إسلام ويب

شرح عمدة الأحكام [4]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من مميزات الإسلام أن شرع لأتباعه التنظف والطهارة والبعد عن الأرجاس والأوساخ، بل إن صحة العبادة متوقفة على ذلك، ولذلك كان على المسلم أن يعرف أعيان النجاسات وكيفية تطهيرها.

    1.   

    أحكام المذي

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المذي وغيره:

    عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كنت رجلاً مذاءً، فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته مني، فأمرت المقداد بن الأسود فسأله، فقال: يغسل ذكره ويتوضأ)، وللبخاري : (توضأ واغسل ذكرك)، ولـمسلم : (توضأ وانضح فرجك).

    عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد بن عاصم المازني رضي الله عنه قال: (شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً)].

    هذا الباب عقده المؤلف رحمه الله لنواقض الوضوء، وذلك أن الله تعالى لما أمر بالوضوء ذكر بعض النواقض، وبين النبي صلى الله عليه وسلم تفاصيلها، فالله ذكر منها في قوله تعالى: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [النساء:43] فجعل هذين من جملة النواقض.

    والنبي صلى الله عليه وسلم بين أن من النواقض الخارج من السبيلين؛ سواء كان له جرم كالبول والغائط والمني، أو ليس له جرم كالريح، كل ذلك جعله من نواقض الوضوء، ومتى وجدت هذه النواقض فالمحدث يسمى محدثاً، عليه أن يتوضأ مرة أخرى بعد أن كان متوضئاًً، فلو كان حديث عهد بوضوء، لو توضأت مثلاً وبعد خمس دقائق أو دقيقتين حصلت منك واحدة من هذه النواقض؛ فإن عليك أن تجدد الوضوء، وما لم يكن أحدث شيئاً من النواقض فإنه يبقى على وضوئه ولو عشر ساعات أو أكثر، حتى يحصل ما ينتقض به الوضوء.

    فمن جملة النواقض المذي المذكور في الحديث الأول، والباب عقد للمذي والريح وإزالة النجاسة وخصال الفطرة، كما ستأتي كلها من ضمن الأحكام التي جمعت في هذا الباب.

    والمذي: هو ماء أبيض لزج، يخرج من الرجل عند شهوة أو مداعبة أو تقبيل أو لمس أو نحو ذلك، يخرج من الذكر ويحس الإنسان بخروجه، وخروجه ليس كخروج المني، المني معروف أنه أصفر، الذي هو المادة التي يخرج منها الولد، والمذي أبيض، المني غليظ، والمذي رقيق، المني يخرج دفقاً وتصحبه لذة، والمذي يخرج سيلاناً كما يسيل البول، إلا أن علامته أنه أبيض وأنه يحس بشهوة عند خروجه، وأنه لا بد أن يسبقه شيء من المداعبة ونحوها أو حضور شهوة.

    ويخرج كثيراً من الشباب، ولا شك أن خروجه بكثرة يؤدي إلى مشقة في الاغتسال، الشباب غالباً يخرج منهم، سيما في أول الزواج أو عند البلوغ أو نحو ذلك، يتدفق منهم بكثرة، فيشق عليهم أن يغتسلوا، وعلي رضي الله عنه كان في سن الشباب في ذلك الوقت، سيما وهو حديث عهد بزواجه لما تزوج ابنة النبي صلى الله عليه وسلم.

    مشروعية الاستنجاء والوضوء من المذي وصفة الاستنجاء

    يقول: (كنت رجلاً مذاءً) أي: كثير خروج المذي، يقول في بعض الروايات: (فكنت أغتسل منه حتى تشقق ظهري) أي: من كثرة ما أغتسل، فلما أنه شق ذلك عليه استحيا أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا شيء يحدث بين الزوجين، فكأنه يحدث بينه وبين ابنته عندما يحصل ملامسة أو مداعبة أو تقبيل يخرج هذا المذي، دون أن يكون هناك جماع، فعند ذلك لما أنه لم يتجرأ على السؤال أرسل المقداد بن الأسود ليسأل ويخبره، وليس ذلك استحياء منه في طلب العلم، وإنما هو حياء أن يذكر له شيئاً مما يقع بينه وبين ابنته، فعند ذلك أفتاه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه عادة؛ لقوله في بعض الروايات: (وكل فحل يمذي)، هذا المذي يخرج غالباً من كل فحل، أي: من كل ذكر، ثم رخص له بترك الاغتسال وأمره بالاستنجاء وبالوضوء.

