إسلام ويب

شرح عمدة الأحكام [19]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من الأركان المشروعة في الصلاة التشهد، وقد ورد بألفاظ مختلفة شرحها العلماء، كما شرعت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد، وكذلك الدعاء، وقد وردت أدعية كثيرة في ذلك، وللمصلي أن يتخير منها ما شاء.

    1.   

    التشهد في الصلاة وأصح رواية فيه

    قال المؤلف رحمه الله: [باب التشهد:

    وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد -كفي بين كفيه- كما يعلمني السورة من القرآن: التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)، وفي لفظ: (إذا قعد أحدكم للصلاة فليقل: التحيات لله -وذكره إلى آخره- وفيه: فإنكم إذا فعلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد صالح في السماء والأرض.. وفيه: فليتخير من المسألة ما شاء).

    وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: (لقيني كعب من عجرة فقال: ألا أهدي لك هدية؟ إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج علينا، فقلنا: يا رسول الله! قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ فقال: قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد).

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في صلاته: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال)، وفي لفظ لـمسلم : (إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع: يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم - ثم ذكر نحوه).

    وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم: (أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: علمني دعاء أدعو به في صلاتي. قال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم).

    وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -بعد أن نزلت عليه: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1]- إلا يقول فيها: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي). وفي لفظ: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي)].

    في هذين الحديثين ما يقوله في التشهد آخر الصلاة، وسمي تشهداً؛ لأن فيه ذكر الشهادتين، وهذا التشهد يعتبر ركناً من أركان الصلاة؛ وذلك للأمر به في هذه الأحاديث: (إذا قعد أحدكم للصلاة فليقل) والأمر لا صارف له عن الوجوب، فلذلك ذهب أكثر العلماء إلى أن التشهد ركن من أركان الصلاة، وأن تركه يبطلها فلا تتم إلا به كسائر أركان الصلاة، ثم هذا التشهد قد رواه عبد الله بن مسعود ، ونقله تلامذته مع كثرتهم ولم يختلفوا فيه، بل كلهم نقلوه نقلاً واحداً دون أن يقع بينهم اختلاف.

    وروي التشهد أيضاً عن عمر بن الخطاب ، ولكن فيه شيء من الزيادة وشيء من النقص، يعني: فيه زيادة كلمة أو كلمتين أو ما أشبهها.

    وروي التشهد عن جابر وفيه شيء من التغيير، ووقع فيه أيضاً شيء من الزيادة والاختلاف بين الرواة.

    وقد اختار الإمام أحمد تشهد ابن مسعود حيث لم يقع فيه اختلاف بين تلامذته، إلى أن وصل إلى المؤلفين؛ ولعل ذلك أن ابن مسعود اعتنى به فذكر أنه تلقاه من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة دون واسطة، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم اهتم بتعليمه إياه حيث جعل كفه بين كفيه يعني: أن كف ابن مسعود بين كفي النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليكون ذلك أدعى إلى الاهتمام، وإلى إقباله بقلبه وقالبه، وكذلك علمه هذا التشهد كما يعلمه السورة من القرآن؛ ولأجل ذلك حفظه وأتقنه كما يحفظ السورة، أي: كما يحفظ الفاتحة والمعوذتين وسائر السور، دون أن يزيد فيها أو يضيف إليها أو يخل بشيء منها، فكذلك نقل هذا التشهد دون أن يغير فيه شيئاً.

    هذا التشهد مشتملٌ على هذه الجمل، وقد ذكر في بعض الروايات، قال: (كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله من عباده، السلام على الله قبل عباده، السلام على جبريل وميكائيل، السلام على فلان وفلان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا: السلام على الله؛ فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله..) إلى آخره.

    فعلل أن الله هو السلام، وأنه سبحانه يحيّا ولا يسلم عليه؛ وذلك لأن السلام اسم من أسماء الله، فهو يذكر به، وأيضاً فالسلام دعاء، والله تعالى يدعى ولا يدعى له؛ فلأجل ذلك لم يجز أن نقول: السلام على الله، ولا نقول: عليك السلام، أما التحية فإنها توقير وتعظيم وعبادة، ولأجل ذلك تسمى جميع التعظيمات: عبادة، وتسمى: تحيات.

    السلام الذي نحن نتبادله يسمى تحية؛ لأنه يحيي به بعضنا بعضاً، قال تعالى: فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً [النور:61]، وقال سبحانه: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86].

    1.   

    تفسير ألفاظ التحيات ومعناها

    أذكر تفسير الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الثلاثة الأصول وشروط الصلاة وأركانها وواجباتها، ولعلكم تحفظونه، فأذكره وأعلق عليه بعض التعليقات، مع أنه مشهور لا بد أنكم قد قرأتموه مراراً.

