاء ذلك في أول الإسلام قال تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ [البقرة:240]، ففي هذه الآية أن المتاع وعدم الإخراج من المنزل كان في أول الأمر سنةً وافية، ثم بعد ذلك خففه الله وجعله أربعة أشهر وعشرة أيام في قوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]، وجاءت السنة بزيادة الإحداد، لأن القرآن جاء فيه التربص، أي: الانتظار، وهو انتظار المتوفى عنها أربعة أشهر وعشرة أيام، وعدم تزوجها حتى تمضي هذه المدة، والسنة جعلت عليها الإحداد في أربعة أشهر وعشر.

    والإحداد يختص بوفاة الزوج، فلا تحد المرأة على أبيها ولا على أخيها ولا على ولدها ولا على عمها أو خالها، ولا على أحد من أقاربها إلا على الزوج فإنها تحد عليه هذه المدة.

    الحكمة من الإحداد

    الحكمة في الإحداد: أنها تمتنع من الزواج؛ وذلك لأنه لو رخص لها في التجمل وفي التحلي ونحو ذلك، لأدى بها ذلك إلى أن تمتد أطماعها إلى الزواج، وتخبر بانقضاء العدة قبل انقضائها، وتنسى ما هي فيه أو نحو ذلك.

    وقيل: إن الحكمة في الإحداد معرفة المرأة حق زوجها في الحياة، إذا كان زوجها هو الذي تحد عليه وتترك بعد موته الزينة وتترك الجمال، فإنه يجب أن تعرف له حقه في الحياة، وأن تطيعه وأن تخدمه وتقوم بخدمته، وأن تعرف له الأقدمية والمكانة، وأن تعرف له حقه عليها فتطيعه ولا تتمنع من حق له عليها.

    ترك المحتدة لثياب الزينة والكحل والطيب

    والمحدة مدة إحدادها تمتنع من كل أسباب الزينة، فلا تلبس ثياب الزينة، ولا تلبس الثياب التي تتجمل بها أو تلبسها في الحفلات وعند الزيارات ونحوها.

    قوله في حديث أم عطية : (ولا تلبس ثوب عصب) ثياب العصب: ثياب تنسج في اليمن، فيها خطوط مستطيلة ومعترضة، وهذه الخطوط تزيدها جمالاً وتكون لافتة للنظر بلبسها، فلا جرم نهي عن لبس هذه الثياب، ويقاس عليها كل الثياب المخططة التي فيها خطوط إما مستطيلة وإما معترضة وإما بقع للزينة أو نحوها، فتؤمر بأن تلبس الثوب الذي ليس فيه إلا لون واحد سواد كله أو حمرة كله أو صفرة كله أو خضرة أو ما أشبه ذلك.

    ولا تلبس الثياب التي فيها شهرة بحيث يلتفت إليها من ينظر إليها، أو تلفت نظره بأنها متجملة وبأنها تريد الخطّاب أو نحو ذلك.

    كذلك أيضاً في الحديث الذي بعده أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن تلك المرأة التي مات زوجها، واشتكت عينيها هل تكتحل أم لا تكتحل؟ فقال: (لا تكتحل) مرتين أو ثلاث مرات؛ وذلك لأن الكحل عادة يجمل العينين، ويجمل الحدقتين والأهداب والأجفان، وقد تكحل أيضا حاجبيها فيزيدها جمالاً، فنهيت عن الاكتحال مع أنها قد تحتاج إليه، ولكن يقولون: لا تمتنع من علاج عينها، فإذا رمدت عالجت عينها بإثمد مثلاً أو بمرهم أو بقطرة من القطرات التي تعالج بها العين في الرمد أو ما أشبه ذلك، فهذا مما لا بأس به، وأما الكحل فإنه في الحقيقة يعتبر جمالاً وزينة، ورخص بعضهم فيه إذا احتاجت إليه للضرورة ولم يكن فيه زينة بأن تكحل بالليل وتمسحه في النهار؛ لأن النهار هو الذي يراها فيه الناس غالباً، فتقتصر على وقت الحاجة إذا اضطرت إلى الاكتحال ولم تجد غيره يقوم مقامه، هذا بالنسبة إلى الاكتحال.

    كذلك أيضاً تتجنب الطيب سواء كان له رائحة أو له لون، وسواء في بدنها أو في ثيابها، ولا شك أن الطيب يلفت الأنظار.

    وفي حديث أم حبيبة لما توفي أبوها أبو سفيان ، ومضى عليها ثلاثة أيام دعت بصفرة يعني: طيباً فيه صفرة كالكرمي ونحوه، ومسحت به ذراعيها وقالت: (والله! ما لي بالطيب من حاجة، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً).

