إسلام ويب

أحوال العابداتللشيخ : خالد الراشد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • هناك الكثير من المواقف البطولية المشرفة لنساءٍ صنعهن الإسلام ورباهن سيد الأنام عليه الصلاة والسلام. فمنهن من جادت بدمها وولدها دفاعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهن من خاضت المعارك بأعمدة الخشب دفاعاً عن عرضها وشرفها ودينها، ومنهن من أذاقت الأعداء الويلات فانغمست في صفوفهم تقتل وتجرح، وتضرب وتطعن.

    1.   

    المكانة العظيمة للمرأة في الإسلام

    إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد:

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

    حياكم الله وبياكم! وسدد على طريق الحق خطاي وخطاكم، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني وإياكم في دار كرامته، وأن يحفظني وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

    لقاؤنا هذا خاص بأمهاتنا وأخواتنا وزوجاتنا، خاص بالمرأة المسلمة التي هي أساس هذا المجتمع، ولا يقوم المجتمع إلا على أكتاف الرجال والنساء، بل لا يستطيع الرجال أن يقوموا بأدوارهم إلا إذا قامت النساء وسدت جميع الثغرات، وما كان للأبطال السابقين أن يحققوا ما حققوا إلا في ظل وجود المرأة المسلمة الصالحة التقية النقية الخفية.

    حديثنا إليك أنت بارك الله فيك، فأنت من أحسن ما قيل فيك: إنك نصف المجتمع، ثم أنت تلدين النصف الآخر.

    فأنت المجتمع كله، أنت أساس هذا المجتمع، وخلف كل رجل عظيم امرأة عظيمة بارك الله فيك.

    اختار الله لـمحمد بن عبد الله صلوات ربي وسلامه عليه حين أراد أن يكلفه بمهام الدعوة، اختار له خديجة ، فكانت نعم الزوجة، ونعم الأم، ونعم المربية، ونعم الداعية الصابرة المحتسبة الباذلة المعطية، كل شيء من أجل هذا الدين، ولا عجب أنها وصلت إلى مرتبة رفيعة، ومرتبة سامية؛ يأتي جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (هذه خديجة أتتك ومعها إناء من طعام، أقرئها من ربها ومني السلام، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب)، أسألك بالله العظيم كيف وصلت خديجة إلى تلك المرتبة، الرفيعة، إلا لأنها جعلت حياتها لله رب العالمين.

    أخية! المعركة بين الحق والباطل معركة قائمة مستمرة، قد يظهر الباطل حيناً، لكن الغلبة والتمكين لا يكونا إلا للحق، بشرط أن يأخذ أهل الحق بالحق بقوة، ويقدموا من أجل الحق كل غال ونفيس.

    قد يظهر الباطل حيناً، لكنه امتحان وابتلاء من الله للصادقين والصادقات، قال الله: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]، وقال سبحانه: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء:18].

    1.   

    المرأة المسلمة جزء من المعركة مع الباطل

    أنت بارك الله فيك جزء من المعركة، بل على عاتقك الجزء الأكبر منها، فأنت مطالبة بدعم الصفوف الخلفية، وبمساندة الخطوط الأمامية، وحتى تستطيعي أن تقومي بذلك الدور لابد أن تكوني عابدة، صلتك بالله قوية مترابطة، إنهم يشغلونك عن الدور العظيم بتوافه الأمور، يشغلونك باللهو والضياع؛ لأنهم يعلمون تمام العلم أنك متى ما تفرغت للمعركة فهي محسومة لك بإذن الله.

    فخلف الرجال العظماء نساء عظيمات، وما كان للرجال أن يؤدوا دورهم لولا الدور العظيم الذي قامت به النساء، فأنت مطلوبة في كل المجالات، ومطلوبة في سد كل الثغرات، في التعليم، والطب، والتربية، وحتى في القتال، فقد لعبت النساء على مر التاريخ دوراً عظيماً في حسم المعارك، فنساء الصحابة رضوان الله عليهن كن يحرضن أزواجهن على الجهاد وهو أعظم تضحية، بل منهن من حملت السيف تقاتل دفاعاً عن عقيدتها ودينها، يقول أنس رضي الله عنه وأرضاه: لما كان يوم أحد رأيت عائشة وأم سليم وإنهما لمشمرتان حتى رئي خدم سوقهما تنقلان القرب على متونهما ثم تفرغانها في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآن القرب، ثم تجيئان فتفرغانها في أفواه القوم.