    ففي هذه الروايات: (يغسل ذكره)، وفي رواية: (اغسل ذكرك)، وفي رواية: (توضأ وانضح فرجك)، فأخذ العلماء من ذلك أنه لا بد من غسل الذكر.

    وورد في بعض الروايات: (اغسل ذكرك وأنثييك) يعني: يغسل ذكره وخصيتيه؛ وذلك ليحصل تقلص الذكر وتوقف هذا الخارج؛ لأن الغالب أنه إذا حصل منه شيء من الانتشار أو من الشهوة، فإنه يسيل منه ويخرج، فإذا غسل ذكره كله وغسل أنثييه حصل بذلك توقف وحصل تقلص، والماء يحصل منه القطع حتى استعمال الماء بعد البول، فالاستنجاء يحصل منه فائدة توقف الخارج الذي هو البول، الماء يقطع خروج البول فكذلك يوقف خروج المذي.

    ومن العلماء من يقول: يغسل رأس الذكر فقط؛ لأنه الذي تلوث والذي خرجت منه النجاسة.

    ولكن الصحيح أنه يغسل ذكره كله، وأنه أيضاً يغسل أنثييه حتى تحصل المصلحة؛ وذلك لأن النص واضح لقوله: (يغسل ذكره) يعني: كل الذكر، وقوله: (اغسل ذكرك)، وكذلك قوله: (توضأ وانضح فرجك)، والنضح يطلق أيضاً على الغسل، نضحه بمعنى: غسله، أي: صب الماء عليه، والفرج اسم لما هو عورة، فيعم الذكر وقد يدخل فيه أيضاً الدبر.

    والحاصل: أن عليه أن يغسل الفرج كله، والحكمة في ذلك ظاهرة، وهي أن يوقف ذلك الخارج، ومتى خرج بعد ذلك فإنه يعيد الوضوء؛ لأنه يعتبر ناقضاً من النواقض، لكن يحدث أن كثيراً من الشباب عندهم شيء من الوساوس والأوهام التي ليس لها حقيقة، فترى أحدهم يحس بأشياء لا حقيقة لها، فيتخيل أنه خرج منه مذي أو خرج منه بول، فيقطع الصلاة مراراً ويقطع الوضوء، أو يعتقد انتقاض الوضوء كثيراً، ويكلف نفسه ويشق على نفسه كثيراً.

    فنقول: لا ينبغي التمادي مع تلك الوسوسة ما دام أنها توهمات ليس لها حقيقة، لكن متى أحس بخروج المذي خروجاً يقينياً ولم يكن مستمراً بحيث يلحق بسلس البول، فإنا نأمره بأن يجدد وضوءه، فيستنجي ثم يتوضأ.

    حكم نجاسة المذي

    في هذا الحديث أن المذي نجس؛ وذلك لأنه أمره بأن يغسل ذكره.

    وكذلك أيضاً يغسل الثوب الذي أصابه، أو يغسل محله من الثوب أو من السراويل، فإذا أصاب سراويلك أو أصاب ثيابك فإنك تغسل ما أصابه منها؛ لأنه ألحق بالبول.

    والمني فيه خلاف في طهارته، ولكن الأقرب أنه طاهر، وأن غسله إنما هو غسل نظافة، وأما المذي فإنه ملحق بالبول في أنه يغسل كما يغسل البول، يغسل من الجسد إذا وقع على الفخذ مثلاً، أو على البطن، ويغسل من الثوب إذا وقع على الإزار أو على السراويل، يغسل كما تغسل النجاسة، وغسله أن يغسل حتى تذهب عين النجاسة، فإذا ذهبت اكتفى بذلك.

    أما المذي فلا خلاف أنه يوجب الوضوء؛ وذلك لأنه خارج من أحد السبيلين، وقد استدلوا بهذا الحديث على أن كل ما خرج من السبيلين فإنه ناقض للوضوء؛ لعموم الآية وهي قوله تعالى: وجَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ [النساء:43] ، ولعموم هذا الحديث، والحديث الذي بعده.

    مشروعية الاستعانة بالغير في سؤال أهل العلم

    ويستدل بهذا الحديث على أن الإنسان إذا احتاج إلى معرفة حكم، ولم يستطع أن يسأل؛ فعليه أن يوكل غيره حتى يسأل، ولا يبقى على جهل، فربما يقع في عمل لا يكون جائزاً، وذلك أن الإنسان مثلاً قد يظن أن هذا ليس بحدث أو أنه لا يضر، فربما بقي على نجاسته، أو تكلف واعتقد أنه موجب للغسل فأخذ يغتسل، فيكون قد أوجب شيئاً على نفسه لم يجب عليه، فإذا تبصر في ذلك عمل على برهان.

    وفي هذا أيضاً دليل على أن هذه الأحداث قد تحدث بكثرة، وأن حكمها قد يخفى على بعض الناس الذين لم يسألوا، وعلى كل حال فإن المذي من جملة النواقض التي توجب الوضوء، والتي يجب مع الوضوء قبله الاستنجاء الكامل، والغسل الذي قال فيه: (اغسل ذكرك) أو: (يغسل ذكره) أو: (توضأ وانضح فرجك) هو غسل كامل، بأن يصب على فرجه بيده اليمنى ويدلكه بيده اليسرى، حتى يزيل أثر ما خرج منه، وحتى يحصل منه الحكمة التي هي الطهارة والتقلص وتوقف الخارج.

    1.   

    شرح حديث: (شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم لرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة..)

    أما الحديث الذي بعده فهو يعتبر قاعدة من قواعد الشرع، وذلك أن الإنسان كثيراً ما يجد في بطنه شيئاً من القرقرة ومن الصوت الذي يحدث في بطنه، ثم يخيل إليه أنه خرج من دبره شيء، مع أنه في الحقيقة لم يخرج منه شيء، وهذه الحوادث تسمى: القراقر.

    والقراقر: قراقر البطن، قرقرة البطن عندما يكون الإنسان قد أكل مثلاً أو جاع أو نحو ذلك، يسمع في بطنه قرقرة، فيظن بعد حدوث هذه القرقرة أنه خرج منه ريح أو خرج منه ناقض، فإذا ظن ذلك كلف نفسه وقام وأعاد الوضوء، ثم عاودته تلك القرقرة، ثم يعيد الوضوء مرة ثانية وثالثة ورابعة حتى يكلف نفسه ويشق عليها.

    ودين الله تعالى يسر، وليس فيه عسر ولا صعوبة، فلا ينبغي للإنسان أن يتمادى مع هذا الصوت أو مع هذه القرقرة التي في بطنه، ولذلك جعل النبي عليه الصلاة والسلام للحدث علامة ظاهرة، وذلك بقوله: (لا ينصرف)، يعني: لا ينصرف إذا كان في الصلاة، ولا يقم إذا كان جالساً ليجدد الوضوء لا ينصرف (حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً)، مراده بالصوت: صوت الريح الخارجة، وكذلك وجودها كأن يشمها بأنفه، والمعنى: حتى يتحقق ويتيقن أنه أحدث بخروج الريح من دبره؛ وذلك لأن خروجها يحصل منه إحساس ظاهر جلي لا خفاء فيه، بخلاف القراقر فإنها توهمات.

    علاج وساوس الشيطان في الوضوء

    وورد أيضاً في أحاديث كثيرة ما يدل على أن هذه الوساوس تحدث من الشيطان، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (يأتي الشيطان أحدكم فينفخ في دبره فيخيل إليه أنه أحدث، فإذا وجد ذلك فليقل: كذبت)، كأن يقول له الشيطان: إنك أحدثت، فليقل في نفسه: كذبت، يعني: لا يلتفت إلى وسوسة الشيطان، هذه الوسوسة التي يبتلى بها كثير من الناس، فيحس بأنه خرج منه ريح، أو بأنه تحرك دبره أو نحو ذلك، فهذه أشياء ليس لها حقيقة إنما هي وساوس من الشيطان، ويقصد الشيطان بذلك أن يمل المسلم من العبادة، إذا رأى فيها هذه الكلفة والمشقة ملها وضجر منها، وأدى به ذلك إلى أن يتركها كلياً، وهذا هو مراد الشيطان، أو يريد بذلك أن يتهاون بهذه الأمور حتى لا يتوضأ من أي حدث.

    فنقول: الأمور تبقى على أصلها إلى أن يُتيقن زوال ذلك الأصل، فالأصل أنك متطهر وليس في طهارتك شك، فإذا اعتراك شك فالشك لا يرفع اليقين، يقينك الذي أنت عليه هو أنك على وضوء، وذلك العارض وَهْم أو شك أو وسوسة أو خيالات لا يلتفت إليها.

    وكثيراً ما يشكو إلينا بعض أهل الوسوسة وأهل التوهمات من شباب ومن شيب، كبار وصغار، رجال ونساء، يشتكون مما يلاقونه من أنه يخرج من أحدهم من ذكره كذا، يحس به، أو يخرج من دبره كذا يحس به، فيقول: إنني أتفقد نفسي ومع ذلك لا أجد خارجاً حسياً، وأسأل غيري ويقول: ما أحسست بشيء.

    فنقول: لا تلتفت إلى تلك التوهمات، فإنه لو كان يقيناً لأحس به من إلى جانبك، لوجدوا الريح مثلاً ولسمعوا الصوت، والرسول عليه الصلاة والسلام حدد ذلك، فإذا كنت لم تجد ريحاً ولم تسمع صوتاً ولم تحقق حدثاً، والذين عندك أيضاً لم يحسوا بشيء من ذلك؛ دل ذلك على أنها وسوسة فلا يلتفت إليها.

    1.   

    كيفية تطهير بول الغلام والجارية

    [وعن أم قيس بنت محصن الأسدية : (أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجلسه في حجره، فبال على ثوبه، فدعا بماء، فنضحه على ثوبه، ولم يغسله).

    وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بصبي، فبال على ثوبه، فدعا بماء فأتبعه إياه)، ولـمسلم : (فأتبعه بوله ولم يغسله).

    وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد، فزجره الناس، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى بوله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء فأهريق عليه)].

    هذان الحديثان في إزالة النجاسة وفي تطهير البول، فالأول: في بول الطفل، والثاني: في بول الرجل.

    ذكر في الحديث الأول: أن هذه المرأة -وهي أخت عكاشة بن محصن الأسدي - جاءت بطفل لها صغير لم يكن قد أكل الطعام، فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم في حجره، فبال الطفل عليه كعادة الأطفال، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بماء فصبه على بوله ولم يغسله، وكذلك ذكرت عائشة .

    وورد في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يغسل من بول الجارية وينضح من بول الغلام)، والجارية: الأنثى، والغلام: الصبي الذكر.

    نضح بول الغلام وغسل بول الجارية

    والغسل معناه: أن يدلك الشيء ويفرك، أي: يصب الماء على الثوب ويدلك مرات إلى أن يطهر.

    وأما النضح فمعناه: أن يصب الماء عليه وأن يتبعه إياه بدون فرك، يقال: نضح الثوب أي: صب الماء عليه دون فرك. وغسل الإناء: دلكه بيديه ونظفه، ونضح الثوب: بلَّه بالماء، وغسل الثوب: فركه ودلكه، ومعنى هذا: أن بول الطفل الذكر إذا لم يكن قد أكل الطعام فإن نجاسته مخففة، يكتفى فيها بأن يصب الماء على الثوب من غير أن يحتاج إلى دلك، بخلاف بول الجارية وبول الكبير، وقد ورد في بعض الروايات تقدير ذلك بما إذا لم يكن قد أكل الطعام، إذا كان ذلك الطفل لم يكن قد أكل، إنما غذاؤه اللبن، فأما إذا كان قد أكل الطعام فإنه يغسل كبول الكبير.

    والأصل في الغسل أنه: دلك المتنجس إلى أن تذهب عين النجاسة ويزول أثرها، فكل شيء تنجس ببول أو نحوه لا بد من تطهيره بالماء، فإن الله تعالى جعل هذا الماء طهوراً، قال تعالى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال:11] قوله: (لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) أي: أنه سبحانه جعل التطهير بهذا الماء، فعرفنا بذلك أن هناك فرقاً بين بول الصغير وبول الكبير، وبين بول الصبي الذي لم يأكل الطعام وبول الجارية التي لم تأكل الطعام، فالجارية -وهي الأنثى- يغسل بولها كبول الكبير، والصبي الذي لم يأكل الطعام يقتصر في إزالة نجاسة بوله على مجرد الصب ومجرد النضح، بدون أن يحتاج إلى فرك أو دلك أو تكرار غسل، ولذلك قالوا: إن نجاسته مخففة.

