إسلام ويب

كتاب البيوع - باب المساقاة والإجارة [1]للشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من عقود المعاملات في الإسلام: عقد المساقاة والمزارعة، وهو عقد شبيه بعقد القراض من جهة اشتراك طرفي العقد في عمل واحد: أحدهما بماله، والآخر بجهده. والعمدة في ذلك: حديث مساقاة الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر،حيث عاملهم على سقايتها على أن الثمرة بينهما مناصفة، وكان يخرصها عليهم عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، على أن يلتزموا هم بكل ما من شأنه إصلاح النخل من سقي وتأبير وقطع للجريد وإصلاح للقنوات وغير ذلك.

    1.   

    أحكام المساقاة

    [ عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع)، متفق عليه.

    وفي رواية لهما: (فسألوه أن يقرهم بها على أن يكفوه عملها ولهم نصف التمر، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: نقركم بها على ذلك ما شئنا، فقروا بها حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه) .

    ولـمسلم : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم، ولهم شطر ثمرها) .

    وعن حنظلة بن قيس رضي الله عنه قال: (سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والفضة، فقال: لا بأس به، إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الماذيانات، وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، ولم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به)، رواه مسلم .

    وفيه بيان لما أجمل في المتفق عليه من إطلاق النهي عن كراء الأرض ].

    بعد كتاب القراض يأتي المؤلف رحمه الله بكتاب المساقاة؛ لما بين القراض والمساقاة من مشاكلة، وصورتهما تكاد أن تكون واحدة؛ لأن العامل في القراض يأخذ رأس المال من صاحبه، ويعمل فيه على جزء من الربح، وفي المساقاة يأخذ العامل من صاحب الغرس غرسه ويعمل فيه على جزء من الثمرة، فكلاهما مشاركة في عمل، أحدهما برأس مال، والآخر بجهده، والربح أو النتيجة بينهما.

    مشروعية المساقاة والمزارعة وما تصح فيه

    المساقاة كما ذكر المؤلف عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: مأخوذة من السقي. قالوا: لأن أرض الحجاز ماؤها قليل، والسقي ضروري في زرعها، بخلاف أهل الأمصار الأخرى، فقد تكون عندهم الأنهار والعيون، والمياه لديهم متوافرة، فلا تحتاج إلى كلفة في السقي. أما في الحجاز فإن المياه قليلة، وتحتاج الزراعة فيها إلى جهد في سقيها، والسقي أهم كلفة الزراعة في الحجاز، فقد يعجز صاحب النخل أو الشجر أن يقوم عليها بمئونتها حتى تأتي الثمرة، ويكون هناك شخص آخر لديه خبرة واستعداد، فيقوم في هذا النخل أو غيره بالسقي وما يلزمه لإنتاج الثمرة على جزء مما يأتي به الأصل.

    إذاً: هناك مناسبة قوية بين القراض والمساقاة، فالقراض ربما صاحب المال لا يحسن استثماره، ويكون هناك شخص يحسن الاستثمار وليس عنده رأس ماله، فيتعاونان معاً ويتبادلان المنفعة، وكذلك صاحب الزرع أو الغرس قد لا يكون قادراً على مواصلة العمل فيه، ويوجد شخص آخر لديه خبرة، ويستطيع أن يقوم بالعمل فيه، فيتبادلان المنفعة.

    والأصل في هذه المعاملة ما ذكره عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر)، أو هم طلبوا منه أن يقرهم عليها، والثمرة بينهما مناصفة.

