إسلام ويب

شرح أخصر المختصرات [75]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من الجنايات الواردة في بني آدم القتل، وهو ثلاثة أنواع: قتل العمد، وشبه العمد، وقتل الخطأ. وكل له حكمه، وتقتل الجماعة بالواحد، ويقتل المكره إذا أكره على القتل هو ومن أكرهه أو أمره.

    1.   

    أحكام الجنايات

    قال رحمه الله تعالى: [كتاب الجنايات

    .

    القتل: عمدٌ, وشبه عمدٍ, وخطأٌ.

    فالعمد يختصّ القود به، وهو أن يقصد من يعلمه آدميًّا معصومًا، فيقتله بما يغلب على الظّنّ موته ‏به، كجرحه بما له نفوذٌ في البدن، وضربه بحجرٍ كبيرٍ.

    وشبه العمد أن يقصد جنايةً لا تقتل غالبًا. ولم يجرحه بها، كضرب سوط أو عصا.

    والخطأ أن يفعل ما له فعله كرمي صيدٍ ونحوه، فيصيب آدميًّا. وعمد صبيٍّ ومجنونٍ خطأٌ، ويقتل ‏عددٌ بواحدٍ، ومع عفوٍ يجب ديةٌ واحدةٌ.

    ومن أكره مكلفاً على قتل معين أو على أن يكره عليه ففعل فعلى كل القود أو الدية، وإن أمر به غير مكلف أو من يجهل تحريمه، أو سلطان ظلماً من جهل ظلمه فيه لزم الآمر].

    كتاب الجنايات هو القسم الرابع والأخير من أقسام الفقه؛ حيث إن الفقهاء قسموه إلى أربعة أقسام، فبدؤوا بقسم العبادات لأنه حق الله على عباده، ثم بعد ذلك بقسم المعاملات؛ لأن الإنسان بحاجة إلى تحصيل الحلال من المال لقوته وغذائه، ثم بقسم عقد النكاح وما يستلزمه؛ لأنه بعد تحصيله للقوت والغذاء يشتاق إلى النكاح، ثم بعد ذلك بقسم الجنايات؛ لأن الغالب أن من تمت عليه النعمة يتعدى ضرره إلى غيره بالقتل، أو بما دون القتل من الجنايات.

    والجناية: هي التعدي، يقال: جنى على غيره أي: تعدى بقتل، أو نهب، أو جرح، أو قدح، أو غير ذلك. ولا شك أنه من المحرمات؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام)، فالله تعالى جعل المؤمنين إخوة، وحرم الاعتداء من بعضهم على بعض، وأمر المسلم بأن يذب عن عرض أخيه المسلم، وأمره بأن ينصره بقوله: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. فقيل: يا رسول الله! أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً؟ قال: تحجزه عن الظلم)، فإذا كنت مأموراً أن تنصره فإنك منهي عن أن تضره.

    وأشد الضرر الاعتداء على بدنه بقتل أو جرح أو بقطع طرف أو غير ذلك، وهو أعظم الاعتداء، ولذلك ورد في الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء) يعني: أول ما يقضى بينهم من الاعتداءات في الدماء، أي: في القتل أو الجراح أو نحو ذلك. فإن من أعظم الاعتداءات أن يعتدي على مسلم بإراقة دمه.

    تحريم القتل في القرآن

    جاء في القرآن تحريم القتل في مواضع، كقوله تعالى في سورة الأنعام: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ [الأنعام:151] يعني: إذا كانت مستحقة القتل. وقال تعالى في سورة الإسراء: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً [الإسراء:33] أي: لا يزيد ويقتل أكثر من القاتل، بل لا يقتل إلا نفساً واحدة.

