إسلام ويب

شرح عمدة الأحكام [46]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • حرم الله ورسوله بيع كل حرام كالخمر والميتة والخنزير والأصنام، وذلك لنجاستها وخبثها، أو لضررها على العقل أو النفس أو الدين وغير ذلك، فالإسلام يحل الطيبات ويحرم الخبائث، ويدعو إلى معالي الأمور، وينهى عن سفاسفها.

    1.   

    العرايا وأحكامها

    تعريف العرية

    قال المصنف رحمه الله تعالى وإياه: [باب العرايا وغير ذلك.

    عن زيد بن ثابت رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها) ولـمسلم: (يخرصها تمراً يأكلونها رطباً).

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا في خمسة أوسق، أو دون خمسة أوسق)] .

    هذا الحديث يتعلق بالعرايا، والعرايا هي النخلة يباع ثمرها وهو في قنوانه بتمر، وهي مستثناة من مسألة المزابنة، وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم (نهى عن المزابنة، ورخص في العرايا)؛ وذلك لأن من أنواع الربا بيع التمر بالتمر دون أن يكون متساوياً، أما بيع بعضه ببعض متساوياً فإنه جائز ولا يكون ربا، مثال ذلك: أن يبيع صاع تمر بصاع تمر، هذا له نظر في هذا، وهذا له نظر في هذا، فيجوز، ولا يجوز التفاوت في شيء من ذلك عن قصد، وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم أرسل مرة بلالاً يأتيه بتمر من تمر خيبر، فجاءه بتمر جنيب-يعني: جيد قوي نظيف حسن- فتعجب وقال: (أكل تمر خيبر هكذا؟! فقال: لا والله. إنا لنشتري الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال: لا تفعل، بع الجمع بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيباً)، والجمع: هو التمر المجموع. أي: يكون فيه الرديء والجيد.

    والجنيب: هو التمر الذي كله جيد، وكله نظيف، وكله طيب.

    يقول: إذا كان عندك تمر رديء، وتريد أن تبدله بتمر جيد فلا تقل: أعطني صاعاً من هذا بصاعين من هذا، فإن هذا ربا، بل هو عين الربا، فلا يباع التمر إلا مثلاً بمثل متساوياً، كما لا يباع البر بالبر إلا مثلاً بمثل، وكذلك جميع الحبوب ولو اختلفت القيم، فلا يباع كيس أرز بكيس أرز من جنس آخر أحسن منه، بل يباع بمثله ولو اختلفت القيم، وإذا كان الإنسان عنده أرز رديء وأراد أن يشتري به أرزاً جيداً؛ باع الرديء بدراهم واشترى بالدراهم جيداً، وهكذا في التمور، وهكذا في الزبيب، وهكذا في الشعير، وهكذا في القمح، وهكذا في كل الحبوب، فلابد -كما سيأتينا في الربا- من بيعها بالدراهم ثم شراء غيرها.

    ويستثنى من ذلك مسألة العرايا، فيتسامح فيها لأجل الحاجة، فأما لغير حاجة فلا يجوز، وذلك لعدم تحقق التساوي، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: هل يباع الرطب بالتمر؟ فقال: (أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم، فقال: فلا إذاً)، فبين العلة، فالرطب معلوم أنه ثقيل؛ لأن فيه ماء، فإذا وزنت تمراً جافاً بتمر فيه ماؤه كالرطب فإنه قد يتوازن، ولكن متى جف ويبس هذا الرطب خف وزنه وقل كيله، فلا يكون متساوياً، فمن أراد أن يشتري رطباً بتمر فإن عليه أن يبيع التمر بدراهم، ويشتري بالدراهم رطباً.

    وذكرنا أنه استثنى من بيع التمر بالرطب مسألة العرايا، وسببها أن بعض الناس يكون عندهم بقية تمر من السنة الماضية، ويأتي الرطب وهو غير موجود عندهم، ويحبون التفكه بأكل الرطب، وليس عندهم دراهم يشترون بها الرطب، فيشترون بالتمر رطباً، فرخص لهم للحاجة.

