إسلام ويب

شرح عمدة الأحكام [41]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن ما يهديه الإنسان من بهيمة الأنعام إلى بيت الله من الأعمال المشروعة المستحبة، وهو من تعظيم شعائر الله وحرماته، وهذا الهدي قد يكون مستحباً وقد يكون مستحباً وقد يكون واجباً، وله آداب وشروط يتعين على المكلف الذي يريد الهدي معرفتها حتى لا يقع في مخالفة الشرع أو تفسد عبادته.

    1.   

    الهدي وأحكامه

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الهدي: (عن عائشة رضي الله عنها قالت: فتلت قلائد هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أشعرها وقلدها -أو قلدتها- ثم بعث بها إلى البيت، وأقام بالمدينة، فما حرم عليه شيء كان له حلالاً).

    وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة غنماً.).

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة، فقال: اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها، فرأيته راكبها يساير النبي صلى الله عليه وسلم)، وفي لفظ: (قال في الثانية أو الثالثة: اركبها، ويلك، أو ويحك).

    وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه، وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلتها، وأن لا أعطي الجزار منها شيئاً، وقال: نحن نعطيه من عندنا).

    وعن زياد بن جبير قال: (رأيت ابن عمر قد أتى على رجل قد أناخ بدنته ينحرها، فقال: ابعثها قياماً مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم)].

    جعلوا باب الهدي تابعاً للحج؛ وذلك لأن الغالب أن الهدي يكون مع حج أو يكون مع عمرة، وإن كان يجوز أن يهدي بلا إحرام، أو يرسل هدياً وإن لم يذهب مع هديه.

    تعريف الهدي ومشروعيته

    الهدي: هو ما يهديه الإنسان من بهيمة الأنعام إلى بيت الله تعالى ليذبح هناك ويتصدق بلحمه، ويوسع به على أهل مكة وعلى الوافدين إليها. وقد كان هذا مألوفاً قبل الإسلام، كان الرجل إذا توجه إلى مكة لحج أو لعمرة أو لزيارة عزل من إبله أو من غنمه قطعة واحدة أو جمعاً وقلدها وسار بها إلى أن يصل إلى مكة، ثم نحرها وخلى بين المساكين وبينها ليأكلوا من لحمها.

    وهكذا كان في الإسلام أيضاً، كان المسلمون كلما توجهوا إلى مكة اشتروا هدياً من بهيمة الأنعام من الإبل أو من البقر أو من الغنم وساروا بها حتى يصلوا إلى مكة، ثم إذا طافوا وسعوا وتحللوا نحروها وخلوا بين المسلمين المستحقين وبينها.

    ولا يتحللون إلا بعد أن نحرها، قال الله تعال: وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196] أي: حتى يأتي الوقت الذي يذبح فيه الهدي ويحل فيه ذبحه، ففي الحج: يوم النحر، وفي العمرة إذا لم يكن زمن حج إذا طاف وسعى للعمرة وقصر أو حلق نحر بعد ذلك هديه، وقد ذكر الله أيضاً ما تتميز به هذه الهدايا في موضعين من سورة المائدة، ففي أولها قول الله تعالى: لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ [المائدة:2]، وفي أواخرها قوله تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ [المائدة:97]، فذكر مما جعله قياماً للناس الهدي والقلائد، ومعنى: (لا تحلوها): لا تتعرضوا لها، فإذا رأيتم الهدي فلا تتعرضوا له بأذى حتى يصل إلى بيت الله الذي أهدي إليه، وإذا رأيتموه وفي رقابه قلائد فلا تأخذوا القلائد.

    مشروعية تقليد الهدي وإشعاره

    وكان من علامة ما يهدونه أن يجعلوا في رقابه قلائد، يفتلون قلائد من ليف أو من صوف أو من شعر، ثم يجعلونها في رقاب الإبل أو في رقاب الغنم والبقر، فإذا رؤيت معلقة فيها قلادة عُرف أنها هدي فامتنع الناس من التعرض لها، فلا يركبونها، ولا يحلبونها إلا إذا بقي بعد ولدها لبن، ولا ينحرونها، ولا يعترضونها، ولا يسرقونها، ويحترمونها؛ لأن لها حرمة؛ لأنها مهداة إلى بيت الله تعالى، معظم بها حرمات الله عز وجل.

