رقم هذا الدرس حسب عهدة الإخوة الحاضرين "95" من سلسلة الدروس العلمية العامة، التي تنعقد في هذا المسجد، جامع الذياب بـبريدة، وهو ينعقد في هذه الليلة، ليلة الثامن والعشرين من شهر صفر لعام ألف وأربعمائة وأربعة عشر من الهجرة، وفي ليلة الإثنين كما هو المعتاد، عنوان هذا الدرس: صناعة الموت.
واعجباً لك يا سلمان! لقد حدثتنا قبل عن صناعة الحياة، وفقهنا وفهمنا أن صناعة الحياة تعني أن يشارك الإنسان في كل مجالٍ من مجالاتها، بصناعتها وإقامتها على شريعة الله جل وعلا، فما بال صناعة الموت إذاً؟! لقد حدثتنا قبل أسبوعٍ أيضاً، عن
أيها الإخوة الأحبة الكرام! وأيها الأخوات الكريماتُ الحبيبات إلى آبائهن وأمهاتهن وأزواجهن، الكافات العافات، السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.. أما بعد:
فإن الموت والحياة أخوان صنوان نظيران متشابهان.. قال الله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك:2] ولا يتقن صناعة أحدهما إلا من يتقن صناعة الآخر، فالذي يصنع الحياة الكريمة هو الذي يختار الميتة الشريفة، وما أذل الناس وخفض رقابهم إلا حب الحياة والرغبة فيها دون قيدٍ أو شرط، قال الله تعالى عن اليهود: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96] حياة هكذا!! أياً كانت، حتى ولو كانت حياة الذل، والفقر، والهوان، والضعف، والخمول!! المهم عندهم أن يظلوا أحياءً وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96] والتنكير هاهنا في كلمة "حياة" هو للتحقير.
ومن الطرائف التي تساق في هذا المجال: أنني سمعتُ زعيماً لمنظمةٍ يعدونها منظمة للتحرير، تحرير الأرض، وتحرير الإنسان، سمعته يقول في إذاعة كبرى، في يوم من الأيام، وهو يمدح المؤمنين والمجاهدين، والصابرين، وأنهم يحبون الموت كما تحبون الحياة، فيقول: قال الله تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96] يظن أن هذه الآية مدح، ولم يدرِ أنها ذم، ويظنها في المؤمنين، وما درى أنها في بني إسرائيل اليهود!!
وترى أيضاً، كيف أن الأمريكان والأوروبيين والكفار بصفةٍ عامة يعتبرون قتل واحد منهم، أو سجن أعدادٍ قليلة، قضية كبرى!! ويثيرون من أجلها أعظم المعارك؛ المعارك السياسية والإعلامية، ويتدخلون، وتؤثر في قراراتهم الكبرى، من أجل حفنة من جنودهم يحاصرون في الصومال، أو يقتلون في البوسنة، أو يتعرض لهم هنا أو هناك.
هذا أمرٌ لا يلامون عليه، نعم إنه دليلُ من جهة -ولا ننكر هذا- دليلٌ على أن للفرد عندهم قيمةً ومعنىً، وأن حكوماتهم تظهر من خلال ذلك، وفاءها والتزامها بالعقد والعهد والميثاق والبيعة التي عقدتها بينها وبين رعيتها، فتقول لشعوبها: نحن نهتم بكم، ونحرص على حياتكم، ونضحي من أجل أفرادٍ قلائل منكم، حرصاً على حياتهم، أو حريتهم، أو سعادتهم، أو رفاهيتهم، فلا يلامون على ذلك، ولا يعاتبون عليه، بل هم من خلاله يظهرون الالتزام بذلك العقد بين حكوماتهم وبين شعوبهم، لكن هناك في المقابل الرعب، والتعلق بالحياة، الذي حصرهم بين أربعة جدران.
من بين الملايين، بل من بين مئات الملايين، الذين يعيشون في تلك البلاد لا يبعد أن تجد أفراداً يعدون على الأصابع مغامرين، فهم يشقون عنان الفضاء في رحلة ما يسمونها بغزو الكواكب.
غزو الكواكب كشف العلم ظاهره والله يعلم ما أخفوا وما كتموا |
أو قد تجد من بين هؤلاء: المغامر الذي يمخر عباب الماء، أو يغوص فيه، طمعاً في مغنم، أو طمعاً في شهرة، أو طمعاً في خلودٍ دنيوي عابر، أن يتكلم عنه الإعلام، أو يخلد ذكره التاريخ، أو ينصبوا له نصباً أو تذكاراً أو تمثالاً في ساحة أو ميدانٍ عام، يوجد آحاد وأفراد من هؤلاء، أما هذه الملايين، ومئات الملايين من أفرادهم، فكلهم يركضون وراء الحياة، وراء الحطام، كلهم حريصون عليها.
إن الرجل الغربي اليوم يرى الدنيا ويرى فيها كل شيء، فإذا فقدها، فقد ينتحر، لماذا؟
إذا خسر صفقة تجارية، أو خانته عشيقته، أو فقد أملاً من آماله، فإن أقرب حل لديه هو الانتحار، والانتحار نفسه دليل الفشل، ودليل على عدم القدرة على مواجهة المشكلات، وعدم القدرة على عدم التكيف مع الحياة وظروفها المتجددة، وإلا فكيف يفسر أنه اليوم يتم علاج عشرات الآلاف من الجنود الأمريكان من جراء معارك، كمعارك الخليج، ما خاضوا فيه حرباً حقيقية؟! ولا لاقوا مقاتلين ولا جنداً؟! وإنما كانوا يقاتلون من وراء جدر، ويقاتلون من خلال التقنية، ومن خلال الآلية العسكرية الضخمة التي جلبوها وتترسوا وراءها، فيكف كان الحال لو واجهوا حرباً؟! أم كيف تكون الحال لو واجهوا قوماً مؤمنين مسلمين يبحثون عن الموت كما يبحث أولئك عن الحياة؟! إنهم تعبوا على حياتهم، وتأنقوا فيها، فلا يحبون مغادرتها وتركها، ولهذا يسارعون في التمتع واللذة، حتى منذ طفولتهم.
تحدث الأستاذ سيد قطب -رحمه الله تعالى- كيف أنه رأى صبيةً في الرابعة عشرة من عمرها، وكانت أمها تدربها على فنون اللذة الجسدية، فنون الجنس والغرام والحب، وكان هناك رجل يسألها، ويقول: ألا ترين أن هذه الطفلة ما زالت صغيرةً غريرة؟ فقالت له: إن الحياة قصيرة، وليس هناك وقتٌ ولا متسع لنصرف شيئاً في الطفولة، وشيئاً في الشيخوخة والهرم، فلا بد أن نستثمر الحياة ونتمتع بها.
كيف يستثمرونها؟ في اللذات العابرة، والشهوات الجسمانية الحيوانية، حتى الأطفال يُربَّون على ممارسة الجنس والشراب وألوان النعيم المغرق؛ لأن الدنيا غاية همهم، ومنتهى آمالهم، وآخر طموحهم.