    شروط جواز العرية

    يشترط في بيع العرايا خمسة شروط:

    الشرط الأول: أن يأكلوها رطباً، فإذا تركوها حتى صارت تمراً لم يصح البيع.

    الشرط الثاني: ألا يجدوا دراهم، فإذا وجدوا دراهم اشتروا بها رطباً ليأكلوه.

    الشرط الثالث: أن يكون دون خمسة أوسق، والوسق ستون صاعاً، أي: أقل من ثلاثمائة صاع، والصاع يقارب نحو ثلاثة كيلو أو أقل؛ وذلك لأنه لا يكون -غالباً- أحد يحتاج إلى أكل تسعمائة كيلو في وقت الرطب، فلذلك لابد أن يكون خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق.

    الشرط الرابع: التقدير أو الخرص، وهو أن يأتي الذي يعرف قدرها فيقف تحت النخلة فيقول: أقدر بأنها مائة كيلو، أو أنها مائة وخمسون، فهناك من عندهم معرفة بتقديرها وإن لم يصرموها، فإذا قدروها باعوها بقدر ذلك من التمر القديم.

    الشرط الخامس: الحلول والتقابض قبل التفرق، فيحضر صاحب التمر تمره تحت النخلة في زنبيل أو نحو ذلك ويقول: اشتريت منك ثمرة هذه النخلة الذي في رءوسها وفي قنوانها بهذا التمر الذي في هذا الفرق، أو في هذه العيبة ونحوها، فيقول: قد بعتك، فهذا يأخذ تمره، وهذا يخلي بينه وبين هذه النخلة ليقتطفها، وليأخذها شيئاً فشيئاً ليتفكه في أيام أكل الرطب، ويطعم أهله.

    إشكال وجوابه

    قد يقال: إن بينهما تفاوتاً؛ وذلك لأن قيمة الرطب أغلى بكثير من قيمة التمر الذي قد مضى عليه سنة، والغالب أنه قد اسود وقد بدأ فيه التغير!

    فنقول: هذا صحيح، ولكن قد يكون أفضل عند كثير من الناس، ومعلوم أن التمر الذي قد مضى عليه سنة أحسن حلاوة وأقوى طعماً من التمر الجديد، وإن كان التمر الجديد له حلاوة وله فاكهة وله لذة حاضرة، ولكن لاشك أن التمر الذي قد نضج وقد مضى عليه مدة وهو ناضج يكون أقوى طعماً، وهذا من جهة.

    ومن جهة ثانية أن أهل النخل قد يحتاجون إليه علفاً لدوابهم، وقد يكون التمر الذي في النخل لا يصلح علفاً، فيأخذون هذا التمر في عيبة ونحوها ويبيعونه بهذا الرطب الذي في النخلة.

    وقد ذكرنا أيضاً أنه لابد من البدو والصلاح، فلابد أن يكون قد بدا صلاحه في هذه الشجرة، وبدو الصلاح أن يحمر أو يصفر، ومعلوم أن التمر عندما يكون بسراً أو بلحاً يكون لونه أخضر كله، ثم إذا قارب النضج وقارب الاستواء فإنه يصير إما أصفر وإما أحمر، ومعلوم هذا كما هو مشاهد، ثم بعد ذلك يبدأ في النضج ليكون رطباً، وما كان أحمر يكون لونه أسود أو قريباً من السواد، وغيره يكون لونه أحمر، فلا يباع إلا إذا بدا صلاحه، فالعرايا لا تباع إلا إذا بدا صلاحها.

    وقد تقدم أنه يجوز بيعها بالدراهم، ولكن تبقى في رءوسها، وتكون إذا تلفت من ضمان صاحبها وهو صاحب النخل، وهي المسألة التي تقدمت وعرفت بوضع الجوائح، فهذه مسألة العرايا.

