إسلام ويب

بدر التمام في ترجمة الشيخ الإمامللشيخ : أبو إسحاق الحويني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن للعلماء أهمية عظيمة في حياة الناس فهم أئمة الهدى ومصابيح الدجى، وإليهم يرجع الناس في المدلهمات والفتن. وإن من أولئك العلماء الربانيين الشيخ محمد ناصر الدين الألباني الذي ظل طوال حياته يدفع عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريف المحرفين وانتحال المبطلين، فأحيا الله به السنن، وأمات به البدع. وإن كانت الأمة قد فقدت هذا الإمام إلا أن آثاره ستبقى بارزة المعالم لكل من أراد معرفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    خسارة فقد العلماء

    إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

    فدرسنا هذا المساء بعنوان (بدر التمام في ترجمة الشيخ الإمام) وهي ترجمة مختصرة لشيخنا الشيخ الإمام حسنة الأيام، ومحدث بلاد الشام بل بلاد الإسلام، عميد السلفيين، وشيخ المتكلمين، وناصر سنة سيد المرسلين، شيخنا أبي عبد الرحمن محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله.

    ففي يوم السبت الثاني والعشرين من شهر جمادى الآخرة سنة (1420هـ) الموافق الثاني من شهر أكتوبر سنة (1999م) قضى الله عز وجل قضاءه بالحق، وألحق بالرفيق الأعلى شيخنا رحمه الله، وقبض ملك الموت وديعته في الأرض، واستودع مسامعنا من ذكره اسماً زاكياً، ومن عمى الأبصار من رسمه شخصاً تالياً.

    وإني والله لحقيق بقول متمم بن نويرة يرثي أخاه مالكاً فقال:

    لَقَدْ لاَمَنِي عِنْدَ الْقُبُورِ عَلى البُكا رَفِيقي لِتَذْرَافِ الدُّمُوعِ السَّوَافِكِ

    وَقالَ أتَبْكِي كُلَّ قَبْرٍ رَأيْتَـهُ لِقَبْرٍ ثَوَى بَيْنَ اللِّوَى فَالدَّكَادِكِ

    فُقُلْتُ لَهُ إنَّ الشَّجَى يَبعَثُ الشَّجى فَدَعْنِي فَهَذَا كُلَّهُ قَبْرُ مالك

    وفاة الشيخ الألباني رحمه الله خسارة جسيمة على هذه الأمة، فقد اندك بموته أقوى معقل كان يرسل الشيخ منه القذائف على خصوم الإسلام، وما لانت له قناة قط رحمه الله.

    1.   

    الشيخ الألباني وإحياء السنة

    أول معرفتي بشيخنا -رحمه الله- كانت سنة (1395هـ) كنت أصلي في مسجد (عين الحياة) خلف الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله، وبعد انتهاء الصلاة كنت أطوف على البائعين الذين يبيعون الكتب، ففي يوم من الأيام وقفت على كتاب (صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التسليم إلى التكبير كأنك تراه) فأخذت الكتاب بيدي وقلبته، ولكنه كان باهظ الثمن، فتركته ومضيت أبحث عن كتاب آخر، فإذا بي أجد كتيباً لطيفاً بعنوان (تلخيص صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للشيخ الألباني ) فاشتريته بخمسة قروش، وتصفحته وأنا في طريقي إلى مسكني، فوجدت ما فيه يخالف ما ورثته من الصلاة عن آبائي؛ إذ أن كثيراً من هيئات الصلاة لا تمت إلى السنة بصلة؛ فندمت ندامة الكسعي أنني لم أشتر الآخر.