    الحكمة من نضح بول الغلام وغسل بول الجارية

    وقد علل العلماء في الفرق بين الذكر والأنثى بتعليلات:

    فمنهم من قال: إن الأنثى مخلوقة من لحم ودم نجس، وإن الذكر -الذي هو آدم- مخلوق من التراب والطين، والتراب طاهر. ولكن لو كان ذلك لم يكن هناك فرق بين الكبير والصغير، ومعلوم أن بول الكبير نجس فلا يكون له هذا الحكم.

    ومنهم من قال: إن بول الصبي ينتشر ويشق تتبعه؛ فلأجل ذلك اكتفي فيه بالنضح، وبول الجارية لا يشق تتبعه، فألزم بأن يغسل إلى أن ينظف، ولعل هذا مقارب.

    ومنهم من قال: إن الصبي تعلقه النفوس وتحبه، ويكثر حمله ونقله وإجلاسه، فيبتلى الناس بنجاسته كثيراً، فيكون من آثار هذا الابتلاء وهذه المشقة التيسير؛ فإن المشقة تجلب التيسير.

    ولعل هذا أيضاً مقارب في الفرق بينهما، وهو أن الصبي تعلقه النفوس وتحبه، ويكثر حمله والابتلاء بنجاسته. أما في هذه الأزمنة فإنه يمكن التحفظ من بولهما معاً بهذه الحفائظ التي تجعل على عورته في حال صغره، حتى لا تتعدى نجاسته لا بولاً ولا غائطاً، ومعلوم أن هذا الحكم خاص بالبول الذي هو الماء السائل، وأما الغائط فإنه كسائر النجاسات، يغسل كما تغسل النجاسات، ولا يتسامح فيه كما يتسامح في البول.

    فالغائط نجس من صغير وكبير وذكر وأنثى، والبول نجس من الكبير ونجس من النساء صغيرهن وكبيرهن، ونجس أيضاً من الطفل، إلا أن نجاسته مخففة ويكتفى في إزالته بالنضح الذي هو الصب، وأما سائر النجاسات فإنها تغسل إلى أن يذهب عين النجاسة.

    وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه لا بد من سبع غسلات لإزالة بول الجارية، أو بول الكبير، أو الغائط، ولكن الصحيح أنه لا حاجة إلى عدد؛ بل يكتفى في ذلك بمجرد إزالة العين، فمتى زالت عين النجاسة وذهب أثرها اكتفي بذلك وطهر المكان، ولا فرق حينئذ بين الثياب وبين الجسد وبين الأواني التي وقعت عليها النجاسة، وبين غيرها من سائر ما يتنجس.

    1.   

    كيفية تطهير بول الكبير من الأرض والثياب وغيرهما

    وذكر بعده حديث أنس في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد، وذكر: أن ذلك الأعرابي يقال له: ذو الخويصرة، وكان رجلاً جافياً، وكان على عادته وعلى جهله، فهو لم يكن على علم بحرمة المساجد وبما يجب أن تنزه عنه وتنظف، فهو لما انتهى من الصلاة والناس في المسجد قام إلى ناحية من المسجد وجلس يتبول فيها، فلما رآه الناس على هذه الهيئة زجروه زجراً بليغاً وقالوا: مه مه! وأرادوا أن يقوموا عليه ليقطعوا بوله، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن ذلك، وذلك رفقاً به، وقال في آخر الحديث: (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين).

    وقد بين العلماء سبب نهيه لهم عن أن يقطعوا عليه بوله؛ وذلك أنه لا شك سيشق عليه قطع بوله، إذا كان قد بال بعض البول ثم قام قبل أن يكمله شق ذلك عليه، وأيضاً من الأسباب: أنه قد يتلوث المسجد وتنتشر النجاسة، فلو قام وهو يبول لوقع البول في أكثر من موضع، بخلاف ما إذا ترك حتى ينتهي، فإن البول يكون في موضع واحد ويمكن إزالته، أما لو قام فإنه سيتقاطر من هنا ومن هنا، وهكذا لو قام قبل أن يتكامل بوله لتنجس جسده ولتنجست ثيابه، ولكن من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم ومما أعطاه الله تعالى من الرفق ومن التيسير أن تركه إلى أن انتهى من بوله، فعند ذلك أمرهم بأن يصبوا عليه ماءً، فصب على ذلك البول حتى زال أثره، وذلك بالمكاثرة.

    فأخذ العلماء من هذا أن نجاسة الأرض بالبول تطهر بالمكاثرة، بحيث تغمر بالماء إلى أن تذهب عين النجاسة، بدون أن يحتاج إلى تكرار صب أو تكرار دلك أو نقل التراب المتنجس أو نحو ذلك.

    ما نقلوا أنه أمر بحفر التراب المتنجس، بل ترك ذلك التراب الذي فيه البول على حاله وصب عليه دلواً من ماءٍ، ولا شك أن الدلو أكثر بكثير من ذلك البول، فلا شك أنه سيغمر البول وسيزيل أثره، وسوف يطهره ولا يبقى له عين ولا تبقى الأرض متنجسة، بعد ذلك يجوز أن يصلى في ذلك المكان؛ لأنه قد طهر، ولا حاجة إلى تكرار الصب بل يصب مرة واحدة.

    وقد ذهب بعضهم إلى أنه ينقل التراب المتنجس، ولكن لا دلالة في الحديث على نقله، ولم يأت ما يدل على ذلك، وذهب بعضهم إلى أنه يغسل ويكرر، فإذا شرب الماء صب عليه مرة ثانية، فإذا شربه صب عليه ثالثة وهذا أيضاً لا دليل عليه، ولا حاجة إلى التكرار، بل يكتفى بأن يصب عليه مرة واحدة ويطهر بهذا الصب دون أن يحتاج إلى تكرار الغسل.

    كذلك أيضاً يقاس عليه كل ما كان ملتصقاً بالأرض، هناك مثلاً الفرش التي تكون ملصقة بالأرض يشق أن ترفع، كهذه الفرش التي في المساجد والتي أحكم فرشها وألصقت بالبلاط ونحو ذلك، فإذا وقعت عليها النجاسة اكتفي بغمرها بالماء، يصب عليها ماء وتكاثر به، وتزول عين النجاسة بهذه المكاثرة.

    أما إذا كانت الأرض لا تتشرب النجاسة كالأرض المبلطة فإن هذه الأرض إذا وقعت عليها النجاسة يكتفي بأن يصب عليها الماء كما صبت عليها النجاسة؛ وذلك لأن مثل هذه الأرض تنتشر فيها النجاسة، فإن كانت النجاسة باقية مستنقعة فإنها تنشف بخرقة أو إسفنج أو نحوه، وبعد ذلك يصب عليها ماء وينشف إن بقي شيء من الماء المصبوب.

    أما إذا شرب البلاط تلك النجاسة فإنه لا يحتاج إلى تنشيف وإنما يصب عليه ماء إلى أن يغمره.

    وأما إذا كانت النجاسة على الجدران ونحوها، فإن العلماء أيضاً ألحقوها بالنجاسة التي على الأرض، واكتفوا بأن يصب عليه الماء، ومعلوم أن الماء لا يستقر على الحائط وإنما يرش عليه رشاً كما تطاير عليه رشاش النجاسة، أو يصب عليه ماء أو ينضح عليه نضحاً إلى أن يطهر.

    وأما إذا كانت النجاسة على ثوب أو على بدن فقد تقدم أنه يغسل نجاسة الكلب سبعاً، وبعض العلماء يقول: بول الآدمي وغائطه تغسل سبع مرات من باب الاحتياط، ولكن لا دلالة أيضاً على هذا التكرار، والأصل أنه يكتفي بغسلها مرة واحدة أو مرتين أو مرات، بحيث يزول عين النجاسة وأثرها، وإذا كانت النجاسة مثلاً في قدح وغسلت غسلة أو غسلتين ولم يبق للنجاسة أثر من لون ولا رائحة ولا تغييراً للماء، فلا حاجة إلى تكرار الغسل.

    ومعلوم أيضاً أن تطهير النجاسات لا يحتاج إلى النية، بل تطهر بمجرد الغسل وإن لم يكن هناك من يغسلها، فإذا وقع البول مثلاً على الأرض وجاء المطر فغسله طهرت، وهكذا لو كان على ثوبك نجاسة ثم إنك علقته فنزل مطر كثير قغمره أو خضت به وهو عليك في سيل أو في بحر وزال من أثر ذلك عين النجاسة، طهر الثوب وإن لم تنو غسله وإن لم تكن متذكراً؛ لأن إزالة النجاسة من باب التروك فلا حاجة إلى نية.