    وهذه مقالةٌ عظيمة من امرأة عظيمة تقول لرسول الله وقد سألها عن خنجر في يدها: إن دنا مني أحد من المشركين بقرت به بطنه يا رسول الله، وأقتل هؤلاء الذين يفرون عنك كما أقتل هؤلاء الذين يقاتلونك، فإنهم لذلك أهل.

    إنها مقالة أم سليم بنت ملحان زوجة أبي طلحة رضي الله عنه وأرضاه ورضي عنها، كان ذلك يوم حنين حيث أبلت بلاء حسناً، فكانت تسقي العطشى، وتداوي الجرحى، وتحمل قرب الماء، وهي مع ذلك حامل بابنها عبد الله، فقالت تلك المقولة للرسول صلى الله عليه وسلم لتترك للتاريخ عبرة، ولتؤكد أن المرأة المسلمة جزء لا يتجزأ من معركة المسلمين ضد الباطل عبر الزمان والمكان.

    فأنت مربية الأجيال، وصانعة الأبطال، أنت المقاتلة إذا دعت الضرورة والحال، لن أحكي لك عن أخبار الصائمات والقائمات، والمتصدقات والباذلات، ولكن سأسوق إليك أخبار وأحوال العابدات المجاهدات.

    الخبر الأول: خبر أول شهيدة في الإسلام.

    الخبر الثاني: خبر الفارس الملثم.

    الخبر الثالث: مسلمات في الأسر.

    الخبر الرابع: شهيدة في ليلة عرسها.

    الخبر الأخير: المجاهدة المقاتلة.

    ثم الخير في هذه الأمة حتى تقوم الساعة.

    1.   

    أول شهيدة في الإسلام

    فضل الشهادة

    الخبر الأول: أول شهيدة في الإسلام.

    الشهادة درجة رفيعة يختار الله لها من يشاء من رجال ونساء، يكفي أن تعلمي أن الله أعد للشهداء ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وأن للشهداء عند الله مائة درجة، ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض، والشهداء أحياء عند ربهم فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون.

    يجب أن تعلمي -بارك الله فيك- أن طريق الجنة محفوف بالمكاره والابتلاءات، وأن ثمن الجنة غال أيتها الغالية، وأن الطريق إليها صعب وشاق.. فيه تبذل الأرواح والمهج، وتبذل الأموال، ومن أجله تراق الدماء، لما كانت السلعة غالية، كان لابد أن يكون الثمن غالياً، ولابد دون الشهد من إبر النحل.

    سمية بين مجتمع الاضطهاد

    إليك خبر أول شهيدة من العابدات الزاهدات:

    كانت سمية ضعيفة في صباها وشيخوختها، فقد كانت أمة مملوكة في مجتمع جاهلي لا رحمة فيه للعبيد والمماليك، أسلم ابنها عمار ، ودخل في الإسلام الذي يحقق العدل والمساواه للجميع، فقرأ رسول الله على مسامعهم كلام الله فانشرحت الصدور، وأقبلوا على دين الله يتعلمونه ويعلمونه.

    دخلوا في هذا الدين وهم يعلمون أنهم سيدفعون الثمن غالياً، فلقد كانت قريش تعذب وتضطهد كل من أسلم، فمن كان له قبيلة حمته قبليته، ومن لمن يكن له كآل ياسر فلقد تفننت قريش في تعذيبهم من ضرب وجوع وعطش تحت أشعة الشمن الملتهبة، حتى كادت نفوسهم أن تزهق جوعاً وعطشاً وتعذيباً، لكن كأن صوتاً من السماء يناديهم: يا نار كوني برداً وسلاماً على آل ياسر ، كما كنت برداً وسلاماً على إبراهيم.

    ثبات سمية في سبيل الله

    لكِ أن تتخيلي أيتها الغالية تلك المرأة الناحلة الجسد، الكبيرة السن، وهم يصبون عليها أصناف العذاب، والعذاب يشتد يوماً بعد يوم، وجاءت المواساة للأسرة المعذبة في دينها يوم مر عليها نبي الهدى والرحمة ورأى صنوف العذاب وهي تنهال على تلك الأجساد الضعيفة، فواساها بكلمات كالسلسبيل ، تخفض حدة العذاب، وتعطي للإيمان طعماً وللحياة معنى وقيمة: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة)، فصنعت تلك الكلمات في تلك النفوس العجب العجاب من صبر وثبات.

    فالسلعة غالية:

    يا سلعة الرحمن لست رخيصة

    بل أنت غالية على الكسلان

    يا سلعة الرحمن كيف تصبر

    الـ خطاب عنك وهم ذوو إيمان

    يا سلعة الرحمن أين المشتري

    فلقد عرضت بأرخص الأثمان

    طال العذاب وسمية تتحمل مع أسرتها أنواع التنكيل والإرهاق، كل ذلك من أجل الله، ومن أجل دين الله جل في علاه، وكلما زاد العذاب زاد الصبر والثبات، حتى لم يعد الكفار يطيقون رؤيتها، ونفذ صبرهم من صبرها، فأخبروا أبا جهل بما يلاقون من عنادها وشدتها وثباتها، فأقبل في مساء يوم ومعه فتية من بني مخزوم قد أشعلوا النار في دار آل ياسر، ووضعوا آل ياسر في قيود الحديد، وصاروا يتفننون في تعذيبهم، ويلهبون أجسادهم بالسياط، ويطعنون أجسادهم بالخناجر والرماح، ويحرقونهم بالنار، ويلقون عليهم الأحجار الثقال، ما ذنبهم؟ وما هي جريمتهم؟

    وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [البروج:7-9].

    وهاهم يكررون نفس الأفعال في العراق وفي كل مكان، َإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً [التوبة:8]، ملة الكفر لا تختلف سابقاً ولا لاحقاً، والعذاب يزداد وأبو جهل ينتظر من آل ياسر صيحة ردة عن دين الله، فيظفر بلا شيء، بل تقول سمية بكل قوة عندما ترى النبي صلى الله عليه وسلم يمر عليهم: (أشهد إنك لرسول الله، وأشهد أن وعدك الحق) أي: وعد الصبر الجنة، وعد صادق، وعهد سابق، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122].

    أما اشترى الله منهم الأنفس والأموال على أن يكون الثمن الجنة؟! تقول ذلك وهي في شدة العذاب.

    استشهاد سمية في سبيل الله

    يصيح أبو جهل : لتذكرن محمداً بسوء، وتذكرن آلهتنا بخير، أو لتموتن؟

    أليست هي نفس سياسة فرعون السابقة: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه:71] .. لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ [الأعراف:124]، فسياسة الكفر لا تتغير مهما تغير الزمان.

    فترد عليه سمية : بؤساً لك ولآلهتك!

    فيشتد الغضب بـأبي جهل فيضربها في بطنها برجله، ثم يطعنها بحربة كانت في يده؛ لتكون أول شهيدة في الإسلام، فسجلت بذلك سبقاً جهادياً بين أقرانها وبين أخواتها المسلمات.

    قدمت حياتها لتعطي درساً على العزة والثبات، ما وهنت ولا استكانت ونداء ربها في مسامعها: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:139-142].

    لسان حال الصادقين والصادقات:

    فإما حياة تسر الصديق

    وإما ممات يغيظ العدا

    ماتت موتة الأبطال وأهل المبادئ، ماتت وهي تنتظر بشارة النبي صلى الله عليه وسلم حين كان يمر عليهم ويرى العذاب: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة).

    قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].

    1.   

    خبر الفارس الملثم

    الخبر الثاني: خبر الفارس الملثم.

    بينما خالد بن الوليد يصف صفوف المقاتلين لقتال الروم إذا بفارس ملثم ذي ثياب سود، قد حزم وسطه بعمامه خضراء، ثم سحبها على صدره.

    شجاعة خولة بنت الأزور وقتالها للروم

    سبق هذا الفارس الناس كأنه برق، فقال خالد: ليت شعري من هذا الفارس؟ وايم الله إنه لفارس شجاع! ثم تبعه خالد والناس.

    وكان هذا الفارس أسبق إلى صفوف المشركين؛ فحمل على عساكر الروم كأنه النار المحرقة، فزعزع كتائبهم، وحطم مواكبهم، ثم غاب في وسطهم، ثم خرج وسيفه ملطخ بالدماء وقد قتل رجالاً، وجندل أبطالاً، وعرض نفسه للهلاك.

    ثم اخترق مرة ثانية غير مُكترث ولا خائف ولا مبال، فقلق عليه المسلمون، وقال رافع بن عميرة : ليس هذا الفارس الملثم إلا خالد بن الوليد .. فإذا بـخالد بن الوليد على يمينه قد أشرف عليه، فقال رافع : من هذا الفارس الذي تقدم أمامك، فلقد بذل نفسه ومهجته؟! فقال خالد: والله إني أشد إنكاراً له منكم، ولقد أعجبني ما ظهر منه من شجاعة، فقال رافع : أيها الأمير! إنه منغمس في عسكر الروم يطعن يميناً وشمالاً.