    حكم توبة القاتل

    كون القتل ظلماً ذنباً كبيراً اختلف في توبة القاتل:

    فروي عن ابن عباس أنه قال: ليس له توبة؛ لأن الله تعالى قال: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء:93]، وعيد شديد لمن يقتل مؤمناً متعمداً، ولا يدخل النسخ في هذا؛ لأنه من الأخبار، والنسخ إنما يدخل في الأوامر لا في الأخبار، فلذلك قال: إنه لا توبة له، ولابد أن يعذب ويخلد في النار تحقيقاً لهذه الآية.

    القول الثاني: له توبة، والدليل أنه ذكر الله تعالى كبائر الذنوب في قوله في سورة الفرقان: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ [الفرقان:68-70]، فأخبر بأنه يقبل توبتهم، وإذاكان الله تعالى يقبل توبة المشرك فالقاتل من باب الأولى؛ لأن القتل دون الشرك، فهذا دليل من يقول: إنها تقبل توبته.

    الجواب على آية النساء المخلدة للقاتل في النار

    ذكر ابن القيم أن القاتل تتعلق به ثلاثة حقوق: حق لله؛ لأن القاتل تعدى حرمات الله، وهذا الحق يسقط بالتوبة الصادقة.

    الثاني: حق للأولياء؛ لأن القاتل قتل أباهم أو قتل ابنهم أو قتل موليهم، وهذا الحق يسقط بالعفو، أو يسقط بالقصاص، أو يسقط بأخذ الدية.

    الحق الثالث: هو حق المقتول الذي قطع عليه حياته، يعني: أماته واعتدى عليه، فله حق على ذلك القاتل، فإذا كان القاتل قد تاب توبة نصوحاً فإن الله تعالى يتحمل حقه ويعطيه من فضله ويعفو عن ذلك القاتل.

    وقد استدل أيضاً بقول الله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ [الزمر:53-54]، فأمرهم بأن ينيبوا، أي: يتوبون ولو كانت ذنوبهم كثيرة، وأخبر بأنه يغفر الذنوب جميعاً، يعني: لمن تاب. وإذا كان كذلك فكيف الجواب عن آية النساء التي أخبر تعالى فيها بأن من يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جنهم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً؟!

    قال بعض العلماء: هذا في حق المستحل الذي يقتل مستحلاً ويعتقد أنه حلال؛ فإن من استحل ما حرم الله فقد كفر، إذا استحل شيئاً قد حرمه الله معلوم تحريمه بالضرورة فإنه يعتبر ضالاً أو كافراً، كذلك أيضاً قال بعضهم: إن هذا الوعيد معلق، يعني: كأن الجزاء ليس دائماً. يقول ابن جرير : المختار أن قوله: (فجزاؤه) معلق بشرط. يعني: إن جازاه. فجزاؤه جهنم إن جازاه، وإلا فإن الله تعالى قد يعفو ويصفح، ولا يجازيه بهذا الجزاء الكبير، سيما إذا ندم وتاب، وقالوا: إنه يمدح بالعفو عن الذنب ونحوه، ولا يمدح بترك الخير، يقول الشاعر العربي:

    وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

    فالوعد: هو الوعد بالخير. والإيعاد: هو التوعد بالشر. يقول: إذا توعدته أخلفت وعيدي، وإذا وعدته فلا أخلف وعدي. وعلى كل حال فإن هذا دليل على عظم الذنب الذي هو إراقة دم مسلم بغير حق، أما إذا كان بحق فإنه جائز؛ لأن في القرآن: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ [الأنعام:151].

    متى يحل دم المرء المسلم؟

    ولإباحة قتله ثلاث حالات، هي المذكورة في حديث ابن مسعود المشهور، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، فهذا دليل على أن الذي يفعل واحداًمن هذا يحل دمه.

    فالثيب الزاني هو الذي زنى وهو محصن، فهذا يقتل حداً ولا يكفر بقتله، ولهذا يصلى عليه ويكفن ويدفن في مقابر المسلمين، والنفس بالنفس أي: قتل القاتل؛ فإنه من جملة ما أمر الله به، بل قد جاء ما يدل على وجوبه عند طلب أولياء القتيل، واستدل بقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178] (كتب) يعني: فرض عليكم. ولكن هذا فيما إذا طلب الأولياء القصاص، ولهذا قال: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [البقرة:178] أي أن من طلب القتل طلب قصاص فله، فإذا عفا فأجره على الله. ولما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة ظن بعض الأعراب أن حرمتها قد زالت، فقتل بعضهم بالثأر الجاهلي، فقتلت هذيل رجلاً بثأر قديم، وقالوا: زالت حرمة مكة. فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وخطب وأخبر بحرمة مكة، ثم قال: (فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يقتل، وإما أن يدى، فإن أراد الثانية فخذوا على يديه)، فإذا قتل له قتيل فلا يقتل إلا القاتل، أو يأخذ الدية إذا لم يعف مطلقاً، فإذا قال: أريد ما نحن عليه في الجاهلية إذ بعض القبائل التي لها عز ومكانة لا يقتلون بالمقتول واحداً منهم، بل يقتلون أكثر من واحد، وكم قتل المهلهل بأخيه كليب حتى كاد أن يفني بكر بن وائل، ولما أرسل بعض بني بكر ابناً له إلى المهلهل وقال: اقتله وتنتهي هذه الحرب قام وقتله وقال: هذا بشسع نعل كليب. يعني أنه ليس فداء لـ كليب ، وإنما هو بشسع نعل كليب ، فغضب أبوه وأنشأ قصيدة طويلة، وهي التي يقول فيها:

    قربا مربط النعامة مني إن قتل الرجال بالشسع غالي

    قربا مربط النعامة مني لقحت حرب وائل عن عيالي

    يقول فيها: (قربا مربط النعامة مني) في خمسين بيتاً، وحميت الحرب بينهم حتى أنهكت كلاً من القبيلتين بكر وتغلب، والواقع أنهم يجتمعون في وائل، فبكر هو ابن وائل وتغلب أيضاً ابن وائل، فقتل خلقاً كثيراً في أخيه كليب ، فجاء الإسلام وقرر أنه لا يقتل إلا واحد، فالنفس بالنفس في هذه الآية: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45] ، وكذلك في الحديث: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس) أي: لا زيادة، فلا يقتل اثنان في واحد، ولا يقتل غير القاتل ولو كان القاتل، وضيعاً فلا يقولون: نقتل به شريفاً، قتيلنا من الأشراف فلا نقتل إلا من له مكانة. فالله تعالى جعلهم على حد سواء لا فضل لهذا على هذا، (لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى) هكذا جاء الحديث.

    فالنفس بالنفس، فلا يقتل إلا من قتله، فأخبر صلى الله عليه وسلم بأنه: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه) يعني: المرتد؛ لقوله: (من بدل دينه فاقتلوه) (التارك لدينه المفارق للجماعة)، فأما بقية المسلمين فلا يجوز استحلال دم امرئ مسلم بغير حق، ففي الحديث: (لا يحل إراقة قدر محجمة دم إلا بحقه).

    ذكروا أن القصاص واجب عند اليهود، والعفو إلى دية أو نحوه واجب عند النصارى، وجاء في هذه الشريعة أنه ليس بواجب ولكن مخير، إن شاء قتل، وإن شاء عفا مطلقاً، وإن شاء عفا إلى الدية؛ لقوله تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ [البقرة:178] يعني: عفي له إلى الدية: فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [البقرة:178] والعفو مطلقاً أفضل كما سيأتي.

    والحاصل أن هذا القصاص يتعلق بالاعتداء الذي هو في النفس أو فيما دون النفس، وجاء الإسلام بشرعيته، ثم إن الدول التي تحكم بالقوانين أبطلت هذا الحكم، يقول قائلهم: إذا قتل منا واحد نقص شعبنا، فكيف نقتل الثاني فإنه ينقص شعبنا أكثر؟! ولكن ما علموا أن ترك قتله سبب لكثرة القتل، كان العرب يقولون: (القتل أنفى للقتل) أي: قتل القاتل أقل لوقوع القتل، فجاء في القرآن قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179]، فالقصاص سبب للحياة كيف؟

    الذي يريد أن يقتل أو يهم بالقتل يأتيه التفكير ويقول: إذا قتلته قتلت، فما فائدتي من هذا القتل كوني أني أقتله؟ هذا لا يفيدني، ولو أني شفيت غيظي في هذه اللحظة فسوف يقتلونني غداً أو بعد غد. فيقلع ويترك القتل، فيكون خوفه من القتل سبب تركه للقتل، فهذا معنى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179]، وقول العرب: (القتل أنفى للقتل) يعني: أقل للقتل.

    فالدول التي لا تحكم بهذا القصاص يكثر فيها القتل، يقتل إنسان واحداً وعدداً ويقول: لا ضرر علي، سوف يدخلونني في السجن مدة طويلة أو قصيرة ثم بعد ذلك يخلى سبيلي. فيقدم على القتل، وكثر القتل في كثير من الدول، وصار قتل الرجل كأنه قتل نعجة، لا يحصل عليه تبعات، مع ما ورد من الإثم الكبير في قتل مسلم بغير حق، أو قتل أية نفس عدواناً، بذلك نعرف أن الشريعة ما جاءت إلا بالأحكام الشرعية التي تناسب المقام، والتي فيها الخير والمصلحة.

    1.   

    أقسام القتل

    يقول: [القتل عمد، وشبه عمد، وخطأ] يعني: ثلاثة أقسام. وذهب بعض العلماء إلى أنه قسمان؛ لأن الله تعالى ما ذكر إلا قسمين في سورة النساء: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ [النساء:92]، ثم قال في الآية التي بعدها: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا [النساء:93] لم يذكر إلا قتل خطأ وقتل عمد، فلا يكون هناك شبه عمد، لكن جاء دليله من السنة، ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن القتل شبه العمد قتيل السوط والعصا فيه الدية مغلظة)، فجعله لا قصاص فيه، ولكن تغلظ فيه الدية، وأثبت أنه قسيم للعمد والخطأ، وأنه واسطة بينهما، فلا يلحق بالعمد فيكون فيه القصاص، ولا يلحق بالخطأ الذي يكون فيه الدية المخففة، بل يكون فيه الدية المغلظة.

    وذكر بعد ذلك العمد، وأن العمد هو الذي يختص القود به، والقود هو القصاص، أي: قتل القاتل. ولماذا سمي قوداً؟

    لأنه يقاد إلى المقتل، يربطون في رقبته حبلاً ثم يقودونه إلى المكان الذي يقتل فيه إذا استعصى، فسموه قوداً، ثم أطلقوا الفعل عليه فقالوا: استقاد فلان من فلان. حتى أطلقوه أيضاً على القصاص في الجراح وفي الأطراف، وسمو الجميع قوداً (أقدني) أي: اقتص لي. فيختص القود به.

    قتل العمد

    تعريفه: [أن يقصد من يعلمه آدمياً معصوماً فقتله بما يغلب على الظن موته به كجرحه بما له نفوذ في البدن، وضربه بحجر كبير].

    أولاً: أن يتحقق كونه آدمياً، أما إذا ظن أنه حيوان كصيد مثلاً أو هدف أو نحو ذلك ورماه لأجل أن يجرب إصابته ولم يتعمد فهذا خطأ، إذا قتله بهذه الصفة فإنه قتل خطأ.

    ثانياً: أن يعرف أنه معصوم، فإذا ظنه حربياً كيهودي أو شيوعي مباح دمه ففي هذه الحال إذا رماه وقتله فلا قصاص، يقول: ما ظننت أنه مسلم معصوم، ظننته أنه من المحاربين الذين يحاربوننا ويقتلون المسلمين فرميته لأريح الناس من شره. وتبين بعد ذلك أنه من المسلمين، وأنه معصوم الدم والمال، فمثل هذا لا قصاص فيه، ولكن يسمى قتل خطأ، فعليه الدية والكفارة.

    وإذا ضربه بما يغلب على الظن أنه يموت به فإنه يسمى عمداً، بخلاف ما إذا ضربه بيده، أو ضربه بعصا خفيفة، أو رماه بحجر صغير ما تعمد قتله، فهذا يسمى قتل شبه العمد لا قصاص فيه، أما إذا كان يغلب على الظن أنه يموت به كما لو رماه بالرصاص فهذا يعلم عادة أنه يموت به، وكذلك إذا شدخ رأسه بحجر، كاليهودي الذي رض رأس جارية بين حجرين، فهذا يعلم أنه يموت به، أو رماه بذلك الحجر الكبير فضربه على خده أو نحو ذلك، أو ضربه في بطنه فقطّع أمعاءه، وكذلك لو طعنه بحربة أو بسكين في بطنه، أو طعنه على قلبه أو على كبده ونفذت السكين أو السيف أو شيء له نفوذ، أي: دخول في البدن، حتى ولو طعنه بمخيط؛ لأنه قد يصل إلى القلب أو إلى الكبد أو إلى الأمعاء أو نحو ذلك، فيصعب علاجه.

    وكذلك أيضاً لو ألقاه في بحر أو في بئر وهو يعرف أنه لا يستطيع أن يخرج، أو ألقاه في نار تشتعل، ألقاه فيها مكتوفاً -مثلاً- ويعلم أنه لا يستطيع أن يتخلص وأنها تحرقه، أو خنقه، أي: كتم نفسه إلى أن مات بالكتم، أو عمل له عملاً شيطانياً كسحر أو نحوه، أو جعل سماً في طعامه يقصد بذلك قتله، والأنواع كثيرة، إذا تعمد قتله بسبب يقتل غالباً مثل هذه الأسباب اعتبر متعمداً.

    وحل قتله قصاصاً، هذا هو القتل العمد.

    قتل شبه العمد

    تعريف شبه العمد: أن يقصد جناية لا تقتل غالباً ولم يجرحه بها، كأن يضربه بسوط أو بعصا صغيرة لا يقتل مثلها. جاء في قصة الهذليتين أن امرأتين كانتا تحت رجل من هذيل، ثم إن إحداهما رمت الأخرى بحجر، وفي رواية: بعمود فسطاط، فقتلتها وما في بطنها، فقرر النبي صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرةٍ عبدٍ أو أمة، وقرر بدية المقتولة على عاقلة القاتلة، وورثها زوجها وولدها، وفي القصة أن والد القاتلة قال: (كيف ندي من لا أكل ولا شرب ولا استهل، فمثل ذلك يطل)، فالحاصل أن هذه المرأة ضربتها بعمود فسطاط، أي: عمود صغير يرفع به طرف الخيمة، ثم لما رمت هذه ما ظنت أنها تموت، وفي بعض الروايات أنها رمتها بحجر، ولعلها رمتها مرة بحجر صغير فأخطأها، أو ضرب مثلاً غير مقتل، فالحاصل أن هذا اعتبر قتل خطأ.

    وشبه العمد الذي لا قصاص فيه تعريفه: أن يتعمد الضرب ولا يريد القتل، يتعمد ضربه أي: يتعمد أن يضربه بما لا يقتل غالباً. يتعمد الضرب ولا يريد القتل، وليس له نية في أن يقتله، ولكن وقع أنه مات بهذه الضربة، سواءٌ مات بالحال أو مات بعد حين، فمثلاً ضربه بعصا، والعصا لا تقتل غالباً، ولكن تسمم أثرها وتأثر به فمات ذلك المظلوم، فهذا كله شبه عمد.