    وفي هذا الحديث يظهر رفق النبي صلى الله عليه وسلم بأمته وشفقته عليهم وحرصه على التأليف وعدم الإيذاء؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين).

    1.   

    خصال الفطرة ومعناها

    قال المؤلف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الفطرة خمس: الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط)].

    هذا الحديث يتعلق بخصال الفطرة، وفسرت الفطرة بأنها السنة، وفسرت بأنها ما فطرت القلوب على استحسانه واستقباح ضده.

    يعني: أن هذه الأشياء تستحسنها الفطر السليمة، وفطرت القلوب على ملاءمتها وعلى حسنها وعلى موافقتها للعقل وللجبلة الحسنة، فهي مستحسنة وإن لم تأت بها الشريعة، وقد أخبر الله تعالى بأنه فطر الناس على الإسلام في قوله سبحانه: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30]، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة)، يعني: على الملة الحنيفية، أو على ما تستحسنه الفطر.

    الفطرة: الخلقة، يعني: خلقة الإنسان، يقال: أنت فطرت على كذا، يعني: خلقت عليه، فمعناه: أن الفطرة هي التي فطر الناس على استحسانها وعلى العمل بها واستقباح ضدها، فهي تتمثل في هذا، ولا شك أيضاً أنها إذا كانت تستحسنها الفطر فكذلك أيضاً تستحسنها الشرائع.

    فإن الشريعة جاءت باستحسانها والأمر بها، وليست شريعة الإسلام فحسب بل كل الشرائع، بل إن الذين لا شرائع لهم يستحسنونها ويشهدون بأنها ملائمة، ولو أن بعضهم تركها وعاند في مخالفة بعضها فإنه لا يعتبر به.

    الخصلة الأولى: الختان حكمه ومشروعيته

    قد يقال: إن الختان شرعي فكيف يكون فطرياً، مع أن هناك دولاً لا يختتنون، وهم أمم وخلق كثير لا يعرفون الاختتان، فيقال: هؤلاء ممن بقوا على سذاجة وعلى بعد عن الخير وبعد عن استحسان الحسن، فلو فكروا لرأوا أن الختان من محاسن الدين وأن الله ما شرعه إلا لما فيه من المصلحة.

    والختان معروف، وشرع لأجل الطهارة، فإن من لم يختتن لا يأمن التنجس، فإن هذه القلفة التي في رأس ذكر الرجل إنما أمر بإزالتها حتى تكمل الطهارة بغسل آثار البول، فلو بقيت لكانت حاملة للنجاسة ولشق تطهير داخلها وتنظيفه.

    فالحكمة من الأمر بإزالتها، حتى تبرز الكمرة، وحتى يمكن تطهير النجاسة الموجودة في تلك الغلفة، وحتى لا تنتشر النجاسة.

    ولا شك أن الختان مشروع، وقد ثبت أن أول من اختتن إبراهيم، أو أنه اختتن بعد أن كان أهل زمانه لا يختتنون، فاختتن بالقدوم وهو ابن ثمانين سنة، ثم شرع الاختتان في ذريته، حتى غير المسلمين منهم من يختتن، وأما من غير ذريته من سائر الأمم والدول فإنهم بقوا على سذاجة وعلى بعد عن الاستحسان، ولم يكونوا يختتنون.

    ومشروعيته تعد من محاسن الإسلام، ويشرع الختان في حال الصغر حتى لا يتأثر به حال الكبر، وحتى لا تكون فيه خطورة، فإنه إذا ختن وهو طفل رضيع كان ذلك أسهل له وآمن؛ لئلا يتسمم.

    ويجب الختان عند البلوغ، وقبل البلوغ يعتبر سنة أي: يعتبر جائزاً غير واجب، لأن البلوغ هو وقت التكليف، ولأنه لم يكن ملزماً بالطهارة قبل البلوغ وهذا هو الصحيح.

    الخصلة الثانية: الاستحداد حكمه ومعناه

    الاستحداد: هو حلق العانة، والعانة هي الشعر النابت حول الفرج، وهذا الشعر أنبته الله تعالى علامة على البلوغ، وأنبته لأجل حكمة تخفيف الشهوة، أو لأجل إتمام الرجولة أو الأنوثة أو لغير ذلك، وقد شرعت إزالته.