    وفقهاء الأمصار جميعاً يقرون هذا النوع من المعاملة على اختلاف في نوع الشجر، فهناك من يقول: لا تكون المساقاة إلا في النخل. وهذا قول ابن حزم ، وهناك من يقول: المساقاة في كل شجر له ثمر، كما قال مالك رحمه الله، كما في الكرْم والرمان والتين والفرسك -الخوخ- والمشمش، والحنابلة يقولون: يصح في كل غرس ثابت الأصل له ثمر. ويختلفون في الشجر الذي لا ثمر له، إلا إذا كان له وسيلة انتفاع من غير الثمر كالورق، فمثلاً شجرة الحناء والتوت، فورق الحناء يستعمل خضاباً، وورق التوت يستعمل غذاء لدود القز، وهكذا إذا كانت هناك فائدة يمكن أن يستفيد منها العامل من جراء سقيه لهذا النوع من الشجر فلا بأس، أما ما لا ثمرة له بالكلية فلا تصح المساقاة فيه؛ لأن المساقاة عمل على جزء من الثمرة التي تحصل، فإذا كان الشجر لا ثمرة له؛ فحينئذ ليست هناك مساقاة.

    فتح خيبر ومعاملة الرسول لأهلها

    يذكر العلماء في موضوع مساقاة خيبر: هل فتحت خيبر عنوة أم صلحاً؟ وهل كانت ملكاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه افتتحها عنوة واكتسبها، أو كانت صلحاً بينه وبين أهلها؟

    يطيل ابن عبد البر رحمه الله الكلام في هذه المسألة في الاستذكار؛ لأن خيبر كانت حصوناً متعددة، فبعض الحصون فتحت عنوة وبالقوة، وبعض الحصون نزل أهلها عنها حقناً لدمائهم.

    إذاً: منها ما فتح عنوة، ومنها ما فتح صلحاً، ومما فتح عنوة حصن الكتيبة، كان يقال عنه: فيه أربعون ألف عذق -أي: أربعون ألف نخلة- ولأنه فتح عنوة؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم امتلكه، حتى قالوا: أهله أصبحوا عبيداً لرسول الله، والأرض أصبحت ملكاً لرسول الله، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يبعث الخارص يخرص عليهم ليأخذ نصف الثمرة على ما صالحهم عليه أو ما أقرهم فيه.

    وكان فتح خيبر عام سبعة من الهجرة بعد العودة من صلح الحديبية بليال -قيل: عشرون ليلة- ولهذا قسم رسول صلى الله عليه وسلم خيبر -عند من يقول: قسمها- على أهل الحديبية؛ لأن الله قد أعطاهم إياها في الطريق في العودة من الحديبية وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ [الفتح:20]، فقالوا: المغانم التي وعدهم الله إياها هي فتح خيبر، وعلى كلٍ فكلُ من حضر الغزوة من الصبيان أو النساء أو العبيد أو ممن ذهب في رفقة الجيش يسترزق فقد قسم له رسول الله.

    حاصر النبي صلى الله عليه وسلم خيبر ليال، ثم فتحها الله عليه، فلما فتح الله عليه خيبر هنا بدت مدينة فيها أشجار، يكفي أن حصناً منها يتبعه أربعون ألف عذق، فإذاً يحتاج إلى عمل، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسوا متفرغين للفلاحة، وإنما سيوفهم بأيديهم، ففطن اليهود لذلك وقالوا: يا محمد! أبقنا فيها نعملها لك، فأنتم لستم أهل خبرة بالأرض وبطبيعتها وطريقة استثمارها، ولو كانت لكم بها خبرة فليس عندكم الوقت الكافي لزراعتها، أما المهاجرون جاءوا فليسوا أهل زراعة ولا نخيل، ولكن أهل تجارة وقتال، فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم: (نقركم فيها -هذا اللفظ متفق عليه- على ما شئنا - وفي رواية: على ما شاء الله-)، ومشيئة رسول الله لا شك أنها من مشيئة الله، فأقرهم عليها، ومكثوا فيها بقية وجود النبي صلى الله عليه وسلم من سنة سبع وطيلة خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وفترة من خلافة عمر ، حتى أجلاهم عمر عنها سنة سبعة عشر، وكان سبب إجلائهم عنها ما كان قد صدر من النبي صلى الله عليه وسلم في أخريات حياته صلوات الله وسلامه عليه: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب)، وهذه كلمة إن قلت سياسية أو تشريعية فمدلولها واسع جداً، نأتي إليها إن شاء الله بعد الكلام على المساقاة والمزارعة.

    حكم الأرض البياض في المساقاة

    لما أقر النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على أرضهم يقومون في غرسها وزرعها، أقرهم على أصولها وبياضها. الأصول: الأشجار المغروسة، والبياض: الأرض التي بين الأصول ليس فيها غرس. وإعطاء الأصول على جزء من الثمر هو المساقاة؛ لأن العمل الرئيسي هو سقي هذه الأصول، وإعطاء الأرض البيضاء التي لا غراس فيها على جزء مما يخرج منها يسمى المزارعة؛ لأن الذي يأخذ الأرض البيضاء يزرع من جديد.

    و مالك له مباحث في البياض مع الأصول؛ فإذا كانت الأرض فيها نخيل وأشجار يساقى عليها، ويوجد بين هذه الأشجار أرض بيضاء، لمن ثمرة هذه الأرض إذا ساقى صاحب الأصول عليها؟

    يقول مالك رحمه الله: إذا كان البياض الثلث فأقل فهو تابع للأصول، وللعامل أن يزرعها لنفسه، وإذا كان البياض أكثر من الثلث، بأن كان الغرس الثلث والبياض الثلثين فهو لصاحب الأرض.

    وهل يزارع المزارع عليها مع الأصول فتكون مساقاة في الأصول ومزارعة في الأرض البيضاء، أم لا يكون ذلك؟

    قال: على حسب الشرط، ما يتفق عليه صاحب الأرض والداخل؛ أي: الذي سوف يعمل في المساقاة أو المزارعة يسمونه الداخل.

    وإذا أعطاه الأرض البيضاء يعمل فيها مع الأصول، كلفة العمل في الأرض البيضاء كالبذر والحرث وما تحتاجه على صاحب الأرض أو على العامل؟

    الجمهور على أنها على العامل.

    والأئمة الثلاثة رحمهم الله يجيزون المساقاة في كل شيء، وبعضهم يقتصر على النخل فقط؛ قالوا: لأنه الذي جاء فيه الرخصة؛ لأن المساقاة خرجت عن القاعدة العامة؛ لأن فيها غرر على العامل، ولا يدري ماذا سيحصل من تعبه طوال السنة، لكن تسومح فيها لأنها رخصة، والرخصة لا تتعدى محلها، والإمام أبو حنيفة رحمه الله منع المساقاة بالكلية، قال: لأنها نسخت بالمزابنة -المدافعة- كل يدفع عن نفسه الغرر. والجمهور يقولون: هذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، واليهود قبلت بالعمل فيها بجزء مما يخرج منها. وخالفه أبو يوسف ومحمد ، أما أبو حنيفة وزفر فيقولان: لا تصح المساقاة؛ لأن فيها الغرر.

    إذاً: نستطيع أن نقول بجواز المساقاة عند المذاهب الأربعة.

    1.   

    مشروعية الخرص ووقته

    كان رسول صلى الله عليه وسلم يرسل عبد الله بن رواحة ليخرص التمر على يهود خيبر، وهل الخرص كان للمشاركة: نصف لليهود ونصف للمسلمين، أم أن الخرص كان للزكاة؟

    مالك يعارض في قسمة الثمرة على الشجر في المعاوضات، ويجيزها في الزكاة، وكذلك أبو حنيفة لا يرى الخرص في الشجر، ويقول: إن هذا مبني على التخمين وعدم اليقين، فلا حاجة إلى قسم الثمرة على الشجر، بل ينتظر بها إلى الجذاذ وتقسم بالكيل، حتى لا يكون هناك غرر.

    والجمهور يردون على من يمنع الخرص قائلين: إن الخرص وإن كان تقديراً فإنكم تقرون التقدير في غير الخرص، مثل قيم المتلفات، فإذا أتلف إنسان شيئاً لآخر وليس من المثليات: سيارة، أو بعيراً، ماذا سيلزم على المتلف فيما أتلف؟ يلزمه القيمة، وهل هناك مقياس يحددها؟ لا، فالمثليات في المكيل والموزون يمكن أن يكون مقارباً للحقيقة، صاع تمر أو صاع بر، الصاع يحكم بين الاثنين، أما لو كان بعيراً فلو جئت بمائة بعير لا تجد اثنين يتساويان في كل شيء، ولهذا تجد المائة بعير تختلف قيمها لاختلاف هيكلها، لونها، بدانتها، نحافتها.

    إذاً: يرجع إلى التقدير، والتقدير من الخرص والاجتهاد، وإذا كنتم تقرونها في بدل المتلفات فلم لا تقرونها في قسمة الشركات؟!

    ومن منع الخرص بين الشركاء قال: إن ابن رواحة رضي الله عنه إنما كان يذهب ويخرص على اليهود للزكاة -وهي حق للمساكين- وليس للقسمة بين رسول الله وبين اليهود، ولكن إذا جئنا إلى أخبار ابن رواحة نجد أنه كان يخرص للقسمة، كما ذكر مالك رحمه الله في الموطأ: أن ابن رواحة لما أتى اليهود ليخرص عليهم جمعوا له من حلي نسائهم، وقالوا له: هذا لك أنت هدية، وخفف عنا في الخرص. يعني: إن كان المجموع ألف وسق سيلزمنا خمسمائة، فاجعله ثمانمائة ويلزمنا أربعمائة فقط، فهنا قال ابن رواحة كلمته المشهورة: والله يا إخوة الخنازير لأنتم أبغض خلق الله إلي، وقد جئتكم من أحب خلق الله عندي، وما ذلك -يعني: بغضي لكم وحبي لرسول الله- بحاملي أن أحيف بكم: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا [المائدة:8] لا ترتكبوا الجرم وتميلوا وتظلموا.. لا، بل اعدلوا: عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ [المائدة:8]، أي: العدل أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]، فقالوا: يا ابن رواحة ! بهذا قامت السماوات والأرض. (بهذا) يعني: بالعدل وعدم قبول الرشوة.

    وفي بعض الروايات قال لهم: وإن هذا سحت لا نأكله، ثم قال لهم وأنصفهم بكلمة الواثق من نفسه: إني خارص؛ فإن شئتم فخذوا، وإن شئتم فارفعوا أيديكم. بمعنى: إني خارص؛ فإن قدرتُ قدراً معيناً إما أن تلتزموا بنصفه تؤدونه لرسول الله، وإما أن ترفعوا أيديكم وأنا أضمن لكم نصفه أسلمه إليكم. هل في هذا حيف؟ لا، كأن تقول: يا فلان ! أنا أقسم وأنت تختار، أو اقسم أنت وأنا أختار. إذاً ما هناك حيف.

    فلو أنه كان يخرص للزكاة ما الذي كان يحمله على هذا أو يحملهم هم على ذاك؟ إذاً: فإنما كان يخرص من باب القسمة، وبيان حق الطرفين، ولم ينتظروا جفاف التمر وأن يأتي موعد الجذاذ ليكيلوه؟

    قالوا: الخرص سواء في الزكاة أو المساقاة فإنما هو عقد إرفاق بالعامل، وفي الزكاة حفظ لحق المساكين، لذ لا يكون الخرص إلا بعد بدو صلاح الثمرة، ولو تركت حتى الجذاذ ربما العامل أو صاحب النخل يسرف في الأكل أو الهدايا، وربما يبيع رطباً، ثم في النهاية نجد أن الذي وصل إلى حد الجذاذ ربع الثمرة، أين صار حق المساكين؟ فإذا خرص عليه بأن هذا البستان فيه مائة نخلة، والنخل يتفاوت كيلها ما بين كذا وكذا وسقاً أو صاعاً، والمجموع كذا، وأنه يلزمه العشر أو نصف العشر، ويتركه بينه وبينه، إن شاء أكله، وإن شاء جامل به، إن شاء باعه رطباً، يهمنا: أن يقدم لنا العشر أو نصف العشر بحسب تقدير الخارص.

    والرسول صلى الله عليه وسلم راعى مصلحة الزارع، قال: (اتركوا الربع أو الثلث؛ لما يسقطه الريح، ولما تسقطه الطيور، وبما يرده الضيف ويكارم به، وبما يأكل به العامل) فالرسول سامح أصحاب البساتين في هذه النواحي الإنسانية أو في غير الطاقة، إذا كان الريح يسقط كل يوم مثلاً عشرة؛ ولأن الطيور تأتي وتنقي وتختار أحسن ثمرة وتأخذ حظها منها وتتركها، ولأن الضيف كذلك يأتي ينظر ونحن نقول له: والله هذا حق المساكين! لا، ولكن نكارم ونعطيه، لا نقلل المروءة في الناس، وهكذا أولاده، يتطلعون إلى الثمر ونحن نمنعهم حتى يأتي وقت الجذاذ من أجل الزكاة؟ لا، بل تخرص عليه، ويعرف ما يجب في زكاتها، ثم يلتزم بذلك ويؤديه في النهاية.

    إذاً: كان خرص عبد الله بن رواحة رضي الله عنه على أهل خيبر للقسمة وليس للزكاة، فما دام الأمر كذلك، والرسول ترك النخل لأهل خيبر يعملونه، ثم يرسل من يخرصه عليهم ويستوفي حقه، وثلاث سنوات في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنتان في خلافة أبي بكر ، ومدة من خلافة عمر رضي الله تعالى عنهم. بعد هذا هل نقول: إن المساقاة منسوخة؟! إن النسخ لا يكون إلا في عهد رسول الله؛ لأن النسخ تشريع جديد، وليس بعد رسول الله وحي ولا تشريع، وليس لأحد بعده أن ينسخ ما شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    إذاً: المساقاة ثابتة، وهي على ما اتفق عليه صاحب المال والعامل.

    1.   

    حقوق العامل وواجباته في عقد المساقاة

    [ عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع)، متفق عليه.

    وفي رواية لهما: (فسألوه أن يقرهم بها على أن يكفوه عملها، ولهم نصف التمر، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: نقركم بها على ذلك ما شئنا. فقروا بها حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه) .

    ولـ مسلم : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم، ولهم شطر ثمرها) ].

    عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر عليها على شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع، الزرع للأرض البيضاء بين الأصول، وقد تكون هناك أراض زراعية ليس فيها من الغرس أي شيء، فيزرعونها على حدة، ويسقون النخل على حدة، ويزرعون البياض بين النخل تبعاً للنخل، وكل ذلك عاملهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بجزء مما يخرج من الثمرة في الأصول، ومن الحبوب في الأرض البيضاء.

    الأصول التي تصح فيها المساقاة

    أي الأصول تصح فيها المساقاة؟

    قيل: لا تصح إلا في النخل خاصة. وقيل: في كل شجر له ثمر. وكذلك الأرض البيضاء يزرعونها تبعاً للنخل والأشجار، أو على حدة، وإن كانت البيضاء بين الأصول الثلث فأقل فهي تابعة للأصول، وإن كانت أكثر والغرس ثلث فأقل فالأرض فهي تابع مستقل بذاتها. وأي الزروع التي تصح فيها المزارعة؟

    قيل: الحبوب: البر والشعير وما يتبعه. وقيل: كل ما يزرع حتى الخضروات، حتى نص مالك على القثاء وما شاكلها فإنها تدفع للعامل يعمل فيها بالمزارعة، ولكن في غير خيبر إذا دفع صاحب الأرض الأرضَ لمن يعمل فيها زرعاً، قال: لا تكون مزارعة على جزء مما يخرج منها إلا إذا كان صاحب الأرض قد حرث وبذر، وبدأ الزرع ينبت، وعجز صاحبه أن يوالي العمل فيه للنهاية، فله أن يزارع عليه أحد العمل، أما أن يأتيه والأرض بيضاء ويقول له: اعمل فيها على ما يخرج منها، فـ مالك يمنع من هذا، وغيره يجزيه، والذي يمنع يقول: لأنه مجهول، ولا يدري ما الذي سيحصل عليه. فيقال لهم: المساقاة على مجهول ولا يعلم ما الذي سيحصل عليه.

    ما يجب على العامل فعله في عقد المساقاة

    ويتفقون على أن العامل ملزم بكل عمل من شأنه مصلحة الثمرة، فمثلاً: إذا كان النخيل عليه جدار، فانثلم الجدار في مكان ما، فعلى العامل إصلاحه لا أن يبني جداراً جديداً لم يكن موجوداً على الأرض؛ لأن هذا ملك لصاحب الشجر، وليس لصاحب الشجر مصلحة دائمة بدوام هذا البناء الذي سيبنيه؛ لأنه إن ساقاه سنة أو سنتين فبناء السور يظل عشرات السنين، فيكون صاحب الأرض استفاد من العامل ما ليس له فيه حق.

    وكذلك على العامل أن ينقي العين -القناة- كما كانت العين في أحد والخيف -خيف السيد، خيف فلان- كانت من جبل أحد إلى الغابة، هذه كلها خيوف ماء يسيل على وجه الأرض يقتسم أهل البساتين الماء بالوجبة على نظام عندهم في ذلك، فإذا احتاج مجرى هذا الخيف إلى ترميم أو إصلاح، أو انصدع الجدار من الجانب، أو نبت من الحشيش ما يسد الماء ويرده، فعلى العامل تنظيف ذلك، وليس عليه إجراء عين جديدة، وليس عليه حفر بئر من جديد، ولكن عليه إصلاح البئر القائمة. لا مانع في ذلك كله.

    وعلى العامل أن يحضر آلات السقي، إن كان بالسواني فبالسواني، وإن كان بالمكائن -كما هو الآن- فالبمكائن، وإذا كان في البستان عمال أو عبيد أو رقيق ملكاً لصاحبه، وأراد العامل أن يأخذ الرقيق مع الأصول، قالوا: إن كانت النخيل كبيرة وتحتاج إلى مساعدة أخذ، وإن كانت صغيرة لا تحتاج إلا لشخصه هو فليس له أن يأخذ.

    الذي يهمنا: أن ما فيه مصلحة الثمرة فهي على العامل، فإذا كانت المساقاة سنوات فعليه في أول السنة تأبير النخل، وقطع الجريد، وإصلاح الأحواض للنخلة للماء وللشرب... وغير ذلك، وكذلك الأشجار المثمرة: عليه تقليم شجر العنب؛ لأنه يحتاج إلى تقليم ما يبس منه كل سنة، وكذلك أشجار الفاكهة الأخرى إذا احتاجت إلى تقليم الزوائد فيها لينشط الجذع في تغذية الثمرة الجديدة.

    ثم إذا جاء وقت الجذاذ فعلى العامل أن يجذ الثمرة، وينزلها البيدر حتى تجف، ثم بعد ذلك يقتسمونها.

    [ وفي رواية لهما : فسألوه أن يقرهم بها على أن يكفوه عملها ولهم نصف التمر ].

    الرواية تدور بين كون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أقرهم ابتداءً، وبين أنهم هم الذين طلبوا منه أن يقرهم، وسواء كان ذلك ابتداء من الرسول صلى الله عليه وسلم، أو استجابة لطلبهم، فالنتيجة واحدة، وهي: أنهم عاملوه على جزء من الثمرة.

    مدة عقد المساقاة

    [ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: نقركم بها على ذلك ما شئنا ].

    ما هي هذه المشيئة؟ هل اليهود علموا متى تنتهي تلك المشيئة، أم أنه أجل مجهول؟ مجهول؛ لأن اليهود لا يعلمون متى تكون مشيئته بإخراجهم، وهنا قالوا: هل يتعين في المساقاة تعيين مدة العمل، أو تصح بغير تعيين؟

    فمن قال: تصح بغير تعيين أخذ دليله من هذه اللفظة: (ما شئنا) إذ ليس فيها تحديد زمن معين، ولهذا مكثوا فيها إلى جزء من خلافة عمر ، فمن الممكن أنهم كانوا يتوقعون كل سنة إجلاءهم، فكان العمل على غير مدة معينة. وهناك من يقول: لابد من تعيين المدة.

    والواقع أننا لا نستطيع أن نتحكم على ما جاءنا من الروايات، ولا توجد رواية -فيما أعلم- أن الرسول حدد لهم المدة: سنة أو سنتين أو أكثر أو أقل.

    ما يترتب على فسخ عقد المساقاة

    يتفق العلماء على أن صاحب الزرع إذا أعطى العامل غرسه ليعمل فيه فعمل، ثم بدت الثمرة، ولما يحن وقت الخرص، وأبر النخل فقط، ثم جاء صاحب النخل وقال: فسخت عقد العمل بيني وبينك. فمن حقه ذلك، وكذلك من حق العامل أن يأتي في وقت معين ويقول: فسخت العقد بيني وبينك.

    في هذه الحالة إذا جاء الفسخ من جانب صاحب المال ماذا يكون للعامل فيما مضى من عمله في هذه السنة؟

    بدأ العامل العمل من بعد الجذاذ للثمرة التي مضت، أي: من بداية سنة جديدة، فسقى النخل، وقطع الجريد، وأبر النخل ونظف القناة، وأصلح السور...إلخ، كل هذا عمله على أنه سوف يستمر إلى آخر السنة، فجاء صاحب النخل وقطع عليه المشوار، فإذا جاء الفسخ من جانب صاحب النخيل فعليه أن يدفع أجرة العامل فيما عمل من أول السنة من بعد الجذاذ الأخير إلى يوم أن ألغى عقده؛ لأنه يعمل على وجه شرعي، وصاحب المال هو الذي ألغى العقد، إذاً: يتحمل مسئولية ذلك.

    أما إذا جاء الإلغاء من جانب العامل فهو الذي أبطل حقه، ولا حق له في المطالبة بما عمل، لا حق التأبير ولا قطع الجريد ولا تنظيف النهر ولا تصليح الدولاب ولا ترميم السور.. كل ما عمله أسقط حقه فيه بتركه العمل اختياراً.

    حدد المدة في المساقاة فيلتزم الطرفان بها، وإذا أراد أحد الطرفين أن يقطع المدة فيلتزم بالمسئولية، أو كانت المساقاة بغير أجل مسمى فكل على طريقه، فإن جاء صاحب المال وألغى العقد أو أوقف عمل العامل فيتحمل له بما يستحقه كأجير، وإذا ألغى العامل العقد فيتحمل هو مسئولية الإلغاء، ولا يكون له عند صاحب المال شيء؛ لأنه دخل معه على أن له في مقابل العمل جزءاً من الثمرة، والثمرة لم تأت بعد، إذاً: ليس له حق في المطالبة بشيء.

    والله أعلم.

    ما يلزم العامل من النفقة في عقد المساقاة

    [ ولـ مسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم ولهم شطر ثمرها ].