    معنى التحيات لله

    لما تكلم على التشهد فسره تفسيراً مختصراً فقال: (التحيات لله) أي: جميع التعظيمات لله تعالى ملكاً وخلقاً وتقديراً، قوله: (التعظيمات) يعني: جميع ما يعظم به، فهو تعالى يعظم بالتكبير ويعظم بالتبجيل ويعظم بالتسبيح، فكل ما فيه وصف له بالرفعة وبالعلو فهو من التعظيمات التي يعظم بها ويحيّا بها، فيدخل فيه: (التحيات لله).

    معنى قوله: (والصلوات)

    قوله: (والصلوات) قيل: الدعوات، وقيل: الصلوات الخمس، هكذا ذكر الشيخ أن الصلوات: جميع الدعوات، وقيل: الصلوات الخمس.

    ومعلوم أن الصلاة في اللغة هي الدعاء، ومنه قوله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103]يعني: ادع لهم، وكان يدعو لهم بقوله: (اللهم صل على آل فلان)فنحن إذا قلنا: (الصلوات لله) معناه: الدعوات، يعني: أنه تعالى هو الذي ندعوه ونضرع إليه، ونلح في دعائه.

    و(الصلوات) أي: التي نتعبد لله بها، التي هي الركوع والسجود والقيام والقعود، والتي فيها تحريم وتسليم لا تصلح إلا لله، فلا يصلى للأموات ولا يصلى للأنبياء ولا يصلى للأولياء ولا غيرهم، إنما تصح الصلاة عبادة لله تعالى.

    معنى قوله: (والطيبات)

    وأما قوله: (الطيبات) ففسرها بأنها الأعمال الطيبة، وهي عامة في كل شيء من الأقوال والأعمال والعقائد ونحوها، والمعنى: أنه تعالى إنما يتقرب إليه بكل طيب؛ لأنه طيب ولا يقبل إلا طيباً، فيستحضر العبد عندما يتشهد هذه الكلمات: (التحيات) يعني: التعظيمات، قوله: (والصلوات) يعني: الدعوات، قوله: (والطيبات) يعني: كل طيب وكل عمل طيب.

    صفة السلام على النبي وحكمه والحكمة من مشروعيته في التحيات

    ثم بعد ذلك يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) فبعدما تقرب إلى الله بهذه التحية كان من المناسب أن يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه رسول الله المبعوث منه إلى عباده فيناسب أن يسلم عليه.

    الله تعالى قد أمرنا بذلك في قوله: صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، فناسب أن يسلم عليه، والسلام عليه مثل السلام على سائر العباد؛ لأنك تقول لمن تسلم عليه: السلام عليك يا أخي، السلام عليكم يا إخوتي، السلام عليكم أيها المسلمون، السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، جاء بهذه التحية: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) وهذه التحية هي تحية المسلمين التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم، والله تعالى قال: فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ [النور:61].

    ما صفة هذا السلام؟ لقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم، ثبت: (أنه عليه الصلاة والسلام دخل عليه رجل فقال: السلام عليكم، فقال: وعليكم السلام ورحمة الله، ثم جاء آخر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فقال: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ثم جاء ثالث فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فقالوا: لماذا لم تزده؟ فقال: إنه لم يترك لنا شيئاً) معنى: أنه أتى بالتحية كاملة وهي إلى قوله: (ورحمة الله وبركاته)؛ وذلك لأن الله تعالى ذكر الرحمة والبركة في حق آل إبراهيم في قوله تعالى: رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [هود:73] فلما ذكرت الرحمة والبركات ناسب أيضاً أن تذكر في التحيات، وناسب أن تذكر في التشهد.

    ثم تتفاوت الدرجات والحسنات بحسب هذه التحية، ثبت: (أنه جاءه رجل فقال: السلام عليكم، فرد عليه وقال: عشر، ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد عليه وقال: عشرون، ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد عليه وقال: ثلاثون -يعني: ثلاثين حسنة- ثم قال: هكذا تتفاضل الأعمال) يعني: كل من زاد زاد له الأجر، وزادت الحسنات في حقه، فهذا هو الأصل في التحيات وفي السلام.

    لا شك أن السلام دعاء، ولذلك يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: السلام دعاء، والصالحون يدعى لهم ولا يدعون مع الله، ولما قال: (السلام عليك أيها النبي)، قال: تدعون له والذي يدعى له لا يدعى مع الله.

    فأفاد أن الله تعالى يدعى ولا يدعى له، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يدعى له ولا يدعى، إنما الدعاء خالص لله وحق لله تعالى.

