إسلام ويب

شرح أخصر المختصرات [12]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من محاسن هذه الشريعة ورحمتها بالمكلفين: أن شرعت الصلاة على الموتى المسلمين، والدعاء لهم، وإكرامهم بالدفن، وتشرع زيارة القبور للرجال خاصة، ويشرع إهداء الأعمال الصالحة للموتى على خلاف بين العلماء في ذلك.

    1.   

    كيفية صلاة الجنازة

    قال المصنف رحمه الله: [فصل: وتسقط الصلاة عليه بمكلف، وتسن جماعة، وقيام إمام ومنفرد عند صدر رجل ووسط امرأة].

    الصلاة على الميت فرض كفاية، وورد فيها الأمر بقوله: (صلوا على من قال: لا إله إلا الله) يعني: على كل مسلم، ولكن لا يصلى على المبتدع المعلن بدعته، ولا على من وقع في الشرك كالقبوريين ونحوهم، الذين يجادلون عن شركهم وعبادتهم للأموات ونحوهم، والمبتدعة تترك الصلاة عليهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم هم بترك الصلاة على من عليه دين، فكذلك من يعلن بدعته ويدعو إليها، وإذا علمت الميت تاركاً للصلاة وتحققت من ذلك، فلا تصلي عليه، وإذا علمت أنه مبتدع قبوري أو رافضي أو معتزلي يعني: من غلاة الجهمية ونحوهم فلا تصل عليه، وانصح إخوتك الذين يحبون الخير ألا يصلوا عليه، ولا تدع لمن هو من دعاة الضلال.

    وأما من ظاهره الخير، ولو كان عنده شيء من المعاصي، فإنه أولى أن يصلى عليه، وذهب بعض العلماء إلى الصلاة على تارك الصلاة تكاسلاً، وهو غير جاحد، أو كان يصلي أحياناً أو يصلي الجمعة، قالوا: هذا أولى أن يصلى عليه؛ ويترحم عليه؛ وذلك لأنه مات وهو مسلم، لكن نقول: لا يصلى عليه من باب الزجر.

    وموقف الإمام من الميت -إذا كان الذي يصلي عليه فرداً واحداً- أن يقف عند صدر الرجل، وقيل: عند رأسه، والرأس والصدر متقاربان، فيكون وقوفه عند الصدر، وقد يستر الرقبة والرأس وذلك ليدعو له فإنه أولى بأن يوقف عند ذلك، أما المرأة فإنه يقف عند وسطها، أي: عند عورتها، هكذا ورد في الحديث.

    عدد تكبيرات صلاة الجنازة

    التكبيرات في صلاة الجنائز أربع تكبيرات، لكن يجوز عند المناسبة الزيادة عليها، فقد روي أن التكبير خمس، وروي ست، وأكثر ما روي سبع، فقد ثبت في صحيح البخاري أن علياً رضي الله عنه كبر على سهل بن حنيف ستاً، وقال: (إنه بدري) أي: أن له ميزة، وله فضيلة، لكونه من أهل بدر يعني: ممن حضر غزوة بدر، ولذلك رأى العلماء أن صاحب الفضل يجوز أن يكبر عليه خمس تكبيرات أو ست تكبيرات أو سبع تكبيرات، ولكن المتقرر والمعتاد والأكثر أربع تكبيرات.

    القراءة والدعاء في صلاة الجنازة

    بعد التكبيرة الأولى يقرأ الفاتحة بلا استفتاح، وإنما يستعيذ ويبسمل ويقرأ الفاتحة، واختلفوا هل يزيد عليها؟

    روي في بعض الأحاديث أنه قرأ الفاتحة وسورة، وأنكر بعضهم ذكر السورة، فقد رواه البيهقي وقال: ذكر السورة ليس بمحفوظ، وناقشه بعض المتأخرين، وذكروا أنه محفوظ، وأنه مروي من طرق ثابتة، وبكل حال لم تذكر السورة في الروايات الصحيحة، فإن زادها فلا بأس.

    وبعد التكبيرة الثانية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مثل الصلاة في التشهد: اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على آل إبراهيم، وإن شاء قال: على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد.