    أما إذا جرح كأن ضربه بحجر فشق جلده ولو كان الحجر صغيراً، ولما شق جلده خرج منه دم وتأثر مثلاً وتسمم الجرح ومات بسببه فهذا عمد.

    قتل الخطأ

    أما الخطأ فهو أن يفعل ما له فعله، كأن يرمي صيداً ونحوه فيصيب آدمياً، ويدخل فيه التسبب، فإذا حفر حفرة في الطريق وسقط فيها إنسان ومات فإنه متسبب، فالحافر إذا لم يجعل عليها حاجزاً يمنع أن يسقط فيها فجاء إنسان غافل أو ضرير فسقط فيها، وكذلك لو ضيق الطريق بحجارة أخذت جزءاً من الطريق فجاء إنسان فاصطدم به، سواءٌ أكان يمشي أم يقود سيارة ولم يعلم هذا المكان، ولم يعلم بهذه الحجارة اعتبر الواضع متسبباً، فيكون قتل خطأ، وهكذا لو ربط دابة بطريق، أو أوقف سيارة بطريق ضيق فجاء من اصطدم فيها، وكذلك لو أخذ جزءاً من الطريق، كالذين يجعلون عتبات مدخلهم في الطريق تأخذ من الطريق متراً مثلاً أو نحوه، من اصطدم فيها اعتبر أهل ذلك المكان متسببين، فيكون ذلك قتل خطأ.

    وهكذا لو أن إنساناً وضع سماً لكلب أو لسبع فأكله إنسان لم يعلم به، فهذا الذي وضعه يعتبر متسبباً؛ لأن عليه أن يحفظه، ولا يدعه في متناول أحد من الناس صغيراً أو كبيراً.

    وهكذا أيضاً خطأ الأطباء، فالطبيب الذي ليس حاذقاً في الطب إذا أجرى عملية ومات ذلك الذي أجرى له اعتبر متسبباً فعليه الدية، وهكذا الذي يعطي دواءً وهو ليس من أهل المعرفة، أعطى إنساناً دواء، وكان ذلك الدواء لا يناسبه، فأكله فتضرر ومات بسببه، اعتبر أيضاً متسبباً، وورد في بعض الأحاديث: (من تطبب ولا يعلم منه طب فهو ضامن)، وذلك لأنه تجرأ والناس أحسنوا به الظن، وجلس للناس وقال: أنا أعالج. فجاؤوا إليه وقالوا: نحن بنا مرض كذا وكذا. فإذا أعطاه دواء وهو ليس مناسباً له فهو ليس من أهل المعرفة، فصدق عليه أنه متسبب في الموت، وأمثلة الخطأ كثيرة تقاس على مثل هذا.

    ومن الخطأ أيضاً عمد الصبي أو المجنون، الصبي الذي دون التمييز لو أخذ سكيناً وجاء إلى إنسان نائم وطعنه فلا قصاص عليه، ولكن الدية على العاقلة الأقارب، وذلك لأنه لم يكن متسبباً عن عقل، وكذلك أيضاً لو قاد سيارة واصطدم بإنسان اعتبر أيضاً خطأ، والدية على عاقلته، ونعرف أيضاً أن أخطاء السيارات كلها تعتبر من الخطأ، فالذي يقود سيارته ثم يصطدم بإنسان أو يصطدم بسيارة أخرى، أو يحدث منه انقلاب فكل هذا من الخطأ لا من العمد.

    والمجنون الذي ليس معه عاقل يحبسه ويمنعه عن الاعتداء، فهذا المجنون لو أنه قتل إنساناً فلا قصاص عليه؛ لأنه ليس معه عاقل، ومعلوم أن أولياءه عليهم أن يحفظوه ويأخذوا على يده ويمنعوه من الاعتداء حتى لا يتعدى على مسلم؛ لأنه ليس معه معرفة بآثار هذه الأمور وعواقبها.

    1.   

    قتل الجماعة بواحد

    يقول: [ويقتل عدد بواحد].