    فهذا هو الأصل في مشروعية السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، والدعاء له بالرحمة التي هي زيادة البركة والخير، والدعاء له بالبركة التي هي كثرة الخير.

    ويعتبر السلام على النبي صلى الله عليه وسلم من تتمة التشهد لا يسقط بحال، يعني: هذه التحيات والصلوات والطيبات، والسلام على النبي تعتبر من أصل التشهد، لا يعفى عنه ولا يسقط.

    أما السلام على عباد الله فإنه سنة، إن أتى به فهو فضيلة وإن لم يأت به لم تبطل صلاته، بخلاف السلام على النبي صلى الله عليه وسلم.

    حكم السلام على النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته بكاف الخطاب

    ثم قولنا: (السلام عليك أيها النبي) الصحيح أنه يؤتى بهذه اللفظة في كل الأوقات وفي كل الأزمنة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد مماته، لكن ورد في بعض الروايات عن ابن مسعود أنه قال: (كنا نقول ذلك في حياته وهو بيننا فلما مات قلنا: السلام على النبي) يعني: كأنه يقول: إننا نقول: (السلام عليك) لما كان حاضراً يسمع، فلما توفي قلنا: (السلام على النبي)، ولم نقل: عليك؛ لعدم التمكن من مخاطبته.

    ولكن لا مانع من استعمال الخطاب له؛ وذلك لأن السلام يبلغه من أمته كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام) وقال: (إن لله ملائكة يبلغونني من أمتي السلام).

    وقد أمر عليه الصلاة والسلام بأن يسلم عليه البعيد والقريب، وأخبر بأنه يبلغه من أي مكان؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (وصلوا عليّ -وفي رواية-: وسلموا عليَّ؛ فإن صلاتكم أو تسليمكم يبلغني حيث كنتم) فنحن إذا قلنا: (السلام عليك أيها النبي) أو (الصلاة على النبي) بلغه ذلك من أي مكان كان، تبلغه إياه الملائكة، ولا شك أيضاً أن في ذلك ثواباً عظيماً؛ لأن الله تعالى أمر به في قوله: وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56] ولا يأمر إلا بما هو طاعة، فيعتبر هذا ذكراً من الأذكار والأذكار أيضاً يثاب عليها العبد.

    صفة السلام على عباد الله الصالحين ومعناه وحكمه

    فأما قوله: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) فذكر في الحديث أنك إذا قلتها: (سلمت على نفسك وسلمت على كل عبد صالح لله تعالى في السماء والأرض، فإن العباد اسم لكل من هو عبد لله، ولكل من هو عابد متعبد لله، فقد وصف في هذا الحديث بأنه صالح.

    والصالحون: هم الذين صلحت أعمالهم وأقوالهم ونياتهم، والذين أصلحوا ما بينهم وبين ربهم، فأنت تسلم عليهم سواء كانوا أحياءً أو أمواتاً، وسواء كانوا من الملائكة أو من الآدميين، فأنت تخص الصالحين بهذا الدعاء الذي هو السلام.

    لا شك أن التسليم عليهم هو الدعاء لهم بالسلامة، كأنك تقول: تغشاهم السلامة من الله، وكأنك تقول: اسم الله عليهم تغشاهم آثاره وبركته.

    وصفوا بأنهم عباد الله، العباد هنا: العبادة الخاصة؛ لأن العباد يدخل فيها المتعبدون ويدخل فيها العابدون، وهو المراد هنا؛ ولأجل ذلك وصفوا بأنهم صالحون.

    معنى الشهادتين ومقتضاهما وحكمهما

    ثم بعد ذلك ذكر التشهد بقوله: (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)، وفي بعض الروايات لم يذكر فيها: (وحده لا شريك له)، فهاتان الشهادتان هما تأسيس العقيدة، وتأسيس الدين؛ ولأجل ذلك سمي هذا تشهداً؛ لأن فيه هذه اللفظة.

    ومعنى (أشهد) كما قال الشيخ محمد : أقر وأعترف أن لا إله في الوجود، أو لا إله يستحق الألوهية إلا الله سبحانه وتعالى.

    والإله: هو المألوه، لا إله يعني: لا مألوه، ولا أحد يستحق أن يؤله، أي: تألهه القلوب وتوده وتحبه وتعظمه وتقر له بالعبودية، غير الله تعالى.

    وهذه الشهادة تستدعي من العبد أن يتأله الله، أن يتخذه إلهاً، فإنك إذا قلت: أشهد أن لا إله إلا الله فإنه يجب عليك أن تألهه؟! كيف تقر أنه الإله ولا تألهه، عليك أن تألهه وتتألهه بقلبك وبقالبك وبدنك، فترغب إليه، وترهب منه وتحبه وتخافه وترجوه وتتواضع له وتتذلل بين يديه، وتتخذه بذلك إلهاً ومألوهاً ومعبوداً.

