إسلام ويب

شرح اعتقاد أهل السنة [2]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كانت بدعة الخوارج أول البدع ظهوراً في الإسلام، وقد ظهرت في عهد الصحابة، فحاربوها وحاربوا أهلها، ثم توالت البدع وتوالى معها دفاع أهل السنة عن الحق يزيد تارة وينقص أخرى، إلا أن القرون الأربعة التي تلت القرون الثلاثة المفضلة شهدت غموضاً للحق وإجباراً لأهله على السكوت إلا قلة من العلماء، حتى ظهر ابن تيمية رحمه الله فصدع بالحق، وتجرأ على أهل البدع وفضحهم، وأنشأ مدرسته التي ما زالت تنضح بالخير إلى اليوم.

    1.   

    البدع منشؤها وانتشارها بين أهل الإسلام

    بدعة الخوارج منشؤها ومعتقداتها

    بدعة الخوارج أول البدع التي وجدت، وقد وجدت في سنة ست وثلاثين للهجرة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخروجهم، وأخبر بأن الصحابة يحقرون صلاتهم مع صلاتهم وصيامهم مع صيامهم، وأنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وأنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، وأمر بقتالهم وقال: (أينما رأيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم) ، وقال: (لئن لقيتهم لأقتلنهم قتل عاد وإرم)، وقاتلهم الصحابة رضي الله عنهم الذين كانوا مع علي رضي الله عنه. وعقيدتهم إنما هي في التكفير فقط، وقد بالغوا في أخذ آيات الوعيد وتمسكوا بها، فصاروا يطبقونها على كل من فعل ذنباً فيخرجونه من الإسلام، ولم يذكر عنهم خلاف في الأسماء والصفات، ولا في البعث والنشور، ولا في أسماء الإمام والدين . ومن جملة من كفروه علي وأصحابه الذين معه، وادعوا أنه بالتحكيم ارتد عن الإسلام، فهذه أول بدعة، ولا شك أنهم بعد ذلك تغيرت عقائدهم وأخذوا من عقائد المبتدعة الآخرين .