أما المسلم المجاهد الباحث عن الموت، فهو لونٌ آخر، يرى أن الموت هو الحياة، قال الله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169].
لم نخشَ طاغوتاً يحاربنا وإن نصب المنايا حولنا أسوارا |
ندعو جهاراً لا إله سوى الذي خلق الوجود وقدر الأقدارا |
ورءوسنا يا رب فوق أكُفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا |
كنا نرى الأصنام من ذهبٍ فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا |
لو كان غير المسلمين لحازها كنـزاً وصاغ الحلي والدينارا |
كم زلزل الصخر الأشم وما وهى من بأسنا عزمٌ ولا إيمانُ |
لو أن آساد العرين تفزعت لم يلقَ غير ثباتنا الميدانُ |
توحيدك الأعلى جعلنا نقشه نوراً تضيء بصبحه الأزمانُ |
إنك تتعجب أشد العجب من أعدادٍ من المسلمين الموجودين اليوم، على سبيل المثال في الصومال جياع، عراة، عطاش، فقراء، محرومون من أبسط معاني الحياة الكريمة السعيدة، فيقومون في الشوارع، يرفعون الأوراق واللافتات، ويتجمهرون، ويقولون للغربي الكافر القادم إلى بلادهم: ارحلوا عن بلادنا، لا نريدكم، فيمطرونهم بالنيران والرصاص، ويسقطون منهم أكثر من عشرين قتيلاً في تجمهرٍ واحد، دون أن يكون المسلمون يحملون ولا حتى العصي أو العيدان، ثم تظن أن ذلك سوف يجعلهم يأوون إلى بيوتهم، ويختفون في أماكنهم ومعاقلهم وغرفهم، فإذا بهم يكررون العملية كل يوم، ويتزايد عددهم، ويرتفع صوتهم، وإذا بوسائل الإعلام العالمية تنقل هذه الرسالة إلى العالم الغربي، الذي ما زال يصم أذنيه عن صراخ المسلمين وصياحهم، وندائهم، واحتجاجهم!!
إن العالم اليوم بهذه الطرق يضطر المسلمين اضطراراً إلى البحث عن الشيء الذي كان يجب أن يختاروه اختيارياً، إنه يضطرهم إلى صناعة الموت، ويجعل منهم مقاتلين أشداء أشاوس.
نعم! هذا الدين أثبت خلوده وتاريخيته وبقاءه، غزته أممٌ كثيرة، فذهبت وبقي الإسلام، فقد جاء التتار بجيوشهم المتوحشة، وسمع صوت صياحهم من آفاقٍ بعيدة، فإذا بهم يجتاحون بلاد الإسلام، وإذا بالأنهار تجري أحياناً حمراء من دماء المسلمين، وأحياناً أخرى زرقاء من كتبهم التي أغرقوها في الأنهار، ثم ينتصر الإسلام، ويتحول التتار إلى مسلمين، وإذا بك اليوم تسمع جمهوريةً من بقايا الاتحاد السوفيتي، يسمونها تتارستان، وقد قرأت مقابلةً مع بعض شخصياتها، فإذا بهم يعلنون أنهم لا يعتزون إلا بالإسلام، هذه تتارستان هي منطلق التتار الذين وطئوا بغداد وبلاد الإسلام والشام، وفعلوا الأفاعيل وسفكوا دماء المسلمين، هاهي اليوم لا تفتخر إلا بالإسلام، ولا تعتز إلا به.
بغت أممُ التتار فأدركتها من الإيمان عاقبة الأمانِ< |
إنه الدين الخالد، الذي يملك عناصر البقاء، فإذا قاومه قوم انهزموا، وبقي الإسلام.
ما هو الشيء الذي يمكن أن يخرج الأمة من تخلفها السياسي وتبعيتها الاقتصادية، وهوانها العسكري إلى المسابقة والمنافسة في ميدان الحياة العامر الكبير؟ قد تقول: اجتلاب التصنيع والتقنية وتخريج الخبراء والمختصين، أقول لك: نعم، لكن هذا لا يكفي.
ما هو الشيء الذي يمكن أن يوحد الأمة، ويجمع شملها بعد الشتات والفرقة وانفصام بعضها من بعض، فيمكن أن يوحدها إلى أمةٍ واحدة، يشعر بعضها بهموم بعض وآلام بعض، وإذا حاربت حاربت جميعاً، وإذا سالمت سالمت جميعاً؟ أعتقد أن الخطب والمحاضرات والدروس يمكن أن تساهم، لكنها لا تصنع ذلك، بل حتى جهود الدعاة منفردة، مهما عظمت وكبرت وتوسعت، لا يمكن أن تؤثر إلا في رقعة محدودة من الأمة.
إذاً ما الذي يمكن أن يحدث ويغير؟ لابد من الأحداث، الأحداث التي قد يصنعها العدو، ولكنها تصهر الأمة، وتذيب خبثها، وتكشف طيبها، وتعرفها عدوها من صديقها، وتجمع شمل المخلصين الغيورين المنافحين عن حوزة الإسلام، وبلاده، وبيضته وأهله.
إن العالم الإسلامي اليوم -أقولها لك بصراحة ولكل صديقٍ أو عدو- العالم الإسلامي اليوم يتحول إلى معمل زاخر لإعداد المقاتلين، من لم يقاتل عقيدةً وحماساً وفي سبيل الله، فإنك تجد أنه يقاتل أحياناً اضطراراً؛ لأنه ليس أمامه إلا هذا السبيل، وهو يقول:
وإذا لم يكن من الموت بدٌ فمن العار أن تموت جباناً |
أو يقول:
إذا لم يكن إلا الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركبوها< |
هذا الحدث العظيم وهذا التحدي الكبير للمسلمين في البوسنة والهرسك دعاهم إلى أن يبحثوا عن أصولهم وعن جذورهم، وأن يرجعوا إلى دينهم، فولد هذا رواد المساجد، وفتيات الحجاب، وأطفال تحفيظ القرآن، وشباب المعسكرات، وسوف يحدث على المدى البعيد آثاراً عميقةً لدى المسلمين، وسوف يعطيهم من المفاهيم والقناعات والأصول الصحيحة ما لا يمكن أن يحصلوا عليه، إلا بمثل هذا الطريق.
إذاً لماذا الغرب يتحول من عداوة الشيوعية إلى عداوة الإسلام؟ أو من العداوة اللاسامية وحربها، إلى العداوة للإسلامية؟! وأعني بذلك ألوان الحروب، سواء كانت الحروب المكشوفة المعلنة، كما في يوغسلافيا، وكشمير والفلبين والهند، وطاجكستان، وفلسطين، وجميع البلاد التي تعاني من حربٍ ضارية مباشرة شرسة على المسلمين، أم تلك الحروب التي تتولاها بالوكالة عن القوى الأممية حكوماتٌ محلية كما في عدد من الدول العربية والإسلامية، ماذا يملك المسلمون حتى يواجهوا مثل هذه الحرب الضروس الشرسة؟!