    إذا اجتمع عدد وتساعدوا على قتل واحد فإن القصاص عليهم جميعاً، فإذا كانوا كلهم عزموا واتفقوا على قتله، أو كان فعل كل واحد منهم يصلح أن يكون قاتلاً فإنهم يقتلون كلهم، فلو اجتمع أربعة على قتل إنسان، فأحدهم قال: أنا أمسك يديه. والآخر قال: أنا أمسك رجليه. والآخر قال: أنا أمسك أذنيه. والآخر خنقه مثلاً أو برك على صدره، أو طعنه، وكانوا أربعة يُقتلون إذا اتفقوا على قتله.

    وردت قصة أن غلاماً كان عند امرأة كأنه ابن زوجها، ثم إن زوجها غاب، واتفقت مع خمسة أو سبعة على أن يأتوها لفعل الفاحشة، فلما جاؤوا إليها قالوا: نخشى من هذا الولد -ولد زوجها- أن يدل علينا. فاتفقوا على غمه إلى أن مات، ثم ألقوه في بئر، ولما فقدته أخذت تبكي وتنادي وتدعو من يدلها عليه، ثم بعد ذلك وجد الذباب يخرج من تلك البئر، فأخرج وإذا فيه أثر الغم والقتل، فاتهم واحد من هؤلاء فقبض عليه، وكأنه رؤيت عليه علامة، فدل على الباقين فاعترفوا، فأمر عمر رضي الله عنه بأن يقتلوا كلهم، واشتهر عنه أنه قال: (لو تمالأ على قتله أهل صنعاء كلهم لقتلتهم به) سبعة قتلوا بواحد، والقصة في مصنف عبد الرزاق ، ويذكر الفقهاء في كتبهم قول عمر : (لو تمالأ على قتله أهل صنعاء كلهم لقتلتهم به).

    وسبب ذلك أنهم تساعدوا على قتله، وكل منهم مريد قتله، ولو أسقطنا القتل عنهم لتجرأ كثير من الناس، فإذا أراد أحد أن يقتل أحداً تساعد مع آخر وقال: هلم فلنقتله الاثنان حتى لا يكون علينا قصاص، هلم فلنجتمع ثلاثة أو أربعة حتى لا يكون علينا قصاص. فتبطل حقوق المسلمين، وتهدر كثير من دماء المسلمين، فلا جرم أن يقتل العدد بالواحد إذا كان كل منهم عازماًعلى قتله، أو فعل به فعلاً يصلح أن يكون قتلاً ويصدق عليه أنه قتله، فيقتلون به ولو كانوا كثيراً، ولو قيل: لا يقتل إلا واحد لقوله تعالى: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45]، الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ [البقرة:178] فحينئذٍ نقتل واحداً ونترك ثلاثة أو سبعة، مع أن كلهم قتله! وهذا الواحد الذي قتلناه مشترك مع غيره، فلذلك يتحتم قتل الجميع ولو كثروا.

    أما إذا عفا الأولياء عنهم ففي هذه الحال إذا طلبوا الدية ليس لهم إلا دية واحدة؛ لأن القتيل واحد فلا تتعدد الدية، لكن يجوز لهم أن يقتلوا بعضهم ويتركوا بعضهم، فلو قالوا: نقتل منهم ثلاثة ونصفح عن ثلاثة أو عن أربعة جاز ذلك، أو قالوا: هذا سوف نقتله، وهذا يشتري نفسه وينقذها بمائة ألف، أو بألف ألف، أو بألفي ألف يجوز ذلك، فيجوز أن يقتلوا واحداً دون الآخر.

    1.   