    وبعد التكبيرة الثالثة الدعاء للميت، ويسن أن يدعو بما ورد، وذكر المؤلف هذا الدعاء؛ لأنه مأثور ووارد، فيدعو بالدعاء العام والدعاء الخاص، أما الدعاء العام فقوله: (اللهم اغفر لحينا وميتنا..) إلخ، والدعاء الخاص مثل قوله: (اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه..) إلخ كما في حديث مالك بن عوف، والأدعية المأثورة الصحيحة مشتهرة، ويجوز الدعاء بغير ما ورد، فقد روى أبو داود قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء) يعني: ادعوا له بدعاء كثير خالص؛ ليكون ذلك أقرب إلى الإجابة فإنه قد انقطع عمله فيحب أن يزوده إخوته بهذه الأدعية الواردة وما يلحق بها.

    وروي أيضاً الحديث الذي فيه: (اللهم أنت ربه، وأنت خلقته، وأنت قبضت روحه، وأنت أعلم بسره وعلانيته، جئنا شفعاء إليك فاغفر له، اللهم إن كان محسناً فزد في إحسانه، وإن كان مسيئاً فتجاوز عنه، اللهم إنه عبدك وابن عبدك، نزل بجوارك وأنت خير منزول به، ولا نعلم إلا خيراً، اللهم إنك غني عن عبادته، وهو فقير إلى رحمتك ومغفرتك) أو ما أشبه ذلك، وليس هناك تحديد لعموم هذا الحديث: (أخلصوا له الدعاء)، فيكثر من الدعاء بما تيسر.

    والدعاء للصغير وغير المكلف قد وردت فيه أحاديث منها: (اللهم اجعله ذخراً لوالديه وفرطاً، وأجراً وشفيعاً مجاباً، اللهم ثقل به موازينهما، وأعظم به أجورهما، وألحقه بصالح سلف المؤمنين، واجعله في كفالة إبراهيم، وقه برحمتك عذاب الجحيم) الفرط في قوله: (وفرطاً) هو الذي يتقدم الوراد، فالقوم إذا وردوا على الماء أرسلوا واحداً يهيء لهم المورد، ويسمونه: فرطاً، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنا فرطكم على الحوض) وسمي الطفل فرطاً؛ لأنه يتقدم أبويه ليهيئ لهما المدخل، يعني: دخول الجنة؛ ولذلك سمي فرطاً، والذخر: هو الشيء الذي يدخر للآخرة ونحوها، والشفيع: الذي يشفع في أبويه.

    وقوله: (ثقفل به موازينهما) ورد في حديث أن رجلاً خف ميزانه، فجاءه أفراطه فثقلوا ميزانه.

    والدعاء بكونه في كفالة إبراهيم لحديث سمرة الذي في صحيح البخاري في الرؤيا أنه قال: (ورأيت إبراهيم عليه السلام وإذا عنده خلق كثير من أولاد المسلمين بكفالته)يعني: أطفال المسلمين.

    ثم يكبر الرابعة، وهل يدعو بعدها أم لا؟

    ذكر بعضهم أنه يدعو بعدها، وورد في بعض الأحاديث أنه وقف وأطال حتى ظنوا أنه يكبر خامسة، ولا شك أن وقوفه لابد أن يكون فيه دعاء، وقد ذكر النووي في رياض الصالحين أنه يستحب أن يقول بعد الرابعة: (اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله).

    ثم بعد ذلك يسلم، والصحيح أنها تكفي تسليمة واحدة، وإن سلم اثنتين فلا حرج، والمعتاد أن التسليمة الواحدة يحصل بها الخروج.

    والتكبيرات في صلاة الجنازة مثل تكبيرات صلاة العيد، فيرفع يديه مع كل تكبيرة، وقد روي عن عبد الله بن عمر أنه كان يرفع يديه مع كل تكبيرة لصلاة الجنائز، ولا شك أن ذلك دليل على أنه من السنة.

    حمل الجنازة والإسراع بها

    بعد ما يصلى على الجنازة يشرع حملها إلى القبر، وكانوا يحملونها على الأكتاف، ويجوز حملها على الدابة، وفي هذه الأزمنة يجوز أن تحمل على السيارة، وقد كانوا يستحبون أن يحملها أربعة، وكل واحد يحمل من الجهات الأربع حتى يكون قد حملها، فيحمل مع الجانب الأيمن المتقدم ويجعله على كتفه الأيسر، ثم يتأخر ويحمل الجانب الأيمن المؤخر فيجعله على كتفه الأيسر، ثم ينتقل فيحمل الجانب المقدم الأيسر ويحمله على كتفه الأيمن، ثم المؤخر الأيسر يحمله على كتفه الأيمن، ويكون كأنه حملها كلها، هذا معنى قوله: يسن التربيع في حملها.

    وأما الإسراع فاستدلوا عليه بقوله صلى الله عليه وسلم: (أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم) وقد أخذ بعضهم بظاهر الحديث وقال: الإسراع هو شدة السير في حملها، فيسرعون في حملها جداً، ويسيرون سيراً سريعاً، حتى قالوا: إنه مر بجنازة وكأنها تنفض نفضاً، ولكن إذا كان فيه مشقة أو كان المكان بعيداً فإنهم لا يكلفون على أنفسهم، وإنما يسيرون سيراً هادئاً، ومعلوم أنهم بالسيارات لا يتمكنون من الإسراع إلا بالسير المعتاد؛ لشدة الزحام ولكثرة السيارات، فيسيرون السير الذي يمكنهم بحسب اتساع الطريق أو ضيقه.

    القول الثاني: أن المراد به الإسراع في التجهيز، يعني: لا تحبسوها، كما ذكرنا في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله) فيكون المراد أسرعوا بتجهيزها، ويكون قوله: (تضعونه عن رقابكم) أي: تتخلصون منه؛ لأنكم ملزمون به، وليس الكل يحملونها على رقابهم، بل يحملها عادة أربعة أو نحوهم.

    ويسن كون الماشي أمامها والراكب خلفها، ويجوز الركوب لحاجة كما لو كان المكان بعيداً، وكانوا يحملونها على الرقاب، والأصل إباحة المشي خلفها وأمامها، والأكثر والمعتاد أنهم يمشون خلفها، وبذلك يفسر التبع في قوله: (ومن تبعها حتى تدفن)، وهذا يدل على أنهم يتبعونها، وأنهم يكونون خلفها، أما في هذه الأزمنة ولوجود السيارات؛ فلا يتمكن من تحقيق التأخر، ولكن على حسب ما تيسر.

    وكذلك القرب منها، يعني: كونه قريباً منها، وهذا يتيسر إذا كانت محمولة على الأعناق، وأما إذا كانت على السيارات ففي ذلك شيء من الصعوبة.

    اللحد والدفن وكيفيته

    اللحد أفضل من الشق، وذلك أنهم إذا حفروا القبر، ووصلوا إلى منتهاه؛ لحدوا في الجانب الذي يلي القبلة، وحفروا في أحد جوانب القبر ما يكفي لإدخال الميت فيه، أما الشق فإنهم إذا وصلوا إلى قعره، شقوا في وسطه شقاً لقبر الميت، ثم صفوا عليه اللبن صفاً، وأما اللحد فإنهم ينصبون عليه اللبن نصباً، بحيث تكون كل لبنة معتمدة على قعر القبر وطرف اللحد، فيصف صفاً، وينصب نصباً لحديث سعد قال: إلحدوا لي لحداً، وانصبوا علي اللبن نصباً كما فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي حديث: (اللحد لنا، والشق لغيرنا) وفيه ضعف.

    ويقول الذي ينزله: باسم الله، وعلى ملة رسول الله، يقول ذلك عندما يدليه، وكذلك عند الدفن يقولون: باسم الله، وعلى ملة رسول الله، وذلك إشارة إلى أنهم متبعون في ذلك للسنة. فيوضع على شقه الأيمن في لحده، ووجهه إلى القبلة لحديث: (قبلتكم أحياء وأمواتاً) يعني: الكعبة، فيجب أن يوجه إلى القبلة على شقه الأيمن.

    قوله: (ويكره جلوس تابعها بلا حاجة) أي: قبل وضعها، وقد كانوا يؤمرون أن يقوموا إذا رأوا الجنازة، فإذا مرت بهم جنازة قاموا وقوفاً، وقد مرت بهم جنازة وهم مع النبي صلى الله عليه وسلم فوقف، فقالوا: إنها جنازة يهودي، فقال: (أليست نفساً؟!) وفي حديث آخر قال: (إن للموت فزعاً) فكانوا يستحبون أن يقوموا، وهذا من باب الاستحباب، لا أنه من باب الوجوب.

    ويكره جلوس تابعها قبل وضعها، وبعد الدفن يشرع أن يحثوا قِبَل رأسه ثلاث حثيات، يحثي على القبر ويقول: باسم الله، وعلى ملة رسول الله (ثلاثاً)، إذا تيسر له ذلك.