    أما الشهادة الثانية: فهي أيضاً بمعنى الإقرار والاعتراف، فقوله: (أشهد) يعني: أقر وأعترف بأن محمداً عبده ورسوله، ولا شك أن هذه هي مكملة الشهادة، ولا تكفي واحدة منهما، لا بد من الشهادتين؛ وذلك لأن الشهادة الأولى تستدعي العبادة والطاعة لله، والشهادة الثانية تستدعي المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم والتأسي به، والاقتداء به فيما بلغه، وطاعته فيما جاء به.

    وشهادة أن محمداً رسول الله مقتضاها: أن تؤمن بأنه رسول الله، وأن تؤمن بأنه بلغ ما أرسل به، وأن تؤمن بأن على الأمة تصديقه، وأن تؤمن بأنه تجب طاعته، والتحاكم إليه، وامتثال ما أمر به ودعا إليه، وأن تؤمن بأنه بلغ ما أرسل به أتم بلاغ وأتم بيان، وأن تؤمن بأن لا نجاة لأحد إلا باتباعه، وأن الطرق مسدودة إلا من طريقه.

    وإذا آمنت بذلك ظهرت عليك آثار ذلك بأن تطبق كل ما جاء به وتمتثله، وتقدم أقواله على كل قول، وترضى بالتحاكم إلى شريعته، هذا هو الرسول، والرسول معلوم أنه الذي يحمل الرسالة من الله، أي: فهو مرسل من الله، وهذه الرسالة هي هذه الشريعة التي جاء بها وبلغها قولاً وفعلاً.

    فهذا هو التشهد الأول، يأتي به بعد الركعتين الأوليين في صلاة الظهر، وبعد الركعتين في العصر، وبعد الركعتين في المغرب، وبعد الركعتين في العشاء.

    1.   

    معنى الصلاة الإبراهيمية وحكمها وصفتها

    أما التشهد الأخير الذي هو بعد الركعة الرابعة في الظهر وكذلك في العصر، وبعد الثالثة في المغرب، وبعد الرابعة في العشاء، وبعد الركعة الثانية في صلاة الصبح، وبعد كل ركعتين في التنفلات، فإنه يزيد فيه بالأدعية التي جاءت في بعض الروايات؛ وذلك لقوله: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه، أو ما شاء) فهذه الأدعية مناسبتها أو محلها بعد التشهد الأخير، أي: إذا تشهد التشهد الأخير أتى بما يحضره من الدعاء.

    ولكن في التشهد الأخير الذي يعقبه السلام، يأتي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي في حديث كعب؛ وذلك لأن الله تعالى أمر بهما معاً في قوله: صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56] فلا بد من الإتيان بهما، فيكره الاقتصار على السلام وحده، أو على الصلاة وحدها، لا بد إذا قلت: اللهم صل على محمد أن تقول: وسلم؛ لأن الله قال: (صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا)، فلذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة والسلام عليه، فالصحابة يقولون: (قد علمنا كيف نسلم عليك)، أي: علمتنا بقولك: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وبقي أن تعلمنا كيف نصلي عليك، ما صفة الصلاة عليك؟ والصلاة عليه يدخل فيها كل دعاء.

    روي عن بعض الصحابة أنه قال: (يا رسول الله! إني أكثر الصلاة عليك، فهل أجعل لك ربع الصلاة؟ فقال: ما شئت وإن زدت فهو خير لك، قال: أجعل لك ثلث الصلاة؟ قال: ما شئت وإن زدت فهو خير لك، قال: أجعل لك نصف الصلاة؟ قال: ما شئت وإن زدت فهو خير لك، قال: فإني أجعل لك كل صلاتي، أو جميع صلاتي، قال: إذاً تكفى همك ويغفر لك ذنبك)والمراد أنه يجعل له دعاءه يقول: بدل ما أدعو بالمغفرة وأدعو بسؤال الجنة أشتغل بالصلاة على محمد، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، أجعل ذلك هو الدعاء كله.

    قوله: (صلاتي) يعني: دعائي، فجعل ذلك سبباً لغفران الذنوب، وكف الهموم.

    إذا عرف العبد فضل هذه الصلاة فإنه قد ورد فيها فضائل كثيرة، ذكر جملة كثيرة منها ابن كثير عند تفسير هذه الآية في سورة الأحزاب: صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56] وأفردت أيضاً بالتأليف والتصنيف في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وذكرت فيها الأحاديث الواردة في ذلك وفضيلتها، ويذكرها ويتعرض لها الخطباء في خطبة الجمعة؛ وذلك لأنهم مأمورون بها في يوم الجمعة، ولها مواقيت معروفة ليس هذا موضع تعدادها.