    تفسير آخر للعرايا

    قال بعضهم: إن العرايا هي المنح، وذلك أن أصحاب النخل ينزل عندهم بعض المجاورين فيعرونهم نخلاً، فيقول: هذه النخلة أعريتكها، لك ثمرتها مجاناً أو يقول لأخيه الذي ليس له نخل أو لابن أخيه أو لابن عمه أو لقريبه: أعريتك هذه النخلة، يعني: أعطيتك ثمرها بدون مقابل، فيكون هذا من جملة ما يسمى: (عرية)، ولكن الأصل في العرايا أنها ما يؤكل رطباً، وقد عرف أن أهل النخل يأكلون كثيراً من تمرهم ويعطونه بدون مقابل لأهليهم ولأقاربهم.

    وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث الخراصين الذين يخرصون النخل يقول لهم: (دعوا الثلث، فإن لم تدعوه فدعوا الربع) فإن كان عند أحدهم مائة وعشرون نخلة، فالغالب أنه سوف يأكل منها قسطاً ويعريه لأقاربه، فيقول لهم: اتركوا له الثلث- نحو أربعين نخلة-، فإذا رأيتم أنه أكثر من حاجته فاتركوا له الربع- أي: ثلاثين من مائة وعشرين يأكل هذه هو وأهله رطباً، ويعري هذه، ويعطي هذه، ويمنح هذا، ونحو ذلك- واخرصوا الباقي وقدروه؛ لتؤخذ منه الزكاة.

    العرايا تختص بالتمر

    مسألة العرايا تختص بالتمر على الصحيح، وبعضهم ألحق بها الزبيب، والزبيب هو ثمر العنب، ومعلوم أيضاً أن العنب ما دام عنباً فإنه لذيذ وشهي، وإذا أصبح زبيباً فقد تقل قيمته، وقد تقل لذته، ولكن لا يزال مرغوباً فيه، فإذا كان إنسان عنده زبيب من العام الماضي، وليس عنده دراهم ويحب أن يأكل من العنب الجديد، فقال لصاحب شجرة العنب: بعني ثمرة هذه الشجرة بهذا الزبيب الذي في هذا المكتل الذي قدره -مثلاً- مائة صاع أو نحو ذلك، فهل يجوز ذلك؟

    أجازه بعضهم، ومنعه الآخرون وقالوا: لم تكن العادة أن الحاجة إلى العنب تكون كالحاجة إلى الرطب؛ فإن الرطب يكون قوتاً، وأما الزبيب والعنب فإنما هو فاكهة يتفكه بها.

    فعلى هذا تختص العرايا بالنخل الذي يباع بالرطب، وفي هذه الأزمنة الناس يجدون النقود، وما داموا يجدون النقود والدراهم فليسوا بحاجة إلى أن يشتروا الرطب بالتمر، سواء أكان ذلك التمر جافاً وقديماً أم ليس بقديم، فيشترون الرطب أينما كان، كما تشتري -مثلاً- عشرين نخلة بثمرتها كل نخلة بمائة أو بمائتين أو نحو ذلك، ولو تركتها إلى أن أثمرت لا يضر ذلك، إنما الشروط هذه فيما إذا باع ثمرة النخلة بتمر.

    1.   

    شرح حديث: (إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام)

    قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه:

    [عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح: (إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل: يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة؟ فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس، فقال: لا، هو حرام. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: قاتل الله اليهود؛ إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه) (جملوه) أي: أذابوه].

    هذا الحديث يدل على تحريم بيع كل ما هو حرام، وإذا كان أكله حراماً واقتناؤه حراماً فثمنه حرام، والله تعالى حرم الميتة، فثمنها حرام، وذلك لأنه لا يجوز أكلها، فكذلك لا يجوز أكل ثمنها ولو وجد من يستحلها، وكذلك كل الدواب المحرمة لا يحل ثمنها، فمثلاً: الكلاب والخنازير محرمة الأكل، فكذلك ثمنها محرم، فالذين يبتاعون الخنازير في البلاد الغربية ليسوا بمسلمين، ولو باعه مسلم أو ملكه مسلم لم يحل له أن يأخذ عليه عوضاً، فعوضه محرم، وقد ورد في الأحاديث تحريم ثمن الكلب، وكما أن أكله ولحمه حرام فثمنه حرام ولو وجد من يأكله أو يستحل ثمنه، فإذا حرم الله بيع شيء، فإن من باعه قد أكل حراماً، وإذا حرم أكل شيء؛ فإن بيعه يكون حراماً.

    وحرم الله الخمر، وإذا كانت محرمة فإن ثمنها حرام، بل ورد لعن عشرة في الخمر في قوله عليه السلام: (لعن الله الخمر وبائعها ومشتريها وشاربها وساقيها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها)، فهؤلاء اشتركوا في الإثم، والشاهد أنه جعل ثمنها محرماً.

    ولما حرمت الخمر في أول الأمر كان هناك بعض الصحابة عندهم خمر لأيتام، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيعها؛ حتى لا تذهب على اليتامى، وكان هناك من يشتريها من اليهود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الذي حرم شربها حرم بيعها).

    حكم بيع ما هو محرم

    يحرم بيع كل شيء محرم، مثل الصور التي أمرنا بإتلافها، كما في حديث: (لا تدع صورة إلا طمستها)، فهذه الصور محرم اقتناؤها ومحرم أيضاً ثمنها، فالذي يأكل من ثمنها يعتبر قد أكل حراماً، والذي يبيعها أو يجعلها بضاعته يتعامل بحرام.

    كذلك الصليب نحن مأمورون بأن نتلفه؛ لأنه معبود النصارى، فالذين يبيعون الصلبان ويستفيدون من ثمنها، فيشترونها ثم يربحون فيها أو يعملونها ثم يبيعونها، لا شك أنهم يبيعون حراماً ويأكلون حراماً، وكذلك جميع المعبودات، والنبي صلى الله عليه وسلم مثل بالأصنام التي هي عبارة عن صور منحوتة، ينحتون صورة من خشب أو من حجر على صورة شخص أو رجل صالح، ثم يبيعونها لمن يعبدها أو لمن ينصبها أو لمن يتبرك بها.

    فهذه الصور -ولو كانت صور صالحين، سواء أكانت منقوشة أم منحوتة- داخلة في الأصنام التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن بيعها حرام.

    فهذه المحرمات سواء أكانت تباع على من يستحلهاكبيع الخمر لليهود، وبيع الصلبان للنصارى، أم تباع على مسلم يرى حرمتها، أم تباع على مسلم يرى حلَّها ولكن البائع يرى حرمتها كبيع الكلاب والخنازير وما أشبهها، أم تباع على من تباح له كالميتة يبيعها لمضطر -جائع- وهي ميتة، فحلال له أن يأكل منها، لكن ثمنها حرام، فهذا الذي يبيعها وهو يعلم أنها ميتة إن كان جائعاً فله أن يأكل منها، وأما كونه يبيعها فليس له ذلك.

    وهكذا يقال في آلات اللهو والملاهي كلها، فنحن مأمورون بإتلافها، وبمحق العود والطنبور والطبول والمزامير وما أشبهها، وثمنها يكون حراماً، فمن باعها وأكل ثمنها يعتبر قد أكل حراماً، فهذا معنى قوله في بعض روايات الحديث: (إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه) يعني: إذا حرم عينها حرم بيعها؛ وذلك لأن الأصل كون أكلها حراماً لكونه يكسب البدن داءً خبيثاً.

    حكمة تحريم الميتة

    حرم الله الميتة؛ لكونها قذرة، والتغذي بها يؤذي ويسبب أمراضاً، وإنما أباحها للضرورة، فأباحها لمن اشتد به الحال وخشي الموت من الجوع، قال تعالى: فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:3]، ولكن عند الاستغناء يحرم أكلها، وإذا كان يحرم أكلها فكذلك يحرم أيضاً بيعها.