    بدعة الجهمية منشؤها ومحنة الناس فيها

    حدثت بعد ذلك بدعة القدرية الذين ينكرون العلم السابق، ثم حدثت بعدهم بدعة التعطيل أو الاعتزال، وهي بدعة إنكار الصفات، وكان حدوثها في أول القرن الثاني، ولما انتشرت هذه البدعة وانتشر أهلها الذين يعطلون الله تعالى عن صفات الكمال وينكرون أن يوصف بما وصف به نفسه ويبالغون في إنكار الصفات أنكر عليهم السلف إنكاراً بليغاً وبدعوهم، وشنعوا عليهم وحذروا منهم، وصار كلام الصحابة والتابعين وتابعي التابعين في التحذير من هذه البدعة التي سموا أهلها جهميةً، وذلك لأن أول من انتشرت عنه الجهم بن صفوان فهو الذي نشر بدعة إنكار الصفات، ولا شك أن كتب السلف رحمهم الله تعالج هذه البدع كلها، فمنهم من كتب في ذلك ويذكر العقيدة مجردة ويقول: نعتقد كذا ونعتقد كذا وكذا كذا. ولا مناقشة، ولا يذكر أقوال المبتدعة، ومنهم من يذكر البدع ويذكر الرد عليها، سواءٌ أكانت تلك البدع شبهات أم نحلاً، فيناقشونها ويبالغون في الرد على أهلها، ومنهم من يقتصر على الأدلة والآثار المنقولة عن السلف والأحاديث المأثورة المرفوعة أو الموقوفة، فباقتصارهم عليها يظهر الحق ويستبين ويعرف الباطل، وبضدها تتبين الأشياء. ولا شك أن كلامهم رحمهم الله كله في نصر الحق وإظهاره، ومعلوم أن بدعة الجهمية تمكنت في أول القرن الثالث، حيث إن الجهمية انضموا إلى بعض الخلفاء، كالخليفة المأمون بن الرشيد، فإنه انضم إليه بعض المبتدعة وقربهم، وذلك لأنه أحسن الظن بهم، ورأى فيهم بلاغة وفصاحة وقوة أسلوب وحسن تعبير، فظن أنهم على الحق، ومن أشهر الذين قربهم: ابن أبي دؤاد المبتدع الضال الذي أفسد عقيدة المسلمين في زمانه، ومال إليه الخليفة المأمون. وفي خلافة المأمون بالغ في تعذيب أهل السنة وتهديدهم في مسألة أن القرآن مخلوق، وكذلك تبعه أخوه المعتصم، ومشهور بأنه امتحن العلماء وضربهم وحبس من حبس منهم، وأوذي من أوذي من أهل السنة، وأجاب كثير معهم إلى ما طلب منهم، وادعوا بعد ذلك أنهم مكرهون، وتمسك من تمسك منهم. وكان من الذين تمسكوا بعقيدة أهل السنة الإمام أحمد ، ولهذا يسمى (ناصر السنة)، ويسمى (إمام أهل السنة)، وقصته طويلة تجدوها في تاريخه، وذكر في ترجمته -عند ابن كثير في البداية والنهاية- قصة ضربه بين يدي المعتصم وصبره على ذلك، وكذلك ذكرها ابن الجوزي في ترجمته، وقد ألف ابن الجوزي كتاباً كله في ترجمة الإمام أحمد ، وهو كتاب كبير . ومن كتب التاريخ تاريخ الذهبي، وهو مطبوع أيضاً، ونقل ترجمته أحمد محمد جعكر في أول كتاب (تحقيق المسند) من تاريخ الذهبي وفيها قصة تعذيبه، وأشار إلى ذلك كثير من الذين ترجموا له، ومنهم صاحب المنظومة التي يمدحه ويقول فيها : ومذهب الإمام أحمد بن محمد أعني ابن حنبل الفتى الشيباني ثم يقول فيها : ويقول عند الضرب لست بتابع يا ويحكم لكم بلا برهان أترون أني خائف من ضربكم لا والإله الواحد المنان كن حنبلياً ما حييت فإنني أوصيك خير وصية الإخوان ولقد نصحتك فإن قبلت فأحمد زين الثقات وسيد الفتيان إلى أن قال : حمداً لربي أن هداني لدينه وعلى طريقة أحمد أنشاني واختار مذهب أحمد لي مذهباً ومن الهوى والغي قد أنجاني فالحاصل أنه من الذين صبروا على هذه الفتنة وصابروا فيها إلى أن أظهره الله تعالى، ففي عهد المعتصم لقي أذى وعذاباً وضرباً وحبساً وبقي في الحبس مدة طويلة، وكان يتورع أن يأكل شيئاً من طعامهم، ويبقى اليومين والثلاثة لا يطعم لهم طعاماً حتى يأتيه أحد أولاده بشيء من الخبز من بيته الذي عرف مدخله، وبعد موت المعتصم بثمان سنين وانتقال الخلافة إلى ابنه الواثق خفف الابتلاء، ولكن لم يزل أهل السنة يخافون من إظهارها ويستخفون في معتقدهم . ثم بعد موته تولى ولده المتوكل، ولما تولى نَصَر السنة وقرب الإمام أحمد ورخص له أن يصدع بمذهبه، وأفصح بما كان يعتقده أهل السنة من أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وبقي الأمر كذلك إلى أن توفي الإمام أحمد رحمه الله في سنة إحدى وأربعين ومائتين والأمر هادئ، واستمرت بقية القرن والسنة فيها ظاهرة، ولكن لأهل البدع قوة وتمكن، وبالأخص المعتزلة، فقد كانوا من أقوى أهل البدع من ناحية الحجج العقلية، فكانوا يأتون بالشبهات العقلية ويشوهون بها على الناس ويشوشون بها، وغسلوا أدمغة كثير من المسلمين العوام، وملؤوا تلك الأدمغة بتلك البدع، وبالأخص بدعة إنكار الصفات الذاتية والصفات الفعلية. ثم انتشرت في آخر القرن الثالث والرابع وما بعده اصطلاحات يرددها المبتدعة في الصفات وفي إنكارها، كنفي التجسيم، ونفي الحيز والجهة والأبعاض والأجزاء والأعراض والتركيب والحوادث وحلولها وما أشبه ذلك، فصاروا يلقنون هذا تلامذتهم، ويذكرون أن نفيها إنما هو من باب التنزيه لله تعالى، فتمكنت هذه الكلمات في أهل ذلك الزمان واعتقدوا صحتها وسلامتها، وهي في الحقيقة أمور لم يرد فيها دليل، والمسلمون من أهل السنة لم يستعملوها نفياً ولا إثباتاً. وبعد انقضاء القرن الثالث كادت السنة أن تضيع، وكاد المحدثون أن لا يبقوا على المعتقد، وتمكن مذهب النفاة والمعطلة، واضمحل مذهب الإمام أحمد أو كاد أن يضمحل، ولم يبق عليه إلا أفراد يتسترون لا يعرفون إلا أنهم من أتباعه، ويستخفون بما هم عليه، وبقوا كذلك طوال هذه القرون ولا يعرف من ينصر السنة إلا أفراد قلة . وممن كان على مذهب الإمام أحمد في العقيدة عالم في أول القرن الرابع، وهو الإمام البربهاري ، فقد أظهر عقيدة أهل السنة، وأظهر بأن القرآن كلام الله حروفه ومعانيه، وبأن الله مستو على عرشه بائن من خلقه، وأن الله تعالى موصوف بصفات الكمال، وقام يفصلها، فقامت عليه الدنيا ولم تقعد، وحاربوه، وبدعوه وضللوه وهددوه بالقتل وبالسجن، واستخفى منهم استخفاء كثيراً، وصار مهدداً، هذا وهو فرد واحد بين أهل زمانه الذين هم أمم كثيرون، ولكن نصره الله كما نصر إمامه أحمد بن حنبل، وله كتاب مطبوع في العقيدة اسمه: (شرح السنة)، إذا قرأته تعرف أنه متأثر بالسنة، وأنه على هذه العقيدة الراسخة وهي عقيدة أهل السنة، أما بقية أهل زمانه فمن كان منهم من أهل السنة فإنه متستر، وإلا فالبقية قد تركوا السنة الصحيحة.