    فتطيبت بعد موت أبيها بثلاثة أيام حتى لا يقال: إنها حادة على أبيها؛ لأن الإحداد لا يكون إلا على الزوج، وطيبها إنما هو بهذه الصفرة التي مسحت بها ذراعيها، فدل على أن الطيب الذي له لون ينافي الإحداد فلا تتطيب بهذا اللون، وبطريق الأولى الطيب الذي له رائحة عبقة، سواء يطيب به الثوب أو يطيب به الشعر أو يطيب به البدن، أو نحو ذلك، وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وهي حادة على زوجها فرآها قد غسلت رأسها بصبر فيه شيء من الرائحة، فسألها فأخبرته فقال: لا تستعملي هذا الصبر فإنه يشب الوجه، فسألته بأي شيء أغسل رأسي فقال: بالسدر، يعني: بورق السدر المسحوق فإنه لا رائحة له، وهو مع ذلك ينظف الشعر، وينظف البشرة، وليس فيه أثر طيب، وإذا احتاجت الحادة في هذه الأزمنة إلى أن تغسل رأسها غسلت رأسها بالسدر إن كان موجوداً أو غسلته بالصابون الذي لا رائحة له، وأما استعمال الصابون الذي فيه طيب كالممسك فلا تستعمله.

    وكذلك لا تدهن رأسها بدهان فيه طيب، وإذا احتاجت إلى أن تدهن رأسها دهنته بدهن لا طيب فيه، كدهن زيت الزيتون ونحوه مما ليس فيه رائحة، بخلاف بقية الأدهان التي فيها رائحة عبقة، والحادة مأمورة أن تتجنب ما له رائحة تلفت الأنظار. وعلى كل حال فالحادة لا تتطيب.

    وفي هذا الحديث رخص النبي صلى الله عليه وسلم لها إذا طهرت من الحيض أن تغسل ما أصاب جسدها من دم الحيض، تتخذ نبذة من ظفر أو أقساط تتبع به أثر الدم، والقسط: طيب معروف ولكن ليس له رائحة عبقة، والأظفار: أيضاً نوع من الطيب يوجد عند البقالين، تخلط هذا القسط وهذه الأظفار وتسحقه، وبعد ذلك تضربه بماء وتتبع به أثر الدم على فخذيها أو على ثيابها، فتستعمله بعد طهرها من حيض إن كانت تحيض، فأما في غير الطهر فلا تستعمل القسط ولا غيره من أنواع الطيب.

    وكذلك الحادة منهية أن تلبس الحلي؛ لأنه من الزينة فلا تلبسه في رقبتها كالقلادة، ولا تلبسه في أصابعها كالخواتيم، ولا تلبسه في ذراعيها كالأسورة، ولا تلبسه في آذانها كالأقراط، ولا في رجل ساقيها كالخلاخيل، ولا غير ذلك من الألبسة التي يتحلى بها، سواء كانت من الذهب أو من الفضة، ولا شك أن الحلي يلبس للزينة، وتتجمل به المرأة، وتدعو به من يرغب فيها، فإذا لم تتحل فإنه دليل على أنها حادة قد اجتنبت ما يلفت إليها الأنظار، فهذا ما تتركه الحادة.

    عادة الجاهلية في إحداد المرأة

    أهل الجاهلية كان الإحداد عندهم مدة سنة، وإذا مات زوج المرأة تدخل حفشاً أي: بيتاً صغيراً، وغالباً أنه مكون من قصب أو من جريد أو من سعف أو نحو ذلك، تدخل هذا الحفش وليس عندها مكيفات ولا تهوية ولا غير ذلك، وتبقى في هذا الحفش سنة وافية، لا تغتسل فيه ولا تتنظف، ولا تغير ثيابها، ولا تغسل شعرها في هذه المدة كلها، حتى تمضي عليها سنة وهي على هذه الحال، ولا تأكل إلا القوت الضروري الذي تقوت به نفسها، تعطى خبزة كل يوم أو خبزتين أو نحو ذلك قدر كفايتها، ومن الشراب ما يسد ظمأها فقط، أما أنها تغسل رأسها أو تغسل جسدها فلا، فكانت لا تغسل شيئاً من جسدها ولا من ثيابها مدة سنة، ماذا تكون حالها بعد هذه السنة وهي في هذا الحفش -البيت الصغير- الذي ليس فيه تهوية، وكله وسخ وقذر؟ كيف تكون حالها إذا خرجت منه؟

    وبعد تمام السنة تؤتى بدابة كحمار أو طير أو نحو ذلك فتفتض به قبل أن تغتسل، أي: تدلك به جسدها الذي قد تراكم عليه الغبار، وتراكمت عليه الأوساخ، وتراكمت عليه الروائح، فتدلك جسدها بجلد ذلك الحمار أو تلك الدابة أو الشاة ونحوها، حتى أن تلك الدابة قد تموت من رائحتها وقذارتها، قلما ما تفتض -يعني: تدلك- بشيء من الدواب إلا مات، ثم بعد ذلك يأتونها ببعرة، والبعرة هي بعرة الإبل أو نحوه، فترمي بهذه البعرة طوال ما تستطيعه وكأنها تقول: هذه السنة التي مضت عليّ خفيفة كما تخف عليّ هذه البعرة التي أنبذها وأطرحها، وكل ذلك محافظة على حق الزوج، ولكن جاء الإسلام بالتخفيف عنها، فأمرت أن تغتسل متى شاءت، وتغتسل إذا انتهت من الحيض أو نحو ذلك، وإذا احتاجت إلى الاغتسال فإنها تغتسل ولكن كما قلنا: لا تستعمل في غسل جسدها ما له رائحة ونحوه، وذلك من تخفيف الله تعالى، وتخفيف هذه الشريعة عليها، وذلك من سهولة الإسلام وإزالة الآصار والأغلال.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756325908