    وكذلك ما حرم الخنزير إلا لمضرته؛ وذلك لكونه قذراً ونجساً، وغذاؤه خبيث، فإذا كان نجساً ومستقذراً فإن أكله يكسب آكله خبثاً وضرراً، فإذا كان كذلك؛ فإنك إذا بعته على من يأكله شاركته في هذا الإثم.

    حكم بيع شحوم الميتة

    لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله حرم بيع الميتة استشكل بعض الصحابة أنه قد ينتفع بشيء منها، فهل يكون هذا الانتفاع مسوغاً لبيع ذلك الشحم؟ فإن شحم الميتة ذكروا أنه ينتفع به في غير الأكل في هذه الثلاثة الأشياء: الأول: تطلى به السفن، فالسفينة معلوم أنها تصنع من خشب، وأنها تسبح في البحر، ومعلوم أن ماء البحر لملوحته قد تتآكل منه خشب السفينة، فتحتاج إلى أنهم يدهنونها قبل أن تدخل في البحر؛ حتى يكون ذلك الدهن مضاداً لتأثير الماء في الخشبة، فهذا معنى أنها تدهن بها السفن، أي: تطلى بها السفن، فيطلون بها ظاهر السفينة.

    الثاني: يدهنون به الجلود بمنزلة الدباغ، فالجلد أو بعض الأواني الجلدية كالقربة والسقاء والدلو قد يكون يابساً، ويحتاج إلى ما يلينه، فيلينونه بدهن.

    الثالث: كانوا يوقدون السرج بالشحم، ليس عندهم الكهرباء الموجودة الآن، ولا الأجهزة الجديدة، ولا ما استحدث من النفط كالغاز أو القاز أو ما أشبهه، فما كانوا يوقدون السراج إلا بالشحم أو بالزيت، فقالوا: هل يجوز لنا أن نوقد السرج - التي هي المصابيح - بشحم الميتة ؟ وهل يجوز لنا أن نطلي السفينة بشحم الميتة؟

    فالناقة إذا ماتت نأخذ شحمها ونذيبه ونطلي به السفينة، ولا يتأثر به شيء؛ لأنه لا يصلى عليه ولا يضر أحداً، والدلو أو نحوه إذا كان يابساً لا يضره أن ندهنه بهذا الشحم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، هو حرام).

    ومن العلماء من يقول: إنه ما حرم إلا البيع، وكأنهم يقولون: مادام أن هذه الشحوم ينتفع بها؛ فيوقد بها السراج، وتطلى بها السفينة، ويدهن بها الجلد قبل دبغه، فألا يكون ذلك مبرراً في أن نبيعها على من يدهن بها وينتفع بها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، هو حرام).

    حكم استخدام شحوم الميتة ونحوها

    لا خلاف أن بيع شحوم الميتة حرام، ولو كان من يشتريها يوقد بها السراج، ولو كان من يشتريها يدهن بها السفينة، بيعها حرام مطلقاً، ولكن هل يجوز أن تطلى بها السفن أو تتخذ سرجاً؟

    في ذلك خلاف، والأقرب أنه إذا كانت لا تتعدى نجاستها فإن ذلك جائز، فالسراج مثلاً إذا لم يكن في المسجد جاز أن يوقد بالدهن المتنجس، أو بالدهن النجس، أما في المسجد فلا يجوز؛ وذلك لأنه يتحلل منه دخان، وذلك الدخان دخان نجاسة، وأما في البيوت وغيرها فإنه لا تتعدى نجاستها.