    بدعة الاعتزال والأشعرية

    ظهر مذهب الاعتزال في القرن الرابع وتمكن، ثم ظهر عالم في القرن الثالث يقال له : عبد الله بن سعيد بن كلاب ، وكان شديد الجدل قوي الحجة، حتى شبهوه بالكلاب، وهي الحديدة التي يستعملها الحداد عندما يلقي الحديدة في النار حتى تحمر وتلين فيمسكها بحديدة لها أطراف يقال لها : الكلاب فسموه بذلك لقوة جدله . ثم إن أبا الحسن الأشعري وافقه على معتقده، وكان أبو الحسن الأشعري في أول أمره معتزلياً تتلمذ على أبي علي الجبائي وعلى ابنه وهما من المعتزلة، وأبي الهذيل العلاف وهو من علماء المعتزلة، والجاحظ وهو معتزلي، فلما تتلمذ عليهم انتحل نحلتهم وأخذ الاعتزال، وبقي على ذلك في أول عمره، ثم إنه اقترن بـ ابن كلاب فتتلمذ عليه وقرأ عليه، ثم سار على عقيدته وبقي عليها نحواً من أربعين سنة على ذلك، وألف كتباً كثيرة على عقيدة ابن كلاب ، ونسبت بعد ذلك للأشعري ، وصار أتباعه عليها يسمون الأشاعرة أو الأشعرية. ثم إن الأشعري في آخر حياته رجع لما قرأ كتب أهل السنة وكتب أهل الحديث، فاهتدى ورجع عن هذه العقيدة إلى عقيدة أهل الحديث وألف على ذلك رسالته المطبوعة باسم (الإبانة في أصول الديانة)، وألف كتابه الذي سماه (مقالات الإسلاميين) ذكر فيه مقالات المعتزلة والكلابية والوعيدية والجبرية والمرجئة ونحوهم، وبالغ في ذكر مقالات الجهمية والمعتزلة وما ينتقد عليهم، ثم بعدما انتهى من هذه المقالات ذكر مقال أهل السنة، وسرد عقيدتهم سرداً محكماً، وبينها بياناً وافياً كافياً، ولما انتهى منها قال: وبكل ما قالوه نقول، وبكل ما ذهبوا إليه نذهب. فعرف بذلك أن الأشعري أصبح من أهل السنة في آخر أمره، وتجد هذا الفصل الذي ذكره قد نقله ابن القيم في أول كتابه (حادي الأرواح) وفي آخر الكتاب نفسه أيضاً، وكأنه يقول : هذا الكتاب الذي كتبته في ذكر الجنة أهله الذين يستحقونه هم أهل هذه العقيدة الذين اعتقدوها. ونقل منها شيئاً كثيراً في كتابه الذي سماه (اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية)، ونقل منه أيضاً شيخه ابن تيمية رحمه الله تعالى في (الحموية)، ونقله تلميذه الإمام الذهبي في كتاب (العلو)، مما يدل على أنهم تيقنوا أن الأشعري رحمه الله كان على هذه العقيدة التي هي عقيدة السلف الصالح . ولكن مع الأسف فإن أهل زمانه وبعدهم إلى يومنا هذا تمسكوا بعقيدته التي في وسط حياته، والتي ألف عليها كتبه، والتي هي عقيدة ابن كلاب ، تمسكوا بها، وسموا أنفسهم أشعرية وأشاعرة، واشتهروا بهذه النسبة، ولم يزالوا على ذلك ينتحلون هذه العقيدة، فهم يقولون: نحن في الفروع شوافع وفي المعتقد أشاعرة. هكذا يقولون، ولم لا تتبعون الشافعية في الأمرين: العقيدة والمذهب؟ وكذلك يقول الحنفية: نحن حنفية في الفروع وأشعرية في الأصول. فمذهب الأشاعرة هو الذي انتشر انتشاراً كثيراً، وما يزال ينتحله كثيرون ويفضلونه على غيره، ويناضلون ويجادلون في نصره، وينصرونه بكل ما يستطيعون، وفيه ألفوا كتباً كثيرة، فمن كتب المتقدمين كتاب (الإرشاد) للإمام الجويني الذي هو إمام الحرمين فيما يتعلق بهذه العقيدة، ولكنه شحنه بأصول المتكلمين الذين يتكلمون في العقائد ويجعلون تلك البراهين أو القواعد التي يقعدونها أدلة على ما يذهبون إليه، فهذه عقيدتهم، وكتاب الإرشاد مطبوع، ومنهم الرازي المشهور الذي يسمى الفخر الرازي صاحب التفسير الكبير، أبو عبد الله بن عمر الرازي ، ألف كتاباً سماه (تأسيس التقديس)، وجعله في عقيدة الأشاعرة، وأهداه إلى سلطان ذلك الزمان، وانتشر هذا الكتاب وهو ما يزال مطبوعاً منتشراً .

    1.   

    ظهور ابن تيمية وأثره في أهل السنة

    لما كان آخر القرن السابع وأهل السنة طوال هذه القرون يتسترون أخرج الله لهم عالماً من أهل السنة صدع بالحق، وهو ابن تيمية رحمه الله، فلم يبال بمخالفة أهل زمانه، بل تعلق بالحق واعتقده، وأحيا مذهب السلف رحمهم الله، وناقش أهل زمانه في العقيدة، فثار عليه أهل زمانه في دمشق، فقد كان هناك علماء أجلاء، مثل ابن الزملكاني والسبكي المشهور، وهؤلاء أشاعرة، وقد تمكن مذهب الأشعرية منهم، وتلقوه عن مشائخهم، وصار مذهباً راسخاً عندهم، فجاء شيخ الإسلام وصرح بمذهب أهل السنة، وبالاستواء، وبالعلو، وبالصفات الفعلية والذاتية، فكان هذا مما كدر صفوهم، وقالوا : هذا سوف يخالفنا ويفسد علينا عقائدنا. فرفعوا أمره إلى والي دمشق، فجمعهم السلطان وقال لهم: ناظروه. فناظروه، وأحضر العقيدة الواسطية وقال لهم: هذه كتبتها من زمان كذا وكذا وأنا الآن على ما أقول وأعتقد. فقرؤوها فإذا هي آيات وأحاديث وأدلة وأقوال موافقة للحق، ولكنهم مع ذلك أخذوا ينكرون عليه التصاريح التي صرح بها، وظهرت حجته عليهم ولم يقدروا على مقاومته، ولكنهم مع الأسف لم يرجع منهم إلا القليل، بل بقوا على معتقدهم .

    وانتشرت عنه هذه العقيدة، فسمع به علماء في مصر من الحنفية ومن الشافعية الذين هم على مذهب الأشعري فرفعوا به إلى السلطان في مصر، وقالوا: نريد أن يأتينا حتى نناظره، وحتى لا يفسد علينا عقيدتنا ولا يفسد علينا جماهير الأمة فإنهم على هذا المعتقد. فكتب إليه السلطان أن يأتي إليهم، فذهب إليهم وأقام هناك سبع أو ست سنين في مصر كلها في جدال، وتصدى لمناظرته أو مجادلته عالم شافعي يدعى ابن عدوان ، ونصبوا قاضياً لهم حنفياً يقال له : ابن مخلوف فحضروا عنده، فقال له ابن عدوان : أنا أشتكي وأنكر على هذا الرجل؛ فإنه يقول : إن الله في السماء بذاته، وإن الله يتكلم بحرف وصوت، وإن القرآن حروفه ومعانيه من كلام الله تعالى. ونحن نقول: إن كلام الله تعالى معنى قائم بذاته، وإن القرآن ليس كلام الله وإنما هو حكاية أو عبارة، ونحن لا نقول: إن الله ليس على عرشه. وأخذ يدلي عليهم الحجج، فعند ذلك قال ابن مخلوف : ما تقول يا فقيه؟ فابتدأ رحمه الله تعالى بمقدمة الحمد والثناء على الله تعالى، فقطعوا عليه حمده وقالوا: ما جئنا بك لتخطب، إنما جئنا بك لتحتج. فعند ذلك قال : فمن الحكم؟ فقالوا: قاضي القضاة ابن مخلوف. فقال : كيف تحكم علي وأنت خصمي ؟ فعند ذلك غضب هذا القاضي المعترف بفضله وبسيادته، فلم يجد بداً من أن كتب: يسجن ابن تيمية. فوافق على أنه يسجن، وسجن لمدة سنتين أو أكثر، ولكن لم يتوقف عن الكتابة، بل كان يأتي تلامذة له ويلقون عليه الأسئلة ويملي عليهم أجوبتها، فكتب في تلك المدة كلها كتباً كثيرة، حتى جمع منها أكثر من عشرة مجلدات تسمى (الفتاوى المصرية)، ثم جمعت وصار ينقل منها كثيراً .

    ثم أخرج، وحصلت بينه مناظرة وبين عدي بن مسافر وبعض الصوفية، فأنكروا عليه تشدده عليهم، وذلك لأنه ينكر على الصوفية أحوالهم الباطنة، فالحاصل أنه أعيد إلى السجن مرة ثانية وبقي فيه سنتين أو ثلاثاً، وبقي هناك إلى أن تخلص بعد ست سنين فرجع إلى دمشق .

    وبعد رجوعه إلى دمشق بقي يدرس ويعلم، وتتلمذ عليه بعد رجوعه التلميذ الخاص ابن القيم، وما رآه إلا بعدما رجع سنة إحدى عشرة وسبعمائة، فتتلمذ عليه ابن القيم وابن كثير والذهبي وابن عبد الهادي ونحوهم، وقبلوا ما قال، وأظهر هؤلاء بالعقيدة، والشافعي منهم بقي على مذهبه ولكنه انتحل مذهب أهل السنة، فـابن كثير والذهبي كلاهما شافعي، ومع ذلك أخذا مذهب أهل السنة مع بقائهما على المذهب الشافعي، وأما ابن عبد الهادي وابن القيم فهما حنبليان، وكل منهم بقي على مذهبه في الفروع، وتغيروا عما كانوا عليه أو تلقوه من قبل، فـابن القيم يقول : إنه قبل أن يأتيه ابن تيمية قرأ على بعض المتكلمين وتلقى منهم بعض العقائد التي هي عقائد أشعرية أو نحوها، ولكن أنقذه الله بـ ابن تيمية لما جاء، كما أشار إلى ذلك في نونيته .

    فالحاصل أن هؤلاء في هذا القرن جددوا مذهب أهل السنة، فتجد كتب ابن القيم تعالج وتجادل في مذهب أهل السنة وفي إحياء هذا المذهب، مثل كتابه الذي سماه (الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة)، وهو مطبوع أكثره ومفقود بعضه، ومطبوع مختصره، وكتابه الذي سماه (اجتماع الجيوش الإسلامية) كلها تتعلق بالعقيدة .

    وابن تيمية رحمه الله له كتب موسعة أوضح فيها مذهب أهل السنة، ورد على تأسيس التقديس للرازي ، بكتاب موسع اسمه (نقض التأسيس)، هذا النقض أتى عليه من الأساس، وفند حججه مما يدل على أنها إن كانت مشتهرة إلا أنها كبيت العنكبوت لا تقوم لمن كان ذا بصيرة .

    ورد على الرافضي ابن المطهر الذي ألف كتاباً سماه (منهاج الكرامة في منصب الإمامة)، ولما جيء بهذا الكتاب إلى الإمام ابن تيمية إذا أوله يتعلق بالصفات، فنقضه نقضاً كاملاً ورد عليه رداً وافياً فيما يتعلق بالصفات، كذلك فيما يتعلق بالمذهب الرافضي في حججهم وشبهاتهم، والكتاب طبع أولاً في أربعة أجزاء ثم طبع أخيراً في عشرة أجزاء والحادي عشر فهارس، وهو ميسر لمن أراد اقتناءه والاطلاع عليه ليعرف أن هذا الإمام رحمه الله قد بذل جهداً في نصر السنة، وأيضاً كتابه الثالث الذي سماه (العقل والنقل)، وقد طبع في طبعته الأولى باسم (موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول)، ثم طبع طبعة أخيرة باسم (درء تعارض العقل والنقل)، وذلك لأن أكثر ما يحتج به هؤلاء الأشاعرة العقل، فيقولون: العقل ينكر كذا. العقل لا يقر بكذا وكذا. فأولاً أقنعهم بأن العقل ليس مرجعاً، بل المرجع الأساسي هو الشرع والسمع والنقل .

    وثانياً: بين لهم أن العقول الصحيحة توافق المنقولات الصريحة ولا يحصل بينها أي تفاوت، فليرجعوا إلى عقولهم وليحققوها. وبين لهم أيضاً أنهم متناقضون، فأحدهم يثبت صفة مثلاً ثم ينفيها، ففي نفيه يقول: نفاها العقل وفي إثباته يقول: أثبتها العقل عجباً لك فهل عقلك تغير، كيف تغير بين عشية وضحاها؟! عقل واحد ينفي ثم يثبت، ويأتيك عاقلان كل منهما يدعي كمال العقل، فهذا يثبت هذه الصفة وهذا ينفيها، أليس هذا دليلاً على أن هذه العقول ليست مرجعاً؟ فكيف يحكمونها ويجعلونها المرجع في هذه السنة أو هذا المعتقد.

    ولا شك أنه لما جادلهم بمثل هذه المجادلات انقطعت شبهاتهم، فالحاصل أنه رحمه الله هو الذي أحيا هذه السنة بعدما كادت أن تضمحل .

    والعلماء الذين في تلك الفترة ما فتئوا يكتبون، ولكنهم لا يقدرون على أن يواجهوا العالم ولا أن يصرحوا، بل يكتبون كتابات يعطونها لتلامذتهم، ففي القرن الخامس ظهر عالم حنبلي يقال له : القاضي أبو يعلى بن الفراء ، وكان قد قرأ على المتكلمين، وعلق بذهنه شيء من علم الكلام، ولكن لما كان منتحلاً لمذهب أحمد لم يجد بداً من أن يقتني كتب أحمد ، واقتني الكتب التي ألفها الحنابلة، ولا شك أن منها ما يتعلق بالعقيدة، فلأجل ذلك صار على هذه العقيدة، وألف رسالة صغيرة تتعلق بصفة العلو، ولما ألفها قامت عليه الدنيا وأنكروا عليه وشنعوا، وقالوا: أبو يعلى مجسم أبو يعلى مشبه. مع أنه قاض معترف به وعالم جليل، وله كتاب مطبوع اسمه (إبطال التأويلات)، يدل أيضاً على أنه مظهر للحق، وأنه على العقيدة السليمة، ولكنه لم يجرؤ مثلما تجرأ ابن تيمية في مناظرة أهل زمانه والإنكار عليهم إنكاراً بليغاً .

    ومثله الإمام ابن قدامة ، له أيضاً كتب تتعلق بالعقيدة، وهو حنبلي المذهب، ومن مؤلفاته في العقيدة (لمعة الاعتقاد)، ومنها كتب في إبطال التأويل وفي صفة العلو ونحو ذلك، ولكن لم يكن جريئاً على أن يظهر للعالم ويجادل ويناظر ويخاصم، وذلك لأن جل اهتمامه بتلامذته الذين يتتلمذون عليه، ولم ير أن يجادل أهل زمانه.

    ولا شك أن هناك أئمة وعلماء قد خالفوا في هذه العقائد التي هي عقيدة الأسماء والصفات، وذهبوا إلى كثير من التأويلات، ومنهم -مثلاً- الإمام النووي صاحب كتاب (رياض الصالحين) وصاحب (شرح مسلم)، وله كتاب (الأذكار)، و(المجموع شرح المهذب)، وله كتب كثيرة، ولكن مشايخه الذين قرأ وتتلمذ عليهم طوال حياته في باب العقيدة أشاعرة؛ لأن المذهب الأشعري هو الذي عم في تلك البلاد، فلم يكن له من يلقنه مذهب أهل السنة، وكأنه لم يشتغل إلا بمذهب الشافعي، ولم يشتغل إلا بكتب مشايخه القديمين، وقراءته لكتب الحديث إنما هي قراءة عابرة، وقد تأثر بأهل زمانه، فلما تأثر بهم اعتقد ما هم عليه، فذهب إلى تأويل آيات الصفات وأحاديثها، فتجد أنه في شرح صحيح مسلم أتى على حديث النزول فأخذ يتأوله تأويلات بعيدة وينكر أن يكون نزولاً حقيقياً يليق بالله، وتمر به أيضاً أحاديث فيها صفات فعلية فيتأولها، حتى في رياض الصالحين يتأول كثيراً من الأحاديث التي فيها بعض الصفات إذا صارت مخالفة له.

    نقول: إن هذا بسبب تأثرهم بعلماء أهل زمانهم، ولا شك أن أهل الزمان لهم تأثير على غيرهم ؛ فلذلك نقول: إن الإنسان عليه أن يختار من مشايخه أهل الثقة ممن يثق بعقيدتهم حتى يكونوا قدوة له، فإذا أخذ من هؤلاء المبتدعة تأثر بهم كما هو طريقة هؤلاء العلماء الذين منَّ الله عليهم بهذه المنزلة.

    ومنهم الحافظ ابن حجر ، شافعي المذهب، شرح صحيح البخاري فمرت به الأدلة التي في أول كتاب الإيمان والتي في آخر كتاب التوحيد في صحيح البخاري، ومع ذلك نجد أنه كثيراً ما يسلط عليها التأويلات، وينقل تأويلات مشايخه والعلماء الذين قرأ عليهم، مع أنه قرأ أيضاً لـ ابن تيمية ، وقرأ لـ ابن القيم ونقل عنهما، ولكن لم يقتنع؛ لأنه تأثر بمشايخه من الشافعية، حتى إنه لما ترجم لـ ابن تيمية في بعض كتبه جمع المثالب التي أنكرت عليه فقال: إنه يقال عنه كذا وكذا. ولو كان قد أجاب عنها، ولو أنه مدحه بما مدحه به، لكن أخطأ في مثل هذا .

    كذلك أيضاً غالب الذين تمذهبوا بالمذهب الشافعي لم يوجد فيهم من تمسك بالسنة إلا نادراً، والإمام الذي نشرح له هذه العقيدة هو: أبو بكر الإسماعيلي، وهو شافعي المذهب، وقرأ على المحدثين، وأخذ هذه العقيدة من كتب الحديث، ولكن في عقيدته بعض الكلمات التي أخذها من مشايخ انتحلوا هذه العقيدة، وهي إنكار الأعراض والأجزاء وما أشبه ذلك، وأنكر عليه ذلك المحقق جزاه الله خيراً، وسبب ذلك أن هؤلاء غالباً ما يأخذون من مشايخهم ويحسنون بهم الظن، وقد وقع ذلك حتى في بعض من هم في المذهب الحنبلي، فعندنا فمن الحنابلة المتأخرين السفاريني ، وهو عالم جليل كان في القرن الحادي عشر، وله المنظومة في العقيدة شرحها شرحاً واسعاً في كتابه الذي سماه (لوامع الأنوار)، وفي بعض الطبعات (لوائح الأنوار البهية)، وتوسع في شرحه، ومع ذلك وقع في شيء من المخالفات، مثل قوله:

    وليس ربنا بجوهر ولا عرض ولا جسم تعالى ذو العلا

    وناقشه علماؤنا ومشايخ مشايخنا وبينوا أن هذا من الخطأ، فنعرف بذلك أن البيئة تؤثر، وأن المجتمع له أثره، وأن المشايخ الذين يدرس عليهم العالم يكون لهم فيه تأثير، فلأجل ذلك يظهر أثرهم على هؤلاء، ولكن الحق أحق أن يتبع .

    فهذا بيان لمراحل هذه العقيدة وكيف وصلت وكيف اتسعت.

    1.   

    الأسئلة

    حكم الخوارج من بين أهل الإسلام

    السؤال: هل الخوارج كفار؟ وكيف يوجه حديث النبي صلى الله عليه وسلم : (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)، وحديث : (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) ؟ الجواب: وردت هذه الأحاديث في مسلم ، وفي البخاري بعضها، فمن العلماء من طبقها عليهم وقال : إنهم المرادون بهذه الأحاديث. ومنهم من قال : إنها صفات لآخرين لم يخرجوا بعد، أو يخرجون في آخر الزمان، أو ليسوا هم الذين خرجوا في عهد الصحابة . ولا شك أن كثيراً من الصفات تنطبق عليهم، مثل قوله: (إنهم يخرجون على حين فرقة من الناس، يقتلهم أولى الطائفتين بالحق)، وإن كان هذا قد ضعفه بعضهم، وعلى هذا فالصحيح أن الذين قاتلهم علي رضي الله عنه لا يحكم بكفرهم، ولو كانوا يكفروننا فإننا لا نكفرهم، ولذلك سئل علي رضي الله عنه: أكفارٌ هم؟ فقال: من الكفر فروا. فقيل: أمنافقون؟ فقال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً، وهؤلاء يذكرون الله كثيراً. قيل: ماذا نقول فيهم ؟ قال: (هم إخواننا بالأمس بغوا علينا) فأطلق عليهم اسم البغاة، وهذا هو القول الصحيح، أنهم بغاة، وأنهم يقاتلون لكف شرهم، فإن البغاة هم الذين ينقمون على إمام المسلمين وينكرون عليه ويخرجون ولهم قوة وشوكة وشبهة يتشبثون بها، فتزال شبهتهم، كما بعث إليهم علي ابن عباس رضي الله عنهم وناقشهم حتى رجع منهم نحو الثلث، فإذا بقوا فإنهم يقاتلون قبل أن يرجعوا أو يكف شرهم، هذا في الخوارج، والآثار التي وردت فيهم إن كانت فيهم فهي من باب نصوص الوعيد، وإن كانت في غيرهم فينطبق عليهم بعضها لا كلها .

    الحكم المترتب على من يقول بخلق القرآن

    السؤال: ماذا يترتب على قول من يقول: إن القرآن مخلوق ؟ الجواب: يترتب عليه إنكار أن الله تعالى متكلم، وهو إنكار صفة كمال، ثم أيضاً يترتب عليه إنكار الأدلة التي دلت على ذلك، فالله أضافه إلى نفسه فقال : فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6]، وقال تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ [الفتح:15]، وقال تعالى: وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ [البقرة:75]، فالذين يقولون: إنه مخلوق ينكرون نزول هذه الآيات، ثم نقول: ما الذي حملهم على اعتقاد عقيدتهم؟ نقول: ذلك أنه خيل إليهم أن الكلام إنما يصدر من متكلم له لسان وشفتان ونحو ذلك، فقالوا : لو أثبتنا الكلام لله لأثبتنا هذه الصفات، وإذا أثبتناها أثبتنا تجسيماً وتشبيهاً ونحو ذلك. فهكذا اعتقدوا، ولا شك أن من أنكر أن الله متكلم فقد وصفه بالنقص، ولعله يأتينا في صفة الكلام الأدلة على ذلك.

    توجيه قول البخاري: لفظي بالقرآن مخلوق

    السؤال: يروى عن البخاري رحمه الله أنه كان يقول : لفظي بالقرآن مخلوق. فما توضيح هذه العبارة؟ الجواب: رويت عنه هذه المقولة، وبعضهم أنكرها، وبعضهم اعتذر عنه، البخاري رحمه الله ألف كتابه الذي هو صحيح البخاري، وفي كتاب التوحيد ذكر الأدلة على إثبات أن الله متكلم وأن القرآن كلام الله، أوضح ذلك أتم إيضاح، ثم ألف كتابه (خلق أفعال العباد) يرد به على المعتزلة الذين يقولون: إن الله لا يقدر على خلق أفعال العباد، وإن العباد هم الذين يخلقون أفعالهم. وينكرون أن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ويعطي ويمنع، فأثبت بهذا الكتاب خلق أفعال العباد . ولا شك أن كلمة (لفظي بالقرآن مخلوق) فيها احتمالان: احتمال صحيح واحتمال غير صحيح، فالصحيح إذا أريد بها: حركة لساني وشفتي ولهواتي. فهذه مخلوقة، فإن الله هو الذي خلق الإنسان وخلق أفعال الإنسان، فكونك تحرك شفتيك أنت الذي حركتها، ولكن الذي أقدرك على ذلك هو خالق العبد وخالق أفعاله، فإذا أريد باللفظ حركات الإنسان وحركات لهواته فهذا معنى صحيح . وأما المعنى الذي ليس بصحيح فهو أن يراد باللفظ الملفوظ، (لفظي) يعني : ما أتلفظ به وما يخرج مني عند التلفظ بالقرآن، فإذا قرأت -مثلاً-: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] فهذه الألفاظ التي تلفظت بها إن كان يريد أنها مخلوقة فهذا ليس بصحيح، بل هو قول بعيد باطل يتنزه عنه البخاري وغيره . والحاصل أنها إن ثبتت عن البخاري فهو يريد بذلك حركات العبد، وإن لم تثبت فهو الأولى، والذين نهوا عن ذلك أرادوا بذلك النهي عن يعتقد أن اللفظ هو الملفوظ، كأنهم يقولون : إننا إذا سهلنا لهم أن يقولوا : اللفظ بالقرآن مخلوق دعاهم ذلك إلى أن يقولوا : إن لفظي بالقرآن مخلوق.

    ضابط وصف الشخص بالبدعة

    السؤال: متى يقال عن الشخص: إنه مبتدع؟ ومن الذي يحكم عليه؟ الجواب: معلوم أن البدع إما أن يبتدعها الإنسان وإما أن يتبع فيها غيره، فإذا ابتدعها قيل : هذا مبتدع. أي أنه منتحل ببدعة لم يسبق إليها. فيقال مثلاً: إن معبداً الجهني ابتدع هذه البدعة التي هي إنكار علم الله السابق. ويقال: إن عمرو بن عبيد ابتدع بدعة كذا وكذا. ويقال : إن واصل بن عطاء ابتدع بدعة كذا وكذا. فمثل هذه البدع لا شك أنها بدع عميقة عريقة، وأن أصحابها يقال لهم : مبتدعون . أما الأتباع فيحكم عليهم أنهم أتباع المبتدعة، ولا شك أن متبع المبتدع مبتدع ؛ لأنه عرف بأنها بدعة فاتبعه عليها، فهو مبتدع حقاً، لكن البدع تختلف، فمنها بدع مكفرة ومنها بدع مفسقة، وهذا فيما يتعلق بالعقائد . فالبدع المكفرة مثل بدعة غلاة الجهمية، يقول ابن القيم : ولقد تقلد كفرهم خمسون في عشر من العلماء في البلدان يعني خمسمائة عالم. هؤلاء كفروهم، وهناك كذلك بدعة غلاة الرافضة وهي مكفرة، وهم الذين يطعنون في القرآن ويردون أحاديث الصحيحين ويكفرون الصحابة الذين نقلوها، فهذه لا شك أنها بدعة مكفرة؛ لأنهم طعنوا في الأصلين: الكتاب والسنة، أما البدع الأخرى كبدعة المرجئة والجبرية والأشاعرة فإنها بدع مفسقة ولا تصل إلى حد الكفر. وكذلك البدع في الفروع يقال لها: بدعة ولو لم تكن مكفرة ولا مفسقة، لكنها نقص في الدين تقدح في كمال التوحيد، مثل الذين يحتفلون بليلة الميلاد والمولد النبوي أو بليلة الإسراء، أو يحيون أول جمعة من رجب ويسمونها صلاة الرغائب أو ما أشبه ذلك، هذه البدع لا شك أنها بدع عملية وليست بدعاً اعتقادية، وإن كانوا يعتقدون أنها من السنة ولكنها ليست معتقداً. والحاصل أن المبتدع الذي يتبع البدعة وهو يعرف أنها بدعة وتقوم عليه الحجة يسمى مبتدعاً شاء أم أبى.

    موقف الأشاعرة من أهل السنة في هذا الزمان

    السؤال: هل للأشاعرة تمكن في هذا الزمان وأين؟ وهل صحيح أن كثيراً من الناس يعتقدون أن مذهب أهل السنة والجماعة هو مذهب الأشاعرة؟ الجواب: لهم تمكن في هذا الزمان، وقد قامت عليهم الحجة بعد طبع الكتب، وبالأخص كتب السلف، وقد امتعضوا امتعاضاً شديداً لما طبعت، فقد طبع كتاب (السنة) لـ عبد الله بن الإمام أحمد ، وطبع كتاب (الرد على بشر المريسي) لـ عثمان بن سعيد الدارمي ، ولما طبع امتعض أحد الأشاعرة، وهو زاهد الكوثري المشهور، عالم محدث مشهور له تحقيقات، وطبعت له مؤلفات، ولكنه متعصب لمعتقد الأشاعرة، فله تعليقات ينكر بها على أهل السنة، وله مقدمة كتاب (الأسماء والصفات) للبيهقي قدم فيه مقدمة حمل فيها على ابن تيمية وأخرجه من الإسلام وكذلك تلميذه ابن القيم ، وله كتاب أيضاً في الرد على ابن القيم وغير ذلك، لقبهم فيها بألقاب شنيعة، حتى إنه استباح لعنهم وتضليلهم، فدل على أن لهم بقايا. وهذا العالم الكوثري له تلامذة جاءوا إلينا في كثير من الأوقات ودرسونا، ولما أفصحنا بتضليل الكوثري أخذوا يجادلوننا وقالوا : كيف تضللونه وهو العالم الجليل الكبير الزاهد، فيه كذا وكذا. وكثير من الذين جاءوا من مصر علماء مشهورين، ولكن على معتقد الأشعري ، إلا أنهم يأخذون حذرهم، فلا يفصحون بمعتقدهم إذا كانوا يدرسون من يخشون أن ينكر عليهم، فإذا أنكر عليهم بعض التلاميذ قالوا: ننتقل إلى موضوع آخر. نقطع الكلام في هذا. وهكذا، ومنهم من اهتدى ورجع إلى الحق وقامت عليه الحجة، ومنهم من رجع إلى ما كان عليه، وهكذا أيضاً علماء في كثير من البلاد العربية والإسلامية ما يزالون يدرسون المذهب الأشعري، وكتبهم عليها شروح، أي: الكتب التي ألفت في العقائد الأشعرية، مثل (العقائد النسفية) للنسفي ، وهو عالم أشعري مشهور، ومثل (بدء الأمالي)، ومثل عقيدة اسمها (الخريدة)، و(الجوهرة)، و(الشيبانية) ولو كانت أخف، لكن الذين شرحوها غلاة في المذهب الأشعري، ينكر أحدهم على الشيباني، مثل قوله في قصيدته المشهورة: فلا حل في شيء تعالى ذو العلا ينكر بذلك أن الله في السماء أو نحو ذلك، وعلى كل حال ما يزال هناك من هو على هذا المذهب . والذين يقولون: إن أهل السنة هم الأشاعرة أنفسهم أقول لهم: أتذكر قبل ثلاثين سنة أو نحوها أنَّا كنا ندرس على بعض الأشاعرة، فأتى بمسألة التحسين والتقبيح، وأتى بمسألة في الإيمان فقال: هذا مذهب الأشاعرة، هذا مذهب أهل السنة. وهو مذهب الأشاعرة ومذهب المعتزلة، فقلنا: فأين مذهب أهل السنة ؟ قال : هو مذهب الأشاعرة. وذلك لأنه أشعري، فالأشاعرة عندهم أهل السنة .

    حكم أكل ذبائح الرافضة

    السؤال : هل يجوز أكل ذبائح الرافضة؟ الجواب: الصحيح أنها لا تؤكل، خصوصاً غلاتهم الذين ينتحلون هذه النحلة، فهم يجمعون بين ثلاثة أشياء: الأول: الشرك الصحيح. فإنهم دائماً في الملمات لا يدعون إلا بـ(ياعلي) أو (يا حسين) أو نحو ذلك. ثانياً: طعنهم في القرآن، ولو أظهروا أنهم لا يطعنون فيه، ولكنهم على معتقد خبيث. ثالثاً: تكفيرهم للصحابة، وردهم لكتب أهل السنة، فمثل هؤلاء لا تؤكل ذبائحهم .

    حكم اقتسام التركة على غير القسمة الشرعية

    السؤال: هل يجوز التقسيم بين الورثة إذا اصطلحوا على ذلك؟ الجواب: الورثة إذا عرف أن التركة منحصرة فيهم فيصطلحون كما يريدون، ولكن الأولى أن يقسموا على كتاب الله حتى يقنع كل بحصته، والله تعالى أعلم، وصلى الله على محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756480677