    وهذه الصلاة هي قولنا: (اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم..) إلى آخرها، لا شك أن هذه الصلاة دعاء، ولكن ما هو هذا الدعاء؟

    من العلماء من قال: الصلاة رحمة، وهذا قول مشهور عند الفقهاء؛ وذلك لأنهم قالوا: إنه قال: (كما صليت على آل إبراهيم)، والصلاة الإبراهيمية هي قوله تعالى: رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ [هود:73] عبر عن عن الصلاة بالرحمة، ثم عبر عن البركة بالبركة نفسها في قوله: (وبارك على محمد..) إلى آخره، فأفاد أن الصلاة هي الرحمة.

    ومن العلماء من قال: الصلاة من الله ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى، هكذا رواه البخاري في صحيحه عن أبي العالية ، وهذا هو الأقرب، أي: أننا إذا قلنا: اللهم صل عليه، فمعناه: اذكره بين ملائكتك بالفضل، وإذا صلينا على إنسان فقلنا: عليك صلاة الله، فمعناه: أن يذكرك الله في الملأ الأعلى، مثل قوله: صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقول: من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم).

    هذه الصلاة تسمى الصلاة الإبراهيمية؛ وذلك لأنه أمر بأن يصلى عليه كما يصلى على آل إبراهيم، ولا شك أن المراد بقولك: (اللهم صلِّ عليه كما صليت على آل إبراهيم) أي: كما أنك ترحمت على آل إبراهيم وباركت عليهم، وليس المراد أن آل إبراهيم أفضل منه، بل إننا نطلب أن يحظى بصلاة من الله، كما أن آل إبراهيم حظوا بصلاة من الله، فصلت عليهم الملائكة بقولهم: رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود:73]، ولهذا ذكر هذين الاسمين في آخر هذه الصلاة.

    وقوله: (وبارك على محمد) المراد: أكثر عليهم من خيرك ومن فضلك وجودك وامتنانك، وقد ذكرت البركة أيضاً في السلام في قوله: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته)، فالبركات هي الخيرات الكثيرة.

    والمعنى: أنك تبارك في أعماله وفي أقواله، وتبارك له فيما أعطيته كما ورد في دعاء القنوت: (وبارك لنا فيما أعطيت)، وتبارك في حسناته بأن تضاعفها، فيدعى لكل مسلم بهذه البركة التي هي كثرة الخير، وهي لا نهاية لها.

    فإذا علمنا معانيها عرفنا حكم هذه الصلاة، فالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم جعلها كثير من العلماء ركناً في التشهد الأخير، واستحب كثير منهم في التشهد الأول أن يأتي بها أو ببعضها، ولكن الصحيح أنها إنما تشرع في التشهد الأخير؛ لأنه الذي يطول فيه الجلوس، وقد جعلها بعضهم من الواجبات بحيث إن من نسيها فإنه يسجد للسهو، وجعلها كثير من الأركان بحيث لا تتم الصلاة إلا بها، ولعل هذا هو القول الراجح.

    ويكفي منها أن تقول: (اللهم صل على محمد)، وقال بعضهم: لا بد أيضاً من الصلاة على آله (وآل محمد)، وإذا أتيت بذلك فالبركة وما بعدها من السنن، وكذلك الأدعية، وستأتينا الأدعية فيما بعد، وهي التي تقال بعد الشهادتين وبعد الصلاة الإبراهيمية.

    قد تقدم التشهد الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة وهو قوله: (التحيات لله..) إلى آخره، وهذه تقرأ في التشهد الأول وتقرأ في التشهد الأخير كما هو معروف، وتقدم لفظ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وهي قوله: (اللهم صل على محمد..) إلى آخره، وهذه يؤتى بها في التشهد الأخير، واستحب بعض المشايخ أن يؤتى بها أو ببعضها في التشهد الأول، فالواجب في الصلاة أن يأتي بالتحيات وأن يأتي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

    أما التشهد الذي هو: (التحيات لله..) إلى آخره فالجمهور على أنه ركن لا تصح الصلاة إلا به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علم الصحابة كما يعلمهم السورة من القرآن، وقال: (إذا جلس أحدكم في التشهد فليقل: التحيات الله..)إلى آخره، وقال: (لا تقولوا: السلام على الله ولكن قولوا: التحيات لله)فكل ذلك يستدل به على أنه ركن، وأن من تركه لم تصح صلاته، فلو جلس وسلم قبل أن يقرأه بطلت صلاته إذا كان متعمداً، وإذا كان ساهياً رجع وأتى به وسلم بعدما يسجد للسهو، وكل ذلك دليل على أهمية هذا التشهد.