    هكذا كان الهدي، وأكثر ما كانوا يهدون البدن التي هي الإبل، يقول الله تعالى: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [الحج:36]، فهذا هو الأصل في الهدي، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يهدي كثيراً، ففي غزوة الحديبية سنة ست لما توجه إلى مكة ومعه أصحابه ساق معه مائة بدنة أو سبعين بدنة، وللصحابة الذين معه غيرها، فوصلوا إلى الحديبية، ولكن لم يمكنهم المشركون من أن يصلوا إلى البيت فصدوهم عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (انحروها في مكانكم وتحللوا)، ونزل في ذلك قوله تعالى: هُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أي: مصدوداً (أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [الفتح:25] صدوكم وصدوا الهدي وصرفوه ومنعوه أن يبلغ محله.

    ولما كان في سنة سبع واعتمر عمرة القضية ساق معه هدياً فذبحه في مكة بعدما تحلل من عمرته، ولما حج أبو بكر رضي الله عنه سنة تسع أرسل معه النبي صلى الله عليه وسلم هدياً، وبقي في المدينة ولم يذهب، ولما حج سنة عشر ساق معه هدياً، ومجموع ما ساقه من المدينة وما جاء به علي من اليمن مائة بدنة، فهذا دليل على أنه كان دائماً يرسل الهدي أو يسوق الهدي معه، وعمل بذلك الصحابة من بعده، فكانوا كلما ساروا إلى مكة -غالباً- يسوقون معهم هدياً إلى البيت ويقلدونه ويشعرونه.

    أما تقليده فقد عرفنا أنهم يفتلون حبالاً من ليف أو من شعر ويجعلونها في رقابه، وقد يعلقون في رقاب الإبل أحذية، فإذا رأى إنسان هذا البعير أو هذا الجمل أو الناقة قد علق في رقبتها نعلان عرف أنها هدي فاحترمها ولم يتعرض لها، فالنعلان علامة على أنها هدي.

    وكذلك من علاماتها الإشعار، وهو أنهم يشقون أسنمة الإبل حتى يسيل الدم، ثم يأخذون صوفة منها فيبلونها في ذلك الدم حتى ينقلب لونها أحمر، ثم يربطونها في ذروة البعير، فإذا رؤيت والدم قد ظهر لونه على تلك الصوفة أو على ذلك الوبر الذي في ذروة سنامه عرف بأنها هدي فلم يتعرض لها، وهذا الإشعار خاص بالإبل؛ لأنها تتحمل، أما الغنم فإنها لا تشعر، وذلك لصغرها، وكذلك اختلف في البقر، هل تشعر أم لا؟ ولم ينقل الإشعار إلا في الإبل، فالظاهر أنه يقتصر عليها، هذا معنى الهدي.

    1.   

    شرح حديث: (فتلت قلائد هدي النبي صلى الله عليه وسلم بيدي ...)

    الحديث الأول فيه أن عائشة تقول: (فتلت قلائد هدي النبي صلى الله عليه وسلم بيدي -فتلت لكل بعير قلادة- فقلدها ثم بعث بها -وهذا كان في حجة أبي بكر - فبعث بها وأقام بالمدينة) ، بعث بها إلى مكة وأقام بالمدينة، ولم يحرم عليه شيء كان له حلالاً، وذلك لأن الإحرام إنما يلزم من ساقها وسار معها فإنه يحرم، ولا يحلق رأسه حتى ينحر هديه، وقد تقدم لنا ما يدل على ذلك.

    فـعائشة أخبرت بأنها فتلت القلائد، فدل على سنية القلائد، وأخبرت بأنه قلدها أو هي قلدتها -قلد الهدي- ، وأخبرت بأنه أرسلها -أي: مع أبي بكر -، وأنه أقام بالمدينة حلالاً ولم يحرم، فلم يحرم عليه أخذ الشعر ولا الطيب ولا نكاح زوجاته، فلم يحرم عليه شيء كان حلالاً، ولو كان ساقه وسار معه للزمه الإحرام، ولم يحلق ولم يحل من إحرامه حتى ينحر هديه، ودليل ذلك حديث حفصة الذي تقدم أنها قالت: (يا رسول الله! ما بال الناس حلوا من عمرتهم ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال: إني قلدت هديي ولبدت رأسي فلا أحل حتى أنحر)، فبقي على إحرامه؛ لأنه منعه الهدي، فلم يحل حتى نحر يوم النحر.

