إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [94]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الابتلاء سنة ماضية، يبتلى الناس على قدر دينهم، فمن ثخن دينه اشتد بلاؤه، ومن قل دينه قل بلاؤه، وأشد الناس ابتلاء هم الأنبياء عليهم السلام، والواجب عند نزول البلاء هو الصبر والرضا وعدم التسخط، فمن صبر ورضي أجر على مصيبته، وكفر بها من سيئاته، ومن سخط وقعت عليه مصيبته، ولم يؤجر عليها، وليعلم أن عظم الجزاء مع عظم البلاء.

    1.   

    عظم الجزاء مع عظم البلاء

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط) حسنه الترمذي ].

    هذا الحديث ظاهره هو أصل المسألة التي ذكرنا: أن البلاء والمصائب عليها جزاء؛ لقوله: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء) يعني: إذا كان الإنسان ابتلاؤه أعظم فجزاؤه أعظم وأكبر، فيدل على أن المصيبة يجزى بها الإنسان.

    وقد جاء صريحاً في حديث ابن مسعود : لما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مريض، قال له: (إنك لتوعك وعكاً شديداً، قال: نعم، أو قال: أجل، كما يوعك اثنان منكم، وقال: ألأن لك أجرين؟ قال: نعم) يعني: إذا كان هذا مرضه أشد فيكون أجره أكثر، وهذا الحديث صريح في ذلك، وهذا هو الصواب أن الإنسان إذا أصيب بمصيبة إن كان له ذنوب كفرت بها، مقابل ذلك، ولا يخلو أحد من الذنوب أبداً. (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، وفي الحديث الصحيح: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون الله فيغفر لهم)؛ لأن الله جل وعلا من أسمائه الغفار والعفو والرحيم والتواب، فلابد أن تظهر آثار أسمائه جل وعلا على خلقه، فهذا مقتضى خلقه وأسمائه وصفاته تعالى وتقدس، فكل بني آدم والجن -وهم المكلفون- يقعون في أخطاء كثيرة، وخيرهم الذي إذا أخطأ تاب، ثم الملائكة خلقوا للعبادة، أي أنه: خلص خلقهم للعبادة وكلفوا بذلك، ولهذا لا يوجد عندهم ما عند بني آدم من العصيان: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، دائماً وأبداً فهم جنس آخر من غير جنس بني آدم.

    فإذا كان الإنسان خطؤه عظيماً فتكون المصيبة مقابل الخطأ، فإن كانت أكبر وأشد من خطئه صار منها ما هو مكفر ومنها ما هو في رفعة درجاته عند الله، وفي الأثر: أن الإنسان تكون له درجة عند الله لا يبلغها بعمله، فيبتليه الله جل وعلا بالمصائب حتى يبلغ تلك الدرجة. وهذا القول هو الصواب من أقوال العلماء: أنه يختلف الناس فيها، إذا اشتد البلاء والإنسان ليس له من الذنوب ما يقابل ذلك فإن هذا رفعة لدرجاته، وزيادة في حسناته، ولهذا فإن الأنبياء صلى الله عليهم وسلم يبتلونَ بتكذيب قومهم وبأذيتهم وربما بقتلهم.

    ومعلوم أنهم خير الخلق، فخير بني آدم هم الأنبياء والرسل: (أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الإنسان على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف في بلائه) فتكون بلواه على حسب ما عنده من الدين، وهذا من رحمة الله جل وعلا، لأنه لو زيد في بلاء الإنسان الذي دينه ضعيف لقدم دينه دون عرضه حتى يسلم، فالله جل وعلا لطيف بعباده، وهو حسب مصالحهم، فإنه إذا أراد الخير بعبده هيأ له أسباب ذلك بفعله هو، وإن لم يكن من فعله ما يصل به إلى الدرجة العالية وقد أراد الله له تلك الدرجة ابتلاه بالمصائب، سواء كانت مصائب قدرية أو مصائب بسبب الناس، وإن كانت كلها بالقدر، فما يقع شيء إلا بقدر الله جل وعلا، ولكن الأسباب قد تكون أثراً من آثار الناس الذين يفعلون ذلك وهم مسئولون عن أفعالهم، وإن كان أمرهم مقدراً؛ لأن العاقل والمكلف لابد أن يطالب بأعماله، وليس لأحد حجة بالقدر، فيقول: هذا مقدر علي.. أنا فعلت الشيء المقدر علي.. لأن الإنسان مكلف بأعمال محددة من الطاعات، ومنهي عن أعمال محددة من المعاصي يستطيع أن يتركها، والطاعات يستطيع أن يفعلها، وقد علم بذلك وقيل له: هذا طريق الخير فاسلكه، وهذا طريق الشر فاجتنبه.