    أما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير، فذهب جمع من العلماء منهم الإمام أحمد إلى أنها ركن أيضاً كما أن التحيات ركن، بمعنى: أنها لا تصح الصلاة إلا بها، فمن تركها عمداً بطلت صلاته، ومن تركها سهواً رجع وأتى بها إذا تذكر ذلك، فإذا سلم قبل أن يقول: (اللهم صلِّ على محمد..) إلى آخره فلا صلاة له.

    والقدر المجزئ كما ذكرنا سابقاً أن يقول: (اللهم صلِّ على محمد وآل محمد).

    وأجاز بعضهم أن يقتصر على الصلاة عليه دون آله، والبقية سنن، يعني قوله: (وبارك على محمد..) إلى آخره من السنن، إن أتى بها فمستحب، وإلا فلا حرج.

    1.   

    مشروعية الدعاء بالمأثور بعد التشهد

    بعد ذلك يأتي بالأدعية في آخر تشهده، أو يأتي ببعضها كما سيأتي في ركوعه وسجوده.

    حكم التعوذ بالله من جهنم وفتنة المحيا والممات والقبر والدجال ومعناها

    فأما الاستعاذة من هذه الأربع فهي بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ورد الاستعاذة من النار، وورد الاستعاذة من جهنم، وكلاهما سواء، فإن النار هي جهنم؛ لأن جهنم اسم من أسمائها، قيل: إن النار سبع طبقات، وقيل: إن لها سبعة أسماء مشهورة، فمن أسمائها جهنم.

    فيقول: (اللهم إني أعوذ من عذاب جهنم -أو يقول: أعوذ بالله من عذاب جهنم- ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال)، فعذاب جهنم يكون بعد البعث وقد يكون بعضه في البرزخ، فإن الأموات في البرزخ يأتيهم من حرها وسمومها، وعذاب القبر يكون في البرزخ بعد الموت.

    يؤمن أهل السنة بوجود عذاب القبر وإن لم يكن مشاهداً، يعني: أننا لا نشاهده، وقد نحفر القبر ولا نشاهد فيه نعيماً ولا عذاباً ولا أصواتاً ولا غير ذلك، ولكن الأموات في عالم غير عالمنا؛ لأن الميت قد انتقل من عالم الدنيا، وأصبح في عالم اسمه عالم البرزخ، فالعذاب والنعيم على الروح التي قد انفصلت من الجسد، والروح نحن لا ندركها، ولا ندري ما كيفيتها؛ لأن الله تعالى حجبها عن معرفة البشر، قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85].

    فالعذاب في القبر والنعيم على الأرواح، والأجساد تبع لها، فما دام أننا نؤمن بأن عذاب القبر حق؛ فإننا نستعيذ بالله منه، وإن لم نشاهده بالعين، وكان قد كشف لبعض العلماء عن بعض الأشياء فرأوا بعض العلامات ونحوها.

    وعلى كل حال عليه أن يستعيذ من عذاب القبر، ثم يستعيذ من فتنة المحيا والممات، والفتنة في الأصل هي الاختبار، ومنه قولهم: فتن الحداد الحديد أو فتن الذهب والفضة، يعني: اختبره حتى ميز ما هو صحيح وما ليس بصحيح، ثم تطلق الفتنة على الابتلاء في الدنيا، كون الإنسان يبتلى بعذاب أو يبتلى بسجن أو بضرب مثلاً أو بأذى من أنواع الأذى، أو يبتلى بمرض أو بفقر أو بفاقة، أو بشدة مئونة، أو بهم وغم أو نحو ذلك من الابتلاء، فهذه من فتن الدنيا فيستعيذ بالله منها، ومن ذلك فتن الشبهات والشكوك التي يروجها المبتدعة، ويروجها دعاة الضلال، ويدعون بها إلى الشك وإلى الشرك وإلى المعاصي وإلى الكفر ونحو ذلك، فيدعو أيضاً بأن يؤمنه الله تعالى ويعيذه من فتنة المحيا، من الفتنة التي تأتي في هذه الحياة، والتي تأتي عند الموت، ويدخل في فتنة الموت عذاب القبر، أو الفتنة عند خروج الإنسان من الدنيا عند الممات، والحاصل أنه يستعيذ من هذه الفتن.