    1.   

    شرح حديث: (أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة غنماً)

    الحديث الثاني: ذكرت فيه عائشة رضي الله عنها: (أنه أهدى مرة غنماً)، وهذا دليل على أن الغنم تهدى، وذلك لأنها من بهيمة الأنعام، ولأن أكلها مألوف، فهي من جملة ما يوسع به إذا ذبح في المناسك وفي المشاعر، يوسع به ويأكله المستضعفون ونحوهم.

    1.   

    شرح حديث: (أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة فقال: اركبها..)

    الحديث الثالث: ذكر فيه أبو هريرة : (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة فقال: اركبها) كأنه لم يكن معه إلا بدنة واحدة، وقد أشعرها وقد قلدها، ورأى أنه لا يتعرض لها؛ لأن الله تعالى نهى عن التعرض لها بقوله: لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ [المائدة:2]، يعني: لا تستحلوه فرأى أنه قد أخرجها من ملكه فلا ينتفع منها بشيء، فصار يمشي خلفها راجلاً ليس معه ما يركبه، فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه لا بأس بركوبها ولو كانت هدياً، فاعتذر وقال: إنها هدي، إنها بدنة، يعني: إنها من البدن التي قال الله تعالى فيها: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [الحج:36]، فهي من شعائر الله، ولكن رخص له وقال: (اركبها، -حتى قال-: ويحك أو ويلك) فركبها ذلك الرجل وارتفق بها فكان يساير النبي صلى الله عليه وسلم -يسير محاذياً له- ولم ينكر عليه أحد، وهذا دليل على ركوبها عند الحاجة.

    والأصل أنه لا ينتفع منها بشيء كما ذكرنا قريباً، فركوبها فيه انتفاع، ولكن لما كان هذا الرجل مضطراً إليها، ولم يكن معه مركب يركبه رخص له في أن يركبها، وركوبها أيضاً لا يضرها، وذلك لأنه فرد واحد وليس معه أثاث يثقلها فركبها وارتفق بها، ولم ينقص ذلك من قيمتها ولا من صفتها، فيجوز ركوبها عند الحاجة، وأما عند الاستغناء فلا يجوز، وذكرنا أيضاً أنه لا يجوز أن يُحلب من لبنها شيء إذا كان لها ولد، بل يترك ولدها يشرب لبنها، إلا إذا زاد عن حاجته فلا بأس بذلك، ولا بأس بحلبها وشرب لبنها عند الحاجة.

    1.   

    شرح حديث: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه ... )

    أما حديث علي رضي الله عنه فيقول فيه: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه، وأن أقسم جلودها وأجلتها على المساكين، وأن لا يعطي الجزار منها شيئاً وقال: نحن نعطيه من عندنا)، وكان ذلك في حجة الوداع، حين صف صلى الله عليه وسلم البدن وأمر بأن تنحر، فدعا بسكين فجعل ينحر بيده حتى نحر بيده ثلاثاً وستين، ثم أعطى علياً فنحر ما بقي، ولما سقطت جنوبها احتاجت إلى من يسلخ جلودها وإلى من يقطع لحومها، فدعا جزارين يساعدون علياً ، وأمر علياً أن يقوم عليها ويراقبها حتى تقسم، فأمره بأن يقوم عليها، فبدأ أولاً بسلخها وأخذ جلودها، وهي مما ينتفع به، فتصدق بها على المساكين الذين ينتفعون بها، وبعد ذلك لحومها قطعها وفرقها على المساكين أو أذن لهم فيها، وفي بعض الروايات أنه: (لما نحر عشراً وتساقطت قال: من شاء اقتطع) يعني: من أراد فليأت ويقتطع لنفسه ما أراد، أي: قدر حاجته، ولكن الحديث المشهور أنه أمر علياً أن يأتي بجزارين وأن يقطعوها ويعطوا هذا ويعطوا هذا، حتى قسمها كلها على المساكين.

