إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. سفر الحوالي
  5. قواعد وضوابط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

قواعد وضوابط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكرللشيخ : سفر الحوالي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أجل خصائص الأمة الحية، ومن أهم مقومات بقائها، وفي هذه المادة يتناول الشيخ بعض القواعد اللازمة للقيام بهذا الواجب على الوجه الصحيح، مشيراً إلى الخطأ الحاصل في فهم بعض هذه القواعد وتطبيقها، وسعى خلال ذلك إلى تصحيح المفاهيم المتعلقة بهذه القواعد.

    1.   

    أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

    الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد الأمين، الذي أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وجاهد في الله حق جهاده حتى لحق بالرفيق الأعلى، وعلى أصحابه الكرام الذين اهتدوا بهديه، وتمسكوا بسنته، وجاهدوا في الله كما جاهد حتى وصل إلينا هذا الدين، فنحمد الله تبارك وتعالى على نعمة الإيمان، ونسأله عز وجل أن يجعلنا من التابعين لأولئك السلف الكرام، إنه سميع مجيب، وبعد:

    فإن موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لهو من أولى وأوجب ما ينبغي أن يتحدث عنه الدعاة والوعاظ والخطباء، فهو واجب من الواجبات التي شرعها الله تبارك وتعالى، بل هو واجب يترتب على تحقيقه واجبات كثيرة، بل كل الواجبات إذا تأملنا نجد أنها لا تتحقق، وكل المنهيات لا يُنتهى عنها إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا أمر الله تبارك وتعالى هذه الأمة المباركة فقال: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104] ثم عقب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعد هذه الآية فوصف حال هذه الأمة، وأفضليتها وخيريتها فقال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110] ولو تأملنا هذه الآية لوجدنا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قدم على الإيمان بالله.

    وكل المسلمين يعلمون أنه لا شيء يتقدم على الإيمان بالله، فلماذا قُدِّم في هذه الآية؟

    ذلك لأن الآية تتحدث عن الخيرية والأفضلية، وعن الميزة والخاصية التي تتميز بها هذه الأمة عن غيرها من الأمم، فقدم فيها الخاص، ثم ذكر بعد ذلك الأمر الأساس الذي لا يقبل بدونه أي عمل، ولهذا عقب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بوصف حال أهل الكتاب الذين كان من طبعهم أنهم تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ [المائدة:78-79] فعقب على هؤلاء القوم بعد ذلك فقال: لَيْسُوا سَوَاءً [آل عمران:113].

    فبين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنهم ليسوا كلهم بهذه المثابة، وإنما فيهم من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله أناء الليل وهم يسجدون، ويؤمنون بالله واليوم الآخر، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فأولئك وصفوا بالإيمان ثم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه هي الحالة الطبيعية، وهذا هو الوصف العادي الذي توصف به الأمم جميعاً، لكن هذه الأمة لأنها أُخرجت للناس لتخرجهم من الظلمات إلى النور، ولأن رسالة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسالة للعالمين فهي أولاً تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فهذا ما يميزها، وهذا ما تختص به دون غيرها من الأمم التي قَصَّرت في ذلك أو كانت دونها.

    علاقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحقيقة الدين

    والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما تعرف أهميته من معرفة حقيقة هذا الدين، ومعرفة حقيقة دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى أي شيء دعا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    فإذا عرفنا أن هذا الدين يقوم على أساس لا إله إلا الله، وأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وكل نبي قبله- إنما جاء ليدعو الناس إلى هذه الكلمة، وإنما جاهد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أجل تحقيق التوحيد الذي هو لا إله إلا الله: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].

    فلا إله: هذا النفي نبذ للشرك ولكل ما يتبعه من المعاصي والمنكرات.

    وإلا الله: هذا الإثبات تحقيق للتوحيد.

    والتوحيد هو المعروف الأكبر، والشرك هو المنكر الأكبر، ثم بعد ذلك تكون البدعة هي المنكر الذي يلي الشرك ثم المعاصي المعروفة.

    فإذا علمنا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاش حياته كلها ومعه صحبه الكرام يدعون إلى توحيد الله، ويأمرون بالسنة، وينهون عن البدعة، ويأمرون بالطاعة وينهون عن المعصية، عرفنا أن حياتهم كلها إنما كانت أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وهكذا من سار بعدهم واقتفى منهجهم.

    من آثار ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

    ولما وقعت غربة الإسلام، واندرست معالمه، وأصبح المسلم يعيش كالقابض على الجمر، وتفشت المنكرات نتيجة تقصير الأمة وإخلالها بهذا الشأن، وكأن ما حل ببني إسرائيل قد وقع بها -ونعوذ بالله أن تنزل بها اللعنة كما نزلت بأولئك- فلقد نسينا أن الله تبارك وتعالى قد خصنا وميزنا بذلك، ونسينا أن الجهاد الذي هو أعلى درجات التضحية والفداء إنما هو من أجل أن يعبد الله وحده، ومن أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا لما قال عز وجل: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39] وصفهم بعد ذلك بآية، فقال: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:41].

    فالإنسان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في حال الضعف وفي حال بداية الدعوة، وهو -أيضاً- يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر في حال التمكين وفي حال القوة، وحسبنا أن نعلم أنك -أيها المسلم-!

    دائماً في حالة أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وأقل ما يجب -الواجب العيني- هو أن تأمر نفسك بالمعروف وأن تنهاها عن المنكر، فهذا فرض عين على كل مسلم.

    ثم بعد ذلك كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه} ثم الدرجة الثالثة التي أصبحت هي ذاتها مفقودة إلا عند من رحم الله وهي الإنكار بالقلب.

    ففرض عين على كل مسلم أن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر في نفسه وفيما تملك يده، في بيته وإدراته، ومدرسته، وفي كل ما له عليه سلطة وولاية ومقدرة على التغيير باليد، وفرض على الأمة جميعاً أن يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

    أقول: لما غابت هذه الحقائق عن الأمة أصبح المؤمن يعيش في حال الغربة، وأصبحت السنة بدعة، والبدعة سنة، وأصبحت بعض المعاصي علامة على أن الإنسان حسن الأخلاق، أو مهذب الطباع، أو اجتماعي، أو غير متشدد أو متزمت، وأصبحت الدعوة إلى ترك بعض المنكرات الظاهرة علامة على أن هذا الإنسان فيه وفيه... من الصفات التي لا تليق، وليست بصفات مدح على أي حال.

    فكيف وصلنا إلى هذه الحال؟ وما هو العلاج؟

    أهمية توضيح قواعد وضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

    ونحن في هذا الدرس لا نريد أن نتحدث عن أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ذاته، وعن وجوب ذلك، وعن فرضيته، ولكن الحديث إنما هو عن شيء من القواعد أو الضوابط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

    وقد تقولون: وهل يحسن أن نتحدث عن القواعد والضوابط مع قلة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر؟ وهل وصل الأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى حد الانتشار والعموم الذي يحتاج إلى أن يوضع له قواعد وضوابط؟

    فأقول: الحق أن الأمة ما تزال في غيبوبة عن هذا الأمر إلا من رحم الله تبارك وتعالى، ولكن ذلك لا يعني أن نغفل عن هذه القواعد والضوابط الشرعية، التي يتحقق بها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولعل من أسباب ذلك وجود توبة وعودة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من قبل الشباب ومن قبل الشيوخ -الذكور والإناث- فأصبحت الأمة الإسلامية على أبواب فجر جديد بإذن الله تبارك وتعالى، وأصبحنا نرى أن ما تعيشه الأمة من واقع مظلم، إنما هو ظلمة ما قبل بزوغ الفجر، وإنما هو مخاض تعقبه ولادة جيل لا تأخذه في الله لومة لائم.