    كذلك أيضاً من فتنة المسيح الدجال، وهو من أعظم الفتن؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر في عدة أحاديث بأن الدجال يخرج في آخر الدنيا، وأنه يفتتن به خلق كثير، وأنه يدعي أنه هو الرب، ويكون معه آيات أو معجزات يفتن بها الناس، فالإنسان يستعيذ بالله من أن يدركه، أو أن يفتتن به إذا أدركه، وأصل الاستعاذة الاحتماء والتحصن والتحفظ، إذا قال مثلاً: أعوذ بالله، فمعناه: ألتجئ وأعتصم وأتحفظ وأحترس وأستجير بالله تعالى، يشعر بأن هذه الشرور تتوارد عليه، وأن هذه الفتن ونحوها تتكاثر عليه إذا لم يحمه ربه عنها، وخيف عليه أن تفتنه وأن تضله فهو يقول: الله تعالى هو الذي يحفظني منها، وهو الذي يحرسني، وأنا على خطر إذا لم يحفظني ولم يحطني بعنايته، فهذا هو السبب في كونه يقول: أعوذ، يعني: ألوذ وأستجير وأحتمي وأعتصم وأتحصن وأستجير بالله ربي أن يعذبني بعذاب جهنم، أو يسلط عليّ شيئاً من فتن الدنيا، أو من فتن المحيا والممات، أو من فتن المسيح الدجال، فإذا استعاذ بالله تعالى شعر من نفسه بأنه عاجز عن مقاومتها، وأنه لا قدرة له على التحفظ عنها إلا إذا أعاذه الله تعالى وحفظه وحماه، فهو الذي يحفظ العبد منها.

    الاعتراف بظلم المرء لنفسه وطلب المغفرة بسبب ذلك

    أما الحديث الثاني ففيه: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه دعاء يدعو به في صلاته، فعلمه هذا الدعاء وهو: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم).

    هكذا علم الصديق أن يدعو بهذا الدعاء ونحن أحق بأن ندعو به.

    أمر الصديق بأن يعترف بهذا الاعتراف: (ظلمت نفسي ظلماً كثيراً) وفي رواية: (ظلماً كبيراً) هذا الصديق أبو بكر رضي الله عنه هل يقال: إنه ظلم نفسه ظلماً كثيراً، وهو من أول السابقين إلى الخيرات والمسارعين إلى الأعمال الصالحة، وهو من أهل الإيمان الصادق الثابت الذي لا يتزعزع، وهو من المصدقين لله وللرسول دون تردد، ومع ذلك يقول له: (قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً)، إذا كان هذا يقال لـأبي بكر الصديق ، فنحن أولى بأن نكون قد ظلمنا أنفسنا ظلماً كثيراً، وظلم الناس قد يكون بشيء من حقوق النفس، وقد يكون بمطاوعة النفس في شيء من المعاصي والمخالفات، وكل ذلك من ظلم النفس.

    وقد ذكر الله تعالى الاعتراف بالظلم من عباده أو من بعضهم، كما حكى الله تعالى عن يونس في قوله: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] فيونس عليه السلام اعترف أنه من الظالمين، ومع ذلك فإن ظلم النفس عن تقصير في شيء من حقوقها يعفى عنه إذا حافظ العبد على أوامر الله سبحانه وتعالى، ويغفر الله له ذلك، لما نزل قول الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] قال الصحابة: أينا لم يظلم نفسه؟! أي: إذا كان الأمن والاهتداء لا يكون إلا لمن لم يلبس إيمانه بأي ظلم، فأينا يحصل على ذلك؟! فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: إن الظلم هاهنا هو الشرك ألم تسمعوا قول العبد الصالح -يعني: لقمان- إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].

    وعلى كل حال فالظلم الذي وصف به أبو بكر نفسه هو تقصيره في حقوق الله، يعني: فيما يجب لله؛ وذلك لأن العبد مقصر دائماً في حقوق ربه، ولا بد أن يكون قد وقع منه شيء من الغفلة، وشيء من الخطايا والخطرات ونحو ذلك، وكل ذلك من ظلم النفس، وكذلك قد تكلم فيما لا يعنيه، أو نظر إلى ما لا يشتهيه، أو أكل شيئاً بغير حقه أو ما أشبه ذلك، وكل ذلك من الظلم، فعلى الإنسان أن يعترف بهذا الظلم وأن يطلب من ربه أن يغفره.

    ثم هذا الذكر يأتي به في آخر الصلاة: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) ليعترف بأنه ولو أدى هذه الصلاة ولو ذكر الله فيها، ولو قرأ كتابه، ولو قرأ ما قرأه، ولو خشع وخضع وركع وسجد، فإنه مع ذلك مقصر فيما يجب عليه لله سبحانه وتعالى، فسبيله أن يطلب العفو، وأن يطلب المغفرة، فهكذا يختم الإنسان صلاته بالاعتراف بالتقصير؛ رجاء أن يتداركه ربه برحمته.