    مسألة الإكراه على قتل الغير

    يقول: [ومن أكره مكلفاً على قتل معين أو على أن يكره عليه ففعل فعلى الكل القود أو الدية] هذا إذا كان قادراً، إذا قال: اقتل زيداً وإلا قتلتك. فهذا الذي قال: (اقتل) عنده قدرة وتمكن، يقول زيد: أنا مظلوم. فيقول هذا: أنا مكره على قتلك، إن لم أقتلك قتلوني. فكيف تقتل إنساناً تعرف أنه مظلوم لأجل أن تحيي نفسك؟! ليس لك ذلك، ففي هذه الحال القاتل المباشر والآمر الذي أكره كلاهما قاتلان، فعليهما القود، وإذا طلبت الدية فعليهما دية واحدة يقتسمانها بينهما.

    كذلك لو قال: مر فلاناً يقتل زيداً، وإن لم تأمره فإني سوف أقتلك. فيكون عندنا الآن ثلاثة: هذا الظالم، وهذا المأمور الأول، والمأمور الثاني، والآمر سلطان أو أمير أو قوي عنده قوة يعرف المأمورون أنه إذا لم يقتلوه قتلوا، ففي هذه الحال يقتل الجميع، يقتل الآمر الأول والآمر الثاني والمأمور؛ لأن كلاً منهم فدى نفسه، قال: أفدي نفسي ولو كنت أعلم أنه مظلوم. وقد يقول قائل: إني إذا لم أقتله قتله غيري، ثم قتلت أنا، فزيد هذا المظلوم لا بد أنه سوف يقتل، وقد أمروني أنا وإذا لم أمتثل قتلت، وإذا لم أقتله قتلوه فأرسلوا من يقتله، فكونه لا يقتل إلا واحد وهو زيد أولى من أن يقتلونني ويقتلونه مرة أخرى. هذا قد يكون عذراً لبعض الناس أنه يقول: إني سوف أقتل ثم يقتل زيد، فلا نجمع بين قتلين.

    والجواب أن نقول: ليس لك أن تقدم على قتله وأنت تعرف أنه مظلوم، إذا أقدمت عليه فإنك قاتل، بل عليك أن تتنصل، ولو قُتِلت فإنك مظلوم أيضاً وتكون شهيداً، وكذا إذا لم تقتل ولكن تضررت، بأن سلب مالك، أو أدخلت السجن، أو فصلت من عمل، أو شردت ونفيت، فتحتسب ذلك ولا تقدم على قتل مسلم وأنت تعرف أنه مظلوم ولا قصاص عليه ولا سبب.

    يقول: [وإن أمر به غير مكلف أو من يجهل تحريمه، أو سلطان ظلماً من جهل ظلمه فيه لزم الآمر].

    إذا كان الإنسان العاقل أمر غير مكلف أن يقتل، أمر صبياً وأعطاه سلاحاً، أو أمر المجنون وأعطاه سلاحاً وقال: اقتل هذا الإنسان فالقصاص على الآمر؛ لأن هذا غير مكلف، مرفوع عنه القلم، كذلك إذا كان المأمور جاهلاً بالحكم لا يدري هل القتل حرام أو حلال، أو لا يدري هل هذا المقتول مستحق أو غير مستحق، ويظن أن هذا الآمر لا يأمر إلا بقتل من يستحق القتل، فهو يقول: أمرني فلان وهو رئيس، وما أظنه يكون ظالماً، أعتقد أنه لا يأمر إلا بحق، فامتثلت أمره اعتماداً على أنه رئيس وأنه ذو سلطة وأنه مأمون، فمكنني وأمرني بقتله، وأنا أجهل أن هذا معصوم، ولا أدري أن قتله محرم.

    وهكذا إذا كان السلطان ظالماً أمر جاهلاً ظلمه، فالمأمور يقول: ما كنت أظن أن هذا السلطان ظالم، أظن أنه عادل، فإذا كان عادلاً فلا يأمر إلا بما هو جائز، فالقصاص في هذه الحال على الآمر؛ لأن غير المكلف مرفوع عنه القلم، والذي يجهل تحريم القتل أو تحريم قتل هذا المسلم معذور بجهله، والسلطان الظالم إذا أمر من لا يدري أنه ظالم فإنه معذور.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755985860