    فإذا ارتكب شيئاً من المناهي بعد ذلك فاللوم عليه، وليس له أن يقول: إن الله قدر علي ذلك، فهو الذي فعله، وما يدريك أنه قدر عليك قبل أن تفعل ذلك، فعليك أن تجتهد، فإذا وقعت في ذنب فلا تقل: هذا مقدر، ولكن قل: أستغفر الله وأتوب إليه، فاستغفر واسترجع، وعد على نفسك باللوم، أما إذا قال الإنسان: أنا وقعت في القدر، فمعنى ذلك: أن أجعل اللوم على القدر لا على نفسي، يبرئ نفسه من ذلك، ويجعل اللوم على ربه، فهذا يكون مقتدياً بإبليس عندما قال لربه: بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر:39] الله أغواه أك هو الذي أغوى نفسه؟ هو الذي اختار الغواية، ولما قيل له: اسجد، أبى وقال: أنا خير منه .. وهناك سجدت الملائكة، ولكنه أبى هو باختياره، فهو الذي غوى بفعله.

    فلا يحتج بأن الله قدر ذلك، الله جل وعلا قدر كل شيء؛ لأنه هو المالك لكل شيء، ولكن أعطاك المقدرة على الفعل الذي كلفك به، وأعطاك المقدرة على ترك الأفعال التي حرمها عليك، فإذا امتثلت الأمر كنت موافقاً للقدر وموافقاً للشرع، وإذا لم تمتثل الأمر كنت عاصياً، وإن كنت لا تخرج عن مقدور الله جل وعلا، فلا أحد يخرج عن مقدور الله، ولكن العقلاء كلفوا بعدما أعطوا العقل بالشيء الذي يستطيعونه.

    إذا أحب الله قوماً ابتلاهم

    قال الشارح رحمه الله: [قال الترمذي: حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سعد بن سنان، عن أنس، وذكر الحديث السابق، ثم قال: وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن عظم الجزاء..) الحديث، ثم وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، ورواه ابن ماجة.

    ورواه الإمام أحمد عن محمود بن لبيد رفعه: (إذا أحب الله قوماً ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع)، قال المنذري: رواته ثقات.

    قوله: (إن عظم الجزاء) بكسر العين وفتح الظاء فيها، ويجوز ضمها مع سكون الظاء، أي: من كان ابتلاؤه أعظم كمية وكيفية.

    وقد يحتج بهذا الحديث من يقول: إن المصائب يثاب عليها مع تكفير الخطايا، ورجح ابن القيم أن ثوابها تكفير الخطايا فقط، إلا إذا كانت سبباً لعمل صالح كالصبر والرضا والتوبة والاستغفار، فإنه حينئذ يثاب على ما تولد منها، وعلى هذا يقال في معنى الحديث: إن عظم الجزاء مع عظم البلاء إذا صبر واحتسب].

    على كلٍ الحديث مطلق، والأحاديث التي ذكرنا مطلقة، فكوننا نقيد الأحاديث بشيء لم يقيدها به رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا ليس وارداً، والمفهوم شيء والمنطوق شيء آخر.

    ومعلوم أن النصوص يجب أن يؤخذ بظاهرها إلا إذا جاءت نصوص أخرى تخالفها؛ لأن النصوص من كتاب الله جل وعلا ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا تتعارض، بل يصدق بعضها بعضاً.

    ابتلاء الأنبياء والأولياء دليل على أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا دفعاً

    قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم)، ولهذا ورد في حديث سعد: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي في الأرض وما عليه خطيئة)، رواه الدارمي وابن ماجة والترمذي وصححه.