    وكانوا أيضاً قد جعلوا على ظهورها أجلة -أكسية من صوف أو نحوها- تحميها عن الشمس، وتحميها عن النسور وعن الغربان ونحوها حتى لا تنقر ظهورها- وتلك الأجلة قد أخرجها لله، فأمره أن يتصدق بالأجلة أيضاً ولا يستعيدها، وكذلك أيضاً القلائد التي في رقابها يتصدق بها، وكل شيء اتصل بها أخرجه لله، فليس له أن يسترجع شيئاً منها، هكذا أخبر في هذا الحديث: (أن أقوم على بدنه) -يعني: أراقبها- (وأن أتصدق بلحمها على المساكين)، وجلودها عليهم، وأجلتها على من يحتاج إليها ومن ينتفع بها، وأما الجزارون فلم يعطهم من لحمها على أنه أجرة لهم، وذلك لأن تقسيمها، وكذلك تقطيعها من تمام تمكين المساكين منها، والجزار أجرته على صاحبها، فقال صلى الله عليه وسلم: (نحن نعطيه من عندنا) لا نعطيه أجرته لحماً، أما إذا كان فقيراً فإنه يأخذ من لحمها صدقة مع سائر المستحقين.

    وهكذا يقال أيضاً في الأضحية، فمن ذبح لك أضحية فلا تعطيه أجرته منها، بل أعطه أجرته من غيرها، وإذا كان مستضعفاً فأعطه من لحمها كسائر المستضعفين، هذا حكم الأضاحي.

    وفي ذلك الوقت كان اللحم له قيمته، أعني لحم الإبل ولحم البقر ولحم الغنم، كان المساكين والحجاج كثيرون، وكان الذين ساقوا هدياً قلة، فالذين معهم هدي قليل والأكثرون ضعفاء لم يكن معهم ما يحملهم، أي: ركائبهم التي تحملهم. فلذلك كان فيهم ضعف وحاجة إلى اللحم، فلما ذبحت هذه اللحوم اقتسموها وأكلوها، ولم يبق منها شيء في يومها يوم العيد، وانتهت تلك المائة من الإبل التي أهداها النبي صلى الله عليه وسلم، وقسم غيرها أيضاً مما أهداه غيره، ومع ذلك لم يبق منها شيء، ولم يفسد منها شيء.

    أما في هذه الأزمنة فإنه لكثرة اللحوم فقد لا يقال باستحباب الهدي ما دام أن اللحوم في هذه الأزمنة لا ينتفع بأكثرها؛ إذ أنه غالباً يبقى كثير منها في بيوت الجزارة وتدفن -مثلاً-، أو تحرق، أو تترك حتى تنتن، أو يؤخذ منها شيء قليل والبقية تفسد؛ لأجل ذلك لم ير العلماء استحباب ذبح الهدايا أو استحباب الإهداء، واقتصروا على فدية التمتع وفدية القران ونحوها، فالإنسان إذا حج متمتعاً فليس عليه إلا فدية وهي شاة أو سبع بدنة أو سبع بقرة، وأما كونه يهدي مائة من الإبل، أو يهدي عشراً من الإبل يذبحها فمن الذي ينتفع بها؟ قلّ أن يؤكل منها شيء؛ خاصة لحوم الإبل، وكذا لحوم البقر، وكذلك يقال في الغنم وإن كان في الغنم قد يوجد من يأكلها، وأما الفدية التي هي فدية التمتع والقران فهذه لازمة لكل من كان عنده فدية وعنده قدرة على ذبحها، ومن لم يجد فعليه الصيام كما ذكر الله تعالى، وعلى كل حال فهذه هي سنية الهدي، أنه تسن إذا كان ينتفع به، ولا تسن إذا لم يكن ينتفع به، فلو جاء زمان واحتيج فيه إلى اللحوم وقلّت فيه الهدايا وصار أكثر الحجاج لا يهدون ويقتصرون على الصيام مثلاً، أو يحرمون مفردين دون أن يتمتعوا وقلت اللحوم فحينئذٍ يعود الأمر إلى حالته وتشرع كثرة الهدايا لمن كان عنده فدية حتى توزع وتعم المسلمين في ذلك المكان، وحتى يتمكنوا من الأكل في تلك الأيام التي هي أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل.