    وأما طلاء السفينة، فالسفينة لا تتعدى منها النجاسة؛ وذلك لأنها تخوض في لجّة البحر، والبحر لا يتنجس؛ لعمقه ولكثرة مائه، فلا تتعدى نجاستها، ولأن الذي يطلى إنما هو ظاهرها الذي يلي البحر، وأما باطنها الذي يركبون فيه فلا يطلى، فلأجل ذلك يجوز أن تطلى بالشحم المتنجس أو النجس أو نحو ذلك.

    الحيلة في بيع الحرام

    لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بحكم شحوم الميتة أخبرهم بفعل اليهود في احتيالهم على أكل الحرام، فقد حرم الله على اليهود بعض الشحوم وبعض اللحوم، فحرم عليهم كل ذي ظفر، وهو الإبل، فحرام عليهم أكل لحمها وشرب لبنها أو شرب مرقها أو الادهان بدهنها، وكذلك ما يشبهها في الخلقة كالنعام لا يأكلونه.

    وحرم عليهم من شحوم البقر والغنم شحم الثربة وشحم الكليتين وشحم القلب ونحوها، قال تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ أي:خف، وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوْ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ [الأنعام:146]، فأباح لهم شحم الظهر، وأباح لهم شحم الإلية؛ لأنه مختلط بعظم، وأباح لهم شحم الحوايا التي هي شحم الأمعاء، وحرم عليهم بقية الشحوم التي في البطن، وشحم الكلية وما أشبه ذلك، ولما حرمت عليهم هذه الشحوم، وكذلك شحوم الإبل، احتالوا فأذابوها؛ فصاروا يجمعون هذا الشحم ثم يذيبونه حتى يذوب على النار، ثم يبيعونه على العرب الذين هو مباح لهم، ويأكلون ثمنه، وهذه حيلة إلى أكل ما هو حرام، فإن الله لما حرم الثمن حرم الأكل، فكان مما يتبع ذلك تحريم الثمن، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أمته عن مثل هذه الحيلة.

    وورد في حديث قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل)، والحيلة كونه يأتي الحرام من جهة وهو يعلم أنه حرام، فيقول: ما أتيته من الجهة التي هو حرام فيها، وإنما من جهة أخرى، مثل حيلة أصحاب السبت، لما حرم الله عليهم صيد السمك في يوم السبت، وابتلاهم بأن كانت الأسماك تخرج في ذلك اليوم، وإذا كان في يوم الأحد غابت عنهم واختفت في البحر، فأهمهم ذلك، كيف أنها لا تخرج إلا في اليوم الذي منعوا من الصيد فيه؟ فاحتالوا بأن نصبوا شباكهم في يوم جمعة، فإذا خرجت يوم السبت أمسكتها الشباك، ثم يأخذونها في يوم الأحد، فأصبحوا يمسكونها في يوم السبت بأن تمسكها لهم شبكاتهم، فعاقبهم الله بالعقوبة التي ذكرها في القرآن في قوله تعالى: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [الأعراف:166].

    والحاصل أن الحيل نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، أي: كون الإنسان يحتال فيقول: هذا الشيء حرام علي أكله، وما دام أن هناك من يأكله، فلماذا لا أبيعه عليه وآكل ثمنه؟

    وقد سمعت أن هناك من يستحل أكل الكلاب من هؤلاء النصارى من بلاد الفلبين ونحوهم، فهم يستحلون أكل الكلاب، يقتنصونها ويقتلونها ثم يأكلونها، وكذلك يأكلون السنانير ( القطط )، وكأنها عندهم شيء معتاد ونظيف لا محذور فيه، وبعض الشباب أو بعض الصبيان قد يجلبون إليهم في محلهم القطط ونحوها، ويعوضونهم عليها، ولا شك أن هذا حرام، ولو كان أولئك أطفالاً لم يبلغوا، ولكن على أوليائهم إذا عرفوا ذلك أن ينهوهم عن مثل ذلك وأن يخبروهم بحرمته.

    وعلى كل حال لا تجوز المساعدة على أكل شيء محرم بأي نوع من أنواع الإعانات والمساعدات.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756947193