إسلام ويب

شرح أخصر المختصرات [9]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد جاء الشرع المطهر بكل ما فيه رفق بالعباد وتخفيف عليهم، ومن ذلك أنه راعى حال المصلين، فأمر الأئمة بالتخفيف عليهم، وكذلك حال السفر وما فيه من الرخص، وحال المرض والمطر والخوف وغيرها، وهذا تيسير من الله سبحانه وتعالى وفضل، فهو يعلم حال العباد وضعفهم، فلم يكلفهم إلا بما يستطيعونه ويقدرون عليه.

    1.   

    ترتيب النوافل في الأفضلية

    ذكرنا أن آكد صلاة التطوع الكسوف ثم الاستسقاء ثم التراويح ثم الوتر، ثم السنن الرواتب، ثم التهجد بالليل، ثم صلاة الضحى، وذكرنا سجود التلاوة، وأوقات النهي، وما يفعل فيها.

    هكذا ذكروا ترتيب هذه النوافل بناء على آكدية الأدلة، وإن كانت الوتر لها أهميتها حيث إن بعض العلماء كالأحناف قالوا بوجوبها، ولا يلتفت إلى خلاف من ينكر شيئاً منها كالرافضة الذين يطعنون في عمر أنه ابتدع صلاة التراويح مع أنها ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً.

    ومر أيضاً استحباب القنوت، وذكرنا أنه لا يستحب أن يقنت دائماً بل يقنت أحياناً؛ لأن لم ينقل أنه عليه السلام كان يقنت في الوتر دائماً، ولكن علمه الحسن وعلمه علياً رضي الله عنهما.

    كذلك أيضاً مر بنا مشروعية رفع اليدين في الدعاء في القنوت، ويسن مسح الداعي وجهه بيديه بعد كل دعاء، وذكرنا ما ورد فيه من الأدلة، وذكرنا أيضاً التراويح، وأنها عشرون ركعة على ما كان عليه في عهد عمر بن الخطاب ، وكذلك في عهد الخلفاء.

    وقد روت عائشة رضي الله عنها أنه عليه السلام كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، وكذلك روي عن ابن عباس ، وهذا يدل على أن صلاة الليل لا تنحصر في عدد معين، واقتصاره عليه الصلاة والسلام على إحدى عشرة ركعة لأنه كان يطيلها، كان يصلي في نصف الليل نحو ست ساعات أو على الأقل أربع ساعات ونصف، أي: نصف الليل أو ثلثه.

    ثم ذكرنا أيضاً آكدية سنة الفجر، وآكدية صلاة التهجد، وما ورد فيها من الأثر، وآكدية سجود التلاوة للقارئ والمستمع، والخلاف هل هو صلاة أم ليس بصلاة، وذكرنا أن الأرجح كونه ليس بصلاة، وكذلك أيضاً سجود الشكر وأسبابه، والأوقات التي يحرم فيها النوافل، وجواز قضاء الفرائض وركعتي الطواف فيها، وهذا من باب التذكير، وقد شرحت والحمد لله، وشروحها موسعة في كتب العلماء.

    1.   

    صلاة الجماعة

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: تجب الجماعة للخمس المؤداة على الرجال الأحرار القادرين، وحرم أن يؤم قبل راتب إلا بإذنه، أو عذره، أو عدم كراهته.

    ومن كبر قبل تسليمة الإمام الأولى أدرك الجماعة، ومن أدركه راكعاً أدرك ركعة، بشرط إدراكه راكعاً، وعدم شكه فيه، وتحريمته قائماً، وتسن ثانية للركوع، وما أدرك معه آخرها، وما يقضيه أولها.

    ويتحمل عن مأموم قراءة، وسجود سهو، وتلاوة، وسترة، ودعاء قنوت، وتشهد أول إذا سبق بركعة، لكن يسن أن يقرأ في سكتاته وسرية، وإذا لم يسمعه لبعد لا طرش.

    وسن له التخفيف مع الإتمام، وتطويل الأولى على الثانية، وانتظار داخل ما لم يشق.

    فصل: الأقرأ العالم فقه صلاته أولى من الأفقه، ولا تصح خلف فاسق إلا في جمعة وعيد تعذرا خلف غيره، ولا إمامة من حدثه دائم، وأمي وهو من لا يحسن الفاتحة، أو يدغم فيها حرفاً لا يدغم أو يلحن فيها لحناً يحيل المعنى إلا بمثله.

    وكذا من به سلس بول، وعاجز عن ركوع وسجود، أو قعود ونحوها، أو اجتناب نجاسة أو استقبال، ولا عاجز عن قيام بقادر إلا راتباً رجي زوال علته، ولا مميز لبالغ في فرض، ولا امرأة لرجال وخناث، ولا خلف محدث أو نجس، فإن جهلا حتى انقضت صحت لمأموم، وتكره إمامة لحان وفأفاء ونحوه.

    وسن وقوف المأمومين خلف الإمام، والواحد عن يمينه وجوباً، والمرأة خلفه، ومن صلى عن يسار الإمام مع خلو يمينه أو فذاً ركعة لم تصح صلاته، فإذا جمعهما مسجد صحت القدوة مطلقاً، بشرط العلم بانتقالات الإمام، وإلا شرط رؤية الإمام أو من وراءه أيضاً، ولو في بعضها.

    وكره علو إمام على مأموم ذراعاً فأكثر، وصلاته في محراب يمنع مشاهدته، وتطوعه موضع المكتوبة، وإطالته الاستقبال بعد السلام، ووقوف مأموم بين سوار تقطع الصفوف عرفاً إلا لحاجة في الكل، وحضور مسجد وجماعة لمن رائحته كريهة من بصل أو غيره.

    ويعذر بترك جمعة وجماعة مريض، ومدافع أحد الأخبثين، ومن بحضرة طعام يحتاج إليه، وخائف ضياع ماله أو موت قريبه أو ضرراً من سلطان أو مطر ونحوه، أو ملازمة غريم ولا وفاء له، أو فوت رفقته ونحوهم.

    فصل: يصلي المريض قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنب، والأيمن أفضل، وكره مستلقياً مع قدرته على جنب وإلا تعين، ويومئ بركوع وسجود ويجعله أخفض، فإن عجز أومأ بطرفه، ونوى بقلبه كأسير خائف، فإن عجز فبقلبه مستحضر القول والفعل، ولا يسقط فعلها ما دام العقل ثابتاً، فإن طرأ عجز أو قدرة في أثنائها انتقل وبنى.

    فصل: ويسن قصر الرباعية في سفر طويل مباح، ويقضي صلاة سفر في حضر وعكسه تامة.

    ومن نوى إقامة مطلقة بموضع، أو أكثر من أربعة أيام، أو ائتم بمقيم أتم، وإن حبس ظلماً، أو لم ينو إقامة قصر أبداً، ويباح له الجمع بين الظهرين والعشاءين بوقت إحداهما، ولمريض ونحوه يلحقه بتركه مشقة، وبين العشاءين فقط لمطر ونحوه يبل الثوب، وتوجد معه مشقة، ولوحل وريح شديدة باردة لا باردة فقط، إلا بليلة مظلمة.

    والأفضل فعل الأرفق من تقديم أو تأخير، وكره فعله في بيته ونحوه بلا ضرورة، ويبطل جمع تقديم براتبة بينهما، وتفريق بأكثر من وضوء خفيف وإقامة.

    وتجوز صلاة الخوف بأي صفة صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وصحت من ستة أوجه، وسن فيها حمل سلاح غير مثقل].

    وجوب صلاة الجماعة على الرجال

    ذكر المؤلف في الفصل الأول صلاة الجماعة، وأنها تجب، والواجب هو ما يعاقب تاركه تهاوناً، ويثاب فاعله.

    والجماعة يراد بها الاجتماع على أدائها، والأصل أن أداءها جماعة يكون في المساجد، ولا يكفي أداؤها جماعة في البيوت، ولو اجتمع في البيت عشرة أو أكثر أو أقل فلا يكفي أن يصلوها جماعة في بيوتهم ويعتذرون بأنه حصل اجتماع؛ لأن هذا فيه تعطيل للمساجد، فإن المساجد بنيت لأجل عمارتها بالمصلين، فلا يجوز تعطيل المساجد لهذا العذر.