    1.   

    شرح حديث: (ابعثها قياماً مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم ...)

    أما حديث ابن عمر ففيه كيفية ذبح الهدي، فقد رأى رجلاً قد أناخ بدنته ينحرها وهي باركة، فأمره بأن يقيمها وأن يعقلها وأن ينحرها وهي قائمة، وقال: (ابعثها قياماً مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم)، فالنبي صلى الله عليه وسلم عرضت عليه البدن وهي كلها قائمة، ولكن قد مسكت رءوسها بحبال، وكذلك عقلت إحدى قوائمها، وقامت على ثلاث فنحرها حتى سقطت، ذكر الله ذلك بقوله: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ صفها صفوفاً، اذكروا اسم الله عليها صواف فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا إذا سقطت جنوبها بعدما تنحر فَكُلُوا مِنْهَا [الحج:36]، فدل على أن السنة والأفضل في الإبل أنها تنحر وهي قائمة معقولة إحدى يديها، وأنها بعدما تنحر تسقط على جنبها، ثم بعد ذلك يكمل ذبحها ويكمل سلخها وينتفع بها، أما البقر والغنم فإنها توضع على جنبها الأيسر وتوجه إلى القبلة وتذبح في أصل الرءوس، بخلاف الإبل فإنها تنحر في أصل الرقبة.

    هذه كيفية الهدي وهذه سنته وسبب شرعيته.

    قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عروة بن الزبير قال: (سئل أسامة بن زيد وأنا جالس: كيف كان رسول صلى الله عليه وسلم يسير حين دفع؟ قال: يسير العنق ...، فإذا وجد فجوة نصَّ)، العنق: انبساط السير، والنص: فوق ذلك.

    وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع فجعلوا يسألونه، فقال رجل: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح؟ قال: اذبح ولا حرج، وجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي؟ قال: ارم ولا حرج. فما سئل يومئذٍ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج).

    وعن عبد الرحمن بن يزيد النخعي : (أنه حج مع ابن مسعود فرآه يرمي الجمرة الكبرى بسبع حصيات، فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، ثم قال: هذا مقام الذي نزلت عليه سورة البقرة صلى الله عليه وسلم).

    وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: اللهم! ارحم المحلقين قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: اللهم! ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: والمقصرين.)].

    1.   

    شرح حديث: (كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص)

    الحديث الأول يتعلق بصفة سير النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى مزدلفة، ذكر أنه كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص، وفسر العنق بأنه انبساط السير والنص فوق ذلك.

    وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة على ناقته التي تسمى القصوى من حين صلى الظهر والناس معه وقوف على رواحلهم وطال بهم الوقوف ولم يزالوا واقفين على إبلهم، وبعضهم لم يكن معه ما يركبه فوقف على قدميه أو جلس كلهم يذكرون الله ويدعونه في يوم عرفة، ولم يزلوا كذلك حتى غربت الشمس، وقفوا ما لا يقل عن ست ساعات وهم على هذه الحال، ولا شك أن الإبل قد تعبت وكذلك الواقفون عليها قد تعبوا، فلما انصرفوا متوجهين إلى مزدلفة علموا أنهم إذا وصلوا إليها أناخوا رواحلهم وباتوا بها، فكان كثير منهم يسرع في سيره، وكانوا يزدحمون في الأماكن الضيقة، فعندما يأتون إلى أماكن ضيقة يزدحمون لكثرتهم، فكان يشير إليهم بقوله: (يا أيها الناس! السكينة، السكينة)، أي: سيروا على تؤدة وتأنٍ ولا تعجلوا ولا تسرعوا السير فتشقوا على أنفسكم ويضيق بعضكم على بعض.

    أما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان ينبسط في سيره، ذكر الراوي أنه كان قد قبض زمام ناقته، الذي تقاد به -وهو الحبل الذي يسمى (الخطام) الذي يربط في رأسها- فكان قد قبضه حتى إن رأسها ليصيب مورك الرحل، أي: موضع قدميه أو ساقيه من شدة قبضه لها حتى لا تسرع؛ لأنها إذا أسرع الذين أمامها وخلفها تسرع عادة، وهم يسرعون لما انصرفوا، ولكن حثهم على أنهم لا يسرعون، وأن ينبسطوا في السير.

    والعنق: هو لوي عنق الناقة، كأنه التوى عنقها حتى صار كأنه حلقة، فرأسها يصيب ظهرها مما يلي طرف عنقها، هذا معنى (يسير العنق)، وإذا أتى على كثيب من الكثب وحبل من الحبال الرملية أرخى لها قليلاً حتى تصعد، وهكذا إذا وجد فجوة -أي: متسعاً- أرخى لها فأسرعت، وهذا معنى قوله: (إذا وجد فجوة نص)، هكذا سار وهكذا ساروا حتى وصلوا إلى مزدلفة، قطعوا تلك المسافة في نحو ساعتين من موقفهم من عرفة الذي عند جبل الرحمة إلى أن وصلوا إلى المشعر الحرام الذي يقال له: (قزح)، فوصلوا في نحو ساعتين أو ساعتين ونصف؛ لأنهم يسيرون بتأن وبعضهم يسرع، فيمكن أن بعضهم يصل في ساعة ونصف أو في ساعتين.

    والحاصل أنهم عند ما وصلوا بدءوا بصلاة العشاءين، ذكر في بعض الأحاديث أنه في أثناء الطريق مال إلى شعب من الشعاب ونزل وبال، ثم توضأ وضوءاً خفيفاً، ولما وصل إلى مزدلفة توضأ وأسبغ الوضوء وصلى، واضطجع بعد ذلك حتى أصبح.

    ولما أصبح ودعا الله تعالى حتى أسفر جداً، وقبل أن تطلع الشمس توجه إلى منى، ولما أتى منى رمى الجمرة الأولى، ثم نحر بعدما رمى، فبدأ بالرمي، ثم بعده بالنحر -نحر الهدي-، ثم بعده بحلق رأسه، ثم أفاض إلى مكة، والصحابة لم يكونوا كلهم يشاهدون أفعاله، بل منهم من سبقه ومنهم من تأخر عنه، فلأجل ذلك اختلفوا، فبعضهم بدأ بالنحر، فنحر هديه أو فديته قبل أن يرمي، وبعضهم لما رمى بدأ بالحلق قبل أن ينحر، اجتهاداً منهم، فلم يرتبوا كما رتب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان في أثناء الضحى بعدما نحر وبعدما حلق وقف للناس على بعيره، فتوافد عليه الناس يسألونه أسئلة كثيرة.

    فذكر بعضهم: (أنه قدم النحر قبل الرمي، مع أن الرمي سنة منى، فقال: ارم ولا حرج، -أنت الآن قد نحرت قبل أن ترمي، اذهب فارم ولا حرج عليك-، وجاءه آخر وقال: لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر، قدمت الحلق قبل النحر، خلاف ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم لكونه نحر قبل أن يحلق، فقال: وانحر ولا حرج)، وسئل عن مسائل كثيرة وكلها يقول فيها: لا حرج لا حرج.

    فأفادنا هذا بأن أعمال يوم النحر أربعة، وأنه لا يلزم فيها الترتيب، فمن قدم فيها أو أخر فلا إثم عليه، إذا قدم الذبح قبل أن يرمي فلا حرج، وعليه أن يرمي ويكمل بقية الأعمال، وكذلك لو لم يتيسر له الذبح من ذلك اليوم، فنحر في اليوم الثاني أو في اليوم الثالث بعدما يتحلل فلا حرج عليه، يبدأ بالرمي، ثم يحلق، ثم يتحلل التحلل الأول، وكذلك لو طاف فلا حرج، لو قدم الطواف أيضاً قبل النحر فلا حرج، وكذلك لو أخر الرمي فحلق ونحر وطاف ولم يرم إلا في آخر النهار فلا حرج عليه أيضاً في ذلك، وكل ذلك من باب التوسعة، وذلك لأن المطلوب الإتيان بهذه الأعمال وقد أتى بها كما أمر، فما دام أنها قد حصلت فلا إثم عليه في تقديم أو تأخير.