العالم بالأمس كان يسخر منا معشر المسلمين، ويقول: أنتم مصابون بعقدة المؤامرة، فتتصورون أن وراء كل حدث مؤامرة، وأن وراء كل شيء مؤامرة، وأن مؤامرات العدو تلاحقكم في كل مكان، وكانوا يقولون لنا: هذه أوهام تعشعش في عقولكم وقلوبكم، ولا رصيد لها من الواقع، فما بالهم اليوم أصيبوا بعقدة المؤامرة، حتى أصبحوا يرون مؤامرة متطرفة أصولية إسلامية وراء كل حدث؟! فإذا لم يجدوا حدثاً اختلقوه، فقد وجدوا مجموعة من الشباب يتدربون على كيفية القتال من أجل أن يذهبوا إلى البوسنة والهرسك في نيويورك، وكانوا يصورون أعمالهم على أشرطة الفيديو، لأنهم يقومون بعمل غير مخالف للقانون، وإذا بهم تحفهم أجهزة الأمن وتعتقلهم، وتقدمهم في وسائل الإعلام كبش فداء، وتصورهم للشعوب الغربية والشرقية على أنهم حلقة أخرى من سلسلة المتطرفين الذين يوشكون أن يفجروا العالم بأكمله كما يزعمون.
والله لولا خشية العذالِ لقلت أنتم سبب الزلزالِ |
لنفترض أن ما تقوله أجهزة الإعلام العربية وتروجه -ومن ورائها الإعلام العالمي- عن المسلمين وعن الأصوليين وعن المتطرفين -كما يعبرون- لنفرض أنه صحيح، لماذا يغض العالم الطرف عن المتطرفين الصرب الذين أحرقوا دولةً بأكملها، وهجروا وقتلوا أكثر من مليوني مسلم، واغتصبوا النساء؟! ولماذا يتكلم العالم بلسانهم؟ فمرة يعتبر هؤلاء مجرمي حرب، ويطالب بمحاكمتهم أمام محكمة دولية، وإذا به يستقبلهم بالأحضان في جنيف، ويعقد معهم المؤتمرات، من أجل إيقاف الحرب وتسوية الأمر سلمياً بينهم وبين المسلمين؟! لماذا يتفاوض العالم مع من يعتبر أنهم مجرمو حرب.
قد قتلوا شعباً بأكمله، وفعلوا الأفاعيل التي يراها العالم كله، ويشاهدها ويتفرج عليها، لكنه لا يحرك ساكناً.
ثم لماذا تسكت الشعوب؟! إننا نعلم أنه لو قتل عشرون أمريكياً في الصومال، لقامت المظاهرات في طول أمريكا وعرضها ضد هذا العمل، فلماذا يسكت ذلك الشعب أمام قتل مئات الآلاف، وتشريد الملايين، وأمام تلك المجازر الوحشية التي يراها صباح مساء في وسائل الإعلام التي تفننت في نقل الصورة؟! ومع ذلك يبدو أن الرأي العام العالمي يمارس صمتاً رهيباً، ولا يقوم بأي دور، وأنه يشارك في الجريمة، لأنه ألقي في روعة أن هؤلاء مسلمون، وأن قتلهم لا يغير في واقع الحال شيئاً.
لماذا يغض العالم الطرف عن متطرفي الهندوس وجرائمهم البشعة. وجرائم الهند في كشمير، بل ويطالب العالم باكستان بأن تتخلى عن دعم المسلمين المستضعفين في كشمير المحتلة؟!
حتى العالم العربي والإسلامي يستقبل الهندوس ويوظفهم، ويمنحهم الأعطيات والعلاوات والمرتبات، ويمكنهم من تنظيم خلاياهم السرية وجمع أموالهم الطائلة، لدعم إخوانهم الكفار هناك وقتل المسلمين عياناً في وضح النهار.
سؤال رابع وخامس وسادس... ما الذي يجعل التنفيذ دائماً يسبق التهديد إذا كانت القضية تتعلق بمسلمين، سواء في الصومال أو في ليبيا أو في غيرها؟! وإذا تعلقت القضية بـالصرب مثلاً، أصبحت -كما يقول المثل العربي- تسمع جعجةً ولا ترى طحناً!
فهناك التهديد والوعيد من الأمم المتحدة ثم من أمينها، ثم من هذا الحلف ثم من ذاك، ثم من هذه الدولة الكبرى ثم من تلك، وأخيراً تمخض الجمل فلم يلد شيئاً، وأصبحوا يعربون أن هناك بوادر انفراج وتجاوباً مع المطالب الدولية، وأنه على فرض أن هناك تدخلاً فسوف يكون بطيئاً ومدروساً، ويضع كل الاحتمالات في الاعتبار، لضمان أمن وسلامة جنود الأمم المتحدة وغيرها، فهناك اللهجة ترتفع وتنخفض، والتهديد بعد التهديد، وأخيراً: تهدأ الأمور ويستقر الحال!!
أقول وأعتقد: أن الغرب لا يثق بمن ينتسب إلى هذه البلاد وإلى هذه الأمة وإلى أبوين مسلمين، حتى ولو كان علمانياً، حتى ولو قدم لهم فروض الولاء والطاعة، حتى ولو كان شديد الولاء لهم، حتى ولو كان خادماً لمصالحهم، إلا أنهم يستخدمونه ولا يثقون به طرفة عين، وعلى أقل تقدير، فهم يعتقدون أنه على المدى البعيد من الممكن أن يكون المستقبل للإسلام، وأن هؤلاء قومٌ تخطتهم الأحداث، وتعداهم التاريخ، إنهم يرون أنه يجب أن تظل البلاد الإسلامية محرومة، متخلفة، حتى لو سيطر عليها العلمانيون.
ما الذي يبيح لدولةٍ كدولة اليهود المسماة بإسرائيل امتلاك السلاح النووي؟ حتى لا يجرؤ مدير الطاقة النووية على مجرد الحديث عن هذا الموضوع، وقد قرأت مقابلةً معه، فتكلم عن دول كثيرة ولما سئل عن دولة ما يسمى بإسرائيل، اعتذر عن الجواب، في حين يحرم المسلمون من ذلك كله، بل يحرمون من امتلاك التقنية العادية أو تصنيع السلاح التقليدي.
نعم نحن لا نلقي بأخطائنا على عدونا، ولا ننتظر من عدونا أن ينسى تاريخه وخلفيته الدينية والعقائدية، وندري أن المسلمين لو صدقوا الله تعالى وأخلصوا، لاستطاعوا أن يصنعوا كل ما يحتاجونه، وأن يطوعوا ناصية التقنية لهم، وأن يستوردوا كافة السلاح، خاصة في ظل عالمٍ يبحث اليوم عن النفط وعن المال وعن الاقتصاد بكل وسيلة، ويخطط لامتلاك موطئ قدمٍ في البلاد الثرية الغنية، لكننا لا نشك أيضاً، أن الغرب يحاول أن يجعل من هذه المهمة مهمةً صعبةً للغاية.