    هذا الذي نؤمله ونرجوه، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يحققه.

    ومن أجل هذا الجيل الذي نترقب أن يوجد، ومن أجل هذه القلة التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، نريد أن يكون الطريق أمامها واضح المعالم، حتى يكتب لها الأجر كاملاً بإذن الله، وحتى لا تخطأ أو تضل في هذا الأمر، فيكون منكراً آخراً وانحرافاً جديداً يحتاج إلى تصحيح، وإلى أمر بمعروف ونهي عن منكر.

    والحق أقول لكم: إن هذه القواعد والضوابط تحتاج إلى أكثر من رأي وأكثر من اجتهاد، لأنها مسائل تتبع في الغالب المصالح التي يتحقق بها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمصالح متجددة بحسب العقول، الأزمان، والأحوال، ولهذا ينبغي لنا جميعاً أن نجتهد وأن نفكر، من كان مستطيعاً لذلك ليصل بإذن الله إلى ما يحقق المصالح، وإلى ما يدفع المفاسد في هذا الجانب، ولكن لا يمنع ذلك أن نبدأ بخطوة أو خطوات.

    ولعل الله تبارك وتعالى -وهو على كل شيء قدير- أن يبارك في كل الإخوان العاملين في هذا الشأن بأن يتموا ذلك، وأن يستدركوا عليه، فهذا واجبنا جميعاً.

    1.   

    الدعوة جزء من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

    وأول ما نضعه من هذه الضوابط والقواعد: أن نعلم أن الآمر بالمعروف وأن الناهي عن المنكر إنما هو داعية إلى الله تبارك وتعالى، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو جزء من الدعوة، وإن شئت فقل هو الدعوة كلها ولا غضاضة.

    فليس المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: التشفي أو الثأر أو الانتقام من هذا الواقع المر، أو من هؤلاء العصاة وإن جاروا وإن بغوا على أهل الحق والخير، وإنما هو جزء من الدعوة إلى الله، فالصبر فيه صبر على الدعوة إلى الله.

    وطلب العلم من أجل ذلك واجب.

    والحكمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبة؛ لأن الدعوة إلى الله لا بد أن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن كما بين الله ذلك.

    أي أننا نستطيع أن نقول: إن كل ما ينضبط به منهج الدعوة إلى الله ويقوم عليه، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيضاً يتقيد بتلك الضوابط، وينضبط بتلك القواعد.

    فقه الأولويات

    والأمر الثاني: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له أولويات؛ فلا بد أن نقدم المنكر الأكبر في الإنكار، ثم المنكر الأصغر منه.

    وحياة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلها شاهدة على ذلك، حيث بُعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والناس يزنون، ويئدون البنات، ويشربون الخمر، ويقطعون الأرحام، ويأكلون الميتة، ويشركون بالله تبارك وتعالى ويعبدون غير الله.

    فبماذا بدأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعوته وإنكاره على المشركين؟

    لقد بدأ بالنهي عن الشرك أولاً.

    فإذاً نبدأ بإنكار الشرك، لأن الشرك هو المنكر الأكبر، وهو الذنب الأعظم: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] ونحن دعاة وهداة نريد أن ندعو الناس إلى طريق الجنة.

    فلنبدأ إذن بإنكار الذنب الذي لن يصلوا أبداً إلى طريق الجنة وهم مرتكبون له، ونوضح لهم ذلك، وإذا كان ذلك يستلزم منا العلم فلنتعلم.

    فيجب أن نتعلم ما هو التوحيد وما هو الشرك، وما هي أنواعه، وما هو الشرك الأكبر وما هو الأصغر، وما هي أحكامه، وما هي ذرائعه، ووسائله التي تُوصل إليه.

    وذلك لأن الذرائع والوسائل لها حكم المقاصد، فننكر المنكر الأكبر، وننكر ما يؤدي إلى المنكر الأكبر، وهذه هي الدرجة الأولى، فإذا كان الداعية في أمة فليبدأ بذلك، وإذا كان مع فرد فليبدأ بذلك.

    فمثلاً: رجل يدعو غير الله عز وجل، ورجل يتحاكم إلى الطواغيت، ورجل يذبح لغير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ أول ما نهتم به بأن ندعوه إليه هو أن يتخلى عن هذا الشرك، وأن يسلم قلبه وروحه لله وحده لا شريك له، قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].

    فيجب أن نهتم بأن ندعوه أولاً إلى تحقيق التوحيد.

    أرأيتم لو أن أمة من الأمم تعبد الأضرحة والقبور، وتدعو غير الله، وتستغيث بغير الله، وتذبح لغير الله، وتتحاكم إلى غير شرع الله تبارك وتعالى، ومع ذلك نجد أنها تملأ المساجد للصلاة، ونجد أن وعاظها ينكرون الزنا، وشرب الخمر، ويجتهدون في ذلك، هل ترون هذه الأمة يمكن أن تصل إلى أن تكون من الأمة التي فضلها الله على العالمين؟ أو أن تلك الدعوات ستنجح في أن تصبح هذه الأمة كذلك؟

    لا مهما دُعي ومهما تُكلم عن تلك الفروع فلا يمكن أبداً بأي حال من الأحوال أن تكون من الأمة التي لها الخيرية على العالمين.

    فكل دعوة إصلاحية أخلاقية لم تقم على الأمر بالمعروف الأكبر وهو التوحيد، وعلى النهي عن المنكر الأكبر وهو الشرك، فإنها دعوة مخفقة لا تنجح بأي حال من الأحوال.

    وكذلك الفرد: فلو دعوت إنساناً من هذا النوع فحافظ على الصلاة، وترك الخمر والزنا، ولكنه يدعو غير الله، ويحلف بغير الله، ويعدل بالله تبارك وتعالى غيره، ويعترض على قضاء الله، وما أشبه ذلك مما يخل بالإيمان والعقيدة، فنجده يصلي لله، ولكنه لا يدري أين الله -كما يقول بعض الناس إنه في كل مكان- وهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أخبرنا أنه على العرش: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] فهو فوق المخلوقات على العرش، فإذا صلى هذا الرجل وتهجد وتعبد ولكنه يتعبد لإله يظنه في كل مكان، فإن هذا الإنسان لم يحقق حقيقة الإيمان.

    إذاً نقول: إن البدء بالعقيدة، والتوحيد هو الأساس حتى نعبد الله تبارك وتعالى على بصيرة وبرهان، ومن هنا كانت هذه هي البداية التي لا تُتجاوز، وبعد ذلك ينطلق الإنسان.

    فالإنسان العاق لوالديه -عافانا الله وإياكم من ذلك- وهو أيضاً قاطع لرحمه من الأقربين، نبدأ معه في الدعوة والإصلاح والإنكار بالحق الأعظم، لأنه ليس لأحد بعد الله تبارك وتعالى حق أعظم من حق الوالدين، وحقهم قبل بقية الأرحام، والجار، وسائر الحقوق.

    فإذا أردت أن تأمر بالمعروف أو تنهى عن المنكر، فرتب هذه الحقوق، ورتب أنواع المعروف، وكذلك رتب أنواع الشرك، وأبدأ بالأهم ثم الأهم.

    ولا يمنع ذلك أن تبدأ دعوتك بالمحبة وبالحكمة وبالحسنى، ونحن نقول: إنها جزء من الدعوة إلى الله، لكن يكون الاهتمام هو أن أغير المنكر الأكبر عنده، وأن أزيل عنه هذا المنكر، حتى إذا بقيت عنده كبائر فهي أهون من المنكر الأكبر، وهي كبائر أسعى إلى تغييرها، ولكن بعد أن أكون قد اطمأننت إلى أن المنكر الأكبر قد قضي عليه، وأنه لا وجود له.

    أهمية الدعوة إلى التوحيد في المجتمعات التي يقل فيها الشرك

    والمجتمعات التي يقل أو يختفي فيها الشرك بوضوحه -الشرك الأكبر المخرج من الملة- يجب ألا تغفل هذه القضية، وأنا أنبه إلى هذا لأننا مغزوون، ولأن المجتمعات التي ورثت التوحيد وهي عليه بفضل الله تبارك وتعالى، ثم بفضل الذين قاموا بدعوة التوحيد التجديدية مع ذلك هذه المجتمعات تغزى، والقلوب إذا طال عليها الأمد تقسو، والغفلة تعتري الناس، والشيطان يوسوس، وإلا فقد كانت الأمة كلها على التوحيد، حتى حدث الشرك في قوم نوح.

    إذاً لا نطمئن ونقول: دعونا من هذا الكلام، والآن نتكلم في الربا والزنا والخمر، وما أشبه ذلك، ونترك التوحيد والشرك، فهذا الكلام خاطئ، لابد أن ندعو إلى ذلك حتى الذين لا شرك فيهم، ونذكرهم ونذكر أنفسنا بذلك، ولذلك قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا [النساء:136].

    وهنا يلاحظ الثبات على الإيمان، والاستمرار عليه فهو الأساس، وبعد ذلك على هذه القاعدة تقوم جميع الطاعات، ولو أننا عرفنا حقيقة التوحيد، ولو أننا اجتنبا المنكر الأكبر الذي هو الشرك لما أكلنا الربا، ولا رضينا بالخمر، والزنا أبداً.

    علاقة المعاصي بالشرك

    ولننظر إلى الذي يأكل الربا لماذا يأكله أليس لأن قلبه قد غلب عليه حب الدنيا؟ فهو يأكل الربا، والرشوة وأمثال ذلك من المنكرات التي يرتكبها، وهو يعلم أنها حرام؛ لأن القلب في الحقيقة ضعيف الإيمان، أو فاقد الإيمان، ولهذا آثر الحياة الدنيا على الحياة الأخرى، وأتبع نفسه هواها.

    فإذاً ابدأ معه وذكره بالأساس، وإن كان يقول أنا على التوحيد وعلى الإيمان ولا شرك عندي، فنقول له: هل نسيت شرك الإرادة؟ وهل نسيت شرك المحبة؟ فإن محبة الشيء محبة شيء إذا تغلغلت في القلب، حتى طمست على محبة الله ورسوله فإنه شرك، وإذا أريد عمل أمر ما يقدم على أمر الله ورسوله فهذا شرك خفي.

    فإذاً لا بد أن نعرف أن كل منكر له أساس من الشرك، بل قد كان بعض السلف يطلق على كل الذنوب شرك، ولا يقصد أنها تخرج صاحبها من الملة كما فعلت الخوارج، وهذا معلوم ونحن لا نكفر من يشرب الخمر، أو يأكل الربا، أو يزني، فمذهب أهل السنة والجماعة أنه مسلم لكنه ليس لديه إيمان، فالإسلام فوقه درجة هي درجة الإيمان، والإيمان فوقه درجة هي درجة الإحسان، لكن بعض السلف سمى الذنوب جميعها شرك؛ لأن أصلها جميعاً هو اتباع الهوى، فمن اتخذ إلهه هواه فقد أشرك بهذا الشرك الخفي، وإن كان لا يأخذ حكم الشرك الظاهر الذي يخرج من الملة.

    فهذه القاعدة يجب أن نتنبه لها ونحن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، وندعو إلى الإيمان بالله تبارك وتعالى.

    والقواعد والضوابط التي يجب الاهتمام بها في حال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي:

    1.   

    القاعدة الأولى: البدء بإنكار المنكرات الظاهرة

    أولاً: أن نبدأ بإنكار المنكرات الظاهرة، أو بعبارة أخرى: أن نهتم بإنكار المنكرات الظاهرة أكثر من اهتمامنا بإنكار المنكرات الخفية والمستترة.

    وهذه القاعدة تحقق المصالح جميعاً، حيث تحقق القضاء على المنكر الظاهر، وتحقق القضاء على المنكر الخفي، ولكن بعض الدعاة إلى الله والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر لا يفطنون إلى ذلك، ولو نزلنا إلى أرض الواقع، وتأملنا فيما حولنا في المجتمع، واتخذنا أمثلة على ذلك لوجدنا أن هذا الأمر واضح جلي.

    ماذا تقول الأمة المؤمنة في الصلاة؟ سيقولون: إنها واجبة ولا شك، فالصلاة لا يجادلك فيها إلا من مرق من الدين، لكن المقصود أن الصلاة ليست موضع نقاش.

    ولكن صلاة الجماعة نجد أن الأمر أقل فيوجد من يناقش فيها، ويوجد من يحافظ على الصلاة ولكن في بيته، ويوجد من يشرب الخمر، ومن ينشئ مصانع للخمور ويوزعها، ويوجد من يهرب المخدرات.

    فإذا أردت أن أدعو إلى الله عز وجل، وأردت أن أقضي على الخمر، والمخدرات وترك الصلاة، فما الذي أبدأ به؟

    ونحن هنا نعني ترك صلاة الجماعة أولاً ولندع الحديث الآن عن الصلاة ذاتها، لأن تارك الصلاة الذي لا يصلي أبداً هذا كافر لا حظ له في الإسلام، لكن نتحدث عن الذين يتركون صلاة الجماعة ويقولون: نصلي في البيت، أو بعد نصف ساعة، أو بعد قليل.

    أي الأمرين أولى بالإنكار: أن أذهب إلى هؤلاء الذين في المقاهي أو على الطرقات ولم يحضروا الجماعة فأنكر عليهم، أو أن أذهب لأتتبع مصنعاً من مصانع الخمر لأقضي عليه؟

    أسباب الابتداء بإنكار المنكرات الظاهرة

    أنا أقول: لو قارنا لظهر لنا الأمر:

    إن الواجب في الحقيقة هو أن نبدأ بالقضاء على المنكر الظاهر، فالمنكر الظاهر شيوعه وانتشاره مما يوجب غضب الله تبارك وتعالى ومقته، وأما المنكر المستتر فإنه مستتر بذاته وما يزال دون درجة الشيوع، وإنما يظهر ويشيع المنكر المستتر إذا تركت المنكرات الظاهرة حتى تصبح معروفاً، فإذا أصبحت المنكرات الظاهرة معروفاً انتقل المنكر المستتر إلى أن يصبح منكراً ظاهراً، وهكذا الحال.

    ونحن في هذا المجتمع عايشنا هذا الأمر، بل كل العالم الإسلامي، فقبل ثمانين أو سبعين سنة أو ما أشبه ذلك لم يكن في العالم الإسلامي وفي جزيرة العرب بالذات من يحلق لحيته أبداً، وأول من علمنا هذه العادة هم الغربيون -الإنجليز وأتباعهم- لما جاءوا إلى بلاد المسلمين، فالناس في المدن والقرى لا يفعلون هذا المنكر الظاهر.

    مثال آخر: التدخين كيف كان حال الذي يدخن قبل أربعين أو ثلاثين سنة، كان منكراً ظاهراً كبيراً لكن لما سُكت عن هذين المنكرين، ووقع ما وقع في شأنهما، حتى أصبحا الآن كأنهما شيء مباح، وعند الذي ينكر المنكر أصبحت أقل شأناً؛ لأن التهاون وقع بل أصبح عند كثير من الناس أن الإنكار أو الحديث عن هذه الأمور أمر لا قيمة له.

    فإنسان يتحدث عن حلق اللحية والتدخين إنسان متخلف! والذي يتحدث عن غطاء الوجه، وأنه يجب على المرأة أن تغطي وجهها متزمت، ونجدهم يقولون لك: يا أخي! نحن الآن في أمور أخطر من هذا، وأنت تكلمنا في هذه الموضوعات.

    أما لو كلمت هذا الإنسان عن الزنا، لقال: نعم لا بأس بهذا.

    لكن لماذا ينتشر الزنا؟ ومتى يصبح الزنا منكراً ظاهراً؟

    إنما ذلك إذا أصبح التبرج هو المعروف، فإذا أصبح التبرج معروفاً في المجتمع صار الزنا منكراً ظاهراً، ثم بعد ذلك يتحول الأمر فيصبح الزنا هو المعروف -عياذاً بالله- ثم تستمر نفس العملية، ولهذا لما أصبح التدخين كأنه من المعروف أصبح الخمر منكراً، وقد يظهر أحياناً، فلما انتشرت الخمر على نطاق واسع ووفدت المخدرات أصبح الكلام عن الخمر كأنه عفا عليه الزمن، وأصبح المطلوب -الآن- من الخطباء والوعاظ أن يتحدثوا عن المخدرات.

    فتجدهم يقولون: يا شيخ! لا تتكلم عن الخمر، فهو بسيط، والمصيبة الكبرى الآن هي المخدرات. فنقول له: هذا صحيح. ولكن إنما انتشرت لأننا تهاونا في السيجارة، وجاء الكأس وتهاونا فيه، فجاءت المخدرات، ولا ندري ماذا يكون حالنا لو تهاونا أيضاً في المخدرات والتهاون حاصل ويجب علينا أن نعترف بذلك؛ لنشجع أنفسنا على أن ندعو إلى الله، وأن نتدارك أنفسنا قبل أن يعمنا الله بعذاب وهلاك ومصيبة من عنده.

    أمثلة توضيحية للقاعدة

    وأعود للمثل الأول وهو ترك صلاة الجماعة، فهو منكر ظاهر لا يجوز لنا بأي حال من الأحوال أن نتهاون به، بل نبدأ به، وعليه يقوم إنكار المنكر الباطن، وأقل ما في الأمر إن لم أغير فعلى أن أتصل بمن يغير ولن يكلفني ذلك شيئاً، فبالتلفون -مثلاً- أتصل للهيئة وأبلغها عن هذا المكان وهذا المقهى وهذا التجمع.

    ولا ننظر إلى من يقول: البدء بالحسنى، فنحن -أيضاً- نقول لا بد من البدء بالحسنى، وبالحكمة، لكن ليس ذلك في كل أمر وفي كل وقت، فصاحب المحل الذي تمر عليه كل يوم وهو يسمع الأذان ويبيع ويشتري، أو يشرب الشيشة في المقهى، ويسمع الأذان ويصلي الناس ويخرجون وهو في مكانه جالساً، فأول يوم تعظه، وثاني يوم تنصحه، وثالث يوم تخبر عنه الهيئة، فإذا قالوا: أخطأت التصرف، والدعوة إلى الله لا بد أن تكون بالحكمة، فما هي الحكمة التي تريدون؟ يقولون: حتى يقتنع الإنسان ويفهم.

    فهل وصل بنا الحال إلى أن أصبحت الصلاة مما يُقنع بها المسلم؟ سبحانه الله!

    الصلاة أمر معلوم لدى كل إنسان، وبالذات في المدن والقرى، فإذا قال يجب علي أن أتلاطف مع تارك الصلاة، وأشرع معه في دعوى طويلة حتى يقتنع بعد شهور أو سنين، فإذاً متى أصل إلى تغيير المنكرات التي تحتاج إلى صبر وتحتاج إلى أناة؟ إن هذه الأمور لا نقول فيها بالعجلة والتهور، بل نحن هنا نضع الضوابط ونمنع التهور والاندفاع والعجلة؛ لكن الضوابط لا تعني الإلغاء، فشيء مؤلم ومؤسف أن بعض الإخوة الدعاة، يقولون: لا بد من الحكمة، ولا بد من ضوابط ولا بد من قواعد، فكانت النتيجة ألا إنكار لمنكر، فإذا وصلنا إلى ألا ننكر أي منكر بحجة الحكمة، والضوابط فهذه خسارة كبرى نعيشها، فلابد في المنكرات الظاهرة المعلوم أنها منكر يجب أن يكون تعامل المجتمع معها تعاملاً حازماً حاسماً فيها.

    فالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وهو سيد الحكماء في دعوته وفي كل حياته- أمر أن نضرب الابن إذا لم يصلِّ لعشر، وقبل ذلك ثلاث سنوات موعظة، وأمر، وتشجيع، لكن في العاشرة ضرب، فإذا قيل: لماذا تضرب؟ فنقول له: هذا هو ما سنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أما لو أخطأت فلم آمر ولم أنهَ، ولم أشجع وأحث، وأحض، وبدأت بالضرب فأكون في ذلك الحين قد خالفت سنة المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأكون قد أنكرت المنكر وأمرت بالمعروف بطريق مخالف للسنة، لكن الذي يقول: (إذا كبر ابنك آخيه) فإذا أصبح هذا حالنا، وكل واحد في المجتمع ترك ابنه يفعل ما يشاء فسوف يصبح المجتمع كله إخوة في المعصية، وهذا لا يجوز أبداً.

    فيجب على الزوج أن يكون حازماً مع زوجته، فيعظها ثم يذكرها وينصحها؛ لكن لو أدى الأمر إلى أن يضربها حتى لا تذهب إلى السوق فليضربها، وهذا واجب، وإلا فهو -عياذاً بالله- ديوث، وإذا ذهبت إلى الخياط، والبقال، ودخلت الأسواق، وأماكن الملابس، وهذا يراها وهذا يكلمها، فتنطلق من البيت بعد العصر وترجع آخر الليل كما يفعل بعض الناس، وتذهب إلى الشواطئ، فلا شك أن من يرضى ذلك في أهله أنه ديوث وأنه يجب عليه الحسم ولو أدى إلى الضرب، ولو حسم كل أب وكل زوج لكنا قضينا على هذه العادة السيئة المقيتة التي نخشى أن يعمنا الله بعقاب من أجلها، فإذا حرصنا على القضاء على الزنا، فلنبدأ بالقضاء على التبرج لأنه منكر ظاهر وهو الوسيلة إلى الزنا.

    فالذين يتأملون في هذه القاعدة يرون من الحكم في ذلك أن كل إنسان تتهمه أو تواجهه بمنكر خفي فإن في إمكانه أن ينكر، فترى فلاناً عنده مصنع خمر، فيقول: لا شيء عندي وينكر، ولا يستطيع أحد أن يعترف بذلك.

    أو إذا كان شخص يمارس الزنا والفاحشة فإنه لن يقر أحد بهذا الشيء، لكن المنكر الظاهر، مثلاً: إذا قامت الصلاة وهو جالس في الشارع، فكيف يستطيع الإنكار؟ فمن فوائد ذلك أننا إذا اتبعنا أمر الله ورسوله تحققت المصالح بإذن الله.

    فإذا أمرته بالذهاب إلى الصلاة، فإنه يوجد أي إنكار منه، ولا يستطيع أن يقول: لم أسمع الأذان، ولم أعلم ولهذا يقول غالباً جزاك الله خيراً، حتى لو لم يصل فإنه يكون مقهوراً، وليس لديه عذر ولا حجة، فهذا هو الذي ينبغي.

    والمرأة المتبرجة في السوق أنت تستطيع أن تقول لها وأنت واثق أنها متبرجة، فالمنكر ظاهر، وأنت لست مجرد متهم، فالناس يسيئون الظن بالناس، ويتهمون أعراض الناس، ويفعلون كما يقال عادةً عن أهل الخير وعن الآمرين بالمعروف وعن الناهين عن المنكر، فأنت الآن أنت تتخاطب وتتعامل مع منكر ظاهر أمامك، فليس هذا الخياط بمحرم لها ولا صاحب الدكان بمحرم لها، وهي كاسية متبرجة في السوق، إذاً هذا منكر ظاهر لا نقاش فيه.

    إذاً لا بد أن ينكر هذا المنكر، ولا بد أن يُقضى عليه بكل وسيلة، بالدعوة والوسائل العامة، بنشر الحق والخير بالتعليم، وأيضاً بالقوة وبالحزم المهم كقاعدة عامة: أن نبدأ بالمنكر الظاهر، ولنتعاون في القضاء عليه، وهذا -بإذن الله- يقضي على المنكرات الباطنة، دون أن نتهاون أيضاً في شأن المنكرات الباطنة.

    1.   

    القاعدة الثانية: لا يجوز إنكار المنكر إذا أدى إلى منكر أكبر

    ثانياً: إن إنكار المنكر إذا أدى إلى منكر أكبر، أو إلى مفسدة اعظم، فإنه لا يجوز الإنكار.

    فليس الغرض مجرد أن تنكر، أو أن تتشفى بالإنكار، أو أن تنتقم من صاحب المنكر، بل الغرض هو أن يطاع الله تبارك وتعالى، فإذا كنت تسعى إلى أن يطاع الله وجئت بما يؤدي إلى معصية أكبر فلا تفعل ذلك، وقد بين الله ذلك في القرآن للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، يقول عز وجل: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [الأنعام:108] فنهى الله تبارك وتعالى عن ذلك؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن يتجرأ المشركون فيسبوا الله عز وجل.

    فإذا كنت في مجلس، أو جمعك ركب ما بقوم لو شتمت أهل المعاصي لشتموا وسبوا أهل الخير والإيمان، ولو أنك شتمت رءوس البدعة، ورءوس الشرك والضلال للعنوا وسبوا وشتموا رءوس أهل الإيمان والتوحيد، فعليك ألا تفعل ذلك، ولو ذهبت إلى إنسان تعلم من حاله أنك لو أمرته بمعروف ما لأعلن الكفر وسب الله ورسوله فلا تأمره.

    ومن المصائب أن يقع هذا في مجتمعنا، وأن يوجد في ظل هذا المجتمع الذي ترتفع فيه المآذن في كل حين وتملأ الأجواء بالتكبير والشهادة لله تعالى بالتوحيد، ولمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرسالة، من يسب الدين. وإننا كنا نتوقع ألا يوجد سب الدين، في أي مجتمع مسلم وأن يخلو من سب الدين، فكيف يوجد هذا السبب في المجتمع الذي يعاقب الإنسان إذا لم يلتزم بصلاة الجماعة، فكيف بمن يسب الله ورسوله! لكن هذا هو الواقع للأسف.

    فلا بد إذاً أن ننتبه إلى هذا الأمر، فلا ننكر المنكر إذا كنا نتوقع أن يقع منكر أكبر منه.

    وأيضاً لا ننكر المنكر بوسيلة غير مشروعة، فالمنكر منكر، فلا ينكر المنكر بمنكر آخر؟ لأنهما منكران، فما هذا بأولى من ذاك، وإنما ينكر المنكر بالأمر المشروع وبالمعروف وبما أمر الله تبارك وتعالى وبما شرع.

    تأخير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

    ولهذا لا نصدم مشاعر الناس في أمور لو أخرت لكان خيراً، وهذه أحد القواعد التي تتفرع عن هذه القاعدة، فالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لأم المؤمنين عائشة: (لولا أن قومك حديثو عهد بشرك أو بكفر، لهدمت الكعبة ولجعلتها على قواعد إبراهيم) فهذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الذي غيَّر ما كان عليه العرب من الدين، وقاتلهم على ذلك قتالاً، ودخلوا في دين الله عز وجل برغبة وصدق، وبالسيف والجهاد، وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي يحكم جزيرة العرب جميعاً، والذي إذا قال أطيع، ومع ذلك يذكر المانع من أن يجعل الكعبة على قواعد إبراهيم، مع أن جَعْل الكعبة على قواعد إبراهيم مصلحة وتحقيق لأمر شرعي؛ وهي أن تكون كما بناها الخليل عليه السلام؛ لكن ما الذي يمنع من تحقيق هذه المصلحة؟

    المانع هو أن العرب حديثو عهد بالكفر، وهم إنما آمنوا به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واتبعوه لأنه يعظم حرمات الله، ويعظم ما عظم الله، ويوحد الله، ويدعو إلى دين إبراهيم، وكثير من الناس ينظرون إلى الدين بهذا المنظار، ولا يفطنون إلى ما وراء ذلك من حكم ومصالح، فكل ما في الأمر عندهم أن هذا هو دين التوحيد، وأننا اتبعناه من أجل ذلك، والكعبة في أذهانهم تمثل حقيقة التوحيد ورمزاً للتوحيد وللدين، فإذا هُدمت وغُيرت فكأنها تغيرت ملة إبراهيم، وكأن المنهج الذي رسمته الأذهان فيه خلل وخطأ.

    إذاً لا بد من الإنكار عليه، ولهذا لم يشأ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يصدم هذه المشاعر.

    ولهذا نقول: إن علينا أن نعلم أن الإنسان وإن آمن واهتدى، واستقام، فقد يُترك له بعض التجاوزات والمخالفات لا إقراراً لها، أو اعتقاد حلها والانكار على من أنكرها بدعوة مصلحة الدعوة...ولكن يقال: مصلحة الدعوة أن يؤخر الإنكار وأن يؤخر التغيير.

    أرأيتم لما وضعت الكعبة على قواعد إبراهيم أيام عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنه ما الذي جرى؟ لم يجر شيء، لأنه قد انقضى ذلك الجيل وولدت أجيال على التوحيد، فالذي أمر به عبد الله بن الزبير أمر مشروع، ولم يحدث أي منكر ولا إنكار، لأنه جاء في حينه.

    ومن هنا لا نتوقع أن ننكر المنكرات دفعة واحدة، والشيء المؤلم والمؤسف اليوم أن في المسلم جملة منكرات فتجده متهاوناً بالصلاة ويسمع الغناء، ويرى النساء الأجنبيات، ويغش في البيع والشراء، ويكذب، ويغتاب والله المستعان! إنها مصائب مجتمعة ومنكرات.

    فإذاً نحن مع قولنا في الأول بالبدء بالأهم فالأهم، والبدء بالظاهر قبل الباطن، نقول أيضاً: إن مما يجب، هو أن نؤخر ما قد يصدم مشاعر هذا الإنسان، فيجعله يرجع عما هو عليه من الحق، فإذا اهتدى وبدأ يقيم الصلاة، فنحرص بعد ذلك أن نبين له أن سماع الأغاني حرام، وأن رؤية النساء في الشارع أو في التلفاز أو في المجلات حرام، ولنبدأ بذلك حتى يدخل في الدين تدريجياً، ويرسخ الإيمان في قلبه بالتدريج، ولا نتعجل ونقول: ما دام أنه اهتدى اليوم، فيجب في هذه اللحظة وفي هذا الوقت أن يبادر فيحافظ على الصلاة، ويترك المنكر الظاهر والباطن، وأن يترك جميع المنكرات التي هو عليها، فهذا من توقع المحال، وهذا مما يجعل بعض الدعاة يفشل في دعوته، لأنه توقع ذلك، والحقيقة أن النفس لا بد لها من التدرج، فبعض الأمور قد تؤجل إلى أمد ما محافظةً على الأصل الموجود، لكي ينمى الإيمان في قلبه، ثم بعد ذلك يترك ذلك.

    مثال توضيحي للقاعدة

    ولعل من الأمثلة التي توضح هذا: أنه إذا اقتصر الدعاة إلى السنة على إنكار الغلو في محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مع أن الغلو في محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منكر، لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذي أنكره، وعلمنا أن ننكره، والأحاديث في ذلك معلومة؛ لكن لو أننا نقتصر فقط على أن نذكِّر أن الغلو في محبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منكر، فإنه سوف يكون مدخلاً لأهل البدع، ومدخلاً لبعض المهتدين الذين هم قريبو عهد بالبدع أن يقولوا: إن هؤلاء الناس لا يعرفون من محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا النهي عن الغلو فيها، ولا يتحدثون عنها، ولا يأمرون بها، إذاً ما هو الواجب في هذه الحال؟

    الواجب أن نبدأ بالتذكير بمحبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وطاعته، ونجعل النهي عن الغلو فيه مع ذلك وضمنه، وإلا فقد يفتن بعض الناس من هذا الباب، يفتنه الشيطان أو يفتنه شياطين الإنس بمثل هذا الشبهات، ولا يخفى عليكم الأمثلة التي توضح ذلك في واقعنا اليوم.

    1.   

    القاعدة الثالثة: الإنكار على العالم ليس كالإنكار على الجاهل

    ومن القواعد والضوابط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أن الإنكار على العالم أو على الفقيه أو على الكبير الفاهم ليس كالإنكار على المبتدأ وحديث العهد بالمعصية والجاهل.

    أرأيتم لو أن أحداً من خيار الصحابة رضي الله تعالى عنهم جاء وبال في المسجد -وحاشاهم من ذلك- كيف يكون الإنكار عليه؟! سوف يكون شديداً؛ لأن هذا أمر لا يمكن أن يفعله إنسان من خيار الصحابة ممن عرف الإيمان وحقيقته، فسوف يكون الإنكار عليه بأشد ما يمكن، وبذلك وقائع من السيرة، كإنكار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أبي ذر لما قال لـبلال: يا ابن السوداء، فأنكر عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنكاراً شديداً وقال له: (يا أبا ذر: إنك امرؤ فيك جاهلية) فهذا إنكار شديد، فالجاهلية التي هرب وخرج منها أبو ذر رضي الله تعالى عنه وتحمل المشاق، وجاء إلى الكعبة، وجاهر بالإيمان، وضُرب حتى أصبح كما يقول هو: [[كأنه صنم ذبح عليه ]] من كثرة ما فيه من الدماء، وكل ذلك لذات الله ومن أجل الله، ويقول له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إنك امرؤ فيك جاهلية ) لأنك أمام إنسان يعرف الحق وعرف الجاهلية، وعرف قذارتها، وعرف نتنها، وعرف كيف يفر منها كما يفر من النار أو من الأسد، فتقول له هذا الكلام ليرتدع.

    لكن لما جاء الأعرابي وبال في المسجد، فهذا أعرابي جاهل لا يفقه من أمر الله ودينه شيئاً، دخل وبال في المسجد، فأرشدنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلمنا أن الإنكار على الجاهل يختلف، فهذا نلاطفه، ونلاينة، ونداريه، ولا نعنفه.

    مثال توضيحي للقاعدة

    فنجد في قصة هذا الأعرابي ما يشهد بهاتين القاعدتين:

    القاعدة الأولى: تحمل أهون المفسدتين لدرء أعظمهما.

    والثانية: إن الجاهل لا يكون الإنكار عليه كالإنكار على العالم وعلى ذي الشأن.

    فلو أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يزجر الصحابة وينههم عندما ثاروا عليه ليزجروه عن البول في المسجد، لانتشر البول في أجزاء كثيرة نتيجة فزع الأعرابي وهربه، بل وسينتثر البول في ملابسه، وربما لا يعود إلى المسجد وإلى الإيمان.

    إذاً نتحمل المفسدة من أجل أن ندفع مفسدة أكبر منها، فهذا شيء.

    والأمر الآخر أن هذا الإنسان جاهل، والجاهل نرفق به، كما منع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصحابة أن يضربوه، وأمر أن يغير المنكر، بصب دلو من الماء على البول وانتهت النجاسة.

    فالآن قضينا على النجاسة، وبقي أن نقضي على ما في قلب هذا الرجل، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال معاوية بن الحكم السلمي: (والله ما كهرني ولا نهرني، بأبي وأمي ما رأيت قبله ولا بعده معلماً مثله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فلا يوجد معلم أرفق من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أحكم، فلما رأى الأعرابي هذا الرفق وهذه المعاملة ممن كان يظن أنه أكثر الناس شدة -ولا شك أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أكثر الناس محافظة على بيوت الله، وأكثر الناس قوة في الحق، لكنه كان يوازن بين المصالح والمفاسد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما رأى منه اللطف واللين صلى فقال: (اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحد).

    وذلك لأن القلب ما تزال فيه ضغينة لهؤلاء الذين ثاروا عليه، وأظهروه مظهر الإنسان الذي لا يليق، ولكن دعا أن يرحم الله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا هو المطلوب، وهو أن يحب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان ذلك، ولكن أيضاً نحن لا ينبغي أن نجفو قلوب الناس عنا، فالجاهل نعلمه ونترفق به، ونبين له.

    وكما ينقل في سيرة الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما أنهما كانا ذاهبين إلى المسجد، فدخل رجل يتوضأ فلم يحسن الوضوء، وهما صبيان صغيران فقالا له: أيها الشيخ! نحن طفلان صغيران واختلفنا كيف نتوضأ، فاحكم بيننا لترى أي منا يتوضأ أحسن من الآخر، فتوضأ الأول كما توضأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتوضأ الآخر كما يتوضأ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قالا له: احكم، فقال: أحكم بأنكما توضأتما على السنة وأنا لا أحسن الوضوء. فعلماه كيف أنه يجب على الإنسان أن يتوضأ، وهو بنفسه عرف خطأه.

    فإذا استطعنا أن نعرَّف الإنسان خطأه بنفسه فهذا مكسب لنا، ونكون قد كسبنا قلبه ومع ذلك عرف الحق، وسيتبعه بإذن الله تبارك وتعالى.

    1.   

    القاعدة الرابعة: عدم الإنكار في مسائل الخلاف

    ثم نتكلم على مسألة وهي: أن من ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عدم الإنكار في مسائل الخلاف، وهذا الأمر مهم في ذاته لأنه كثيراً ما يفهم خطأً، ونقصد بذلك أن الأمر الاجتهادي المحض لا ينكر فيه.

    وبعض الناس يقول: لا إنكار في مسائل الخلاف، فإذا جئت إلى إنسان لا يرفع يديه في الصلاة -مثلاً- إذا كبر لتكبيرة الإحرام، أو الركوع أو بعد الرفع منه، أو لا يقول: آمين، أو لا يجهر بها، أو ما أشبه ذلك، فإنك تجد من يقول: لا تنكر عليه لأن المسألة خلافيه.

    وإذا جئت إلى إنسان يترك زوجته تخرج أمام الرجال كاشفة الوجه، ولو سترت كل شيء لكن بقي الوجه- والكفان- ثم يقولون لك: المسألة خلافية فلا تنكر عليه.

    فنقول: ليس الأمر كذلك.

    فالمسائل الخلافية التي لا إنكار فيها هي مسائل الاجتهاد المحضة التي يجتهد فيها العلماء فتختلف وجهات نظرهم، والجميع ينطلقون من الكتاب والسنة، وينتهجون منهج الكتاب والسنة، أما العالم أو المذهب الذي يخالف نصاً من النصوص عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو في كتاب الله، فإنه ينكر عليه، ولو قد قال بذلك بعض الأئمة، فهذا لا يمنع من الإنكار، وإلا لاتبع الناس الأئمة في أخطائهم وأصبحت معروفاً، وتركنا سنة نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أجل أن فلاناً اجتهد فاخطأ، وهذه مصيبة: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ [النور:63] والفتنة الشرك، فلا بد أن نفهم ما هي مسائل الخلاف.

    مثلاً: إذا أحرم الحاج مفرداً أو متمتعاً أو قارناً، فنقول: هذا لا إنكار فيه، ولو كنت ممن يرى أن التمتع هو الأفضل، فيحسن بك أن تقول ذلك، وأن تبينه له وترشده إليه إرشاداً، لكن أن تنكر عليه، وأن تقول: لا إحرام لك، فلا تفعل ذلك لأن هذه -فعلاً- من مسائل الخلاف.

    لكن مسألة أن المرأة تسفر عن وجهها، فهذه المسألة لا تعتبر من مسائل الخلاف، وأخطأ من خالف فيها، فقد خالف كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والعالم له أجر اجتهاده، لكن نحن نأثم لو أننا سكتنا وقلنا: الأمر فيه خلاف.

    وكذلك صلاة الجماعة فلا نقول: بعض العلماء لا يرى أنها واجبه، فلا ننكر ونجعلها من مسائل الخلاف؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هدد تاركي الجماعة بأن يحرق عليهم بيوتهم، ولو لا ما فيها من النساء وما فيها من الأطفال لحرق عليهم بيوتهم، بل يجب الإنكار على من خالف سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    وكذلك بعض المنكرات الظاهرة كحلق اللحية، بغض النظر عن أن هذه الأمور تنكر بالحكمة والأسلوب الحسن، لكن لا نسكت ونقول: الأمر ليس فيه شيء لأن فيه خلاف، فليس كل خلاف معتبر، وسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صريحة وقاطعة في تحريم حلق اللحية، ولم يثبت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الإطلاق أنه أخذ منها شيئاً فضلاً عن حلقها وقد أمرنا بذلك، فإذاً لا نقول: هذه مسائلُ خلافٍ، بل هذه مما يجب أن ننكر فيها، وألا نرضاه ولا نقره؛ فهذه أيضاً من القواعد والضوابط التي ينبغي أن تعلم.

    أما مسائل الخلاف في المعاملات- في البيع والشراء وما يتعلق به- هل هي أمور تلحق بالمباح أو تلحق بالحرام، أو تلحق بالربا مثلاً.

    وذلك مثل بعض الأشياء التي ليس فيها نص، وإنما اجتهد العلماء فيها هل يلحقونها بالحلال أو بالحرام، فاشتبه فيها الأمر، فنقول: نعم، هذه لا إنكار فيها، فلا نعاملها كالمنكر الصريح، ولكن موقفنا هو أن نرشد وننبه الأخ الذي يفعلها إلى ما نراه نحن هو الصواب، لأن الدين النصيحة، ولا يؤمن أحدنا حتى يحب لأخيه مثل ما يحب لنفسه، فإذا كنت أنا أرى أن هذا هو الراجح، ولا أوافق من خالفني في ذلك من العلماء، فأنصح لأخي وأبين له على سبيل النصح والبيان والإرشاد، لا على سبيل الإنكار كما في الأمر الظاهر المخالف لسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    وأعود لأقول: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو ضعيف في مجتمعنا، وضعيف حتى في أنفسنا، وفي بيوتنا إلا من رحم الله تبارك وتعالى، وإنه لأمر عظيم، وإن له قواعده وضوابطه التي يجب علينا أن نعرفها وأن نتواصى بها، وأن نحث أنفسنا على تطبيقها بإذن الله تبارك وتعالى، وأنه مهما كان قلة العدد، وضعف الإمكانيات، إذا تمسكنا بسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدعوة، وفي الأمر والتغيير، فإننا بإذن الله تبارك وتعالى سوف نحقق ما نريد، بل ما يرضي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لأن غرضنا إنما هو إرضاء الله.

    نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يكتب لنا ولكم رضاه وتوفيقه ونصره، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.

    1.   

    الأسئلة

    نصيحة حول الشك

    السؤال: أنا امرأة متزوجة وزوجي رجل شكاك، كلما سمع كلاماً من أحد عني سواء أكان صحيحاً أم كذباً لا يتحقق من ذلك؟

    الجواب: هذه المرأة تشكو من زوجها من أنه على كل حال يشك فيها، ويسمع الواشين، وأنه لا يتركها تذهب إلى أهلها، ولم يبتعد عن سماع ما يقوله هؤلاء الذين يتقولون عليها، والحقيقة أن هذا المشكلة منتشرة في المجتمع العام، فشك الرجال في نسائهم منتشر وليس خاصاً بهذه الأخت، وما سبب ذلك إلا التهاون في الاختلاط والمكالمات، وأمور أخرى تؤدي إلى حدوث الشك، والقضاء على الشك يكون بالآتي:

    أولاً: بتقوى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو أن تتقي المرأة الله، وأن يتقي الرجل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلا يفتري أحد على أحد ولا يتقول عليه، وعلى الوشاة أو المشككين أن يتقوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لأن القذف في أعراض المحصنات الغافلات المؤمنات من الكبائر.

    ثانياً: يكون بترك الأسباب المؤدية إلى الشك، أرأيتم المرأة المسلمة التي لا تخرج من بيتها إلا لضرورة ومع محرم، ولا تخاطب إلا من شرع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لها أن تخاطبه، ولا تخلو إلا مع محرم.. وهكذا، أرأيتم كم تكون نسبة الشك فيها؟ وإن وقع الشك فإنه سيكون الإثم بالكامل على صاحب الشك أو على الواشي، لكن إذا شاركت هي فتبرجت أو اختلطت أو تساهلت حتى بالكلمات: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32] وهذه الآية قالها الله تبارك وتعالى لأمهات المؤمنين، فإذا كان التساهل منها فإن مما تعاقب به هو أن يُشك فيها، وإن كانت بريئة مما هو أكبر مما تفعل.

    وهذا ما يجب علينا جميعاً أن نتعاون عليه، ونرجو من هذه الإخت أن تجتنب كل أسباب الشك، وأن تصبر بعد ذلك، لأن المؤمن مبتلى، كما نرجو من زوجها أن يتقي الله وألا يشك لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [الحجرات:12].

    حقيقة الستر

    السؤال: من ستر على مؤمن ستره الله في الدنيا والآخرة، فما هو الضابط في عملية الستر؟

    الجواب: بعض الناس يفهمون -الستر الذي هو بلا شك من سنن ديننا ومن آداب الإسلام- على أصحاب المعاصي والمنكرات أنه عدم إنكار المنكر، ويفهمون أنك لا تبلغ عن مصنع خمر لأن الستر طيب، ويفهمون أنك لا تبلغ عن بيت للدعارة لأن الستر طيب، والله تعالى يحب الستر، والحقيقة أن الأمر ليس كذلك.

    أولاً: الجهات المكلفة شرعاً بتتبع المنكرات الباطن لا يجوز لها أن تتهاون في هذا الشأن، فرجال الهيئة ورجال مكافحة المخدرات وما يلحق بهم؛ الذين من مهمتهم ومن عملهم أن يتتبعوا المنكرات الباطنة، يجب عليهم أن يتتبعوا المنكرات الباطنة، ولا ينطبق في حقهم مسألة الستر.

    والأمر الآخر أن الهدف في حال الكشف أو الستر: هو تحقيق مسألة الإيمان والدين، فالمرء قد يخطئ، والإنسان قد يهفو، وهو رجل صالح فاضل، فيختلي بامرأة لا تحل له، فهذا الستر عليه أولى مع الموعظة والنصح، ومع متابعة النصيحة بعد ذلك، فالستر عليه منك أولى، لكن لا تتركه على منكر، بل تنبهه إلى ذلك وتستر عليه، أما فاجر مجاهر معروف بالفجور فالحال معه يختلف.

    وهكذا يجب أن نضع كل شيء في موضعه الصحيح، والنهي عن التجسس يعني ألا أشك في جاري، وألا أترصد من الثقوب لأرى هل يشرب الخمر أم لا؟ فهذا سوء ظن لا يجوز، لكن إذا كان جاري يجمع الناس على شرب الخمر، وقد نصحت ووعظت، ثم لم يُجد ذلك، فيجب علي أن أبلغ عنه، ولو عوقب.

    فالأمر يجب أن يوضع له ضابط، وأن ننظر في المصلحة إن كانت في الستر أو في عدمه، حتى لو كان من رجال الهيئة ورجال الحسبة، ورأى أن المصلحة أن يستر على هذه المرأة، لأنها هفت وأخطأت، وسوف تستغفر الله وتتوب، فما فعلت إلا مقدمات للفاحشة كالخلوة فيمكن الستر إذا رأى ذلك، لكن من ظهرت عليه علامات الفسق وعلامات الفجور فلا يُستر.

    وأيضاً الحاكم -صاحب السلطة- ليس من شأنه الستر، فالحدود إذا وصلت إلى ولي الأمر فلا يجوز أبداً إلا أن تقام الحدود وأن تطبق، فأنت قبل أن توصل الموضوع إلى ولي الأمر فبإمكانك أن تستر إذا رأيت المصلحة تتحقق في ذلك، لكن إذا أوصلته إليه أو تعلم أنه وصل إليه فلا تذهب وتشفع، وتقول: اتركوا هذا فهو رجل طيب، وسيهديه الله، وقد قبض عليه وهو زانِ أو شارب خمر، فهذه شفاعة في حد من حدود الله يأثم صاحبها ولا يؤجر عليها، ولا تجوز بأي حال من الأحوال.

    علاقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالجهاد

    السؤال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو قمة الجهاد، خصوصاً وأن المستعمرين للمسلمين لم يستخدموا السلاح -كما هو معروف في الاحتلال- بل استخدموا تفشي المنكرات بين الأمة، فلماذا لا يدعى الشباب إلى الجهاد في هذا المجال، ويوضح لدى الشباب أن الجهاد في هذا المجال أولى من حمل السلاح في أي بلاد، فما رأيكم في ذلك؟

    الجواب: نعم هو جزء من الجهاد، والجهاد إنما يكون من أجله: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39] فهذا الإذن بالجهاد، ثم بعد ذلك بين الله تعالى بعدها بآية: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41] فالجهاد يكون من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو من الجهاد، ولا بد فيه من الصبر، حتى العبد الصالح لقمان قال لابنه: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان:17] فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقترن بالصبر كما أن الجهاد مقترن بالصبر.

    إذاً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من الجهاد، ولا يمكن لأمة أن تجاهد عدواً وتنتصر عليه والمنكرات متفشية فيها، فأمة تغلب أعداءها بأعمالها، ويغلبها أعداؤها بذنوبها، فإذا تركنا الذنوب تنتشر فلا نطمع في نصر الله بأي حال من الأحوال. ولهذا فمن هو قائم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو قائم على جهاد في سبيل الله، قد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69] والجهاد في الله أعم من مجرد قتال الكفار، فالجهاد في الله عز وجل هو جهاد الدعوة التي تشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطلب العلم، وإحياء السنة، وقتال الكفار، وكل ذلك من الجهاد في الله الذي قال: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ [الحج:78] نسأل الله أن يجعلنا كذلك.

    فعلينا جميعاً أن نحث إخواننا على المرابطة في هذه الجبهات العريضة التي فتحها علينا أعداء الله، فأعداء الله لو احتلوا بلادنا بقواعد عسكرية لعرفوا أننا سوف نثور عليهم ونحرر بلادنا من هذه القواعد، ولكن إذا احتلوها بالأفلام الخبيثة وبالمجلات الخليعة، وبالنساء الفاجرات اللاتي يأتين في أشكال مضيفات أو ممرضات أو خادمات، وما أشبه ذلك، وبكل الوسائل التي تقتل الأمة قتلاً، وتدمرها، وتجعل عدوها يسيطر على اقتصادها وأخلاقها، وكل ما تملك، فماذا يريد العدو بعد ذلك بالتراب؟! وقد حصل على ما يطمع ويسعى إليه: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120].

    ولكن اليهود والنصارى والشيوعيين يحاربون كل بلد بطريقة ما فقد تدخل الشيوعية بلداً من البلدان بالسلاح والقوة، وقد تدخل عن طريق الفكر والأدب والفن، والحداثة، ولكن هذه لها طريق وهذه لها طريق، فلا نقل: إن أعداء الله لا يعرفون إلا لوناً واحداً من ألوان العداء، بل هم يعرفون ألواناً كثيرة، فالشياطين يوحي بعضهم إلى بعض ليحاربونا بهذه الأنواع والأصناف من أنواع الحرب، وجهاد هؤلاء جميعاً واجب، وكل إنسان يحاربهم بما يستطيع، وبما يقتدر عليه وبما أعطاه الله من إمكانية، بالقلم أو باليد أو بالكلام، وأقل ذلك أن ينظف بيته وقلبه وسمعه وبصره من المنكرات، فهذا هو أقل ما في الأمر.

    كيفية محاربة التبرج

    السؤال: النساء المتبرجات هل لكل أحد أن يأمرهن بالمعروف وينهاهن عن المنكر؟ وما الضابط في ذلك؟

    الجواب: يجب علينا جميعاً أن نتعاون على إنكار تبرج النساء، لكن لا يعني ذلك أن على كل واحد منا أن يذهب إلى المرأة ويخاطبها في السوق، بل منا من يخاطب أولياء الأمور، ومنا من يخطب ويحاضر في خطبة جمعة وما أشبهها، ويحذر من ذلك، ورجل الهيئة والحسبة يذهب بنفسه ويباشر ذلك العمل في السوق، ومنا من يؤلف الكتب في هذا الشأن، ومنا من يأتي إلى كتب العلماء وفتاواهم فيطبعها ويوزعها... وهكذا.

    فالجهود يجب أن تتكاثف، وكل منا مسئول عن هذا الدين.

    فالمذيع في الإذاعة مسئول أن يحارب هذا في الإذاعة، والمسئول في التلفزيون مسئول عن تطهيره من التبرج، وأن يدعو الأمة المسلمة إلى ترك التبرج وإلا يأثم، وأنا في مسجدي آثم إن لم أدعُ الناس وأعظهم بذلك، ورجل الحسبة يأثم إن لم ينزل إلى السوق ويباشر ذلك العمل ويأخذ التعهد على الآباء.. وهكذا.

    فالتبرج وغيره من المنكرات يجب على كل إنسان كبيراً كان أم صغيراً أن ينكرها، ويجب علينا أن نتعاون بقدر ما نستطيع لأن نقضي عليها.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756005015