    فقال خالد: معاشر المسلمين! احملوا بأجمعكم وساعدوا المحامي عن الدين، فأطلقوا الأعنة، وقوموا الأسنة، والتصق بعضهم ببعض، وخالد أمامهم، ونظر إلى الفارس فوجده كأنه شعلة من نار، كلما لحقت به الروم، لوى عليهم، وكر وفر، وصال وجال.

    فتعجب المسلمون من هذا الفارس الملثم! ووصل الفارس المذكور إلى جيش المسملين، فتأملوه فرأوه قد تخضب بالدماء، فصاح خالد والمسلمون: لله درك من فارس، اكشف لنا عن لثامك لنعرف من أنت. فمال عنهم ولم يخاطبهم، وانغمس في الروم فتصايحت به الروم من كل جانب، وكذلك المسلمون، وقالوا: يا أيها الرجل الكريم، يا أيها الفارس الملثم، أميرك يخاطبك وأنت تعرض عنه؛ اكشف عن اسمك وحسبك لتزداد تعظيماً -يريدون ما عند الله، بينهم وبين الله أسرار لا يعلمها إلا الله- فلم يرد عليهم جواباً، فلما ابتعد عن خالد سار إليه خالد بنفسه، وقال له: ويحك شغلت قلوب الناس، وشغلت قلبي بفعلك، فمن أنت؟!

    فلما ألح عليه خالد خاطبه الفارس من تحت لثامه بلسان التأنيث، وقال: إنني يا أمير المؤمنين لم أعرض عنك إلا حياء منك؛ لأنك أمير جليل، وأنا من ذوات الخدور وبنات الستور!

    فقال لها خالد: من أنت بارك الله فيك؟ قالت: أنا خولة بنت الأزور .

    إنها تلميذة من مدرسة النبوة، إنها فارسة مقاتلة عنيدة تخرجت من مدرسة لا إله إلا الله، ما كانت لتكون كذلك إلا لأنها عابدة صوامة قوامة، ما كانت لتفعل تلك الأفعال وتسجل تلك اللحظات إلا لأنها عابدة صوامة قوامة، أما اليوم فما أكثر النساء المسلمات المأسورات في السجون:

    أتسبى المسلمات بكل ثغر

    وعيش المسلمين إذاً يطيب

    أما لله والإسلام حق

    يدافع عنه شبان وشيب

    فقل لذوي البصائر حيث كانوا

    أجيبوا الله ويحكم أجيبوا

    كم اشتكت نساء فلسطين، ونساء الشيشان، ونساء العراق خاصةً في الفلوجة؟!

    لقد أسمعت لو ناديت حياً

    ولكن لا حياة لمن تنادي

    أسر خولة وتخلصها منه

    في معركة من معارك الشام وقعت مجموعة من المسلمات في الأسر، من بينهن فارسنا الملثم خولة بنت الأزور ، فقامت تخطب في النساء فقالت: يا بنات حمير! وبقية تبع! أترضين لأنفسكن علوج الروم، ويكون أولادكن عبيداً لأهل الروم؟ أين شجاعتكن وبراعتكن التي تتحدث بها عنكن أحياء العرب، وإني أراكن بمعزل عن ذلك، وإني أرى القتل عليكن أهون من هذه الأغلال.

    فأجابتها إحدى تلميذات المدرسة النبوية عفراء بنت عصام الحميرية : صدقت والله يا بنت الأزور! ونحن والله في الشجاعة كما ذكرت، وفي البراعة كما وصفتِ، وصاحت: غير أن السيف يحسن فعله في مثل هذا الوقت، وإنما داهمنا العدو على حين غفلة، وما نحن إلا كالغنم بدون سلاح.

    فقالت خولة : يا بنات التبابعة! أترضين أن تحملن في بطونكن أبناء هؤلاء العلوج؟

    كم تشتكي نساء العراق! وهن يقللن بطوناً ملأى بأبناء أحفاد الصليب، ولا حياة لمن تنادي.