    هذا الدعاء في هذين الحديثين من السنن، يعني: قوله: (اللهم إني ظلمت نفسي..) إلى آخره، أو قوله: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال)، هذا من سنن الصلاة، يعني: يتأكد أن يأتي به، وبعض العلماء يرى وجوبهما، حتى روي أن طاوساً أمر ابنه أن يعيد الصلاة لما لم يقل: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم..) إلى آخره؛ لأنه ورد في حديث (إذا صلى أحدكم فليستعذ بالله من أربع).

    ولعل القول بأنه مستحب لا واجب هو الراجح، والدليل عليه أنه عليه الصلاة والسلام قد خير العبد في الدعاء لما ذكر التشهد قال: (ثم ليتخير بعد من الدعاء ما شاء) وفي رواية: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه)، فلما أمره بأن يتخير من الدعاء ما يناسبه، دل ذلك على أن هذا الدعاء ليس بواجب، وإنما هو مندوب ومستحب.

    ومع ذلك يحرص على أن يأتي به مهما استطاع، وبعض الأئمة قد يخففون التشهد الأخير، فلا يتمكن المصلون خلفهم إلا من بعض الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والواجب أن ترشدوا الأئمة الذين يخففون وتأمروهم بأن يتأنوا بعد أن يقولوا: (اللهم صل على محمد)، حتى يقول المأمومون خلفهم: (اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم، وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال)، وقوله: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً..) إلى آخره، وليس في ذلك إطالة على المأمومين ولا مشقة عليهم.

    ذكر بعض الأدعية الواردة بعد التشهد

    كذلك ورد أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام كان يدعو في آخر الصلاة ويستعيذ من المأثم والمغرم، كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم، فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم؟! فقال: إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف)، والمراد بالمغرم الديون التي يتحملها حتى يكون من الغارمين، والغارم: هو المتحمل لحقوق الناس، فشرع له أن يستعيذ من المغرم، والمأثم: هو الذنب الذي يكون به آثماً.

    ورد أيضاً: أنه يستعيذ من ضيق الصدر وشتات الأمر بعد قوله: (من عذاب القبر) يقول: (وضيق الصدر وشتات الأمر)، كل ذلك من المستحب أيضاً.

    واستحب بعض العلماء أن يأتي بالذكر الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ في قوله: (إني أحبك يا معاذ فلا تدع أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) فيقولون: إن دبر الصلاة يعني: آخرها، فيقول في آخر التشهد قبل السلام: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك).

    والبعض الآخر قالوا: يأتي به بعد السلام، فإن دبر الصلاة يعني: بعد الانتهاء منها.

    واستحب بعض العلماء أن يأتي بشيء من الثناء مثل قوله: (اللهم بك آمنت ولك أسلمت وعليك توكلت وإليك أنبت، وبك خاصمت وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أسرفت) وما أشبه ذلك، إذا تيسر ذلك أتى به؛ لأنه قال في الحديث: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه) يعني: أنه إذا طال جلوس الإنسان في صلاته كأن يصلي وحده وأطال التشهد فإنه يدعو؛ لأنه في صلاة، ولأنه ينتظر الإجابة في آخر الصلاة، فيرجى أن يكون ذلك سبباً في إجابة الدعاء، لأنه لما أتى بهذه العبادة كان الإتيان بها من أسباب قبول الدعاء يعني: كأنه يقول: جعلت الصلاة وسيلة وسبباً فأدعو بعدها بهذا الدعاء رجاء أن يقبل مني.

    1.   

    استحباب قول: (سبحانك اللهم ربنا، اللهم اغفر لي) في الركوع والسجود

    أما حديث عائشة ذكرت أنه صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول في صلاته: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) وفي رواية: (سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه) وتقول: (إنه يتأول القرآن)، وإنه يقول ذلك في ركوعه وفي سجوده، لما أمره الله تعالى بذلك في قوله: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:3] فذكر الله التسبيح، وذكر الحمد، وذكر الاستغفار، وذكر التوبة، فيجمع بينهما بقوله: (سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك) أو: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) أو: (اللهم اغفر لي وتب عليّ)، فإذا أتى بهذا أو بما تيسر منه رجي أن يستجاب له؛ لأن الاستغفار طلب المغفرة، والتوبة هي طلب قبولها، كأنه يقول: إذا تبت فاقبل توبتي، والتوبة هي الرجوع إلى الله بعد المعصية وبعد المخالفة وما أشبه ذلك.

    فهذا يكون في الركوع والسجود، إذا قلت مثلاً: (سبحان ربي العظيم)، ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً تقول بعد ذلك: (سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي)، أو (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) أو (سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه).

    وكذلك في السجود إذا قلت: (سبحان ربي الأعلى) (سبحان ربي الأعلى) ما شئت، تقول بعد ذلك: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) امتثالاً لهذه الآية فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:3].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756490515