الأحزاب الدينية المسيحية مثلاً في ألمانيا، أو في فرنسا، أو في بريطانيا، بدأت تكسب أصواتاً جديدة من الناخبين يوماً بعد يوم، وبدأت تكسب مواقع ومساحات جديدة على حساب الأحزاب الاشتراكية والعلمانية والتوجهات القومية الدينية في روسيا تتزايد وتتنامى باطراد، وتكسب الشارع يوماً فيوماً، والأحزاب اليهودية المتطرفة دخلت ما يسمى بالكنيست اليهودي، وشاركت في الحكومة، ولها مواقفها القوية الصلبة الواضحة المنسجمة مع عقائدها ودينها، والشعوب الإسلامية أيضاً بدأت تصحو، تصحو على ضربات الغزاة ومطارقهم.
وبإمكانك أن تسمع أية نشرة للأنباء في أية إذاعة عالمية، ثم احسب كم عدد الأخبار المتعلقة بالمسلمين، أو المتعلقة بحروب إسلامية، أو المتعلقة بمشكلات في بلاد الإسلام.
إن ذلك كله لا يعدو أن يكون تحضيراً وتمهيداً للمعركة الكبرى الفاصلة التي يسميها اليهود والنصارى معركة هرمجدون.
اليهود والنصارى تعمل هذه المعركة في عقولهم، وفي سياستهم، وفي قراراتهم، وتؤثر فيهم سواء بصفة مباشرة شعورية أم لا شعورية، إنها المعركة بين قوى الخير وقوى الشر، هكذا يعبر اليهود والنصارى، وأين؟ في فلسطين.. وبين من ومن؟ بين المسلمين من جهة، وبين اليهود والنصارى من جهةٍ أخرى.
قوى الخير في نظرهم اليهود والنصارى، وقوى الشر المسلمون، والغلبة عندهم لقوى الخير، أي: لهم.
ونحن نقول: نعم.. الغلبة لقوى الخير، ولكن قوى الخير هي القوى الإسلامية التي تملك الرصيد الرباني، تملك كتاب الله تعالى المنـزل المحكم، وتملك الحق الذي جاء به النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام.
إذاً هذا المعنى: المعركة الفاصلة -معركة هرمجدون- هذا المعنى مشترك بين الأمم الثلاث كلها، والنصر فيها هو للمسلمين دون شك، على أعدائهم من اليهود والنصارى، حتى عملية السلام التي يتحدثون عنها اليوم هي جزء من تلك الحرب.
وبداية الاستثمار قد وقعت فعلاً، فقد أعلن تجار العرب عن مشروع استثماري سياحي، عبارة عن فنادق وغيرها فيما يسمى بدولة إسرائيل.
ومن ذلك أيضاً الدعوة إلى رفع المقاطعة عن الشركات اليهودية، أو الشركات التي تتعامل مع اليهود، ليست دولة إسرائيل هي التي تطالب بذلك فحسب، بل العالم الغربي كله ورعاة السلام يطالبون بهذا الأمر، ويضغطون على الدول العربية والإسلامية والخليجية من أجله، لأن المصلحة الغربية واليهودية مصلحة مشتركة، وهم يريدون أن يصب الاقتصاد العربي أيضاً في مصلحة اليهود.
وهي أيضاً حرب مياه تستهدف تحويل مجاري الأنهار المهمة في بلاد الشام وغيرها لصالح اليهود، وجعل المسلمين في قبضتهم وتحت تصرفهم.
إنها عملية تطويع كاملة للشرق الإسلامي، ليكون ألعوبة في يد هذه الدولة الأممية التي من ورائها تتحرك وتكيد أمريكا وغيرها من دول الغرب.
وآخر مثال على ذلك: خبرٌ سمعناه البارحة، يقول لك: سوريا وإسرائيل على وشك توقيع اتفاقية نهائية للسلام المطلق، تقتضي هذه الاتفاقية، أن تتخلى دولة إسرائيل عن هضبة الجولان بالكامل، في مقابل أن توقع معها سوريا اتفاقية سلام مطلقة شاملة، تمتد بين سنتين إلى خمس عشرة سنة، أي يتم تنفيذها خلال مدة أقصاها خمس عشرة سنة، وخلال هذه المدة تكون العلاقات كلها قد تطبعت بين البلدين إذا تم ذلك بشكل كامل، سواء العلاقات السياسية والاقتصادية أو العسكرية والأمنية أو غير ذلك، إذاً فالقضية ليست صلحاً كما يتصور بعض البسطاء، أو بعض الصالحين، إنما هي قضية تطبيعٍ كامل.
لقد بدأ الحجر الآن!
الحجر الآن هو عبارة عن مقلاع في يد الطفل الفلسطيني، يشج به رأس اليهودي، أو يقتله، أو يؤذيه، أو يخيفه، وقد أثرت الانتفاضة على الميزانية اليهودية تأثيراً عظيماً، وعلى العقلية، وأربكت كثيراً من خططهم، وهذه بدايةٌ لتحرك الحجر، اليوم الحجر في يد المسلم، وغداً الحجر ينطق للمسلم ويقول: يا عبد الله يا مسلم، هذا يهودي ورائي تعال فاقتله.
إذاً الرسول صلى الله عليه وسلم يتكلم عن غيب أطلعه الله عليه.
وبناءً عليه نعلم أن كل الخطط والمؤامرات سوف تتوقف، وأن المسلمين سيقاتلون اليهود، ولن تتوسع دولتهم المسماه بـإسرائيل أكثر مما هي عليه الآن بشكلٍ كبير.
حمل رجلٌ من المجاهدين بـالقسطنطينية على صف العدو، حتى خرق العدو بقوة، وكان معهم أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه، فقال أناسٌ من الناس: ما لهذا الرجل ألقى بيده إلى التهلكة، فسمعهم أبو أيوب، فقال لهم: [[ كلا والله، نحن أعلم بهذه الآية، قوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195] لقد نـزلت فينا معشر الأنصار، صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهدنا معه المشاهد ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر، اجتمعنا معشر الأنصار، فقال بعضنا لبعضٍ: إن الله تعالى أكرمنا بصحبة نبيه ونصرة دينه، فلما فشا الإسلام وكثر أهله، وكنا قد آثرناه على أموالنا وأهلينا وزروعنا وأولادنا، لو رجعنا -بعد ما وضعت الحرب أوزارها- إلى أهلينا وأموالنا، فأصلحنا ذلك، وأقمنا فيه، وتركنا الجهاد، فأنـزل الله جل وعلا قوله: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195] ]].
إذاً الإلقاء باليد إلى التهلكة هو ترك الجهاد، سواء كان جهاداً بالمال أم بالنفس أم باللسان أم بكل وسيلة ممكنة، فالتهلكة هي في الإقامة بالأهل والأولاد والمال، وترك الجهاد، والحديث رواه الترمذي، وأبو داود، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الحاكم، والذهبي، وغيرهما.