    وفي بعض الروايات أن رجلاً قال له: (رميت بعدما أمسيت، فقال: لا حرج)، والمراد بالمساء آخر النهار؛ لأنه صلى الله عليه وسلم رمى في الضحى وأكثر الصحابة رموا جمرة العقبة في يوم العيد في الضحى، وهذا لم يرمها إلا بعد الزوال في آخر النهار، وآخر النهار يسمى مساء، فقال: (رميت بعدما أمسيت فقال: لا حرج)، وفي بعض الروايات: (أن رجلاً قال له: سعيت قبل أن أطوف) قدم السعي، مع أن المشروع لمن دخل البيت أن يقدم الطواف؛ لأن الطواف تحية البيت، وهذا قدم السعي، (فقال: لا حرج)، ولكن هذه الرواية لم تكن مشهورة، فليست في الصحيحين وإن كان سندها قوياً، وأكثر العلماء يخصونها بالجهل، أن من سعى جاهلاً قبل الطواف أجزأه سعيه، فلا يعيد السعي بعد الطواف، وأما المعتمد فلا؛ لأن فيه أنه لم يشعر، فدل هذا على أنه لم يكن شاعراً بالحكم.

    ورمي الجمرة معلوم أنه في يوم العيد في النهار كله من طلوع الشمس إلى غروبها؛ لحديث ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قال له: (أي بني! لا ترم الجمرة حتى تطلع الشمس).

    1.   

    موضع رمي الجمرات

    كذلك موضع الرمي وموقفه إذا أراد أن يرمي دل عليه حديث ابن مسعود، فلما أراد أن يرمي جمرة العقبة قابلها، واستقبل جهة الشمال وجعل مكة أو البيت عن يساره ومنى عن يمينه، وقال: (هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة) يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت جمرة العقبة في أصل جبل صغير مبنية في أصله، ولا يتمكن أحد أن يرميها إلا من الجانب الجنوبي أو من الغربي قليلاً والشرقي، أما الجانب الشمالي فإنه مرتفع رأس جبل عقبة، فلذلك سميت جمرة العقبة، وقد أزيلت تلك العقبة في عهد الملك سعود في سنة خمس وسبعين من القرن الرابع عشر بعد أن أفتى بذلك المشايخ في ذلك الوقت، ورأوا أنها في الطريق -متوسطة في الطريق-، فأزالوها لتوسعة الطريق، وبقيت الجمرة بارزة كما هي الآن، ويمكن أن ترمى من الجهات كلها، لكن لما لم يكن في الجهة الشمالية حوض لم يُجوز الرمي منه؛ لأنه في الأصل ما كانت ترمى من الجهة الشمالية؛ لأنها في أصل جبل كما ذكرنا، فلذلك نقول: لا يجوز رميها إلا في الحوض، أو في الجهات التي فيها حوض، من الجهات الغربية جانب الحوض، وكذا الشرقية جانب الحوض، والجنوبية وسط الحوض، وهذا هو الأفضل، أن يجعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه ويتوسط الحوض.

    وفي هذه الأزمنة قد بني فوقها سطح وجعل فيه أيضاً مرمى، فترمى من الأعلى وترمى من الأرض، فالذي يرميها من فوق يرميها من كل الجهات، وذلك لأن الحصيات تسقط في الحوض ولابد، فقد رفع الشاخص إلى أن برز للرامين، فيرمونه وتسقط الحصيات في الحوض، والمطلوب أن كل حصاة إما أن تصيب الشاخص وإما أن تصيب الحوض وتقع فيه ولو تدحرجت وسقطت على الأرض، ولو ضربت الشاخص مثلاً وقفزت وسقطت على الأرض اكتفي بذلك، ولا نطيل في الكلام على هذه الجمرات ونحوها.

    فهذه الأحاديث تتعلق بشيءً من صفات الحج ومن أعمال الحجاج، ومعلوم أن صفة الحج مأخوذة من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومن سنته، وأنه هو الذي بين للأمة هذه المناسك، وقال: (خذوا عني مناسككم؛ فلعلي لا ألقاكم بعدها أبدا)، وأنه صلى الله عليه وسلم بين للناس كيف يرمون الجمرات في أيام الجمرات، وكذلك في أوقاتها، وبين بأفعاله وبأقواله جميع المناسك، فأصبحت واضحة المعالم والحمد لله.

    وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756542006