    وهذا الحديث ونحوه من أدلة التوحيد، فإذا عرف العبد أن الأنبياء والأولياء يصيبهم البلاء في أنفسهم الذي هو في الحقيقة رحمة، ولا يدفعه عنهم إلا الله؛ عرف أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا دفعاً، فلأن لا يملكوه لغيرهم أولى وأحرى، فيحرم قصدهم والرغبة إليهم لقضاء حاجة أو تفريج كربة، وفي وقوع الابتلاء بالأنبياء والصالحين من الأسرار والحكم والمصالح وحسن العاقبة ما لا يحصى].

    هذا واضح وجلي، فقد ابتلي بعض الناس -نسأل الله العافية- بالتعلق بدعاء المخلوق والشرك به ويوجد كثير من الناس يعبد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعبد الأولياء، ويتلمس لذلك الأدلة، مع أن كتاب الله جل وعلا ودعوة الرسل كلها جاءت بوجوب إخلاص العبادة لله وحده، وأن الإلهية له وحده، ولكن الشيطان لا يزال بالإنسان حتى يحرف الأمور الواضحة الجلية، فيجعل العبادة غير العبادة، ويجعل التعلق في قالب آخر، فإذا جاء الشر صريحاً صار يؤوله.

    والمعروف أن كثيراً من الناس يتعلقون بمن يسمونهم أولياء، مع أن الولاية أمرها خفي، فقد يظهر للإنسان أن فلاناً صالح أمام الناس، وهو في نفسه فاسد ليس صالحاً، وليست المسألة مسألة ما يظهر للناس، وإنما هو الشيء الذي يكون عند الله للإنسان، فقد يري الناس مثلاً أنه مطيع ومن الفضلاء، فإذا توارى عن الناس تجرأ على الله جل وعلا في المعاصي، وهذا يوجد بكثرة، وقد يكون هذا المرض واضحاً عند كثير من الناس.

    فكون هذا ولياً أمر لا يعلمه إلا الله، إلا أن يخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن إنسان بعينه، وكونهم مثلاً يتعلقون به أمر محرم. هذا أمر.

    الأمر الثاني: أن الدين الإسلامي جاء بوجوب الإخلاص لله وحده، ووجوب متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل هذين الأمرين، فكون العبادة كلها لله خالصة ليس فيها شيء لغيره، وكون العبادة جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تكون بالاختيار أو بالنظر أو بالاستحسان، أو بما يتعارف عليه الناس ويصطلحون عليه كالموالد وما أشبه ذلك من الأمور التي يفعلونها ثم يبحثون عن الأدلة من بعيد، ويتعلقون بأشياء عجيبة، فيقولون: إنها مشروعة، كيف كانت مشروعة وهي أول ما أحدثت في القرن السادس؟! هل احتفل الرسول صلى الله عليه وسلم بمولده؟ وهل احتفل به أحد من صحابته؟ هذا لا يثبته إلا كذاب مكابر، فكيف يكون بعد ذلك عبادة وفيها هوى النفوس واستيلاء الجهل عليها؟! وأشياء كثيرة من هذا القبيل، وهذا مثال فقط.

    ثم كون العمل مقصود به وجه الله وحده فقط، ثم إذا دخله شيء من الإرادات والمقاصد فإنه إما أن يفسد فيصبح حابطاً، وإما أن يكون ناقصاً على الأقل كما سيأتي.

    وإن ذهب بعضه وبقي بعضه إذا كان شيئاً واحداً فالله لا يقبل إلا ما كان خالصاً له، وبعد هذا كله كيف يكون مخلوق مكلف خلقه الله ليتعبده كيف يكون شريكاً لله في الإلهية أو في العبادة؟ والأمور في هذا واضحة، ولكن الذين يحبون الشرك ويدعون إليه يغالطون.

    الله جل وعلا لما أخبر عن الملائكة أنهم عباد مكرمون، وأنهم يفعلون ما يؤمرون ولا يعصون الله ما أمرهم قال: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ [الأنبياء:29]، ماذا يكون؟ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ [الأنبياء:29]، يصلى جهنم.

    فالقرآن كله ودعوات الرسل كلها تصب في هذا الأصل العظيم الذي ضل عنه كثير من الناس، وصار يغالط ولا يعتمد إلا على رؤيا كقولهم: رأيت كذا.. وفلان رأى كذا.. أو على حكايات وقصص خرافية، كقولهم: إن فلاناً دعا الولي الفلاني أو تعلق به فحصل له كذا وحصل له كذا.. أو على أحاديث مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو على تحريفات كتحريفات اليهود الذين حرفوا النصوص تحريفات واضحة، ثم يستاء بعد ذلك أن يقال: إن بلوى الرسل وما يصابون به دليل على أنهم عباد، وأنهم ليس لهم من الربوبية مع الله شيء، وليس لهم من الإلهية مع الله شيء! احتج على القول لشدة الجهل والعناد، وشدة ترك ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من بعض الناس.