وقال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [التوبة:73] وقال سبحانه لنبيه: وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:84] وقال: حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ [الأنفال:65].. ولن يغسل العار عن المسلمين إلا القوة التي تخيف العدو وترهبه، كما قال الأول:
سأغسل عني العار بالسيفِ جالباً عليَّ قضاء الله ما كان جالبا |
وقال عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي -وتنسب هذه القصيدة أيضاً للسموأل بن عاديا- قال:
تُعيرنا أنَّا قليلٌ عديدنا فقُلتُ لها إنَّ الكِرام قليلُ |
وما ضرنا أنَّا قليلٌ وجارنا عزيز وجار الأكثرين ذليلُ |
وما قلَّ من كانت بقاياه مثلنا بابٌ تسامى للعُلا وكهولُ |
وإنا لقومٌ لا نرى القتل سبةً إذا ما رأته عامرٌ وسلولُ |
يقرب حُب الموت آجالنا لنا كرهه آجالُهم فتطولُ |
وما مات منَّا ميتٌ حتف أنفِه ولا طل منَّا حيثُ كان قتيلُ |
تسيل على حدِّ الظباة نُفُوسَنا وليست على غير الظباة تسيلٌ |
إذا مات فينا سيدٌ قام سيدٌ قئولٌ لِما قالَ الكرامُ فعولُ |
وأسيافُنا في كل شرقٍ ومغربٍ لها مِن قِراع الدارعينَ فلول< |
فيا ربِّ إن حانت وفاتي فلا تكُن على شرجعٍ يُعلى بخُضرِ المطارفِ |
ولكن أحن يومي سعيداً بعصبةٍ يصابون في فجٍ من الأرض خائفِ |
عصائب من شيبان ألَّف بينهم تُقى الله نـزالون عند التزاحفِ |
إذا فارقوا دنياهمُ فارقوا الأذى وصاروا إلى موعودِ ما في المصاحفِ< |
يا ولدي قد مات شهيداً من مات فداءً للمحبوب |
وقد قرأتُ قبل أيام قصيدةً لشاعرٍ من شعراء الشهوة واللذة.. شهير معروف، هونـزار قباني، في قصيدته "الأندلسي الأخير" يقول:
أتخبط على رمال حبكِ كثورٍ أسبانيٍ
يعرف سلفاً أنه مقتول
كما يعرف أن جسده سوف يلف بالعلم الوطني
ويحمل على عربة مدفع
ويدفن في مقابر الشهداء
-إنهم شهداء، لكن في سبيل ماذا؟-
يقول:
أتخبط تحت شمس عينيك
نازفاً من كل أطرافي
عارياً إلا من قميص كبريائي
الاستشهاد بين ذراعي امرأةٍ جميلة هو ذروة الشهادة
أدخل الملعب
وأنا أعرف أنني لن أخرج منها إلا مضرجاً بالكحل والأساور
وحرير مراوح الأندلسيات
الشهادة في سبيل الشعر والنساء لا تقلقني
فهناك دائماً ثمنٌ لكل شيء
ثمنٌ للمرأة التي نحبها
ثمنٌ للقصيدة التي نكتبها
ثمنٌ للعطر الذي نتوضأ به
أنا وحدي تحت سماء عينيك الصافيتين
كسماء البحر الأبيض المتوسط
أواجه وجهك الجميل
وموت الجميل فرحٌ لا ضفاف له
وأتلقى مبتسماً
طعنات أنوثك القادمة من الجهات الأربع.
أنا نـزار قباني
البدوي والحضاري
اليميني والماركسي
الواقعي والصوفي
الجنسي والعذري
الأصولي والانقلابي
العربي واللاعربي!!
إذا كان هؤلاء يموتون في سبيل الشهوة، في سبيل اللذة، في أحضان امرأة، من أجل مادة، من أجل لحظة عابرة، من أجل قرش أو ريال، من أجل كرسي، من أجل مغنم، فلماذا لا يموت المؤمنون في سبيل مثلٍ أعلى يؤمنون به ويعتقدونه، ويرون أنه سبيلهم إلى جنةٍ عرضها السموات والأرض؟! كما قال ذلك الأول المجاهد: {قوموا إلى جنةٍ عرضها السموات والأرض}.
{ للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له مع أول قطرة من دمه} أي شهيدٍ هذا؟ هل هو شهيد الحب؟! شهيد التراب والوطن؟! شهيد زيتون يافا وبرتقال حيفا؟! شهيد الكرسي؟! شهيد الشهرة الجندي المجهول؟! كلا! إنه الشهيد الذي يقاتل في سبيل الله، كما نطق الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام: {من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله}.
{يغفر له مع أول قطرة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج باثنتين وسبعين من الحور العين} اذهبوا يا أهل الماديات، اذهبوا يا أهل الشهوات، تمتعوا بدنياكم ونسائكم، تمتعوا بلحظاتكم العابرة، أما الشهداء الحقيقيون، فينتظرهم اثنتان وسبعون امرأة من الحور العين، يرى مخ ساق إحداهن من وراء اللحم!!
{ويأمن من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة، ويوضع على رأسه تاج الوقار} ليس تاجاً دنيوياً ولا مادياً، ولا صولجاناً ولا طيلساناً، إنما هو تاج الوقار في الدار الآخرة: {الياقوتة الواحدة فيه خيرٌ من الدنيا وما فيها، ويشفع في سبعين من أهل بيته} .
سبعون ممن ربوه على الجهاد والشهادة، وعلموه أناشيدها، وقرءوا عليه آياتها وأحاديثها، وربوه على معاني الفداء والبطولة، ثم صبروا عليه وصابروا، وخلفوه في أهله بخير.
هذا حديثٌ رواه الترمذي، وقال: حسنٌ صحيح غريب، ورواه ابن ماجة وأحمد من حديث المقدام بن معد يكرب، وله شاهدٍ من حديثٍ قيس الجذامي، وإسناده صحيح، فالشهادة هدفٌ عظيم، كلمة تملأ الفم.
حممة الدوسي رحمه الله غزا مع أبي موسى الأشعري إلى أصبهان، فقام في الليل وصاح: [[اللهم إن
بات عتبة بن أبان البصري، عند رباح القيسي، قال: فسمعته في الليل ساجداً يبكي ويقول: اللهم احشر عتبة من حواصل الطير وبطون السباع.
ولكن قبري بطن نسرٍ مقيله بجو السماء في نسورٍ عواكف |
خرج ابن المبارك إلى الشام غازياً في سبيل الله تعالى، فلما رأى ما فيه القوم من التعبد والغزو والجهاد وارتفاع المعنويات والإيمان، وكل يوم بعث أو سرية أو قتال، التفت إلى من حوله، وقد أخذته نشوة ووجد وعجب، ودهشة لهذا الحال الجديد، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، على أعمارٍ أفنيناها وأيامٍ قطعناها في علم الخلية والبرية، وتركنا أبواب الجنة مفتوحة هاهنا.