    هذه الرواية الأخيرة فيها زيادة: (على أن يعتملوها)، أي: ما تحتاجه من نفقات وكرى لعمل زائد.. الأرض البيضاء تحتاج إلى حراثة تحرث.. العين تحتاج إلى آلة تنظف.. الدولاب الذي يعمل عليه تعطل ويحتاج إلى تصليح.. على من تكون نفقة ما يحتاجه الغرس لمواصلة العمل؟ أهي على العامل أم على صاحب المال؟

    فالرواية التي لـ مسلم : (أن يعتملوها من أموالهم)، فإذا تعطل الدولاب يصلحونه، وإذا انطمست العين يحفرونها، وإذا سقط الجدار يقومونه.. وإذا احتاجت الأرض البيضاء إلى بذر يشترونه، إلى سماد.. يسمدونها، وإن احتاجت إلى عدة أشخاص يؤبرونها، وهو وحده لا يستطيع أن يؤبر النخل، ولو بقي على عمله هو فقط ربما فات بعض النخل وقت التأبير وفسد؛ لأن الكافور أول ما ينشق يجب أن يؤبر، إذاً لابد من أيدٍ عاملة تتابع ذلك حتى لا يتفتح الكافور وتظل خمسة إلى عشرة أيام ولم يوضع فيها شيء، كالمرأة إذا جاءتها البويضة ولم تجد البويضة ما يلقحها فسدت وخرجت مع الدورة الشهرية، وهكذا طلع النخلة إذا لم يجد التأبير في إبانه فسد ومضى في طريقه (شيص).

    إذاً: يعملونها من أموالهم، وأهم الأموال في عملها: البذر في الأرض البيضاء، وكل ما من شأنه إصلاح النخل، يمكن أن يقطع جريد ألف نخلة لسنة قادمة؛ لأن النخلة تزيد كل سنة دوراً من الجريد، وتنمو.. وهكذا، وفي علم النبات الشجرة الكبيرة والدوحة العظيمة علماء النبات يعرفون عمرها بالدوائر والحلقات التي في عين الجذع، لو قطعت الشجرة وجدت في بطنها دوائر، دائرة خلف دائرة خلف دائرة، ويقولون: كل دائرة لها زمن معين من العمر، وكلما مضى عليها زمن زادت دائرة جديدة، وهكذا يقيسون عمرها بتلك الدوائر، كذلك النخلة يقيسون عمرها بطوابق الجريد التي تظهر فيها.

    والناس يختلفون في قطع الجريد للنخيل، فبعضهم يقول: ما زاد على حملها. وبعضهم يقول: لا تقطع من النخل جريدة إلا إذا يبست، وما دامت خضراء فهي عامل من عوامل الجذب للماء من تخوم الأرض إلى أعلاها؛ لأن الجذع الذي على وجه الأرض خشب ولا تستطيع أن تكسره بالفأس، وفي رأس النخلة تجد الجمار تأكله بأسنانك، وتجد الماء، وتجد العسل في الرطبة، من أين جاء هذا؟ إنما جاء من الماء الذي في الأرض، وما الذي رفعه وضخه إلى أعلى؟ ذلك الجريد، وكذلك أوراق الشجر الخضراء التي تقوم بعملية التمثيل الضوئي (الكلوروفيل) -كما يسمونه- تجذب الماء إلى أعلى مثل (الموتور) الذي يدفع الماء إلى أعلى العمارة، ولهذا أرباب النخيل لا يقطعون الجريد الأخضر.

    إلا أن بعض النخلات -كما يقولون:- يعتريها الجنون أو سن المراهقة، فيخففون من رأسها بأخذ الجريد دور أو دورين لكي تخف قليلاً وتهدأ، ولهم أحوال كثيرة في هذا، ويكتبون عن النخلة الشيء الذي يعجز الإنسان عن تصوره، يقولون: إنها تفرح وتحزن وتخاف وتطرب، وكل ذلك يثبتونه للنخلة، وبعض النخلات إذا طال الزمن وما أثمرت يأتون بالحطب حولها أو القش ويقولون: إذا لم تثمر نحرقها، ويشعلون النار في القش، هم لا يؤذون النخلة بشيء، ويقولون: في السنة القادمة تخاف وتثمر! هذه حالات الله أعلم بشأنها.

    فعلى كل أرباب الخبرة كتبوا في النخيل والزراعة كتباً وأشياء عديدة، وأثبتوا النظريات التي قالوها.

    والله سبحانه وتعالى أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756669378