    ومعلوم ما وقع فيه سيد الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعدائه، لقد أخرج من مكة ثم لم يستطع الدخول إلا بجوار رجل مشرك، وذهب إلى الطائف فرموه بالحجارة حتى أدموا عقبيه صلوات الله وسلامه عليه، وردوا عليه رداً من أسوأ ما يكون لو كنت نبي أحد الناس ما قبلك ثم قال جاهل من ثلاثة من كبارهم وساداتهم كانوا مجتمعين فعرض عليهم أمر الله ودعاهم فقال أحدهم: ما وجد الله أحداً غيرك حتى أرسلك؟! بهذه السخرية والتهكم، والآخر قال: إنه يسرق كسوة الكعبة إن كنت رسولاً، وهذا استهزاء صريح، والآخر قال: لا أكلمك كلمة، لئن كنت صادقاً فلأنت أعظم من أن أرد عليك، ولئن كنت كاذباً فلأنت أحقر من أن أكلمك.. أهذا جواب الذي جاء بالبينات والهدى الواضحات؟! ثم بعد ذلك يغرى به السفهاء والصبيان، فيرمونه بالحجارة ويضربون عقبيه حتى يخرج منه الدم صلوات الله وسلامه عليه، ثم يخرج ولا يدري إلى أين يتجه صلوات الله وسلامه عليه، قد ذهب فكره، فلم يفق إلا وهو بقرن الثعالب الذي يسمى: السيل العالي من الطائف، وهناك رجع إلى فكره ودعا بالدعوة المعروفة المشهورة وقال فيها: (إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي)، فيقول: إلا مصيبة تصيبني بها لا أبالي ما دام أنه بأمرك ولطاعتك، فيحمد الله على ذلك.

    ثم كذلك يوم بدر قالت له عائشة رضي الله عنها: (يا رسول الله! هل مر بك يوم أشد من يوم أحد؟ قال: يا عائشة ! لقد لقيت من قومك...) وذكر يوم الطائف.

    ويوم أحد شج في وجهه صلوات الله وسلامه عليه، وجعل الدم يسيل على وجهه وهو يقول: (كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله؟!)، ثم بعد ذلك أنزل الله جل وعلا عليه: لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128]، فالأمر كله لله، فامتثل أمر سيدك، وامض حيث أمرت وكلفت، ثم بعد هذا يأتي قائل ويقول:

    يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم

    إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضـلاً فقـل يا زلـة القـدم

    ولم يضيق رسول الله جاهك بي إذا الـكريم تجـلى بـاسم منتقم

    يقول: إذا غضب الله يوم القيامة فأنا أستجير بك من الله! -نسأل الله العافية- ثم يقول:

    فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم

    إذا كان من جملة جود النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا والآخرة، ومن جملة علومه علم اللوح الذي كتب فيه كل شيء، والقلم الذي كتب كل شيء، فماذا بقي لله؟ ما أبقى لله شيئاً، نسأل الله العافية! ثم يصبح هذا الكلام نصاً، ويصبح يحفظ كما تحفظ الفاتحة؛ بل بعض الناس يقرؤه مساءً وصباحاً ويجعله ورداً كآية الكرسي والمعوذتين وما أشبه ذلك.

    وليس هذا إلا انحرافاً واضحاً، وتعلقاً بالمخلوق وتركاً للخالق جل وعلا الذي بيده أزمة الأمور وكل شيء، ومن الذي يزين هذه الأمور؟ يزينها شياطين الجن والإنس، ويحسنونها ويجعلونها بقالب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفة حقوقه.

    يؤخذ خالص حق الله جل وعلا ويوضع في المخلوق، فإنه لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مواجهاً لهم لقاتلهم أشد من قتاله لكفار قريش؛ لأنهم خالفوه صراحة، وجاءوا بما لم يأت به مشرك من المشركين، نسأل الله العافية.

    1.   