يقول: ضيعت كثيراً من عمري في بعض مسائل الفقه، وطولت فيها، وتركت الجهاد في سبيل الله تعالى. وهذا لا يعني التهوين من أمر العلم الشرعي، بل هو لونٌ من الجهاد، ولكنها -كما ذكرت- نشوة أخذت هذا الإمام المجاهد، وقد رأى هذا الباب العظيم من أبواب الجنة، وقد كتب بعد ذلك إلى الفضيل بن عياض المتعبد في الحرم، يعاتبه ويقول:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعبُ |
من كان يخضب خده بدموعهِ فنحورنا بدمائنا تتخضَّبُ |
أو كان يُتعِبُ خيله في باطلٍ فخيولنا يوم الصبيحة تتعبُ |
ريح العبير لكم ونحن عبيرُنا رهج السنابك والغبار الأطيبُ |
ولقد أتانا من مقال نبينا قولٌ صحيحٌ صادقٌ لا يكذبُ |
لا يجمعان غبار خيل الله في أنف امرئٍ ودخان نارٍ تَلْهَبُ< |
إن الشهيد يسقي شجرة الحياة بالدماء، الدماء التي تشخب من جرحه، وتخرج من أوداجه، فتزهر شجرة الحياة بإذن الله وتثمر وتنمو.
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجومِ مناراً |
كنا جِبالاً في الجبال وربما سرنا على موج البحار بِحَارا |
بمعابد الإفرنجِ كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا |
لم تنس أفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا |
وكأن ظل السيف ظل حديقةٍ خضراء تنبت حولها الأزهارا< |
إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم |
فطعن الموت في أمرٍ حقيرٍ كطعن الموت في أمرٍ عظيم< |
أي يومٍ من الموت أفر يوم لا قدر أم يوم قدر |
يوم لا قدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر |
يقول: أنا بين خيارين، إما أن يكون أجلي قد حضر فلا ينفع الحذر، وإنما يكون أجلي لم يحضر فلا تضرني الشجاعة.
وهذا قطري بن الفجاءة، يوقفك على هذا المعنى العظيم بأبياتٍ شهيرة مؤثرة، يخاطب نفسه:
أقول لها وقد طارت شعاعاً من الأبطال ويحك لن تُراعي |
فإنك لو سألت بقاء يومٍ على الأجل الذي لكِ لم تطاعي |
فصبراً في مجال الموت صبراً فما نيل الخلود بمستطاعِ |
وما ثوب البقاء بثوبِ عزٍ ويطوى عن أخي الخنع اليراعِ |
ومن لا يغتبط يسأم ويهرم وتسلمه المنون إلى انقطاعِ |
وما للمرء خيرٌ في حياةٍ إذا ما عد من سقط المتاعِ |
إذا كانت حياة ذل وهوان وتأخر وجهل وضعة فليس للمرء فيها خيرٌ.
جاءت امرأةٌ للحجاج فقال لها: لأذبحن ابنك، وظن أنه بذلك يهددها، قالت له بلهجة المؤمن الواثق: إن لم تذبحه مات.
وجاء رجلٌ آخر، فقال له الحجاج: والله لأحصدنكم حصداً، قال الرجل للحجاج: أتحداك، أنت تحصد والله تعالى يزرع، ماذا تفعل يد الحجاج، إذا كان رب العالمين هو الزارع.
إن الإيمان بالقضاء والقدر، ومعرفة أن كل شيء مكتوب عند الله تعالى في لوحٍ محفوظ، لا يتقدم ولا يتأخر ولا يزيد ولا ينقص، إنه يمنح المؤمن ثقةً وصبراً وثباتاً واستقراراً في قلبه، فلا تخيفه الأشياء، والزعازع، والعواصف، والأحداث، والنكبات، والمصائب، كلا! لأنه يعلم أن كل شيءٍ مقدورٌ مكتوب، طعن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فقال: [[ وكان أمر الله قدراً مقدوراً ]].
وكذلك ضعف الاحتساب والثقة فيما عند الله تعالى، جعل أحدهم لا يتحمل أي شيء، حتى الشوكة يشاكها أو الكلمة الخشنة، أو ما فوق ذلك لا يتحمله، مع أن الأذاياء والبلايا أمرٌ لا بد منه، قال الله تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا [العنكبوت:2] وقال تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [العنكبوت:3] وقال سبحانه: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ [البقرة:214] إلى نصوصٍ أخرى كثيرة، ليس هذا الموضع موضع بسطها.
خذ على سبيل المثال: الوالد الذي تعود أن يضرب ولده، أول مرة قد يؤثر الضرب، لكنه مع الوقت يتحول هذا الأمر إلى شيء لا يؤثر في الولد ولا يخيفه، لأنه اعتاد عليه، فلم يعد يفعل فيه فعلاً، ووجد أن الضرب ليس كما كان يخافه، لكن لو كان الأب يستخدم التهديد بالضرب فقط، لربما أصاب الولد رعب شديد من هذا الضرب الذي يسمعه، ويهدد به دون أن يذوقه أو يجد ألمه.
ومثل ذلك أيضاً: الكلام فإن بعض الناس يظن أن أية كلمة توجه إليه أو طعن أو سب أو اتهام، أنه سوف يقلقله ويسهره ويظنيه ويخيفه ويحزنه، ويمنعه من التمتع بحياته، أو القيام بأعماله، لكنه إذا وجد ذلك ثم وجد، ثم تكسرت النصال على النصال، أصبح الإنسان يمتلك قوةً وصبراً غريباً، فلا يؤثر فيه الكلام، ويستوي عنده أن تمدحه أو تذمه، المهم أن تقول كلاماً صحيحاً مفيداً، أما مسألة الجوانب الشخصية، فإنها تنمحي وتزول بالممارسة، وكثرة المعايشة والإحساس بهذه الأشياء.
السجن. أول مرة يسجن الإنسان أو يهدد بالسجن، قد يخيفه ذلك، حتى إن بعض أهل التقصير، أو بعض الشباب المفرطين، لو أنهم سجنوا لربما وجدوا أن السجن لا يستدعي أن يتركوا أقل الأشياء، حتى التفحيط أو التطعيس، لا يستدعي أن يترك من أجل السجن، لأنهم جربوا أن السجن ليس بالأمر الذي كانوا يرهبونه ويخافونه، لكن لو كان الأمر يقتصر على مجرد التهديد والتخويف، لربما كان وقعه في النفس أعظم.
المقصود من هذا الكلام أن هناك جانباً نفسياً، وهو أن الإنسان قد يخاف الشيء إذا سمع به، لكنه لو عاناه وعايشه ووجده، لأحس أن الأمر أقل مما كان يخاف ويتوقع، والأمور يهون بعضها بعضاً.
أخي: كم رأيت ممن لاقى في سبيل المخدرات مثلاً، أو الفجور أو السرقة من الضرب والسجن والتشهير والتعذيب، بل ومن القتل، ومع ذلك فهم لا يزدادون إلا كثرةً وتوسعاً وتنامياً، فكيف تظن أن حملة الشريعة، وحماة العقيدة، وأهل الدين والتوحيد، والذين يطمحون إلى جنةٍ عرضها السموات والأرض، أن تخيفهم مثل هذه الأساليب، أو تحد من عزمهم، أو تقلل من عزتهم.
