إسلام ويب

شرح عمدة الأحكام [51]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • للمفلس أحكام شرعية كثيرة، ومن ذلك الحجر عليه، ومنعه من التصرف، ومحاصة الغرماء في ماله، ومن أدرك منهم ماله بعينه فهو أحق به من غيره، وغير ذلك من الأحكام.

    1.   

    أحكام التفليس

    قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه:

    [باب ما يتعلق بالإفلاس:

    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من أدرك ماله بعينه عند رجلٍ أو إنسان قد أفلس، فهو أحق به من غيره)].

    تعريف المفلس

    هذا الحديث يتعلق بباب التفليس أو الإفلاس.

    والمفلس: هو الذي يقلّ ماله، وتكثر ديونه؛ وسمي بذلك من باب أنه ليس له مال إلا ما لا قيمة له، تشبيهاً بمن لا يملك إلا الفلوس.

    والفلوس: هي النقود الرخيصة، كما يقال: هذا لا يساوي فلساً، فالفلس هو عملة رخيصة، كانت تسمى قديماً الفلس، وتسمى أيضاً الدانق، وفي هذه الأزمان تسمى الهللة أو نحوها.

    فالمفلس هو: الذي قل ماله ولم يبق عنده إلا هذه الفلوس، وكثر دينه، ولا شك أنه بسبب كثرة ديونه وقلة أمواله يكثر الذين يطالبونه بحقوقهم، ويطلبون منه الاستيفاء.

    فإذا رأوا أمواله قليلة بالنسبة إلى ديونه، رجعوا إلى الحاكم أو القاضي وطلبوا أن يحجر عليه، ويمنعه من أن يتصرف في ماله الموجود، ويمنع أحداً من أن يشتري منه أو يبيع عليه ويضيف ديناً إلى دينه.

    وعند ذلك يأمر الحاكم بإحصاء ديونه بعدما يحجر عليه، وإذا: أحصيت ديونه، باع أمواله التي يمكن أن يستغني عنها، وقسمها على الغرماء أهل الديون، وأعطى كل ذي حق بقدر حقه بالنسبة.

    فإذا كانت ديونه -مثلاً- عشرين ألفاً، وأمواله بعدما صفيت لم تكن إلا خمسة آلاف، فنسبتها الربع من الديون، فيعطى كل ذي دينٍِ ربع دينه، يقال: هذا نصيبك، والبقية تبقى في ذمة المدين، هكذا العمل بمن حجر عليه.

    من وجد من الغرماء عين ماله فهو أحق به بشروط

    ذكر في هذا الحديث: (أن من وجد ماله بعينه فهو أحق به)، صورة ذلك: إذا حجر الحاكم على المفلس في أمواله، ووجدت سلعتك بعينها التي بعته، فأنت أحق بها، هذا مقتضى الحديث.

    واشترطوا لذلك شروطاً:

    الشرط الأول: ألا تكون قد قبضت من ثمنها شيئاً، فإذا وجدت كيسك الذي بعته بمائة بعينه؛ لم يبعه ولم يأكل منه ولم يرهنه؛ وجدته بعينه، وأنت لم تستلم من المائة شيئاً؛ فأنت أحق به، ولو قال أهل الديون الأخرى: نبيعه ونأخذ من ثمنه بالنسبة وأنت معنا، فالجواب: أنت أحق به؛ لأنه عين مالك.

    الشرط الثاني: ألا يكون قد تغير، فإذا تغير بأن فصل الثوب، أو خاطه، أو لبسه حتى اخلولق مثلاً، أو استعمل السيارة -مثلاً- حتى تغيرت، أو هدم البيت وجدد عمارته؛ فإن صاحبه يصير كأسوة الغرماء؛ وذلك لأنه لم يجد ماله بعينه، بل وجده قد تغير.

    الشرط الثالث: ألا يتعلق به حق للغير، فإذا كان قد رهن السيارة عند إنسان، أو باعه نصفها مثلاً، أو وهبها أو وهب بعضها لإنسان آخر؛ فإنها تخرج من كون صاحبها أحق بها، بل يكون كأسوة الغرماء، فيستوي مع بقية الغرماء، فتباع السيارة أو السلعة، ويقسم ثمنها على الغرماء بقدر ديونهم.

    كذلك أيضاً: لابد أن يكون الدين ثابتاً في الذمة، فإذا كان الدين ليس بثابت فإنه لا يلحق بسائر الغرماء.

    والدين الذي ليس بثابت مثل دين السلم، ومثل دين الكتابة بأن يشتري العبد نفسه، وما أشبه ذلك؛ فلاشك أنه والحال هذه ليس الدين ثابتاً.

    فالأصل أن الإنسان لا يتجارى في كثرة الديون والاستدانة من الناس، حتى يسرف في أموالهم ويأخذها وهو لا يجد وفاء لها، وإذا قدر أنه احتاج وكثرت ديونه، فعليه أن يجتهد في الوفاء، وأن يوفيهم بقدر ما يستطيعه.

    1.   