    فقالت عفراء بنت عصام : والله ما دعوت إلا إلى ما هو أحب إلينا مما ذكرت، ثم تناولت كل واحدة عموداً من أعمدة الخيام، وصحن صيحة واحدة، وألقت خولة على عاتقها عموداً، وسعت من وراءها عفراء ومسلمة بنت زارع وروعة بنت عملون وسلمة بنت النعمان وغيرهن، فقالت لهن خولة : لا ينفك بعضكن عن بعض، وكن كالحلقة الدائرة، لا تفترقن فيقع بكن التشتيت، حطمن رماح القوم، واكسرن سيوفهم، وهجمت خولة ، وهجمت معها النساء، وقاتلن قتالاً شديداً، حتى أدركهن مجموعة من المسلمين، جاءت في الوقت المناسب لتخليصهن، فكان الفرج من الله.

    أثر التربية الإيمانية على خولة ومثيلاتها

    قد تسألي رعاك الله: علام تربت تلكم النساء؟ على الموضة وآخر الصيحات! وعلى أكاديم استار! أم على ماذا؟

    رباه عم الفسق في الأوطان فلقد تركنا سنة العدناني

    أضحت فتاة اليوم أكثر معرض للحم حتى قل سعر الضان

    حيناً ببنطال الرجال وتارة بلباسها المخزي كالسعدان

    ما قلدت أما لها أو جدة بل قلدت أوروبة الشيطان

    قد تسألي أيتها المؤمنة: هل كن يقضين الأوقات أمام الشاشات والقنوات أم على ماذا؟

    أما آن وأنت تنتمين إلى نفس المدرسة -مدرسة لا إله إلا الله- أن تنفضي الغبار وتشمري عن ساعديك، فأنت مطالبة بالقيام بالدور الذي لابد منه، لابد أن تصنعي لنا الأبطال، وتربي لنا الأجيال، وتقاتلي إذا دعت الضرورة والحال، لن تستطيعي أن تكوني كذلك حتى تكوني عابدة صوامة قوامة.

    1.   

    شهيدة بعد ليلة عرسها

    ثبات أم حكيم بعد مقتل زوجها وأبيها

    الخبر الرابع: شهيدة بعد ليلة عرسها:

    نعم. شهيدة في اليوم الثاني من عرسها، أدخلت على زوجها ثم استشهد في اليوم الثاني، فمن هما وما خبرهما؟

    إنها أم حكيم بنت الحارث ، زوجة عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنهم.

    خرجت معه إلى اليرموك، وكانت خلف الجيش ترد المتراجعين والفارين من أرض القتال، وقفت هي وغيرها من النساء يشجعن الرجال، ويسقين الجرحى، ويداوين المرضى، وأمسكت بعضهن بأعمدة الخيام يرجعن من فر من أرض المعركة، أو يوبخنه قائلات: إلى أين يا لكع، أتتركوننا للعلوج والكفار؟

    فكان لكلماتهن أكبر الأثر في رفع همم الرجال.

    لما علمت أم حكيم بمقتل زوجها عكرمة وأبيها الحارث بن هشام ، تأثرت بذلك كثيراً، ولكنها هدأت وقرت عينها حين تذكرت أنهما شهيدان بإذن الله، وأنهما قتلا في سبيل الله، وأن الجنة في انتظارهما.

    زواج أم حكيم بخالد بن سعيد بن العاص

    ولما أكملت عدتها تقدم لخطبتها اثنان من كبار قواد المسلمين يزيد بن أبي سفيان ، وخالد بن سعيد بن العاص رضي الله عنهم أجمعين، ولقد كانت عادة العرب أنهم يرون في حسن الوفاء لصاحبهم المتوفى أن يتزوجوا بزوجته.

    وافقت أم حكيم على الزواج من خالد بن سعيد وقدم مهرها، لكن الحرب كانت مستمرة بين المسلمين والروم، والمفروض أن يؤجل الزواج حتى تنتهي الحرب، لكن خالد بن سعيد الصحابي الجليل رأى الزواج في الحال دون انتظار فرفضت أم حكيم ، فالوقت غير مناسب، ولأنها رأت أعداداً من الروم قد اتجهت نحو المكان، فقالت: لو أخرت الدخول حتى يصد الله هذه الجموع!

    لكن خالداً أصر على موقفه وقال: إن نفسي تحدثني أنني سأصاب في جموعهم وسأقتل، فوافقت أم حكيم مرغمة، وقالت له: الرأي ما ترى.

    أقيمت الأعراس، ونصبت الخيام للولائم في مرج الصفر عند قنطرة على النهر، سميت بقنطرة أم حكيم ثم بدأت المبارزة فخرج العريس، وقاتل قتال المستميت، فقتل منهم عدداً لا يستهان به، لكنهم تكاثروا عليه وقتلوه كما قتلوا ابنه من قبل، ترك عروسه التي في الدنيا، واستقبلته الحور العين.

    ثأر أم حكيم لزوجها واستشهادها

    كانت العروس أم حكيم في خيمتها تسمع وترى ما يجري في المعركة وتراقب الأحداث، فلما علمت بمقتل زوجها اندفعت هي الأخرى تقاتل وآثار زينتها لا تزال عليها، فشدت عليها ثيابها، واقتلعت عموداً من خيمة عرسها، وانتظرت قدوم الروم من نحوها وسلاحها في يديها، مر الرومي الأول فضربته بالعمود فأردته قتيلاً، ثم مر الثاني فأردته قتيلاً، ثم الثالث ثم الرابع ثم الخامس، حتى قتلت سبعة؛ وما أن ابتعد الروم قليلاً حتى خرجت تقاتل مع الرجال، فأصيبت بسهم كان سبب مصرعها، فخرت شهيدة رضي الله عنها بزينة عرسها مضرجةً بدمها إلى جنة ربها.

    وانهزم الروم وقتل منهم خلق كثير، وأسفرت المعركة عن استشهاد العروسين في صبيحة عرسهما.

    رأت رضي الله عنها أن الوقت ليس وقت زواج، فطلبت التأجيل، وقالت: هذا أوان قتال وكفاح، لكن مقتل الزوج لم يجعلها تضعف أو تجبن حزناً، بل استبسلت وقاتلت مؤكدة أنها تنتمي إلى مدرسة لا إله إلا الله.

    فلو أن النساء كمن ذكرنا

    لفضلت النساء على الرجال

    فما التأنيث لاسم الشمس عيب

    ولا التذكير فخر للهلال

    وما كان لها أن تكون كذلك إلا لأنها عابدة صوامة قوامة.

    أولئك آبائي فجئني بمثلهم

    إذا جمعتنا يا جرير المجامع

    1.   

    زوجة المجاهد وأم المجاهدين

    فضل أم عمارة رضي الله عنها

    الخبر الأخير: اسمعي أيتها الغالية! قصة المجاهدة المقاتلة، زوجة المجاهد وأم المجاهدين، مدرسة في التربية، مدرسة في البذل والعطاء والتضحية، إنها التي نذرت نفسها لله ولرسوله، إنها التي سطرت أعظم الصور، إنها نسيبة بن كعب المازنية أم عمارة رضي الله عنها وأرضاها، هي من بني النجار، فلها صلة قرابة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهم أخوال النبي صلى الله عليه وسلم.

    هي زوجة زيد بن عاصم ، وأم عبد الله بن زيد ، وحبيب بن زيد.

    كانت هي وأسرتها ممن بايعوا بيعة العقبة، وشهدت تلك البيعة رضي الله عنها وأرضاها، بايعوا في يوم البيعة بيعة الحرب.. بيعة العقبة الثانية، عاهدوا يومها على بذل الغالي والنفيس على أن يكون الثمن الجنة، صدقوا الله فصدقهم الله لقد سطرت رضي الله عنها تاريخاً ناصعاً تفخر به المرأة المسلمة، فما أحوج المرأة اليوم للقدوة، وإذا لم تكن نساء السلف قدوة لك فمن يكون؟

    قتال أم عمارة في غزوة أحد، وثناء النبي صلى الله عليه وسلم عليها

    عادت بعد بيعة العقبة الثانية وهي تبث روح الفداء والتضحية والثبات في أبنائها، فلما كان يوم بدر خرج ابنها عبد الله بن زيد ، يقاتل تحت راية التوحيد، ولم يخرج ابنها الثاني حبيب ؛ لأنه يومها لم يبلغ الحلم.

    توفي زوجها زيد ، فتزوجها غزية بن عمرو ، فلما كان يوم أحد خرجت هي وزوجها وابنها عبد الله ، وعبد الله بن جحش ، وكبار الصحابة، ولما اشتدت المعركة، وانقلبت الموازين.

    لما خالف الرماة الأوامر وتركوا أماكنهم، والتف المشركون حول النبي صلى الله عليه وسلم: هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [الأحزاب:11]، وصار نبيهم في خطر! تآمر الأعداء على كلمة واحدة في ذلك اليوم: قتل النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن أنى لهم ذلك والرجال والنساء يحوطونه بأجسادهم وقلوبهم!

    فالتفت كوكبة من المؤمنين حول نبيهم تفديه بالأرواح، وهم قلة قليلة من بينهم أم عمارة وزوجها غزية وابنها عبد الله ، الأسرة كاملة تترست أمام النبي صلى الله عليه وسلم، لما رأت رضي الله عنها تغير الظروف رمت السقاء واستلت السيف فقاتلت به دون حبيبها صلى الله عليه وسلم، حتى قال صلى الله عليه وسلم عنها: (ألتفت يميناً فإذا بـأم عمارة تذود عني، ألتفت يساراً فإذا بـأم عمارة تذود عني).

    رآها النبي صلى الله عليه وسلم بلا ترس، ولملح رجلاً متراجعاً معه ترسه، فقال له: (ألق ترسك إلى من يقاتل) فألقى ترسه، فأخذته أم عمارة تترس به النبي صلى الله عليه وسلم، ما ترست نفسها، ولكنها دافعت عن حبيبها، فهجم عليها أحد الكفار بسيفه، فتترست له، وهجمت عليه، وضربت عرقوب فرسه، فوقع على ظهره، فنادى النبي صلى الله عليه وسلم ابنها عبد الله : (يا ابن أم عمارة ! أمك.. أمك) فتعاونا حتى قتلا الكافر، وجرح ابنها في يده اليسرى ونزف منه الدم فقالت له أمه: انهض بارك الله فيك.

    انهض نضارب القوم، وندافع عن هذا الدين، ونحمي حبيبنا صلى الله عليه وسلم، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة ؟).

    توقفي أيتها الغالية! واسألي نفسك هذا السؤال: كيف استطاعت أم عمارة أن تتحمل كل هذا؟ أليس هو الإيمان الذي حرك أولئك الرجال والنساء؟ أليس هو القرآن الذي صنع ذلك الجيل الفريد؟! نعم إنه الإيمان بالله، وبوعده وووعيده الذي حمله لنا القرآن: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111].

    أم عمارة تثأر لولدها

    لم تنته المعركة بعد، فلا زال التاريخ يسطر تلك الأمجاد وتلك البطولات التي سطرتها أم عمارة.

    وبينما والمعركة تدور، إذا بالرجل الذي ضرب ابن أم عمارة قد أقبل، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا ضارب ابنك يا أم عمارة)، فاعترضته وضربت ساقه فبرك وسقط على وجهه، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم حتى بانت نواجذه، وقال: انتقمت يا أم عمارة).

    ثم أقبلت على الكافر حتى قتلته، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله الذي أظفرك، وأقر عينيك من عدوك، وأراك ثأرك بعينك).

    ذود أم عمارة عن الرسول يوم أحد

    زادت حدة المعركة واجتمع الكفار على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فهجموا عليه هجمة واحدة، وأقبل أحدهم يقال له ابن قميئة يقول: دلوني على محمد، لا نجوت إن نجا. فاعترضته المجاهدة المقاتلة، اعترضته أم عمارة ، ومعها مصعب بن عمير ، فاستشهد مصعب ، ووقفت أم عمارة في وجه الكافر، فضربها ضربة أصابتها في عنقها إصابة بالغة، فما وهنت وما ضعفت وما استكانت، بل ردت الضربة ضربات، ولكن عدو الله كان معه درعان.

    يقول صخرة بن سعد المازني حفيد أم عمارة ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يرى نسيبة أم عمارة يومئذ تقاتل أشد القتال حتى جرحت ثلاثة عشر جرحاً، ثم يقول: وإني لأنظر إلى ابن قميئة وهو يضربها على عنقها وقد أعظم جراحها، فنظر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى جرحها، فنادى ابنها عبد الله : أمك، أمك؛ اعصب جرحها بارك الله عليكم من أهل بيت)، ما أعظمها من دعوة وشهادة وتزكية لذلك البيت!

    (فلما سمعت أم عمارة صوت النبي صلى الله عليه وسلم والدم ينفجر منها صاحت: ادع الله أن نرافقك في الجنة، فأتاها الجواب منه صلى الله عليه وسلم: اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة، اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة، فهتفت رضي الله عنها: والله ما أبالي ما أصابني من الدنيا بعد اليوم).

    هل سمعت الأمنية؟! هل سمعت المطلب؟! هل سمعت السؤال؟! إنها مرافقة الحبيب في الجنة، وما أدراك ما الجنة؟! ريحانة تهتز، ونور يتلألأ، ونهر مطرد، وقصر مشيد، وثمرة نضيجة، فأين المشمرات؟! أين الصادقات؟! أين العابدات؟! (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها).

    اعمل لدار غدٍ رضوان خازنها

    الجار أحمد والرحمن بانيها

    دلالها المصطفى والرحمن بايعها

    وجبرائيل ينادي في نواحيها

    قصورها ذهب والمسك طينتها

    والزعفران حشيش نابت فيها

    أنهارها لبن تجري ومن عسل

    والخمر يجري رحيقاً في مجاريها

    من يشتري الدار بالفردوس يعمرها

    بركعة في ظلام الليل يحييها

    أموالنا لذوي الميراث نجمعها

    ودورنا لخراب الدهر نبنيها

    ولا زال للتاريخ حديث يخبرنا به عن أم عمارة وماذا صنعت، وماذا سطرت.

    فلما عاد القوم إلى المدينة وقد استشهد الصفوة الأخيار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، رجعت أم عمارة صابرة على جراحها، وفي اليوم التالي نادي منادي النبي صلى الله عليه وسلم للخروج مرة ثانية لمن شهد المعركة فقط، وأرادت أم عمارة أن تخرج، وهي التي أصيبت إصابات بالغة، شدت عليها ثيابها فما استطاعت من شدة الجراح والآلام وكثرة النزف، فمكثت وهي كارهة، وحولها نساء المسلمين يضمدن جراحها، حتى عاد النبي صلى الله عليه وسلم بعد أيام.

    فلما وصل أرسل إليها عبد الله بن كعب المازني يسأل عنها، فأخبروه أنها بخير وسلامة، ففرح النبي صلى الله عليه وسلم بسلامتها، وكيف لا يفرح وهي التي فدته بروحها.

    لقد كانت رضي الله عنها مجاهدة ومربية للمجاهدين، فلقد شهد أبناؤها المشاهد كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت تشعل في نفوسهم الحماس وروح الجهاد، فلم يتخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في معركة من معاركه.

    ونحن نريدك أن تشعلي الحماس في النفوس، وتبثي حب الجهاد والتضحية لهذا الدين الذي هو شرف لكِ وعز في الدنيا والآخرة وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف:44].

    أم عمارة في حروب الردة

    لما مات النبي صلى الله عليه وسلم واصلت المسيرة مع خليفة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ارتد المرتدون وادعى مسيلمة الكذاب النبوة، أرسل أبوبكر كتاباً إلى مسيلمة حمله حبيب بن زيد ابن أم عمارة ، ولكن مسيلمة لم يرع حرمة الرسل، فقبض عليه وأوثقه، وجعل يقول له: اتشهد أني رسول الله! وهو يقول: لا أسمع، وجعل يقطعه عضواً عضواً حتى مات، وما تراجع وما ارتد عن دينه.

    اسمعي بارك الله فيك: قطعوه وعذبوه وما انتكس، فما بال الرجال والنساء اليوم ينتكسون، ولم يصبهم ما أصاب القوم؟

    فلما علمت المجاهدة باستشهاد ابنها -الذي تعلم في مدرسة لا إله الله أن الجهاد غاية المسلمين ومبتغاهم، وأن الشهادة أعظم غاية- صبرت أم عمارة واحتسبت؛ لأنها رضيت لها ولأهلها ولأبنائها حياة المجاهدين، ونذرت لله أن تشهد مقتل مسيلمة الكذاب ، وتشارك في مقتله.

    وتم لها ما أرادت؛ فقد خرج جيش المسلمين قاصداً مسيلمة ، وخرج مع الجيش ابنها عبد الله وخرجت معه، وكان عمرها يومئذ قد جاوز الستين عاماً، وتركها المسلمون تخرج رغم كبر سنها لتفي بنذرها.

    الله أكبر! لم يمنعها سنها من الخروج والمشاركة.

    وكما قيل:

    إذا كانت النفوس كباراً

    تعبت في مرادها الأجسام

    وحين ارتفع لواء الحق وأقبل المهاجرون والأنصار، استلت سيفها وهجمت على المنافقين والمرتدين مع مجموعة كان ابنها عبد الله معهم، ودارت المعركة بين الحق والباطل، وأخذت تقاتل لله درها حتى أصابها اثنا عشر جرحاً ولم تبال، قطع ذراعها ولم تبال حتى وصلت هي ومن معها إلى مسيلمة الكذاب ، وانقضوا عليه وهي في المقدمة رضي الله عنها وأرضاها ومعها ابنها عبد الله لتقتله بسيفها ثأراً لدينها ولابنها، وعادت المجاهدة مع الجيش المنتصر بذراع واحد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756194138