دخل الإمام أحمد رضي الله عنه السجن فضرب، فجاءه رجلٌ كان في السجن، وكان لصاً سارقاً، فقال له: يا أحمد، أنا والله ضربت في السرقة أكثر من أربعمائة سوط، وأنت تُضربُ في سبيل الله، وإنما هو السوط الأول والثاني ثم لا تحس بشيءٍ بعد ذلك، قال الإمام أحمد رحمه الله: فقوى هذا الرجل قلبي.
فقال طارق رحمه الله ورضي الله عنه: إنه لا ملجأ لكم غير سيوفكم، أين تذهبون وأنتم في وسط بلادهم، والبحر من ورائكم محيط بكم؟ وأنا فاعل شيئاً، إما النصر أو الموت! قالوا: فما هو؟ قال: أقصد طاغيتهم ورئيسهم، فإذا حملت فاحملوا بأجمعكم معي، ففعلوا ذلك، فقتل اللوذريق وجمعٌ كبيرٌ من أصحابه، وهزمهم الله تعالى، وتبعهم المسلمون ثلاثة أيام، يقتلونهم قتلاً ذريعاً، ولم يقتل من المسلمين إلا نفر يسير.
وبعث طارق رضي الله عنه، برأس اللوذريق إلى موسى بن نصير، في أفريقيا، فبعث بها موسى إلى الوليد بن عبد الملك، بـدمشق، ثم سار طارق إلى طليطلة، وسار مغيث الرومي مولى الوليد إلى قرطبة، ففتحوهما، ووجدوا ذخائر وأموالاً عظيمةً لا تحصى.
وكان الملك ألب أرسلان التركي، كان سلطان العراق والعجم يومئذٍ، وقد جمع وجوه مملكته، وقال لهم: قد علمتم ما نـزل بالمسلمين، فما رأيكم؟ قالوا: رأينا لرأيك تبعٌ، وهذه الجموع لا قبل لأحد بها، قال: فأين المفر؟ لم يبقَ إلا الموت، فموتوا كراماً، قالوا: أما إذا سمحت نفسك بذلك، فنفوسنا لك الفداء، وقال لهم: نلقاهم في أول البلاد، فخرج في عشرين ألفاً من الشجعان المنتخبين المختارين، الذين يمكن أن نعبر عنهم أنهم يشبهون ما يسمى: بقوات الكومندوز الآن، فلما سار مرحلة، عرض العسكر فوجدهم خمسة عشر ألفاً، ورجع خمسة آلاف، ثم سار مرحلة ثانية، فلما عرض العسكر، إذا هم اثنا عشر ألفاً، قد تسرب منهم ثلاثة آلاف -كما في قصة طالوت وجالوت.
فلما واجههم عند الصباح، رأى ما أذهل العقول وحير الألباب، وكان المسلمون كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، وقال: إني هممت ألا أقاتلهم إلا بعد الزوال، قالوا: ولمَ؟ قال: لأن هذه الساعة لا يبقى على وجه الأرض مسلم إلا دعا لنا بالنصر، وكان ذلك يوم الجمعة، قالوا: افعل رحمك الله، فلما زالت الشمس صلى، وقال: ليودع كل واحدٍ منكم صاحبه، وليكتب وصيته، ففعلوا ذلك، فقال: إني عازم على أن أحمل، فاحملوا معي، وافعلوا كما أفعل فاصطف المشركون عشرين صفاً، كل صفٍ لا يرى طرفه، ثم قال ألب أرسلان: بسم الله، وعلى بركة الله، احملوا معي، ولا يضرب أحدٌ منكم بسيفه حتى أفعل، فحمل وحملوا معه مرةً واحدة، فخرقوا صفوف المشركين، وكسروا صفوفهم، وأحاطوا بملكهم، وانتهوا إلى سرادقه، وهو لا يدري ولا يظن أن أحداً يصل إليه، فما شعر حتى قبضوا عليه.
لقد حددوا الهدف، وتحملوا في سبيل ذلك التضحية، فأمسكوا بالملك وقبضوا عليه، ثم قتلوا رجلاً منهم، وعلقوا رأسه على الرمح، وصاحوا قتل الملك، فلما رأى الروم ذلك، ولوا منهزمين لا يلوون على شيء، وحكم المسلمون فيهم السيف أياماً، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، ولم ينج منهم إلا شريدٌ أو طريدٌ أو أسير، وجلس ألب أرسلان على كرسي الملك، في مضربه وفي سرادقه وعلى فراشه، وأكل من طعامه ولبس من ثيابه، ثم أحضر له الملك بين يديه، وفي عنقه حبل يجر به، قال: ما كنت صانعاً لو ظفرت بي؟ قال: أو تشك أني كنتُ قاتلك حينئذٍ؟ قال له ألب أرسلان: أنت أقل في عيني من أن أقتلك، اذهبوا فبيعوه، لأنه كان أسيراً، فطافوا به على جميع العسكر، والحبل في عنقه، وينادى عليه: من يشتري؟ فلا أحد يسومه، ولا ينادى عليه بالدرهم ولا بالفلس، ولا يشتريه أحد، حتى انتهوا إلى آخر العسكر، فإذا رجلٌ معه كلب، فقال: إن بعتموني بهذا الكلب اشتريته فأخذوه وأخذوا الكلب، وأتوا بها إلى ألب أرسلان، وأخبروه بما صنع، فقال: الكلب خيرٌ منه، لأنه ينفع وهذا لا ينفع، خذوا الكلب وادفعوا له هذا الكلب، ثم بعد ذلك أمر بإطلاقه، وأن يجعل الكلب قرينه.
قد يقول البعض لم هذا؟ فأقول: ما رأيك لو ظفر المسلمون بـرادوفان كرادينش، أو أمثاله ممن فعلوا الأفاعيل بالمسلمين، هل يصلح لهم إلا مثل هذه المعاملة، وأن يهانوا ويذلوا ويذاقوا ألوان الهوان، على أذيتهم للمسلمين.
نصبوا رفاتك في الرمال لواء يستنهض الوادي صباح مساء |
يا ويلهم نصبوا مناراً من دمٍ يوحي إلى جيل الغدِ البغضاء |
ما ضر لو جعلوا العلاقة في غدٍ بين الشعوب مودةً وإخاء |
الله المستعان! يجعلون العلاقة بين الشعوب مودةً وإخاءً.. هيهات! العلاقة علاقة تنافر وصراع محتدم في كل الميادين، بين كل هذه الفئات، وهذا هو التاريخ يشهد بذلك.
كان يقول رحمه الله: لن يستريح الإيطاليون حتى يواروا لحيتي في التراب.