    والأصل في وجوبها الأدلة، فمن ذلك قول الله تعالى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43]أي: مع المصلين الذين يجتمعون للصلاة، والأحاديث كثيرة صريحة في وجوبها، بل يستدل عليها أيضاً بالوعيد في قوله تعالى: وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ [القلم:43]، فإن هذا الدعاء دعاء لهم إلى فعلها جماعة فامتنعوا فعوقبوا في الآخرة بعجزهم عن السجود.

    وثبت أنه صلى الله عليه وسلم هم أن يحرق على المتخلفين بيوتهم، وهو لا يهم إلا بحق، وإنما تركه لما بها من النساء والذرية، ولا شك أن ذلك دليل على أن ما قاموا به من السيئات، وترك العمل الواجب.

    وكذلك أيضاً في الحديث المذكور في بلوغ المرام، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر) ، والأدلة على وجوبها كثيرة، والمفاسد التي تترتب على تركها كثيرة، والمحاسن والحكم التي تترتب على أدائها جماعة لا تحصى.

    عدم وجوب صلاة الجماعة على النساء

    يقول: (لا تلزم إلا الرجال).

    أما النساء فتجوز صلاتهن في المساجد من غير وجوب، ثبت أن النساء كنّ يشهدن صلاة الجماعة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (خير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) ، قال: (وبيوتهن خير لهن) ، وقال: (إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها) ، ومع ذلك فإن بيتها خير لها؛ لأنها قد يتعرض لها الفساق ونحوهم.

    الجماعة للصلوات الخمس

    لا تلزم الجماعة إلا للصلوات الخمس، أما غيرها من النوافل فتصح في البيت، ولا تلزم أيضاً إلا المؤداة أما المقضية التي قد فات وقتها فيصليها بمفرده متى تيسر له أداؤها، وتسقط عن المملوك إذا كان المسجد بعيداً، فإذا كان قريباً يلزم سيده أن يمكنه من أداء الصلاة جماعة في المساجد، وتسقط عن العاجزين لمرض أو كبر يشق معه الحضور إلى المسجد، وإنما تلزم القادر وهو الصحيح سالم الأعضاء.

    كل مسجد له إمام راتب، وهو أولى بمسجده، فيحرم أن يؤم أحد في مسجد قبل إمامه الراتب الذي عين فيه والتزم به، فلا يجوز لأحد ولو كان أفضل منه أن يتقدم ليصلي بالناس إلا بإذنه، فله أن يقدم غيره لحاجة مثل أن يتأخر لعذر، وإذا تأخر ندب أن يرسل إلى من يصلي مكانه، فإذا عرف المأمومون عذره وعدم حضوره قدموا غيره، وكذلك لو عرف المأمومون عدم كراهته أن يتقدم فلان.

    ما تدرك به الجماعة

    بأي شيء تدرك الجماعة؟

    فيه قولان:

    القول الأول: أنها تدرك بإدراك تحريمة قبل السلام، فإذا أتيت وهم في آخر التشهد وقلت: الله أكبر قبل أن يسلموا أدركت فضل الجماعة، وإن كنت قد فاتك تكبيرة الإحرام مع الإمام، وفاتك فضيلة متابعة الإمام، ولكن تعد مدركاً للجماعة إذا أدركت هذه التحريمة قبل السلام. هذا قول.

    والقول الثاني ولعله الأرجح: أنها لا تدرك إلا بإدراك ركعة كاملة، فمن أتى وهم قد صلوا أربع ركعات في الرباعية، وما بقي عليهم إلا آخر الركعة فقد فاتته الجماعة.

    نتيجة الخلاف: إذا أتيت مثلاً وهم في التشهد الأخير أو أتيت وقد رفع من الركوع الأخير من الركعة الأخيرة، وما بقيت إلا السجدتان والتشهد، فهل تدخل معهم أو تنتظر جماعة أخرى؟

    إذا قلنا: إنها تدرك بالتحريمة تدخل معهم؛ لأنك تدرك الجماعة وفضلها، وإذا قلنا: إنها لا تدرك إلا بإدراك ركعة فإنك تنتظر جماعة أخرى إن كان معتاداً أن يأتي بعض المتخلفين ويقيموا جماعة أخرى، وإن لم يعتد ذلك بل الأصل أنهم يصلون في بيوتهم، ولا يأتي أحد بعد السلام فادخل مع الجماعة، ولو لم تدرك إلا آخر التشهد.

    ما تدرك به الركعة

    بأي شيء تدرك الركعة؟ يعني: متى يكون الإنسان مدركاً الركعة التي يعتد بها من صلاته؟

    في ذلك خلاف:

    القول الأول: أنه يدركها بإدراك الركوع، فإذا أدرك الإمام راكعاً، وأدرك معه قول: سبحان ربي العظيم قبل أن يتحرك للرفع من الركوع؛ أدرك الركعة واعتد بها؛ وذلك لأنه أدرك معظمها، والشيء يدرك بإدراك معظمه، فإذا أدرك الركوع ثم أدرك القيام بعده ثم أدرك السجدتين وأدرك الجلسة بينهما؛ فقد أدرك أكثر الأركان، ولم يفته إلا ركن القيام الأول، وقراءة الفاتحة، فيكون مدركاً للركعة لإدراكه أكثرها.

    القول الثاني: أنه لا يدرك الركعة إلا إذا أدرك الإمام قائماً وتمكن من قراءة الفاتحة، ويختار هذا القول البخاري في جزء القراءة خلف الإمام، وينقله أيضاً عن بعض العلماء المتقدمين.

    ولكن المشهور أنها تدرك بإدراك الركوع، فإذا أدركه راكعاً ولم يشك في أنه ركع وكبر للتحريمة وهو قائم، فقد أدركها، بأن انحنى وتمكن من قول (سبحان ربي العظيم) قبل حركة الإمام للرفع، وأما إذا شك هل رفع الإمام قبل أن أركع؟ وهل أنا سبحت قبل أن يتحرك؟ ففي هذه الحال يقضيها احتياطاً للعبادة.

    يلاحظ أن كثيراً يأتون مسرعين إذا جاءوا والإمام راكع، ويكبر أحدهم وهو منحي للتحريمة، وهذا لا يصح، ولا بد أن يقف ثم يكبر تكبيرة الإحرام ثم ينحني راكعاً، وأما قصة أبي بكرة أنه ركع قبل الصف فلم يذكر أنه كبر وهو منحنِ، جاء وهم ركوع، ولما حاذى الصف كبر وركع ومشى على حالة الركوع حتى اتصل بالصف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (زادك الله حرصاً ولا تعد)أي: لا تعد أن تكبر قبل أن تصل إلى الصف، ولم يأمره بالإعادة؛ لأن الحركة يسيرة خطوة أو خطوتين.

    إذا جاء والإمام راكع وكبر ناوياً تكبيرة الإحرام أجزأته وسقطت عنه تكبيرة الركوع، ولكن يسن أن يأتي بتكبيرتين: تكبيرة الإحرام وهو قائم، وتكبيرة للركوع وهو منحنٍ، هذا هو الأفضل.

    هل ما يدركه المسبوق أول صلاته أو آخرها

    هل ما يدركه المسبوق أول صلاته أو آخرها؟

    في ذلك خلاف، وأكثر الفقهاء على أن ما يدركه المسبوق هو آخر صلاته، وما يقضيه هو أولها، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا)قالوا: والقضاء يحكي الأداء، وهو دليل على أن ما فاته هو أول صلاته، فيقضيها على صفتها، يقضي ما فاته على أنه أول صلاته.

    وسبب الخلاف في هذه المسألة اختلاف رواية الحديث، ففي رواية: (وما فاتكم فأتموا)، وفي رواية: (وما فاتكم فاقضوا)، أخذ أكثر الفقهاء برواية: (فاقضوا)، والذين قالوا: إن ما يدركه هو أول صلاته استدلوا برواية: (وما فاتكم فأتموا)، وهي أرجح من رواية: (فاقضوا) من حيث السند، ويمكن أن تحمل رواية: (فاقضوا) على الإتمام لقوله تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ [الجمعة:10]يعني: أكملت وأتمت، فيترجح أن المسبوق إذا أدرك الإمام في ركعة عد هذه الركعة أول صلاته، وإذا قام ليقضي جاء بالركعة التي بقيت عليه.