    الرضا صفة من صفات الله تعالى

    قال الشارح رحمه الله: [قوله: (فمن رضي فله الرضا)، أي: من الله تعالى، والرضا قد وصف الله تعالى به نفسه في مواضع من كتابه، كقول الله تعالى: جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [البينة:8]، ومذهب السلف وأتباعهم من أهل السنة إثبات الصفات التي وصف الله بها نفسه، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، على ما يليق بجلاله وعظمته، إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل، فإذا رضي الله تعالى عنه حصل له كل خير، وسلم من كل شر].

    أي: أنه لا يجوز أن تفسر صفة الله جل وعلا بلازمها ولا بأثرها، لا بأثر الصفة ولا بلازم الصفة.

    بل يجب أن يوصف الله جل وعلا بها، فإذا أخبر أنه يسخط فيثبت هذا له، فإنه يسخط على من يشاء من أهل المعاصي والكفر، وليس سخطه هذا ظلماً، وكذلك ليس سخطه المصائب التي يصاب بها الإنسان، وكذلك الرضا فإنه جل وعلا يرضى عمن يشاء من عباده، ورضاه صفة له، ولا يجوز أن يفسر الرضا بأثره أو بلازمه من محبة الطاعة أو الإثابة، فإن كونه يثيب هذا من لازم صفة الرضا، وكذلك الطاعة سبب من أسباب رضا الله جل وعلا.

    فيجب أن تثبت الصفات لله جل وعلا كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل، والتحريف: يقصد به التأويل الباطل الذي يفعله أهل الكلام كالأشاعرة ونحوهم، أنهم يحرفون تحريفاً يذهب بالمراد نهائياً، الله جل وعلا يخبر أنه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، فلا يجوز للإنسان إذا قيل له: إن الله يسخط، وإن الله يرضى ويغضب ويضحك ويفرح ويعجب -أن يجعل هذا من جنس الشيء الذي يعرفه من نفسه، لا يجوز ذلك؛ لأن الله جل وعلا يقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، في ذاته تعالى، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا في حقوقه، الحق الذي له لا يجوز أن يكون مثله للمخلوق، وقوله وفعله لا يجوز أن يكون مثل قول المخلوق وفعله ووصفه، كما أن نفسه تعالى وتقدس ليست كالمخلوقين: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

    فيجب أن تكون هذه قاعدة نسير عليها، وهذا الذي كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم، وكان عليه أتباعهم إلى اليوم على هذا الشيء، ومن خالف في هذا فهو ضال قد ضل في دينه.

    1.   

    رضا العبد بأقدار الله تعالى وعدم تسخطه

    قال الشارح رحمه الله: [قال: والرضا: هو أن يسلم العبد أمره إلى الله].

    يعني: رضا المخلوق، كونه يرضى بالقضاء وبالقدر أن يسلم أمره لله، ولا يعترض ولا يتضجر، بل يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ما أصابنا شيء إلا بإذن ربنا، وله الحمد على ذلك، فيكون عبداً صحيحاً، فيسلم وينقاد، لا يعترض ولا يتضجر، ولا يتوجع، ولا ينافي هذا كونه يتعالج إذا كان مريضاً، أو كونه يصف المرض ويقول: أنا عندي كذا وكذا.. وأجد كذا وكذا.. لمن يكون عنده شيء من العلاج، فهذا لا ينافي كونه يسلم وينقاد لعدم الاعتراض، كما أنه لا ينافي التسليم كونه يئنّ في مرضه، وبعض العلماء يقول: الأنين شكاية، كما روي عن طاوس رحمه الله، ولهذا لما بلغ ذلك الإمام أحمد وهو في مرضه صار لا يئنّ حتى مات رحمه الله، ولكن كون المريض يجد في أنينه شيئاً من الراحة فلا بأس، وليس معناه أنه يشتكي أو يتوجع.

    فالمقصود: التسليم والرضا، وهو أن يسلم وينقاد، وألا يكون قلبه متسخطاً أو متوجعاً من ربه، فإذا تعالج أو وصف مرضه فإنه لا يكون منافياً لذلك؛ لأن العلاج سبب من الأسباب التي وضعها رب العالمين، والأسباب أمر الله جل وعلا أن نبذلها كما جاء في الحديث: لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (هل نتداوى؟ قال: نعم. تداووا عباد الله، فإن الله ما وضع داءً إلا ووضع له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله، إلا داءً واحداً وهو الهرم، وفي رواية: الموت)؛ لأن هذه الحياة لابد أن تنتهي.