    معنى الحجر

    الأصل في الحجر على المفلس ما روي: أن معاذ بن جبل رضي الله عنه كان شاباً يحب كثرة الإنفاق وكثرة الصدقة والتبرع، فكان يستدين ويقترض حتى كثر الذين يطالبونه، ولما كثروا سألهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يتسامحوا عنه، ولو تركوا أحداً لأجل أحدٍ لتركوا معاذاً لأجل النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنهم ذكروا أنهم يطالبونه بأموال هم بحاجةٍ إليها، وأن بعضها مال أيتام، فلم يجد النبي صلى الله عليه وسلم بدّاً من الحجر عليه، ومنع كل أحد أن يبيع منه أو يشتري منه، ثم جمع أمواله التي يمكن أن يستغني عنها، وباعها وأعطى الغرماء بعض حقهم، وقال لهم: (ليس لكم إلا ذلك)، ثم أرسله إلى اليمن كعامل لينجبر ما حصل عليه، وليصيب من سهم العاملين على الزكاة.

    والحاصل: أن الحجر: هو أن يمنع الإنسان من التصرف ببيع أو شراء فيما يملكه من المال، ثم بعد ذلك يباع ويصفى ويقسم على الغرماء، فإذا وجدنا أن ماله بقدر ديونه أو أكثر من ديونه فإنه لا يحجر عليه، ولكن يؤمر بأن يوفي ديونه.

    وإذا لم يوجد له مال أصلاً، وعليه ديون، وليس له ما يوفيها به، ولا يملك شيئاً، فمثل هذا عاجزٌ، وليس لأحد أن يشدد في طلبه، بل يجب إنظاره، وهو المذكور في قول الله تعالى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، والذي لا يقدر على وفاء شيء من دينه فلا يحجر عليه؛ لأنه لا مال له حتى يحجر عليه، وإنما يحجر على الذي له مالٌ أقل من الديون الحالة المطالب بها.

    فهذه الأموال التي عنده التي يحجر عليه فيها هي أموالٌ اكتسبها أو اشترها بنقدٍ مثلاً، أو ربح بها أو استغنى عنها، وهي من جملة ما يملكه، فمثلاً: إذا كان عنده عقار، وقد أوفى ثمنه، فإنه يباع ويقسم ثمنه، وإذا كان عنده دواب كبقرٍ أو غنمٍ أو نحوها، وقد أوفى ثمنها أو بعض ثمنها، فإنها تباع إذا لم يكن بحاجةٍ إليها، ويترك له ما هو مضطر إليه، فيترك له البيت الذي يسكنه، والدابة التي هو في حاجة إلى لبنها لقوت أولاده، ويترك له آلته التي يعمل بها، فإن كان عنده سيارة أجرة فلا تباع؛ لأنه يكتسب عليها، وإن كان له حرفةٌ تركت آلة حرفته، كماكينته التي يعمل عليها مثلاً، أو التي يخيط عليها إذا كان خياطاً، أو التي يغسل عليها إذا كان غسالاً مثلاً، أو آلة حدادة، أو آلة نجارةٍ، أو آلة خرزٍ، أو آلة بناءٍ، أو ما أشبه ذلك، هذه تبقى له حتى يتكسب ما يوفي بقية ديونه، ويتكسب ما يقوت عياله .. وهكذا.

    ولا يجوز أن يتمادى في الإنفاق ويتمادى في الإسراف وأهل الديون يطالبونه بحقوقهم، وقد ذكر العلماء أنه إذا كان عنده شيء لا يستحقه كله، فإنه يباع ويشترى له بقدره، فإذا كان له سيارة قيمتها سبعون ألفاً، فإنها تباع ويشترى له سيارةٌ قيمتها عشرون أو خمسة وعشرون؛ لأنه فقير، وهذه التي تناسب الفقير، وإذا كان له بيتٌ قيمته مثلاً ثمانمائة ألف أو نحوه، ويكفيه بيتٌ قيمته أربعمائة، فيباع ذلك البيت، ويشترى له بيت بأربعمائة يكنه ويكن أولاده، ويقضي ديونه، وكذلك جميع ما يمكن أن يستغني عنه، وكل ذلك لأجل تبرئة ذمته، وإعطاء الحقوق لأهلها.

    فأما إذا كانت السلعة موجودة، وصاحبها لم يقبض من ثمنها شيئاً، فإنه أحق بها، ولو كان ثمنها مؤجلاً، كم لو قال: هذه سيارتي قيمتها في الحال خمسون ألفاً وأنا بعتها بثمانين ألف، نقول: خذ سيارتك عن الثمانين التي هي رأس مالك، وليس لك شيء، ولا تساهم مع أهل الديون؛ لأنك وجدت عين مالك، ولم تكن قد قبضت منها شيئاً، ولم تكن قد نقص من قيمتها، وهكذا بقية السلع.

    وبذلك يعرف أن الشرع جاء بحفظ حقوق المسلمين، وبالنهي عن التساهل فيها، أو التسبب في إتلافها وأن ذلك دليلٌ على كمال هذه الشريعة، واشتمالها على جلب المصالح ودفع المفاسد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756964675