    وإزالته على الصحيح تكون محددة بأربعين يوماً أو بشهرين، أو إذا أطلق حتى يطول طولاً كثيراً فيجب إزالته، وإزالته من خصال الفطرة، يعني: مما تستحسنها الفطر، وإطالة هذا الشعر وتركه حتى يطول كثيراً مما تستقبحه الفطر، فيسن إزالته بالموسى أو بما يزيله من الكريم وغيره إذا لم يكن مؤذياً، ويسن أن لا يتركه فوق أربعين يوماً كما ذكر ذلك بعض العلماء، بل إذا طال بادر إلى إزالته حتى لا يكون مشوهاً ولا مؤذياً.

    الخصلة الثالثة: قص الشارب حكمه والحكمة من قصه

    الشارب: هو الشعر الذي على الشفة العليا كما هو معروف، وقد وردت السنة بقصه وبحفه وكلاهما بمعنى، وجاء في الحديث: (قصوا الشوارب وأعفوا اللحى)، أي: قصوه بالمقص الذي هو المقراض، فالسنة أن يستعمل المقراض في قصة.

    ويجوز أن يستعمل غير المقراض كالموسى أو ما يجز به، حيث ورد في بعض الروايات: (جزوا الشوارب وأعفوا اللحى)، فهذا يدل على مشروعية إزالته ولا شك أنها موافقة للفطرة؛ وذلك لأن إطالة هذا الشعر يعتبر تشويهاً للخلقة، والله تعالى إنما أنبته للزينة، ولكن إطالته لا شك أنها تشويه وتقبيح للمنظر.

    ثم أيضاً قد يخرج من الأنف شيء من الفضلات وتعلق به ويتلوث، وكذلك إذا شرب الإنسان وشاربه طويل فقد ينغمس في الشراب فيلوث الشراب على من بعده ويفسد ذلك الشراب، وقد يفسده على نفسه، فمن حكمة الله أن أمر نبيه بهذا وشرع له إزالته وتخفيفه.

    ويجوز حلقه، ولكن الأفضل القص، يعني: أن يستعمل المقراض فيه بحيث لا يزيله كله، ولكن يبقى له أثر، فإنه يميز الرجل من المرأة، فإذا بقي أصول الشعر كفى ذلك.

    من هذا يتبين لنا أن إعفاء اللحى من خصال الفطرة كما ورد في الأحاديث، والمراد من ذلك تركها، وعدم التعرض لها بإزالة، ولا بقص، ولا بأخذ شيء من جوانبها ونحو ذلك، وليس في هذا الحديث الذي معنا ذكر لها ولكنها في أحاديث أخرى، ولا نطيل فيها؛ لأن المقام ليس لها، ولعله يأتينا ما يناسب الكلام فيها في موضع آخر.

    الخصلة الرابعة: تقليم الأظفار حكمه وحكمته وفائدته

    لا شك أن الله تعالى أنبت هذه الأظفار في رءوس الأصابع لحكمة وفائدة، ولكن إطالتها كثيراً فيه تشويه وفيه تقبيح للرؤية؛ وذلك لأنها قد يجتمع تحتها أوساخ وأقذار فيتلوث بها الأكل الذي يأكله، فلذلك شرع أن يقلّم ما نبت فوق الظفر الملتصق باللحم وذلك في كل أسبوعين، أو في كل يوم جمعة، أو في كل عشرة أيام، أو كلما طال، وذلك أن الناس يختلفون، فمنهم من تطول أظافره كثيراً وتنبت سريعاً، ومنهم من لا تنبت سريعاً.

    الخصلة الخامسة: نتف الإبط حكمه وحقيقته

    الإبط: هو الشعر الذي تحت العضد في أعلى الجنبين، وينبت فيها شعر رقيق فلا يشق نتفه، لذلك شرع أن يستعمل فيه النتف؛ لأن شعر الإبط رقيق لا يعسر نتفه، أما حلقه فقد يجعله يستغلظ.

    ويشرع أن ينتفه ويزيله حتى لا يتسخ؛ لأن هذا موضع يكون فيه شيء من العرق والوسخ والقذر فيتلوث بذلك الشعر، وقد يكون له روائح منتنة تؤذي، أو يعلق به شيء من الأذى، فلا جرم في مشروعية إزالته.

    هذه هي خصال الفطرة التي ذكرت في هذا الحديث، وهناك خصال أخرى منقولة في أحاديث أخرى يمكن الاطلاع عليها.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756011934