    الذين قالوا: إن ما يدركه المسبوق هو آخر صلاته تناقضوا، فقالوا: إذا أدرك ركعة من الظهر أو من العشاء ثم قام ليأتي بما فاته فإنه يصلي معها ركعة ثم يتشهد، مما يدل على أنه قد كمل ركعتين، وبعد الركعتين يتشهد ثم يأتي بركعتين بدون قعود بينهما، فنقول لهم: هذا تناقض، لو كان ما يقضيه هو أول صلاته، لقلنا له: فاتك ثلاث ركعات، هذه الثلاث اثنتان سرداً وواحدة فرداً، فإذا قمت تقضي الثلاث فائت بثنتين سرداً لا تجلس بينهما، ثم ائت بالثالثة وتشهد بعدها وسلم، فتكون مثل المغرب، فأما إذا ألزمتموه إذا أدرك ركعة أن يتشهد بعد الأخرى، وأن يسرد الركعتين الباقيتين بدون جلوس بينهما، فهذا يدل على أن الركعة التي أدركها هي أول صلاته.

    فالراجح أن ما يدركه هو أول صلاته، وما يقضيه هو آخرها؛ وذلك لأن الأول حساً لا يمكن أن نجعله الآخر، فأول شيء أدركه هو هذه الركعة التي مع الإمام، وإن لم يتمكن من أن يقرأ فيها بعد الفاتحة فإنها سقطت القراءة بعد الفاتحة كما تسقط قراءة الفاتحة إذا أدركه راكعاً.

    وتوسط بعضهم وقال: نأمره إذا قام ليقضي أن يقرأ مع الفاتحة سورة حتى يدرك ما فاته حقاً؛ لأنه إذا فاته الركعتان اللتان فيهما قراءة الفاتحة وسورة، والركعتان اللتان أدركهما ليس فيهما إلا قراءة الفاتحة، فإذا قام ليقضي قلنا له من باب التدارك أن يقرأ في المقضيتين الفاتحة وسورة حتى يتدارك ما فاتك.

    ما يتحمله الإمام عن المأمومين

    ذكر المؤلف ما يتحمله الإمام عن المأمومين، ذكروا أنه يتحمل ثمانية أشياء، ونظمها بعضهم في أبيات مذكورة في حاشية الروض المربع للشيخ العنقري أولها قوله:

    ويحمل الإمام عن مأموم ثمانيه تعد في المنظوم

    وذكر هاهنا منها ستة، والشارح ذكرها كاملة، وهي:

    الأول: القراءة، قراءة الفاتحة وقراءة سورة، إذا كانت الصلاة جهرية فإن المأموم ينصت ويستحب أن يقرأ في السكتات كما سيأتي، وأما إذا كانت سرية فيتأكد عليه أن يقرأ، وبعض العلماء لم يسقطها عن المصلي لا في الجهرية ولا في السرية.

    الثاني: سجود التلاوة.

    الثالث: سجود السهو.

    إذا سجد الإمام للتلاوة أو السهو سجد المأموم، ويتأكد عليه أن يتابع إمامه، ولو سها المأموم ولم يسجد إمامه فلا يسجد المأموم.

    وإذا سها الإمام، والمأمومون ما سهوا، كأن ترك التسبيح في الركوع والسجود أو التحميد أو ما أشبه ذلك ثم سجد للسهو، فيلزمهم أن يتابعوا الإمام في هذا السجود، فإن لم يتابعوا الإمام فصلاتهم صحيحة، كذلك لو قرأ الإمام آية فيها سجدة وسجد ولم يكبر فقد يشوش على المأمومين، فإذا سجد ولم يتابعوه فإنه يتحملها الإمام.

    الرابع: السترة، وهي التي تكون أمامه، يقولون: سترة المأمومين إمامهم، وسترة الإمام سترة لمن خلفه، والصفوف بعضهم سترة لبعض، فالصف الأول سترة للثاني، والصف الثاني سترة للثالث، وهكذا.. ولا يجوز المرور بين الصفوف كما يفعله بعض المتساهلين، ويقولون: سترة الإمام سترة لكم، فإن هذا مرور بين يدي المصلي، وصاحبه متعرض للوعيد.

    الخامس: دعاء القنوت، فالمأمومون يؤمنون إذا دعا الإمام للقنوت، فلا يقنتون بأنفسهم، ولا يدعون بمثل دعائه، بل يكفيهم التأمين.

    السادس: التشهد الأول إذا سبق المأموم بركعة، إذا أتيت والإمام قد صلى ركعة، وأدركت معه الركعة الثانية، فإنك تتشهد بعدها، وإذا تشهدت بعدها فإنك تكون قد تشهدت وأنت ما صليت إلا ركعة، قمت بعدها لتصلي الثلاث، كأنهم يقولون: يجوز أن تأتي بها كصلاة المغرب، ركعتين فتشهد ثم ركعة، ولكن الصحيح أنك تأتي مع الركعة التي أدركت وتشهدت معهم بركعة أخرى، ثم تتشهد، ويكون تشهدك هذا هو التشهد الأول.

    السابع: التسميع، وهو قول: (سمع الله لمن حمده)، لا يقوله إلا الإمام.

    الثامن: قول: (ملء السموات وملء الأرض)، فالمأموم يقول: ربنا ولك الحمد، وقول: (ملء السموات...) يحملها الإمام عنهم.

    1.   

    قراءة المأموم في سكتات الإمام وفي السرية

    لما ذكر المؤلف القراءة قال: (يسن أن يقرأ في سكتات الإمام وفي السرية) يعني: إذا كانت الصلاة سرية يتأكد أن يقرأ المأموم فيها كالظهر والعصر والأخيرة من المغرب والأخيرتين من العشاء، فهذه كلها سرية، ويتأكد أن يقرأ المأموم فيها؛ لأنه ليس في الصلاة سكوت، فإذا كنت لست منصتاً لقراءة الإمام فكيف تسكت ولا تقرأ؟!

    وقد ذكرنا أن البخاري وغيره يلزمون أن يقرأ المأموم الفاتحة في الجهرية.

    هل للإمام سكتات في الجهرية؟

    قد ورد في حديث سمرة قال: (حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم سكتتين: سكتة إذا استفتح الصلاة، وسكتة إذا فرغ من القراءة كلها)، وفي رواية: (وإذا قال: وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7])هكذا في سنن الترمذي .

    وعلى هذا يكون عدها ثلاث سكتات: سكتة قبل الفاتحة، وسكتة بعد وَلا الضَّالِّينَ ، وسكتة بعد القراءة كلها وقبل الركوع، لكنه قال: (حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم سكتتين)، وسئل عن ذلك عمران بن حصين فأقره، وشهد أنه صادق في هذه السكتتين.

    والسكتة التي بعد الفاتحة قد استحبها بعضهم وقالوا: يتأكد على الإمام أن يسكت سكتة بعدها يمكن المأمومين من قراءة الفاتحة؛ وذلك لأن هناك من يوجب قراءتها، وقد يستدلون على ذلك بقول أبي هريرة: (اقرأ بها في نفسك يا فارسي)، فيدل على أنه يقرأ في نفسه ولو جهر الإمام، ولكن قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كبر الإمام فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا)وفسر الإمام أحمد قول الله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا [الأعراف:204] قال: أجمعوا على أنها في الصلاة، يعني: أن الوجوب إنما يكون في الصلاة، أي: فإذا قرئ القرآن في الصلاة فأنصتوا، ولا يجتمع قراءة مع إنصات، وقد يقال: يستثنى من ذلك قراءة الفاتحة، فيقرأها بسرعة خروجاً من خلاف وجوبها، وقد يقال أيضاً: إذا قرأ نصفها في سكتة الإمام، ثم ابتدأ الإمام السورة كمّلها بسرعة، وهذا هو الأقرب.

    من لم يسمع الإمام إما أن يكون بعيداً، وإما أن يكون أطرش وهو الأصم، فإذا كان لا يسمع الإمام لبعد جاز له أن يقرأ، وإذا كان لا يسمعه لطرش فلا يقرأ؛ وذلك لأنه يشوش على من حوله إذا قرأ، فيسمعه من بجنبه من هنا ومن هنا فيشوش عليهم.

    1.   

    حقيقة التخفيف المأمور به في الصلاة

    يقول: (ويسن له التخفيف مع الإتمام).

    الضمير يعود على إمام الصلاة، فيسن له أن يخفف مع الإتمام، وقد انقسم الناس في الصلاة إلى ثلاثة أقسام:

    قسم يطيلون كثيراً، وقسم يخففون كثيراً، وقسم يتوسطون.

    الذين يطيلون قد يكون فعلهم منفراً عن هذه العبادة، كما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال لـمعاذ : (أتريد أن تكون فتاناً؟!)، وقال: (أيها الناس! إن منكم منفرين، أيكم أمّ الناس فليخفف)، وذكر العلة: (أن فيهم الصغير والكبير وذا الحاجة).

    ولكن يقول ابن القيم رحمه الله: إن حديث معاذ هذا كثيراً ما يستدل به النقارون: (أيكم أمّ الناس فليخفف)، ثم ينقرون الصلاة نقر الغراب ويقولون: هذا هو التخفيف الذي أمرنا به، فنقول: هذه ليست صلاة، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم: (نهى عن نقر كنقر الغراب) وهو التخفيف المخل.

    والتخفيف المشروع هو اتباع ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى النسائي بإسناد صحيح عن أنس رضي الله عنه أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالتخفيف ويؤمنا بالصافات) أي: أنه فسر قوله بفعله، فمن قرأ بالصافات في صلاة الصبح فإنه يعتبر مخففاً، الصافات ست أو سبع صفحات، ومع ذلك فإنه إذا رأى من الناس نفرة أو إطالة فإنه يقرأ من طوال المفصل كما تقدم.

    1.   

    استحباب إطالة الركعة الأولى على الثانية

    قوله: (وتطويل الركعة الأولى على الثانية):

    يسن أن تكون الركعة الأولى أطول من الثانية؛ ولعل السبب في ذلك أن يدرك المأمومون هذه الركعة، فقد يكونون متأخرين يسمعون الإقامة فيأتون من أماكن بعيدة فيطيل الأولى حتى يدركوها، فقد روى مسلم عن جابر قال: (كانت تقام صلاة الظهر فيذهب أحدنا إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يرجع إلى بيته فيتوضأ ثم يأتي إليهم فيدركهم في الركعة الأولى؛ لما يطيل بهم) فذهابه إلى البقيع يقضي حاجته كم يستغرق من الدقائق؟! كذلك رجوعه إلى بيته، كذلك اشتغاله بالوضوء، كذلك ذهابه إلى المسجد، ومع ذلك يدركهم وهم في الركعة الأولى، وهذا دليل على أنه قد يبقى في الركعة الأولى مثلاً خمس دقائق أو ست دقائق على الأقل، ومما يدل أيضاً على أنه كان يطيل بهم.

    ولذلك يستحب أن يطيل الركعة الأولى على الثانية.

    1.   

    استحباب انتظار الداخل وخاصة في الركوع

    قوله: (وانتظار داخل ما لم يشق):

    ذكروا أنه يسن للإمام انتظار داخل ما لم يشق، ويروي فيه أحاديث وآثار، ومنها: (أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يرفع من الركوع حتى لا يسمع وقع قدم)، وفي رواية: (حتى لا يسمع وقع نعل) يعني: إذا ركع الإمام، ودخل أحد من الباب من هنا أو من هنا والإمام راكع انتظره حتى يتصل بالصف ما دام يسمع وقع قدمه، لأجل إدراك الركعة، فإن شق على المأمومين فحق المأمومين أولى من هذا الداخل.

    ثم على الداخل أن لا يسرع بل يمشي الهوينا لما تقدم: (إذا سمعتم الإقامة فأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة والوقار، ولا تأتوها وأنتم تسعون).

    1.   

    الأولى بالإمامة في الصلاة

    قال المصنف: (فصل: الأقرأ العالم فقه صلاته أولى من الأفقه).

    الأولى بالإمامة الأقرأ العالم فقه صلاته، فهو أولى من الأقرأ وأولى من الأفقه الذي ليس بأقرأ، فإن قلت: أليس النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يؤمكم أقرؤكم لكتاب الله) ولم يذكر الفقه؟

    الجواب: أنهم كانوا إذا قرءوا شيئاً تفقهوا فيه، فلا يقرءون إلا بعد ما يتفقهون، فالأقرأ في ذلك الوقت جامع بين القراءة وبين الفقه والفهم سيما للصلاة، فإذا قدم إنسان قارئ حافظ للقرآن ولكنه لا يفقه أحكام الصلاة، فإنه إذا عرض له شيء في الصلاة لم يدر ما يفعل، ولا يقدر أن يميز أركانها من واجباتها من سننها، ولا يدري ما سجود السهو، ولا يدري ما يسجد له، ولا يفرق بين تسبيح الركوع والسجود، وبين التكبير والتسميع فهذا لا يتقدم؛ لأنه قد يصلي صلاة غير مجزئة.

    أما إذا جمع بين القراءة والفقه ومعرفة أحكام الصلاة؛ فإنه أولى من الأفقه الذي ليس بأقرأ، وأولى من الأقرأ غير الفقيه.

    1.   

    حكم إمامة الفاسق في الصلوات والجمع والأعياد

    قال: (ولا تصح خلف فاسق إلا في جمعة وعيد تعذرا خلف غيره):

    الفاسق الذي عرف بالفسق، كأن عرف بشرب الخمر، أو بالزنا، أو بأكل الربا، أو بشهادة الزور، أو بالسرقة، أو بالظلم والعدوان، أو بتتبع العورات، أو غير ذلك من موجبات الفسق، لا تصح إمامته سواء كان فسقه بالأفعال كالزاني والسارق، أو بالعقائد كالرافضي والخارجي، فهؤلاء لا تصح الصلاة خلفهم، ولو كان مستوراً فلا بد أن نبحث عنه.

    وهل تصح صلاته بمثله؟ في ذلك خلاف، ومعلوم أنهم إذا كانوا كلهم سواء فلا بد أن يتقدمهم أحدهم، فإذا كنت تعلم فسقه فلا تصل خلفه، إذا كان فسقه شيئاً ظاهراً كحليق مثلاً، أو تعلم أنه يشرب الدخان، أو أنه مسبل ثوبه وأنت تراه فلا تصل خلفه، أما إذا كان مستوراً فإنك لا تبحث عنه.

    يستثنى من ذلك: صلاة الجمعة والعيد إذا تعذرا خلف غيره؛ وذلك لأنه غالباً ما يتولاها الأمراء، وقد يكون الأمير مشهوراً بشيء من البطش ومن الظلم ومن الاعتداء، والتسرع في الحكم على المتهمين بظلم أو نحو ذلك، فمثل هذا قد يرخص في صلاة الجمعة والعيد خلفه، وكان الصحابة والتابعون يصلون خلف بعض الأمراء في عهد بني أمية، وأولئك الأمراء قد اشتهروا بشيء من الفسق والمعاصي، مثل: تأخير الصلاة عن وقتها كصلاة العصر، ومثل: التسرع في قتل الأبرياء، وكثرة السجون ونحو ذلك، فيصلون خلفهم لتعذر الصلاة خلف من هم عدول.

    1.   

    حكم إمامة من حدثه دائم وأمي ومريض

    لا تصح إمامة من حدثه دائم كصاحب السلس والقروح السيالة، واختلف هل يصلي بمثله أم لا؟

    والأرجح أنه يصلي بمثله؛ وذلك لأن حدثه دائم؛ ولأن طهارته ناقصة.

    قال: (ولا تصح الصلاة خلف الأميّ وهو الذي لا يحسن الفاتحة أو يدغم فيها حرفاً لا يدغم، أو يلحن فيها لحناً يحيل المعنى).

    الأمي في الأصل الذي لا يقرأ ولا يكتب، لقوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا [الجمعة:2] يعني: أن العرب كانوا أميين غالباً، ثم اصطلح الفقهاء على أن الأمي هو الذي لا يحسن الفاتحة، أو يقرؤها ولكن يغلط فيها، فيدغم فيها حرفاً لا يدغم في أي قراءة من القراءات، هناك قراءة لبعض القراء وهو أبو عمرو يدغم الميم في قوله: (الرحيم ملك) يجعلها ميماً مشدداً، فمثل هذا قراءة سبعية وإن كانت مكروهة.

    فأما إذا أدغم حرفاً لا يدغم مثله، فإن ذلك يخل بقراءته، يسأل بعض الإخوان عن بعض الهنود الذي يقلبون الحرف، حرف الحاء هاء، يقول: الهمد لله، نقول: مثل هذا لا تصح إمامته إلا بمثله، لأن هذا قد يكون عاجزاً عن النطق بحرف الحاء، فتصح صلاته بمثله، وإلا فالأصل أنه لا يتقدم الذين لا يحسنون الفاتحة.

    وذكر صاحب سلس البول، وقد تقدم أنه داخل في الحدث الدائم. كذلك العاجز عن الركوع أو السجود أو القعود ونحوها، هذا أيضاً لا تصح إمامته؛ لأنه إذا كان لا يستطيع الركوع ما تمت صلاته، فيصلي جالساً لنفسه مأموماً فلا يصلي إماماً، وكذلك بقية الأركان.

    وحد العاجز هو الذي لا يأتي بالركن كاملاً، فإذا كان عاجزاً عن الانحناء بحيث لا يقدر أن تصل يداه إلى ركبتيه صدق عليه أنه عاجز عن الركوع.

    كذلك مثلاً: إذا كان عاجزاً عن القعود بحيث إنه لا يستطيع أن يجلس مفترشاً بين السجدتين أو التشهد؛ لعيبٍ مثلاً في ركبته أو في قدمه، فيصدق عليه أنه عاجز عن القعود، وكذلك إذا كان لا يستطيع السجود لمرض مثلاً في رأسه أو في عينه يمنع من السجود، فيصدق عليه أنه عاجز، وكذا عاجز عن اجتناب نجاسة، فإذا كان مثلاً لا يستطيع أن يزيل النجاسة التي على ثوبه أو على بدنه فهو معذور والحال هذه، وكذلك لو كان عاجزاً عن استقبال القبلة فإنه تصح صلاته وحده ولا يصح أن يكون إماماً.

    أما العاجز عن القيام ففيه خلاف قد أشير إليه فيما تقدم، وذكرنا قوله صلى الله عليه وسلم (وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعين) فرخصوا في إمام الحي الراتب إذا رجي زوال مرضه، وابتدأ الصلاة بهم جالساً فإنهم يصلون خلفه جلوساً.

    أما إذا كان لا يرجى زوال مرضه، فالأصل أنهم يستبدلون به غيره؛ لأنه والحال هذه يستمرون في صلاتهم وهم جلوس، وكذلك إذا ابتدأ بهم الصلاة وهو قائم ثم اعتلّ لزمهم أن يتموا وهم قيام.

    1.   

    حكم إمامة المميز دون البلوغ والمرأة والمحدث واللحان

    صلاة المميز للبالغ في فرض لا تجوز، والمميز هو الذي دون العشر، فلا يصح أن يؤم البالغين في الفريضة، ولو كان أقرأ من غيره.

    ولا تصح إمامة المرأة للرجال والخناثى ونحوها؛ وذلك لأن المرأة مأمورة بأن تكون خلف الرجال فلا تتقدمهم، وكذا لو صلت في وسطهم ولو كانوا محارم لها.

    ولا تصح خلف محدث يعلم حدثه، فإذا صلى وهو محدث بطلت صلاته وصلاة المأمومين، وكذا إذا كان عليه نجاسة يعلمها بطلت صلاته وصلاة المأمومين، فإذا جهل حتى انقضت صحت صلاة المأموم، فقد ثبت أن عمر رضي الله عنه صلى مرة الفجر، فلما خرج إلى بستان له وجد على فخذه آثار احتلام، فعلم أنه صلى بهم وهو محتلم، فاغتسل وأعاد ولم يأمرهم بالإعادة، فإذا صلى الإمام وهو ناسٍ الحدث ولم يتذكر إلا بعدما انتهت الصلاة أعاد وحده، فإن تذكر وهو في الصلاة لزمهم الإعادة كلهم.

    وتكره إمامة اللحان والفأفاء ونحوهم، اللحان قيل: إنه الذي يلحن في قراءته، وقيل: إنه الذي فيه لحن، والكل منهي عنه، سواء كان الذي يلحن في قراءته حتى تكون كأنها غناء، أو الذي يلحن في قراءته ويغلط فيها غلطاً يحيل المعنى.

    والفأفاء: هو الذي يكرر الفاء، وكذا التمتام: الذي يكرر التاء عند النطق، إذا أراد أن ينطق مثلاً بكلمة أولها تاء كرر التاء (تـتـت) وكذلك يكرر الفاء (ففف فأقول)، هؤلاء في إمامتهم نظر بسبب هذا التكرار.

    1.   

    مكان وقوف المأمومين في الصلاة رجالاً ونساءً أفراداً وجماعات

    موقف المأمومين: يقف المأمومون خلف الإمام -هذا هو المعتاد- إذا كانوا اثنين فأكثر، والواحد يقف عن يمينه وجوباً، ولا يجوز أن يقف عن يساره إذا كان المأموم وحده، المرأة الواحدة تقف خلف الإمام أو خلف الصف؛ وذلك لحديث أنس : (أن جدته مليكة دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام فلما أكل قال: قوموا فلأصلي لكم، يقول أنس : فقمت أنا واليتيم وراءه والعجوز خلفنا) العجوز جدتهما ومع ذلك ما صفت معهما، بل صفت خلفهما، فدل على أن المرأة تقف وحدها ولو كانت فرداً، وأما الرجل فلا يقف وحده خلف الصف، ولا خلف الإمام.

    من صلى عن يسار إمام وليس خلف الإمام ولا عن يمينه أحد بطلت صلاته، أما إذا كان عن يمينه وعن يساره فإنها تصح؛ وذلك لما روي أن ابن مسعود رضي الله عنه صلى بين علقمة والأسود يعني: جعل أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، ونقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم إما قولاً وإما فعلاً، لكن بعضهم حمل ذلك على رؤية المكان وجعله عذراً، فالأصل أن الواحد يقف عن يمين الإمام، والاثنين يقفان خلفه، لكن إذا وقف أحدهم عن يمينه والآخر عن شماله صحت صلاتهم، لحديث جابر يقول: (إنه وقف عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم فأداره عن يمينه فجاء جبار بن صخر فوقف عن يساره فدفعهما خلفه) فصار هذا هو السنة أن الاثنين يقفان خلف الإمام، إلا إذا كانوا دون البلوغ فإنهم كلهم يقفون عن يمين الإمام.

    حكم من صلى خلف الصف منفرداً

    من صلى خلف الصف وحده ورد فيه حديث: (لا تصح صلاة المنفرد خلف الصف) وورد أنه صلى الله عليه وسلم: (رأى رجلاً يصلي خلف الصف فأمره بأن يعيد)؛ وذلك لكونه منفرداً. يكثر السؤال عما إذا جاء والصف مكتملاً فماذا يفعل؟

    الجمهور على أنه يصلي منفرداً أو ينتظر حتى يأتي أحد ويصلي معه، وأجاز شيخ الإسلام ابن تيمية بأن يصلي وحده فرداً مع الإمام؛ حتى لا تفوته صلاة الجماعة وهو ينظر إليهم، فقد يأتي وهم في الركعة الأولى وينتظر ولا يأتيه أحد فهل نقول له: اترك صلاة الجماعة وصل وحدك وهو ينظر للجماعة وقد جاء من مكان بعيد؟ في هذا شيء من الخطأ أو شيء من التفويت، لذلك كثر البحث في هذه المسألة وكثر الكلام حولها.

    أولاً: نقول له: التمس فرجة، بأن يقرب بعضهم إلى بعض حتى تكون بينهم فرجة تتسع له.

    ثانيا: إذا وجدهم متراصين تراصاً شديداً جاز له أن ينبه أحدهم ليتأخر معه، ورد في ذلك حديث أنه قال: (هلا التمست فرجة أو اجتررت رجلاً)ولو كان الحديث ضعيفاً لكن عمل به كثير من الفقهاء وكرهوا أن يجتذبه بقوة؛ لأن هذا تصرف مؤذ، ولكن ينبهه بكلمة خفيفة أو يسحبه سحباً خفيفاً أو نحو ذلك، وحملوا عليه الحديث الذي فيه: (لينوا في أيدي إخوانكم) أن المراد: إذا طلبك أن تتأخر معه حتى تصح صلاته، فتأخر.

    ورد أيضاً: (أنه إذا اجتذبه فإن لهذا المجتذب أجر)؛ لأنه وصل صفاً ومن وصل صفاً وصله الله، فإذا لم يستطع أن يجتذب أحداً لكونهم امتنعوا، فله أن يخرق الصف ويقوم عن يمين الإمام إذا كان هناك متسع عن يمينه، فإذا لم يستطع وكثرت الصفوف ولا يستطيع أن يخرقها وصلى وحده، عملاً بما اختاره شيخ الإسلام فلعل ذلك يجزئه وهو أولى من تفويت الصلاة وهو ينظر.

    ضابط صحة اقتداء المأموم بالإمام

    متى يقتدي المأموم بالإمام؟ إذا جمعهما مسجد صحت الإمامة، ولو كان بينهما جدار، وإذا كان السور واحد وامتلأ المسجد وصفوا في الرحبة صحت صلاتهم؛ لأن المسجد واحد، وكذلك إذا امتلأت الرحبة وصفوا في الطريق والصفوف متراصة صحت الصلاة، وصح أن يقتدي بهم بشرط أن يعلم بانتقالات الإمام، أي: يعلم برفعه وخفضه وركوعه وسجوده.

    أما إذا لم يجمعهما مسجد وصلى خارج المسجد فاشترطوا رؤية الإمام أو رؤية من وراءه ولو بعضهم، فإذا كان يصلي مثلاً في الطريق أو في الشوارع فاشترطوا أن يرى الإمام ولم يكتفوا بسماعه، ولعل الأولى في هذه الأزمنة إذا اتصلت الصفوف الاكتفاء؛ وذلك لوجود المكبر؛ لأن المساجد تمتلئ فهم يصلون في الأرصفة والطرق؛ حيث لا يجدون مكاناً، إلا أنه لا يجوز أن يكونوا أمام الإمام بل عن جانبيه أو خلفه.

    1.   

    المكروهات التي ينبغي اجتنابها في صلاة الجماعة

    يقول: (يكره أن يكون الإمام أعلى من المأمومين قدر ذراع فأكثر) روي أنه صلى الله عليه وسلم لما بني له المنبر ركع عليه وكان مرتفعاً نحو أقل من ذراع وهي الدرجة الأولى، ولما أراد أن يسجد نزل وسجد على الأرض.

    صلاته في المحراب إذا كان يمنع من مشاهدته ويستره عن المأمومين الذين يقتدون به مكروهة، فلا يصلي في المكان المرتفع إلا للضرورة إذا امتلأ المسجد ولم يجد مكاناً، وإلا فإنه يتأخر عن المحراب.

    صلاة الإمام في التطوع مكان المكتوبة منهي عنه؛ لما ورد في سنن أبي داوود: (أن المغيرة نهى أن يتطوع الإمام مكان المكتوبة) ولكن إذا أراد أن يتطوع فإنه ينتقل إلى مكان آخر.

    استقبال الإمام القبلة بعد السلام لا يجوز طويلاً، كان النبي صلى الله عليه وسلم ساعة ما يسلم يمكث قدر ما يقول: (أستغفر الله ثلاثاً، اللهم أنت السلام..) إلى آخره ثم ينصرف، ولا يبقى مستقبلاً القبلة، كثير من الأئمة في خارج البلاد وربما في داخلها يبقى قدر دقيقة أو دقيقتين وهو مستقبل القبلة لا ينصرف، وهذا خطأ.

    وصلاة المأمومين بين السواري إذا قطعت الصفوف منهي عنها، وقد ورد في ذلك حديثان مذكوران في كتاب منتقى الأخبار، ذكر أنس : (أنهم كانوا ينهون عن الصلاة بين السواري إذا كانت تقطع الصفوف) لكن إذا اضطر إلى ذلك بأن امتلأ المسجد ولم يجدوا مكاناً إلا هذه الأماكن فلهم عذر. قوله: (وحضور المسجد والجماعة لمن رائحته كريهة) قد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قال: (من أكل بصلاً أو ثوماً أو كرّاثاً فلا يقربنّ مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم) مثل هذه إذا كان محتاجاً لها فإنه يميتها طبخاً.

    1.   

    المعذورون بترك الجمع والجماعات

    المريض معذور يصلي في بيته حال مرضه؛ لأن المريض يعذر بترك الجماعة والجمعة وتسقط عنه الجمعة والجماعة؛ لأجل المرض وكذلك مدافع أحد الأخبثين البول أو الغائط معذور أيضاً؛ وذلك لأنه متضرر فهو معذور بتركه الجماعة، ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان) لكن يراد بالطعام هنا الذي يحتاج إليه ويتضرر بفواته، كالصائم الذي اشتدت حاجته إلى الطعام، أما إذا كان لا يضره ويستطيع أن يصبر ويقدم الصلاة فهو الواجب.

    وإذا خاف ضياع أعماله فإنه يسقط عنه الجماعة ونحو ذلك، فإذا كان مثلاً عنده دواب ويخشى أنها تنفر وتشرد إذا ذهب، أو كان له قريب في الموت فله أن يحضر عنده ولو فاتته صلاة الجماعة، أو تضرر من سلطان وهو ممن يطلبه بظلم، أو كان هناك مطر يمنع من الوصول إلى الجمعة أو الجماعة، أو هناك غريم يطالبه بدين فلا يجد له وفاء، أو يخشى فوات رفقته إذا كان مسافراً فيبقى منقطعاً، كل هذه أعذار يعذر بها المسلم في ترك الجمعة والجماعة.

    والأصل أن الإنسان لا يتأخر إلا لعذر شديد فأما مجرد سبب خفيف فلا يكون عذراً، فليس مجرد خوف الغريم عذراً أن لا يخرج، إلا إذا كان لا يخرج من بيته دائماً فهو عذر، فأما إذا كان يخرج إلى الأسواق وإلى الدوائر ويترك الخروج إلى الصلاة فليس هذا عذراً.

    1.   

    صفة صلاة المريض

    عندنا صلاة المريض، ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال لـعمران بن حصين : (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب)فإذا استطاع أن يقوم وجب عليه قال تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238] فإذا كان القيام يشق عليه فإنه يصلي وهو قاعد، فإذا كان قعوده أيضاً يشق عليه صلى على أحد جنبيه الأيمن أو الأيسر، والأيمن أفضل، فإذا لم يقدر فعلى الأيسر، فإذا لم يقدر على أحد جنبيه صلى مستلقياً على ظهره رجلاه إلى القبلة ويرفع رأسه حتى يواجه القبلة.

    تكره صلاة المريض مستلقياً مع القدرة على الصلاة وهو على جنب، وإذا صلى وهو على جنب فإنه يومئ بالركوع والسجود. وإذا صلى وهو جالس فإنه يجعل السجود أخفض من الركوع، إذا لم يستطع صلى على جنب ويحرك رأسه عند الركوع والسجود، فإذا لم يستطع تحريك رأسه فبعضهم يقول: يحرك طرفه يعني: عينيه مع تحريك يديه، ولو رءوس الأصابع، فتحريك الطرف أن يحرك عينيه وينوي بقلبه، وذلك مثل المأسور الموثق على خشبة أو نحوها لا يستطيع أن يتحرك ينوي بقلبه، ويحرك طرفه، فإذا عجز عن تحريك طرفه نوى بقلبه وصلى على حسب حاله ناوياً بقلبه فكلما انتقل إلى ركن نوى الانتقال، يستحضر القول والفعل، وإذا عجز عن الأقوال أتى بما يستطيع ولو بأدنى حركة، فيحرك شفتيه بالقراءة والذكر وما أشبه ذلك، وما دام عقله معه فلا تسقط الصلاة عنه، بل يصلي على حسب حاله ما دام عاقلاً.

    كثير من المرضى لشدة الألم ولشدة الوجع يترك الصلاة مع قدرته على الصلاة، ولو بتحريك رأسه، وهذا خطأ، أيضاً الذين حوله يقولون: إنه متألم ومشغول بالألم عن أن يصلي، فنحن نقول: يجب أن تذكره بالصلاة وأن وقتها قد دخل، فإذا ذكرته وأمرته واعتذر بأنه لا يطيق أو أنه منشغل بالآلام وبالوجع فقد برئت أنت.

    وإذا طرأ العجز في أثناء الصلاة انتقل إليه، فلو أن إنساناً كبر وهو قائم، ثم عجز انتقل إلى الجلوس، فإن كبر وهو جالس ثم تعب انتقل إلى الاضطجاع، وهكذا مثلاً: لو كبر وهو جالس ثم أحس بنشاط قام وانتقل إلى القيام، أو كبر وهو على جنبه ثم أحس بنشاط انتقل إلى الجلوس؛ وذلك لأنه قد أصبح قادراً ولو استفتح الصلاة وهو عاجز.

    1.   

    حكم صلاة المسافر وصفتها

    عندنا صلاة السفر فيها كلام كثير سيما في هذه الأزمنة.

    هل القصر سنة أو رخصة؟

    فإذا قيل: إنه رخصة، فإن الأفضل الإتمام، وإذا قيل: إنه سنة، فإن الأفضل القصر مع جواز الإتمام.

    الأكثرون على أنه عزيمة وأنه سنة؛ لأنه هو الذي داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم.

    وذهب كثير من العلماء إلى أنه رخصة كسائر الرخص، والرخصة إنما تفعل عند الحاجة، فإذا كان هناك حاجة فإن فعلها أفضل، وإذا لم يكن هناك مشقة ولا حاجة ولا ضرورة فإن تركها أفضل.

    فنقول: أولاً: السفر مظنة المشقة سيما في الأزمنة القديمة، ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (السفر قطعة من العذاب؛ يمنع أحدكم نومه وراحته، فإذا قضى نهمته فليسرع الفيئة)، كان المسافرون يبقون في السفر شهراً وأشهراً وسنين، وكانوا أيضاً يلاقون مشقة، حيث إنهم يمشون على أقدامهم عشر ساعات أو أكثر، وإذا ركبوا ركبوا على ظهر البعير والشمس تصهرهم من الأمام أو الخلف، والجلسة غير مريحة، يجلس أحدهم على ظهر القتب، أو على ظهر الرحل جلسة غير مطمئنة، يعني: قد يكون مشيه أسهل عليه من الركوب، يبقى على ذلك مثلاً مدة خمس ساعات وهو راكب أو أكثر أو أقل، فكان السفر مشقة.

    رخص السفر

    فجاءت الرخص فيه أربع:

    الرخصة الأولى: الفطر؛ لقوله تعالى: أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:185] ثم ذكر العلة بقوله: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185].

    الرخصة الثانية: قصر الرباعية، يعني: أن الصلاة على المقيمين أربع فتقصر للمسافر وتكون ركعتين تخفيفاً عليه.

    الرخصة الثالثة: الجمع أن يجمع بين الظهرين في وقت إحداهما وكذا بين العشاءين؛ لمشقة النزول.

    الرخصة الرابعة: الزيادة في مدة المسح على الخفين إذا كان يمسح على خفه.

    فهذه الرخص تختص بالسفر، إن قالوا: في سفر طويل، الطويل حددوه بيومين، ويمكن أن يقال: يوم وليلة، أكثرهم حدده بأنه مسيرة يومين، فإذا كان مثلاً أقل من يومين فليس بطويل، ولم يحددوه بالمساحة إلا لأجل أنها تستغرق يومين، فالمساحة التي هي ستة عشر فرسخاً، أربعة برد هي ثمانية وأربعون ميلاً، فهم نظروا فيها وإذا هي مسيرة أربعٍ وعشرين ساعة، كان المسافر يسير اثنتي عشرة ساعة ثم يريح نفسه بالليل اثنتي عشرة ساعة، مسيرة أربع وعشرين ساعة، فهذا هو السفر الذي تقصر فيه الصلاة مسيرة ستة عشر فرسخاً ولكنها لا تقطع إلا في اثنتي عشرة ساعة؛ لأن الفرسخ ثلاثة أميال، فتكون المساحة ثمانية وأربعين ميلاً، والميل مسيرة نصف ساعة.

    شروط الترخص برخص السفر

    اشترطوا: أن يكون السفر مباحاً، فإذا سافر لقطع طريق فليس له أن يقصر فيه ولا أن يترخص برخص السفر، وذكرنا أنه إذا كان لعذر جاز ذلك.

    ثم في هذه الأزمنة يكثر التساهل في الرخص كالذين يسافرون ساعتين أو نصف يوم نرى أن هذا ليس بسفر، إذا كان مثلاً يذهب في أول النهار ثم يرجع في الليل فلا يسمى سفراً، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية وذكر: أن السفر يحدد بالزمان لا بالمساحة، فهو يقول: لو أن إنساناً قطع مسافة طويلة لا تقطع إلا في يومين ورجع في يومه فلا يقصر، ولا يترخص، ولو قطع مسافة قليلة في زمن طويل فإنه يترخص فجعل العلة هي طول الزمان، ولم يكن في زمانه أسرع من الخيل، فضرب بها مثلاً، فقال: لو ركب إنسان فرساً سباقاً وقطع مسافة لا تقطع إلا في يومين ثم رجع في يومه فلا يترخص؛ فهو جعل العبرة بالزمان لا بالمساحة، وتجدون كلامه في المجلد الرابع والعشرين في رسالة طويلة في أحكام السفر، وقد لخص كلامه أيضاً الشيخ عبد الرحمن بن قاسم في حاشيته على الروض المربع، فنقل اختياره أن السفر يقدر بالزمان.

    فعلى هذا لو أن إنساناً خرج من الرياض مسافة ثلاثين كيلو وطال مقامه وجلس هناك - مثلاً- يومين فله أن يترخص، ولو وصل - مثلاً- إلى القصيم مع طول المسافة ورجع في يومه فلا يترخص؛ نظراً إلى الزمان، وكذلك لو سافر في الطائرة إلى جدة ورجع في يومه فلا يترخص، فهذا هو الذي رجحه شيخ الإسلام؛ لأنه نظر إلى العلة وهي الزمان الذي يغيب فيه عن أهله، لأن الإنسان إذا غاب عن أهله نصف يوم فقط ولو وصل إلى أطراف المملكة، فإن لا يقصده الناس، ولا يأتون ليسلموا عليه، ولا ليهنئوه بسلامته من السفر، ولا يظنون أنه سافر، أما إذا غاب يومين أو ثلاثة أيام، ولو كانت مسافة عشرين أو ثلاثين كيلو فقط فإنهم يفتقدونه ويأتون إليه ليسلموا عليه ويهنئوه، فهذا هو العذر. وهذا هو الأقرب وهو أن السفر لا يقدر بالمساحة، بل يقدر بالزمان.

    قضاء صلاة السفر في الحضر

    يقول: (من قضى صلاة سفر في حضر فإنه يقضيها تامة).

    مثلاً: إذا مرت عليه صلاة الظهر وهو في السفر، وجاء إلى بلده وقت العصر وأراد أن يصلي الظهر فإنه يصليها تامة؛ لأن السفر قد انقضى.

    يتساهل بعض الناس إذا سافروا إلى الرياض مثلاً ودخل عليهم وقت الظهر في الطريق وبينهم وبين البلد ساعة فيصلون الظهر والعصر ركعتين ركعتين، ثم يجيئون والعصر لم يدخل وقته فيقولون: قد صلينا، ويكتفون بتلك الصلاة، نقول: إنكم أصبحتم من أهل صلاة العصر وتلزمكم أربعاً، أصبحتم مطالبين بها فلا تسقط عنكم، وكذلك في العشاءين إذا أقبل بعضهم إلى الرياض وبينه وبينها مقدار ثلاثين كيلو أو نحوها وصلى المغرب والعشاء وقصر العشاء، ثم يجيء والناس لم يصلوا العشاء وقد أذن أولم يؤذن، نقول له: عليك صلاة العشاء أربعاً، هذا هو الراجح، ورخص هناك من رخص، لكن الإنسان يحتاط للصلاة.

    لو أن إنساناً دخل عليه وقت الظهر وهو في البلد ثم خرج قبل أن يصلي، فأراد أن يصليها بعدما يخرج من البلد، فإنه يصليها أربعاً؛ لأنها لزمته أربعاً، وكذلك لو أخرها وفوتها ثم صلاها في الطريق فإنه يصليها أربعاً.

    حكم صلاة من نوى إقامة مطلقة أو أكثر من أربعة أيام

    من نوى إقامة مطلقة لموضع أو نوى أكثر من أربعة أيام أو ائتم بمقيم لزمه الإتمام، هذا هو المشهور عند الفقهاء: أنه إذا نوى إقامة من غير تحديد فإنه يتم، وإذا نوى أربعة أيام فإنه يتم بعدها، وإذا ائتم وصلى خلف مقيم فإنه يتم؛ وذلك لأنه لا فرق بينه وبين المقيمين، فإذا سافر إلى بلد كالرياض أو مكة أو جدة أو الدمام أو بريدة ونحوها من هذه المدن، واستقر إما في فندق وإما في شقة مثلاً استأجرها أو نحو ذلك وتمتع بما يتمتع به المقيمون، يعني: عنده الكهرباء وعنده الفرش وعنده السرر وعنده الطعام، وعنده السيارات التي تنقله إلى حيث يريد، وليس بينه وبين المقيمين فرق، فكيف تسقط عنه صلاة الجماعة؟! وكيف يقصر؟! هل يقال: إن هذا على سفر؟

    ليس على سفر، هو مقيم مع المقيمين، وعليه الإتمام، أما إذا لم ينو إقامة محددة ولم يستقر في البلد، فإن له القصر ولو طالت المدة؛ لأن الفقهاء يعتبرون إقامة النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح ستة عشر يوماً أنه لم يكن عازماً على الإقامة، بل كان متهيئاً للسفر في أي يوم، فكان ذلك سبباً في استمراره على القصر.

    وقيل: إن عذره كونه على أهبة السفر أو كونه كمسافر؛ لأنه ما استقر في البلد، ولا دخل البيوت، ولا استقر الصحابة أيضاً في المساكن ولا في بيوت المدر أو بيوت الطين، إنما منازلهم تحت ظل الشجر، أو تحت القباب الصغيرة أو الخيام أو البيت من الشعر يستظلون به، أو يستظلون في الكهوف، فهم في حكم المسافر بخلاف الذين يستقرون في داخل البلد، سواء استقر وسكن عند أخ له أو قريب له أو استأجر مكاناً في المدن المشهورة ونحوها، يمكن أن يقال: إن القرى ليس فيها فنادق وليس فيها شقق تؤجر، وأن الذي يأتي إليها لا يستقر فيها، إنما ينام في سيارته مثلاً، أو ينزل خارج البلد تحت شجرة أو عريش أو نحو ذلك، فيمكن أن هذا يقصر ولو طالت المدة.

    أما إذا عزم على الإقامة الطويلة فإنه يقصر حتى ولو كان يسكن في فنادق أو في خيام أو نحو ذلك، هناك مثلاً بعض الجنود الذين يستقرون في أطراف المملكة ولو كانوا مرابطين، ولكن يعلمون أنهم يبقون هناك أشهر وربما نصف السنة أو أكثر، فمثل هؤلاء لا يقصرون؛ لأنهم ليسوا على سفر، فيلزمهم أن يتموا الصلاة، ومثلهم أيضاً الطالب الذي يأتي ويقيم خمسة أيام، سواء كان سكنه في الجامعة أو في خارجها، نقول: إنك لست مسافراً، ويلزمك الإتمام.

    وكذلك الذي يملكون ما يسمى بالاستراحات أو بساتين تبعد عن الرياض مثلاً تسعين كيلو أو مائة كيلو، يذهبون إليها مثلاً يوم الخميس والجمعة، ولهم هناك بيوت، ولهم مساكن، فمثل هؤلاء لا يقال إنهم مسافرون، ولو غابوا عن البلد يوماً وليلة، أو يومين؛ لأنهم في ملكهم وفي بيوتهم وفي بلادهم، ولو كانوا لا يقيمون فيها إلا يومين، فليس لهم رخصة في أن يقصروا، يمكن أن يقال: لهم رخصة في القصر إذا جاءهم الوقت وهم في الطريق، فأما إذا وصلوا فإنهم مقيمون.

    حكم صلاة المسافر خلف المقيم والعكس

    سئل ابن عباس : (ما للمسافر إذا صلى وحده قصر، وإذا صلى مع المقيمين أتم؟ فقال: تلك السنة) ولأنه إذا صلى مع المقيمين فإنه يلزمه متابعة الإمام، فلا يخالف الإمام، وأما إذا صلى المسافر بالمقيمين فإن له القصر، كان صلى الله عليه وسلم يصلي بمكة قصراً، فإذا صلى ركعتين وسلم أمر الذين يصلون معه من أهل مكة بالإتمام، وقال: (أتموا يا أهل مكة فإنا قوم سفر)

    حكم صلاة المسافر المحبوس ظلماً

    أما إذا حبس ظلماً ولم ينو إقامة فإنه يقصر أبداً؛ فهو معذور، لأنه منع من السفر ولم يتمكن، فهو مغلوب وله أن يقصر، وكذلك الذي ما نوى إقامة إنما هو متردد ولكنه لم يستقر.

    جمع الظهرين والعشاءين للمسافر والمريض

    أما الجمع بين الظهرين والعشاءين في وقت أحدهما للمسافر، فالصحيح أنه خاص بالسائر الذي على ظهر الطريق، فأما النازل فإنه ولو قصر لا يجمع، فمثلاً الحجاج في منى يقصرون ولا يجمعون؛ وذلك لأنهم لا مشقة عليهم في الصلاة في كل وقت، وهم يجمعون الظهرين في عرفة والعشاءين في مزدلفة؛ وذلك لأن جمعهم في عرفة لأجل أن يطول الموقف، وجمعهم في مزدلفة لأنهم متأخرون فلا يصلون إليها إلا بعد أن يدخل وقت العشاء.

    المسافر يفعل الأرفق به إذا جمع، فإذا توجه مثلاً من هنا إلى مكة أو إلى جيزان، ودخل عليه وقت الظهر وهو قد ركب سيارته وأحب أن يؤخره حتى ينزل وقت العصر فيصليهما جميعاً فهو جائز، أو دخل عليه وقت الظهر وهو نازل ويحب أن يواصل السير إلى المغرب قدم العصر وصلاها مع الظهر فهو جائز أيضاً، يعني: له أن يجمع في وقت إحداهما.

    كذلك المريض إذا كان يلحقه مشقة بالتوقيت فله أن يجمع في وقت إحداهما، ويفعل الأرفق به.

    حكم الجمع للمطر والوحل والريح

    أما الجمع للمطر فالصحيح أنه لا يجمع إلا العشاءين؛ لأنها تكون في ظلمة؛ ولأن الأسواق تمتلئ بالطين، والذين يأتون إلى المساجد يتخبطون في الطين، ويخوضونه مثلاً إلى نصف الساق فيشق عليهم، والطرق مظلمة والشوارع مليئة بالطين وبالزلق والمزلة فيجمعون بين العشاءين.

    أما في النهار فلا يجمع؛ وذلك لأنه لا مشقة، ولأنهم يبصرون الطريق وليس هناك مشقة برد ولا مشقة زلق أو مزلة، نعم له أن يتخلف إذا كان المطر غزيراً بحيث يبل الثياب وتوجد معه مشقة. وكذلك الوحل، وهو الطين المتجمع في الأسواق بحيث يخوضونه مثلاً إلى نصف الساق ولا يستطيعون أن يجدوا طريقاً غيره، وكذلك الريح الشديدة الباردة، ولا بد أن تكون شديدة باردة، فيجوز أن يجمع بها بين العشاءين، أما إذا كانت باردة فقط فلا يجمع إلا إذا كانت الليلة مظلمة حالكة الظلام، فجمع التقديم أو التأخير يفعل ما هو الأرفق، أما إذا كان يصلي في بيته فلا حاجة إلى الجمع إلا للضرورة كالمريض ونحوه.

    وعند الجمع لا بد أن يجمع بينهما بلا فاصل، فلو صلى بينهما سنة بطل الجمع، وإذا فرق بينهما بعمل كأن صلى الظهر ثم اشتغل ثم أراد أن يصلي العصر بطل الجمع، فلا بد أن يكون الجمع متوالياً، لكن لو انتقض وضوءه مثلاً وتوضأ وضوءاً خفيفاً فلا بأس، وكذلك لو فصل بينهما بإقامة.

    ذكر بعد ذلك صلاة الخوف، وأنها صحت من ستة أوجه، وكلها جائزة، وتسن عندما يخاف هجوم العدو على المسلمين، وفي هذه الأزمنة قد تكون متعذرة، وذكروا أنه يسن فيه حمل السلاح الخفيف لقوله تعالى: وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102] .

    ننتهي إلى هذا والله أعلم، وصلى الله على محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755943228