    حرمة تجصيص القبور والبناء عليها

    يكره -وقيل: يحرم- تجصيص القبور، والبناء عليها، والمشي والجلوس عليها، والصحيح أن هذا كله محرم، فقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم: (نهى أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها، وأن يبنى عليها)، والنهي في الأصل للتحريم، ولعل السبب في ذلك أنه إذا جصص أو بني ورفع كان ذلك سبباً للغلو فيه، فقد يعتقد العامة أنه ذو جاه، وأنه ذو مكانه؛ فيتبركون به ويدعونه فيقع الشرك، هذا هو السبب، وفي حديث علي : (لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) يعني: سويته بسائر القبور، وأزلت ارتفاعه حتى يكون مثل سائر القبور، والقبر يرفع قدر شبر أو نحو ذلك؛ ليكون ذلك علامة على أنه قبر، فأما البناء عليه ورفعه فإن ذلك داخل في النهي.

    وكتابة اسمه عليه على الحجر أو نحو ذلك لا يجوز، وإذا وجد فإنه يمحى.

    والمشي على القبور، والوطء عليها تعمداً، والجلوس عليها؛ كل ذلك لا يجوز، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لأن يجلس أحدكم على جمرة فتخرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير من أن يجلس على قبر).

    ولا يجوز إدخال القبر شيئاً مسته النار، وقد يتساهل بعضهم فيدخل فيه شيئاً من البلك، وهو مما مسته النار، بل يقتصر على اللبن، أو على الحجارة، أو على أعواد أو نحوها.

    ويكره بتأكد أن يخوضوا في حديث الدنيا وهم عند القبر، وكذلك الضحك والتبسم؛ لأنهم في حالة يذكرون فيها الموت، ويجهزون فيها أخاً لهم ميتاً، فكونهم يخوضون في الدنيا ويتبسمون ويضحكون يدل على أنهم لم يستعدوا للموت، وأنه ليس للموت فزع عندهم.

    ويحرم دفن اثنين أو أكثر في قبر واحد إلا لضرورة، كما حصل في قتلى أحد؛ لما كان بالمسلمين من الجراح، فكانوا يدفنون الاثنين في قبر، وذلك للضرورة، فإذا لم تكن هناك ضرورة فإن كل واحد يفرد في قبر وحده.

    إهداء الأعمال الصالحة للموتى وانتفاعهم بها

    قوله: (أي قربة فعلت وجعل ثوابها لمسلم حي أو ميت نفعته) هذا هو القول الصحيح، أنه يجوز أن يهدى للميت من الأعمال فتنفعه، فإذا حججت ونويت حجك عنه أو عمرتك أو صدقتك أو دعاءك أو جهادك أو نحو ذلك فإن ذلك ينفعه، واختلفوا في القراءة وفي الصلاة، والأكثرون على أنه يجوز أن تهدي إليه صلاة أو قراءة، وتقول: إذا قرأت سورة أو ختمة: اللهم اجعل ثوابها لفلان سواء كان حياً أو ميتاً، ومنع ذلك كثيرون، واستدلوا بقوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى [النجم:39]، ولكن الصحيح أن الآية في الملكية، أي: ليس له الملكية إلا لما سعاه، فلا يستطيع أن يملك أعمال غيره، لكن إذا أهديت إليه تملكها.

    زيارة القبور خاصة بالرجال

    زيارة القبور خاصة بالرجال، ولا تجوز للنساء، ويسن للرجل زيارة قبور المسلمين، وتجوز زيارة قبور الكفار للعبرة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن ذلك في أول الأمر مخافة الغلو، ومخافة الندب والنياحة، ثم بعد ذلك أذن لهم وقال: (إنها تذكركم الآخرة) أي: تزهدكم في الدنيا، وترغبكم في الآخرة، وتذكركم الموت وما بعده، فالزيارة للقبور فيها مصلحتان:

    الدعاء للأموات والترحم عليهم، وتذكر الآخرة والاعتبار، وقد حفظ عن أبي العتاهية أنه مر على قبور فقال:

    ألا يا عسكر الأحياء هذا عسكر الموتى

    أجابوا الدعوة الصغرى وهم منتظرو الكبرى

    يحثون على الزاد وما زاد سوى التقوى

    يقولون لكم جدوا فهذا آخر الدنيا

    فأهل الدنيا يكون مآلهم إلى ما آل إليه أولئك المقبورون الذين قد دفنوا.