المقاييس المادية وحدها لا تكفي، يقول أحد الإخوة في سؤال بعث به إليَّ: كيف يمكن أن يقاتل المسلمون وهم قلة وعدوهم كثير؟
يا أخي: لو أردنا أن نجعل المقاييس المادية دائماً هي الفيصل لنا، لم نصنع شيئاً قط، حتى الدعوة، لو نظرنا في مجال الدعوة، لوجدنا إن إمكانيات المسلمين قليلة، وفي مجال الاقتصاد، وفي المجالات العسكرية أيضاً.
إنه يجب أن نعلم أن المسلمين يقاتلون بقوة الله سبحانه وتعالى، الذي يمدهم بالنصر، وينـزل عليهم الملائكة، ويمنحهم الصبر متى صدقوا وأخلصوا وجاهدوا في سبيله، ثم إن عليهم مع ذلك أن يبذلوا وسعهم، ويتخذوا كافة الأسباب، ويعدوا العدة، كما أمر الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ [الأنفال:60] قد يقول البعض: أقل عدة نستطيعها تكفي، الجواب: لا.
يجب أن نعد العدة التي تصدق قول ربنا تبارك وتعالى: تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الأنفال:60] لا بد أن يعد المسلمون العدة التي ترهب عدوهم وتخيفهم، حتى من وراء البحار والأمصار والأقطار.
نعم الرسول يقول: {نصرت بالرعب مسيرة شهر} العدو الآن يرهب المسلمين ويخافهم ويقلق منهم، وينصبهم عدواً مختاراً مستقبلياً، والمسلمون أهلٌ لهذه المواقف، وأهلٌ لهذه العداوة، لكن عليهم أن يجمعوا أمرهم، وأن يوحدوا صفهم، ويتحرروا من سيطرة الحرب النفسية، ويدركوا أنهم يستطيعون أن يعملوا حتى من حيث العدد.
يا أخي! الآن الإحصائية تقول: المسلمون مليار إنسان، لو فرضنا أنه صح وصفا لنا من هذا الرقم (10%) أو حتى (1%) يكفينا من المسلمين الصادقين.
استنفار الطاقات البشرية بالدعم المادي، وبالتبرع، وبالدعاء، وبتبني القضايا إعلامياً، وبالنـزول للميدان، وبالمشاركة، وبالدعوة، وبأي سبيل يمكن أن يساهم فيه الإنسان.
سأثأر لكن لربٍ ودين وأمضي على سنتي في يقين |
فإما إلى النصر فوق الأنام وإما إلى الله في الخالدين |
فلا يجوز أبداً، أن يتلطخ بشيء من أوضار الدنيا، أو مقاصدها، أو حظوظها، فإن ذلك مما يقلل شأنه ويذهب ثمرته.
لا يطعم النوم إلا ريث يحفزه هم يكاد حشاه يحطم الضلعا |
إن النوم أخو الموت، فعليك يا صانع الموت أن تتحلى باليقظة، حتى تكون صانعاً حقيقياً، عليك أن تتحلى باليقظة، فتدري ماذا يخطط لك أعداؤك، وماذا يريدون، إنهم كما -كان يقول عز الدين القسام رحمه الله تعالى في خطبته الشهيرة-: "يريدون أن يأخذوا منك دينك ومالك وعرضك وبلدك ويجعلوك بلا شيء، أسيراً بين أيديهم، خادماً ذليلاً مطيعاً لهم، فعليك أن تغضب لربك ودينك، فإن لم تفعل فعليك أن تغضب لأمتك ولنفسك ولمستقبلك، ولتاريخك.
هذا الأمر أتاني من عدد من الإخوة الذين رأوه عياناً وشاهدوه، بل ذهبتُ بنفسي، وشاهدتُ جزءاً من ذلك كما ذكروا ووصفوا، يتطلب منا تحركاً سريعاً على كافة المستويات:
أولاً: أدعو الإخوة الشباب إلى أن يذهبوا إلى ذلك المكان مجموعات، اثنين وثلاثة، ويمروا على الناس، فيسلموا عليهم، ويوزعوا عليهم الكتب والأشرطة، أحياناً لا يحتاج الأمر إلى كلام، ذلك الإنسان الذي قد حرك الجهاز على أغنية لا يحتاج إلى أن تقول له: وقف الأغنية، بمجرد أن تسلم عليه وتعطيه شريطاً أو كتاباً سوف يعرف الرسالة ويدرك ويستحي ويقدر، وثق ثقة تامة أنه سوف يستبدل شريط الغناء بالشريط الذي أعطيته ووضعته في يده، وقد لا يحتاج الأمر إلى أكثر من ذلك، ثم إن وجود هذا العنصر من الشباب المتدين سوف يكون ضمانة وحماية من أن يتطور الأمر إلى صورة أشد مما هو عليه في واقع الحال الآن.. ثم القيام بإنكار المنكرات التي يظهر للإنسان أنها، لا تزال مع محاولة استخدام الأساليب الهادئة والبعيدة عن الإثارة، فإذا تكرر المنكر، فيمكن أن يسعى الإنسان في إزالته بقدر المستطاع.
ثانياً: على الإخوة القائمين في الهيئات، أن يكون لهم وجود ولو رمزياً في هذه المواقع، حتى يُطمأن، إلى أنه لا توجد منكرات علانية، ولا يلزم أن يباشروا مع الشباب بصورة دائمة.
ثالثاً: على أولياء الأمور الذين يذهبون إلى هناك أن يختاروا لأهلهم المكان المناسب، ليس ضرورياً أن يذهب الإنسان إلى مكان مزدحم فيه الشباب المراهقون، وفيه الأصوات، وفيه العلاقات، وقد يذهب الأب وينشغل، أو يكون بعيداً، وتبقى البنات، ويحدث من جراء ذلك اختلاط وعلاقات وتبادل أوراق ورسائل وغير ذلك، وربما يكون همسٌ وكلامٌ وحديث وأمور يجر إليها الشيطان، ومع ثقتنا بالشباب، فإننا لا نثق بالشيطان الذي يؤزهم ويحرضهم.
رابعاً: على الدعاة والخطباء معالجة هذا الأمر وغيره، مثلما يجري في الحديقة المجاورة للمركز الحضاري، حيث يوجد لون من الاختلاط، يحتاج إلى عناية وإلى أن يذهب الشباب، حتى لو ذهب الشاب بزوجته محجبة ومصونة، ومعها بعض الأشرطة وبعض الكتيبات، فوزعت ودعت وأمرت ونهت؛ لأننا جربنا أن الشكوى لا تفيد ولا تجدي في كثير من الأحيان، وربما تبوء بالفشل، وربما يكون هناك اعتبارات كثيرة.
إذاً ينبغي أن ننـزل إلى الميدان كما ذكرنا، ونساهم في إنكار المنكر، وبصورة مباشرة، وبطريقة لبقة تجعلنا نكسب أمرين معاً، نكسب الناس بحسن ظنهم وحسن تصورهم، ونكسب إزالة المنكر، وأعتقد أن بعض هذه الأشياء تنفع حتى في إزالة المنكرات العامة والقضاء عليها.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.. والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر