إسلام ويب

معاذ بن جبلللشيخ : محمد حسان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الحديث عن القدوة أمر بالغ الأهمية، خاصة ونحن نعيش في زمان قلت فيه القدوة، لذا كان حديث الشيخ حفظه الله في هذه المادة عن الصحابي الجليل: معاذ بن جبل رضي الله عنه، أعلم الأمة بالحلال والحرام، والذي أسلم وهو في الثامنة عشرة من عمره وتوفي في الثالثة والثلاثين من عمره، إلا أنه خلال هذه الفترة القصيرة استطاع أن يسطر أمجاده المشرقة على صفحات التاريخ البيضاء، حيث أفنى حياته في الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله، حتى أتاه اليقين من ربه.

    1.   

    أهمية الحديث عن القدوات

    الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك، وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو فلا خالق غيره، ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [الحج:62].

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الذي لا ضد له، وهو الصمد الذي لا منازع له، وهو الغني الذي لا حاجة له، وهو القوي الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو جبار السماوات والأرض، فلا راد لحكمه، ولا معقب لأمره، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وعبد ربه حتى لبى داعيه، وجاهد في سبيل ربه حتى أجاب مناديه، وعاش طوال أيامه ولياليه، يمشي على شوك الأسى، يخطو على جمر الكيد والعنت، يلتمس الطريق لهداية الضالين وإرشاد الحائرين، حتى علم الجاهل، وقوم المعوج، وأمنَّ الخائف، وطمأن القلق، ونشر أضواء الخير والحق والإيمان والتوحيد كما تنشر الشمس ضياءها في رابعة النهار، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعنا دائماً أبداً في الدنيا على طاعته، وفي الآخرة مع سيد النبيين في جنته ومستقر رحمته إنه ولي ذلك ومولاه.

    أحبتي في الله: مع أئمة الهدى ومصابيح الدجى.

    أيها الأحبة: لئن كانت شمس النبوة قد أشرقت على أرض الجزيرة ، فبددت ظلام شركها، وجعلت ليلها كنهارها، فإن الصحابة كانوا النجوم التي تعلقت بتلك الشمس، ودارت في فلكها، واقتبست من نورها، فإذا بالإسلام يتحول إلى واقع منظور، وإلى مجتمع متحرك، وإن تلك النجوم لا تـزال تتألق وتشرق وتنشر نورها على الدنيا، وإن من أعظم واجباتنا أن نتتبع أخبارهم، وأن ننشر على الدنيا عبير سيرتهم العطرة، وأن نقدمهم للبشرية كلها قدوة ومُثلاً عليا؛ خاصةً وأننا نعيش زماناً قلت فيه القدوة من ناحية، واعتزت فيه الأمم والدول برجالها وقاداتها من ناحية أخرى، مع أنه لو وضع هؤلاء إلى جوار عظمائنا ورجالنا لكانوا بمثابة الشمعة التي جاءت لتضيء في حضرة الشمس في رابعة النهار، هذا إن أحسنا الظن بهم -أي بهؤلاء الذين تفخر بهم أممهم ودولهم- إذ أن البشرية اليوم تعظم وتكرم بناءً على المبادئ التي ارتضتها لنفسها، وقد اختلت عندها القيم واضطربت عندها الموازين، فقدم التافهون والفارغون والساقطون ليكونوا القدوة والمثال، وشتان شتان بين نور السها وشمس الضحى: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً [البقرة:138] نعم أيها الأحبة.

    وإننا اليوم على موعد مع كوكب من كواكب المجموعة النبوية، أجل أقولها بملء فمي .. إننا اليوم على موعد مع كوكب من كواكب المجموعة النبوية الكريمة المباركة، نقدمه اليوم قدوة ومثلاً أعلى لشباب الصحوة الإسلامية بصفة خاصة ولجميع المسلمين بل والله لجميع البشرية كلها بصفة عامة، فأعيروني القلوب والأسماع لنعيش مع هذا البطل، لنعيش مع هذا الشاب.

    1.   

    إسلام معاذ بن جبل

    إنه شاب صغير من شباب الصحابة رضي الله عنهم، شاب أسلم في الثامنة عشرة من عمره، وتوفي في الثالثة والثلاثين من عمره، يا سبحان الله!

    فمتى استطاع أن يخط على جبين الزمن هذا المجد، ومتى استطاع أن يسطر على صفحات التاريخ هذا الخلود، وهذه السيرة العطرة العبقة.

    أقول: شاب أسلم في الثامنة عشرة من عمره وتوفي في الثالثة والثلاثين من عمره، أعيروني القلوب والأسماع لنعيش مع هذا البطل، لنعيش مع هذا الشاب التقي النقي الحيي الكريم.

    ففي ليلة من ليالي مكة، الليل دامس، والصمت مخيم، والظلام شامل، والسكون يضفي على الخيام في منى هيبة وإجلالاً ووقاراً، وإذ بكوكبة مضيئة من الأنصار رضي الله عنهم، يتسللون بين خيام منى تسلل القطا، يتلفتون وكأنهم قد سرقوا الإيمان سرقة، إلى أين أيها الأخيار الأطهار؟ إلى العقبة . لماذا؟ لمقابلة النبي صلى الله عليه وسلم.

    من أجل ماذا؟ من أجل البيعة. ويلتقي هذا الصحب الكريم بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون له: على ما نبايعك يا رسول الله؟ فيقول الحبيب صلى الله عليه وسلم كما ورد في حديث جابر بن عبد الله الأنصاري الذي رواه البيهقي وابن إسحاق بسند صحيح، فيقول عليه الصلاة والسلام: (تبايعوني على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكم فيه لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم يثرب ، وعلى أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأبناءكم وأزواجكم ولكم الجنة)

    فيقول البراء بن معرور رضي الله عنه كما في حديث كعب بن مالك وهو حديث صحيح، يقول البراء رضي الله عنه: [والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أسرنا، فبايعنا يا رسول الله فإنا والله أهل الحرب وأهل الحلقة، ورثناها كابراً عن كابر] ويقطع القول أبو الهيثم بن التيهان رضي الله عنه وأرضاه، فيقول للحبيب صلى الله عليه وسلم: [يا رسول الله! إن بيننا وبين القوم -أي: اليهود حبالاً- وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن أظهرك الله جل وعلا أن ترجع إلى قومك وتدعنا]. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أسالم من سالمتم وأحارب من حاربتم) فقال البراء بن معرور : [ابسط يدك يا رسول الله نبايعك] وبسط الحبيب يده الكريمة، يمينه المباركة، وامتزجت القلوب والأيدي في مهرجان حب وولاء لم ولن تعرف البشرية له مثيلاً، ومن بين هذه الأيدي الكريمة تمتد يد صغيرة وضيئة لشاب كريم المحيا، براق الثنايا، يبهر الأبصار بهدوئه وسمته، فإذا ما تكلم ازدادت الأبصار انبهاراً وتقديراً وإجلالاً واحتراماً.

    هذه اليد الكريمة المباركة تمتد من وسط هذه الأيدي الكريمة لتبايع النبي صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الثانية، أتدرون يد من هذه؟

    إنها يد مقدام العلماء، إنها يد إمام الحكماء، إنها يد سيد الدعاة الأتقياء، إنها يد القارئ القانت، إنها يد المحب الثابت، إنها يد السهل السري، إنها يد السمح السخي، إنها يد معاذ بن جبل ، وما أدراك ما معاذ؟!

    إنه الشاب الذي نقدمه اليوم لشباب الصحوة قدوة، إنه الكوكب الذي نقدمه اليوم للبشرية مثلاً أعلى، الذي أسلم في الثامنة عشرة من عمره، وتوفي في الثالثة والثلاثين من عمره، وبالرغم من ذلك أقول: إنه خط هذا المجد على جبين الزمان، كان غرة في جبين الإسلام، وكان تاجاً بين الصحب الكرام، وكان شامة وعلامة، وكان شعلة من شعل الهداية، وكان داعية من دعاة الحق، إذا تكلم كأنما يخرج من فيه لؤلؤاً ونوراً.

    1.   

    ثناء النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة على معاذ

    إنه معاذ بن جبل الذي لو وقفنا مع تاريخه لتحسرنا على حياتنا، وبكينا دماً بدل الدمع خجلاً وحياءً على ما قدمناه لديننا، وقد مضى بنا قطار العمر إلى مسافات وأعوام ابن الثلاثين من عمره، بل ابن العشرين من عمره.

    قصة حياة عجيبة، قصة كفاح رهيبة في هذه السنوات القصار الطوال، معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه، ذلكم الرجل الذي قال عنه فاروق الأمة عمر رضي الله عنه، والأثر رواه الحاكم في المستدرك وصححه وأقره الذهبي ، بل وصححه الحافظ ابن حجر في الفتح ، يقول عمر رضي الله عنه، وبالله عليكم اسمعوا هذه القولة، وخذوا هذه الشهادة من عمر وما أدراكم ما عمر ؟! يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [من أراد الفقه فليأتِ معاذ بن جبل ]. ابن العشرين! ابن الثلاثين! من أراد الفقه فليذهب إليه .. من أراد الفقه فليأتِ معاذ بن جبل .

    وخذوا قولة ابن مسعود الخالدة، وروى بعضها الإمام البخاري تعليقاً [قرأ ابن مسعود رضي الله عنه يوماً: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ [النحل:120] ثم قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن معاذ بن جبل كان أمة قانتاً لله، كان يعلِّم الناس الخير، وكان مطيعاً لله ورسوله] إن معاذاً ابن الثلاثين كان أمة، ابن العشرين كان أمة، كان يعلم الناس الخير، وكان مطيعاً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

    بل وما هذه الشهادات والأوسمة إلى جوار الأوسمة التي علقها الحبيب صلى الله عليه وسلم بيديه الكريمتين المباركتين على صدر ذلكم الشاب.

    اسمعوا ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم والترمذي من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود -فبدأ به- وأبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وسالم مولى أبي حذيفة ) خذوا القرآن من معاذ، من هذا الشاب الصغير الكبير العظيم، خذوا القرآن من معاذ بن جبل .

    بل ويذكر النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً يوماً مع الصحابيين الجليلين الكبيرين العظيمين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، والحديث رواه الترمذي وحسنه، ورواه ابن حبان وصححه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، يقول صلى الله عليه وسلم: (نعم الرجل أبو بكر ، نعم الرجل عمر بن الخطاب ، نعم الرجل معاذ بن جبل ).

    مع أبي بكر وعمر! (نعم الرجل أبو بكر ، نعم الرجل عمر بن الخطاب ، نعم الرجل معاذ بن جبل ) إنه حقاً رجل.

    بل وخذوا هذا الوسام العجيب، وهذه الشهادة الكبيرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وابن سعد في الطبقات ، وصحح الحديث شيخنا الألباني في صحيح الجامع من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، يقول صلى الله عليه وسلم: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر ، وأشدهم في دين الله عز وجل عمر بن الخطاب ، وأصدقهم حياءً عثمان بن عفان ، وأقضاهم -أي: وأعلمهم بالقضاء- علي بن أبي طالب ، وأفرضهم -أي: وأعلمهم بالفرائض- زيد بن ثابت ، وأقرؤهم أبي بن كعب ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ).

    أعلم الأمة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، ألا وإن لكل أمة أميناً، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح ) أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه.

    أعلم الأمة بالحلال والحرام ابن العشرين ابن الثلاثين! ولم لا وقد رباه محمد بن عبد الله؟ ولم لا وقد تخرج في مدرسة الإسلام بين الصحب الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم؟ بارك الله لهم في أعمارهم وأوقاتهم وأستاذهم ومعلمهم ونبيهم، فكانوا للناس سادة، وللجيوش قادة، وللأفاضل مثلاً عليا، فيظل التاريخ يقف أمام سيرتهم وقفة إعزاز وإجلال وإكبار.

    مكانة معاذ في قلب النبي صلى الله عليه وسلم

    ولقد كانت لـمعاذ بن جبل مكانة خاصة في قلب أستاذه ومعلمه صلى الله عليه وسلم، اسمعوا -أيها الأحبة- إلى هذا الوسام الذي وقفت أمامه مذهولاً مذعوراً مندهشاً! لقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً من يده يوماً ثم التفت إليه وقال: (يا معاذ! والله إني لأحبك) ما هذا؟! والله إن الحلق ليجف، وإن القلب ليرتعد، وإن الكلمات لتتوارى خجلاً وحياءً أمام القسم العظيم الجليل الكريم الكبير (يا معاذ! والله إني لأحبك) من الذي يقول؟

    إنه محمد صلى الله عليه وسلم الذي تفانى أصحابه في حبه، بل وتقربوا إلى الله بحبه حباً لم ولن تعرف البشرية له مثيلاً، ولم لا وقد أحب محمداً صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الحجارة؟

    ولكن هذا ليس بعجب ولكن العجب العجاب أن يقول إمام الهدى، ومصباح الدجى، وإمام النبيين، وخاتم المرسلين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لشاب صغير من تلاميذه، ولابن عظيم من أبنائه، يقول: (يا معاذ! والله إني لأحبك. فيقول معاذ: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! والله وأنا لأحبك يا رسول الله. فيقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: فإني أوصيك ألا تدع دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)والحديث رواه أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم وهو حديث صحيح.

    فلا تنسَ أن تقول دبر كل صلاة: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) بل لقد بلغت منـزلة معاذ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم وأكرم من هذا، يا سبحان الله! نعم. فلقد كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يردف معاذاً خلفه على ظهر دابة واحدة، يركب النبي صلى الله عليه وسلم هو ومعاذ ركوبة واحدة، معاذ يركب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكلمه، وينصحه النبي صلى الله عليه وسلم وحده، نعم.

    وكان معاذ يعرف هذه الكرامة حق قدرها، ويجل هذه المنقبة ويعطيها مكانتها، فيقول معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم : (بينما أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل، فقال النبي: يا معاذ! فقلت: لبيك رسول الله وسعديك. فسار النبي ساعة، ثم قال: يا معاذ! قلت: لبيك رسول الله وسعديك. فسار النبي ساعة، ثم قال: يا معاذ! قلت: لبيك رسول الله وسعديك. فقال: أتدري ما حق الله على العباد؟ قلت: الله ورسوله أعلم. فقال صلى الله عليه وسلم: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً. ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم ساعة، وقال: يا معاذ! أتدري ما حق العباد على الله إن هم فعلوا ذلك؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: ألا يعذبهم -وفي رواية- ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً. فقال معاذ: أفلا أبشر الناس يا رسول الله! قال: لا تبشرهم فيتكلوا).

    فحق الله علينا أن نعبده ولا نشرك به شيئاً، وألا نصرف جزئية من العبادة لأحد غير الله جل وعلا، لأن الذي يستحق جميع أنواع العبادة هو الله جل جلاله، لا توحيد إلا له، ولا إذعان إلا له، ولا انقياد ولا ذبح ولا نذر إلا له، ولا حلف إلا به، ولا طواف إلا ببيته؛ لأنه وحده هو الذي يستحق أن يعبد.

    اللهم إنا نبرأ من الثقة إلا بك، ومن الأمل إلا فيك، ومن التسليم إلا لك، ومن التفويض إلا إليك، ومن الرجاء إلا فيك، ومن التوكل إلا عليك، ومن الرجاء إلا لما في يديك الكريمتين، ومن الذل إلا في طاعتك، ومن الرهبة إلا لجلالك العظيم: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163] فإن عبدنا الله جل وعلا حق عبادته، ولم نصرف صغيرة ولا كبيرة من العبادة إلا له جل وعلا؛ أخذ الله الحق على نفسه وليس لأحد حق على الله، بل إن الحق أخذه الله على ذاته ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً، نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم ممن حققوا التوحيد وماتوا عليه.

    واسمعوا إلى هذا الحوار الكريم بين معاذ بن جبل وأستاذه ومعلمه، هذا الحوار الذي رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن أبي شيبة وغيرهم وهو حديث صحيح، يقول معاذ بن جبل لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً: [يا رسول الله! أخبرني عن عمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار] أسمعتم إلى هذه الأمنية وإلى هذا الهدف، هذا هو الهدف الذي عاشوا من أجله، وتلك هي الأمنية التي بذلوا من أجلها [يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار] فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لقد سألت عن عظيم!) ألا تريدون أن تتعلموا الطريقة أيها الأحبة؟

    خذوا الجواب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه) ما هو الطريق يا رسول الله للجنة وللبعد عن النار؟

    فقال صلى الله عليه وسلم: (تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت) ولكن الحبيب صلى الله عليه وسلم، أكاد أحس بأنه يرى أُنساً في حديثه مع معاذ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ! ألا أدلك على أبواب الخير؟ فقال: بلى يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: الصوم جنة -أي: وقاية- والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا النبي قول الله جل وعلا: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:16-17] ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا معاذ! ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قال: بلى يا رسول الله. قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا معاذ! ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله! فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه وقال: كُفّ عليك هذا. فقال معاذ: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟! قال: ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم).

    ياله من حوار كريم! يا لها من مدرسة! ويا لهم من تلاميذ!

    أسمعت -أيها الحبيب- إلى هذا الحوار المبارك الذي علمنا الكثير والكثير؟! ولو توقفنا عند كلماته لاحتجنا بلا مبالغة إلى عشر جمع، بل والله إلى أكثر، حوار بين أستاذ وتلميذ، بين أستاذ الإنسانية ومعلم البشرية محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وبين تلميذ شرب من هذا النبع الصافي الكريم، ودار في فلك شمس النبوة المشرقة التي لا تغيب إلى يوم القيامة.

    1.   

    معاذ بن جبل وقيامه بواجب الدعوة والجهاد

    لما جاءت رسل ملوك اليمن في أوائل العام العاشر، بعد عودة النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك ، وطلبوا من رسول الله أن يرسل معهم من يعلمهم دينهم، ومن يفقههم في إسلامهم، وهنا وقعت عين النبي صلى الله عليه وسلم على الداعية العظيم، على القارئ القانت، والمحب الثابت، على الفقيه العلم، على الشاب ابن العشرين أو ابن الثلاثين، على معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه، يرسله النبي صلى الله عليه وسلم أميراً للدعاة في اليمن ليدعو إلى الله جل وعلا.

    معاذ بن جبل والدعوة إلى الله

    يخرج النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه مع معاذ بن جبل ، ويمشي النبي صلى الله عليه وسلم بجانب راحلته، ومعاذ راكب ويوصيه ويبذل له الوصايا التي تتناثر من فيه كحبات اللؤلؤ، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، ليرسم له الطريق، ويحدد له المنهج للدعوة الصحيحة التي ينبغي أن يسير على منوالها كل داعية صدوق، والحديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما فيقول له: (يا معاذ! إنك تأتي قوماً أهل كتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله جل وعلا قد فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتقِ دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب).

    ويمضي البطل، ويمضي الفقيه الشاب بهذه الوصايا الغالية في قلبه وفؤاده وعقله وبين جوانحه ليسير عليها ولا يحيد عنها قيد أنملة، لأنها وصايا وتعاليم أستاذه ومعلمه صلى الله عليه وسلم، ويودع النبي صلى الله عليه وسلم وداعاً مؤثراً لماذا؟

    لأن النبي صلى الله عليه وسلم مشى طويلاً مع معاذ وكأني والله أحس أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد أن يملأ عينه من معاذ، فطال النبي صلى الله عليه وسلم في مشيه مع معاذ، وأخيراً نظر إليه وقال: (يا معاذ! عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي وقبري) وانفجرت الدمعات وانحدرت على وجنتي معاذ كحبات لؤلؤ، بكى رضي الله عنه، يخبره أستاذه وحبيبه بأنه قد لا تكتحل عينه بعد اليوم برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبكي معاذ بل ويبكي بكاءً طويلاً، ويأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يكف عن البكاء، وإيه والله بأبي هو وأمي، انطلق معاذ بن جبل وما عاد إلى المدينة إلا بعد أن مات الحبيب صلى الله عليه وسلم: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].

    معاذ بن جبل والجهاد في سبيل الله

    ويرجع معاذ بن جبل إلى المدينة لأول مرة حتى لا يرى فيها أستاذه ومعلمه وحبيبه، يمر على قبر أستاذه ومعلمه ووالله إني لأحس بحالة معاذ حينئذٍ يوم دخل المدينة أول مرة .. يوم دخل المدينة ليقف أمام قبر النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن تركه بالأمس القريب يكلمه ويحدثه، وينظر معاذ إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أبي بكر رضي الله عنه ويستأذنه ألا يقيم في المدينة ، وأن يرجع على الفور إلى بلاد الشام ليجاهد في سبيل الله، لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة.

    ونتوقف مع معاذ عند هذا القدر، لنكمل ما بقي من كلمات قليلات بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    أيها الأحبة: ويأذن الصديق رضي الله عنه لـمعاذ أن يخرج للجهاد في سبيل الله في الشام ، وينطلق معاذ بن جبل ليجاهد تحت إمرة أبي عبيدة رضي الله عنه وأرضاه، وقدر الله لـأبي عبيدة أن يموت بالوباء والطاعون، ويأمر عمر بن الخطاب بعد موت أبي بكر أن يتولى القيادة العامة لجند الشام معاذ بن جبل ، ويتولى معاذ القيادة العامة لجند الشام ولكن قدر الله جل وعلا شيئاً آخر فلم يمض غير قليل حتى ابتلي معاذ نفسه بهذا الوباء وذلكم الطاعون.

    1.   

    وفاة معاذ بن جبل

    نام معاذ بن جبل ذلكم الشاب الوضيء الكريم المحيا، البراق الثنايا، الفقيه العلم، نام على فراش الموت في الثالثة والثلاثين من عمره، وينظر إلى أصحابه من حوله ويقول: [انظروا هل أصبحنا؟ فيخرجون ويقولون: كلا. فيسألهم مرة أخرى: انظروا هل أصبحنا؟ فيرجعون ويقولون: نعم. لقد أصبحنا، فيقول معاذ بن جبل أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار].

    يا سبحان الله! معاذ الشاب الذي نشأ في الإسلام، شاب نشأ في عبادة الله، وعلى طاعة الله، أسلم يا أحبتي في الثامنة عشرة، وهاهو الآن يسلم الروح إلى خالقها جل وعلا في الثالثة والثلاثين، حياته كلها شرف، كلها فخر، كلها عزة، كلها طاعة، ينام على فراش الموت، ويقول: [أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار].

    ثم جعل يقول: [مرحباً بالموت مرحباً، زائر جاء بعد غيبة، وحبيب جاء على فاقة، ثم قال: اللهم إنك تعلم أني كنت أخافك ولكني اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أنني لم أحب الدنيا لغرس الأشجار، ولا لجري الأنهار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر].

    وفاضت روحه الطاهرة ليلقى الأحبة محمداً وصحبه، رضي الله عن معاذ، وصلى الله على أستاذه ومعلمه، وأسأل الله جل وعلا أن يجمعني وإياكم معهم في دار كرامته، ومستقر رحمته إنه ولي ذلك ومولاه.

    أيها الأحبة في الله: هذه قدوتنا، وهذه مثلنا في وقت قدم فيه التافهون والفارغون والساقطون ليكونوا القدوة والمثل، أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم ممن ينهلون من هذا النبع الصافي الكريم، وممن يسيرون ويقتفون أثر هؤلاء الأطهار الأخيار الأبرار، وأن يرزق الأمة -وهو على كل شيء قدير- بأمثال هؤلاء، عسى أن يتقبل الله سبحانه وتعالى منا هذا الدعاء.

    اللهم قيض لأمة التوحيد أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم أقر أعيننا بنصرة دينك يا رب العالمين، اللهم وفق ولاة الأمر لما تحبه وترضاه، برحمتك يا أرحم الراحمين! وارزقهم اللهم البطانة الصالحة الناصحة الخيرة، أنت ولي ذلك والقادر عليه، وأنت على كل شيء قدير.

    أحبتي في الله: أكثروا من الصلاة والسلام على حبيبنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله جل وعلا قد أمرنا بذلك في محكم تنـزيله فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهوٍ أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755771021