    وأما زيارة النساء للقبور فلا تجوز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج)، وثبت أيضاً أنه رأى نسوة ينتظرن جنازة، فقال: (هل تدلين فيمن يدلي؟ قلن: لا، هل تحملن فيمن يحمل؟ قلن: لا، قال: فارجعن مأزورات غير مأجورات) وفي رواية: (فأنكن تفتن الأحياء، وتؤذين الأموات). وروي أيضاً أنه رأى فاطمة قد جاءت من قبل البقيع، فسألها فقالت: (أتيت إلى أهل ذلك الميت فعزيتهم، فقال: لعلكم بلغت معهم الكدى -يعني: طرف المقابر- قالت: معاذ الله، وقد سمعتك تقول ما تقول، فقال: لو بلغتيها معهم ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك) فهذا تشديد عظيم، وهو دليل على أنه لا يجوز للنساء زيارة القبور؛ وذلك لقلة صبرهن وغير ذلك، ولا عبرة بقول بعض المتأخرين الذين أخذوا يشددون ويقولون: إنه يجوز، ويطرحون هذه الأدلة، ويتمسكون بالحديث: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزروها) فإن الخطاب للرجال.

    أما القراءة عند القبور فلا تجوز؛ وذلك لأنه قد يتخذ وسيلة إلى اعتقاد أن القراءة عند القبر أفضل منها في المسجد، ثم يجر ذلك إلى الصلاة عند القبور، وأنها أفضل من الصلاة في المساجد، ثم يجر ذلك إلى الغلو في الأموات واتخاذ قبورهم مساجد، فالصحيح أنه لا يجوز أن يتحرى القراءة عند القبر.

    وضع الجريد على القبور من خصائصه صلى الله عليه وسلم

    قوله: (وما يخفف عنه ولو بجعل جريدة رطبة في القبر).

    الصحيح أن هذا لا يجوز، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما مر على قبرين يعذبان، وغرز فيهما جريدتين، هذا من خصائصه؛ لأن الله تعالى أطلعه على هذين، وأما غيره فليس له هذه الخصيصة، وليس له أن يفعل ذلك، ولو كان ذلك جائزاً لاشتهر عند السلف، ولرأيناهم يغرزون في كل قبر جريدة خضراء، فالصحيح أنه لا يجوز، إنما يدعى له، ويترحم عليه، ويسلم عليه بهذا السلام: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) ، وفي رواية: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم) أو بما تيسر من السلام.

    قوله: (وتعزية المصاب بالميت سنة) ورد فيه حديث: (من عزى مصاباً فله مثل أجره) وإن كان فيه ضعف، فالمصاب بحاجة إلى تسليته وتعزيته وتخفيف مصيبته، فيأتي إليه المعزون، ويترحمون على ميته، ويدعون له، ويحثونه على الصبر والتسلي.

    جواز البكاء على الميت وتحريم النياحة

    يجوز البكاء على الميت ولا يجوز النحيب، ولا يجوز الزفير الشديد، وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون)، وورد أيضاً أنه بكى مرة عند بعض أصحابه، فقال: (ألا تسمعون؟! إن الله لا يعذب بحزن القلب، ولا بدمع العين، ولكن يعذب بهذا أو يرحم) يعني: اللسان، فلذلك يحرم الندب، والنياحة، وشق الثوب، ولطم الخد، وما أشبه ذلك من أمور الجاهلية، فقد كان أهل الجاهلية إذا مات فيهم الميت يلطم أحدهم خده، أو يضرب صدره، والمرأة تشق ثوبها أو تشق جيبها، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم (برئ من الصالقة والحالقة والشاقة)، والصالقة: هي التي ترفع صوتها عند المصيبة، والحالقة: هي التي تحلق شعرها أو تنتفه، والشاقة: هي التي تشق ثوبها، وفي الحديث: (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية) ودعوى الجاهلية: أنهم إذا مات فيهم الميت أخذوا يندبونه بنداء كنداء الغائب، إما باسمه كأن يقولوا: وا سعداه، وا راشداه، وا زيداه، وا عمراه، وإما بقرابته كأن يقولوا: وا ولداه، وا أخواه، وا أبواه، وا عماه، وإما بصفة تصل إليهم منه، كأن يقولوا: وا مطعماه، وا كاسياه، وا كافلاه، وا حافظاه، وما أشبه ذلك، فكل هذا من الندب الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه تسخط لقدر الله تعالى وقضائه، ولأن ذلك لا يرد فائتاً.

    والله أعلم، وصلى الله على محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756491147