    قال الشارح رحمه الله: [ويحسن الظن به، ويرغب في ثوابه، وقد يجد لذلك راحة وانبساطاً، محبةً لله وثقة به، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إن الله بقسطه وعدله جعل الروح والفرح باليقين والرضا، وجعل الهم والحزن بالشك والسخط).

    قوله: (ومن سخط): هو بكسر الخاء، قال أبو السعادات : السخط الكراهية للشيء وعدم الرضا به. أي: من سخط على الله فيما دبره فله السخط من الله، وكفى بذلك عقوبة، وقد يستدل به على وجوب الرضا، وهو اختيار ابن عقيل ، واختار القاضي عدم الوجوب، ورجحه شيخ الإسلام وابن القيم ].

    الإلزام بهذه المنزلة صعب، أي: كون الإنسان يرضى بالشيء الذي وقع له من المصائب؛ لأن الرضا معناه أن يغتبط بهذا الشيء ويفرح به، فهذا لا يستطيعه إلا الأفذاذ، ولكن الواجب هو الصبر وعدم الاعتراض، أما الرضا فإذا وصل إليه الإنسان فهو فضل عظيم، وإن لم يصل إليه فلا يكلف به.

    قال الشارح رحمه الله: [قال شيخ الإسلام : ولم يجئ الأمر به كما جاء الأمر بالصبر، وإنما جاء ثناؤه على أصحابه. قال: وأما ما يروى: (من لم يصبر على بلائي ولم يرض بقضائي فليتخذ رباً سواي)، فهذا خبر إسرائيلي لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    قال شيخ الإسلام : وأعلى من ذلك -أي: من الرضا- أن يشكر الله على المصيبة؛ لما يرى من إنعام الله عليه بها. انتهى، والله أعلم.

    1.   

    مسائل باب: من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله

    قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل:

    الأولى: تفسير آية التغابن.

    الثانية: أن هذا من الإيمان بالله.

    الثالثة: في الطعن في النسب.

    الرابعة: شدة الوعيد فيمن ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية.

    الخامسة: علامة إرادة الله بعبده الخير.

    السادسة: إرادة الله به الشر].

    هذه خلاصة الباب الذي سبق، وهي: تفسير الآية التي في سورة التغابن، وهي قوله جل وعلا: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [التغابن:11]، يعني: أن الإنسان يعرف معناها، يعرف ما أراد الله جل وعلا بها، وهنا (ما أصاب من مصيبة) عامة، لا يخرج عنه شيء، أي شيء يسمى مصيبة، (إلا بإذن الله): بقدره وكتابته وأمره القدري، وأنه خالق لذلك، فلابد أن يعلم، ثم يسلم له وينقاد، فمن فعل ذلك جازاه الله جل وعلا بهداية القلب؛ بأن الله يهدي قلبه، وهداية القلب: أن يكون متبعاً للحق، معرضاً عن الباطل، محباً للخير، مبغضاً للشر، ويستمر على ذلك، فمن فعل ذلك جوزي بحسنات يعملها، ويكتسب بها الأعمال التي توصله إلى رضا الله، وهو أمر عظيم، وقد سبق أن هذا يدل على أن العمل من الإيمان.

    أما الطعن في النسب فهو من شأن الجاهلية، وهو أيضاً يقدح في دين الإنسان، إذا فعله فإنه معصية يقدح في دينه؛ لأن الواجب على العبد المؤمن أن يزن الإنسان بعمله، وإنما يوزن الناس بأعمالهم وليس بأنسابهم.

    والإنسان ليس له دخل في والده ولا أمه من ناحية الجزاء والعقاب، فلا تزر وازرة وزر أخرى: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى [النجم:39]، ولا يؤخذ الإنسان بجريرة غيره في حكم الإسلام، فكونه يطعن في نسبه هذا قادح في دينه، وهو معصية يقدح في توحيده.

    وكذلك النياحة على الميت، وقد سبق أنها: رفع الصوت وتعداد المحاسن، أي: أنه يأسف أنه فاته حظه من هذا الميت، فإنه يبكي حظه ولا يبكي الميت رحمه الله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756605113