    والكسعي هذا رجل يضرب به المثل في الندم، وقصته أنه كان رجلاً رامياً، وكان لا يخفق في رميه، فرمى بالليل ظباء، فظن أن السهم لم يصب الظباء فكسر قوسه، وقيل: قطع إصبعه، فلما أصبح وجد الظباء ميتة وسهمه فيها، فندم أنه كسر السهم، وصار مثلاً يقال: ندامة الكسعي ومنه قول الفرزدق :

    ندمتُ ندامةَ الكُسَعِيّ لمـا غدت منّي مُطلَّقةً نوار

    فندمت ندماً شديداً أنني لم أشتر ذلك الكتاب، وظللت أبحث عن ثمن الكتاب طيلة الأسبوع حتى وفقني الله عز وجل لشرائه في الجمعة التي بعدها، فلما قرأت الكتاب كنت كما قال القائل: (ألقيت الألواح، ولاح لي المصباح من الصباح) ووجدت نموذجاً فريداً في التصنيف، مع أنني ما كنت أفهم شيئاً قط من الحاشية التي كتبها الشيخ رحمه الله، ولكنني أحسست بفحولة وجزالة لم أعهدها في كل ما قرأته من قبل، فملك عليَّ هذا الكتاب حواسي، وكنت في كل جمعة أبحث عن مصنفات الشيخ ناصر الدين الألباني ، حتى وقفت على كتاب (سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة) وقفت على المائة الحديث الأولى، وهذا الكتاب هو الذي فتح عيني وأنار بصيرتي.

    وكان لهذا الشيخ رحمه الله الفضل ليس عليَّ فقط، ولكن على أبناء جيل الإسلام، فإن هذا الشيخ المبارك كان له من الأثر ما لم يفعله كثير من العلماء، فما من رجل ينسب إلى السنة في هذا الزمان إلا وللشيخ عليه فضل، دق أو جل.

    ومن بعدها لم أكن أصلي في مسجد عين الحياة خلف الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله؛ لأن الشيخ رحمه الله كان على رغم ما له من فضل، فكل المنتسبين إلى الصحوة هو الذي أجج فيهم نار الالتزام والحمية للإسلام، إلا إن أكثر من ستين أو سبعين بالمائة من الأحاديث التي يذكرها الشيخ رحمه الله كانت من الأحاديث الضعيفة والموضوعة.

    وللشيخ كشك رحمه الله عذر في ذلك؛ لأنه حفظ أحاديث كتاب (إحياء علوم الدين) لـأبي حامد الغزالي ، وأبو حامد الغزالي كان تام الفقر في علم الحديث، وكتابه من أكثر الكتب كذباً على النبي صلى الله عليه وسلم، وتستطيع أن تدرك ذلك بالنظر إلى حاشية الكتاب، وإلى تخريج الحافظ زين الدين العراقي المسمى بـ(المغني عن الأسفار في الأسفار بتخريج ما في الإحياء من الأخبار) فإن الحافظ زين الدين العراقي حكم على كل أحاديث هذا الكتاب، وأكثر من ستين أو سبعين بالمائة من أحاديث هذا الكتاب إما موضوع أو باطل أو منكر أو ضعيف أو لا أصل له، والقليل منها صحيح.

    وقد ذكر الشيخ الألباني رحمه الله في الجزء الأول من السلسلة الضعيفة الأحاديث المشهورة على ألسنة الناس، وإذا بي أفاجأ أن أغلب الأحاديث التي حفظتها من الخطباء في الجمعة تدور ما بين المكذوب على النبي عليه الصلاة والسلام والموضوع والباطل والضعيف والشاذ والمنكر... إلى آخر هذه الأقسام التي هي من نصيب الأحاديث الضعيفة.

    فعكر عليَّ كتاب الشيخ الألباني هذه الخطب، حتى أنني أصبحت أشك في كل حديث أسمعه، وفي يوم من الأيام سمعت الشيخ يقول على المنبر حديثاً وهو: (إن الله تبارك وتعالى يتجلى للناس عامة، ويتجلى لـأبي بكر خاصة) لأول مرة أشك في حديث أسمعه وأقول في نفسي: ترى هل هذا الحديث صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ ومع ذلك فقد انفعلت له لما أسمعه من صراخ الجماهير من حولي إعجاباً واستحساناً.

    فلما رجعت إلى بيتي نظرت في سلسلة الأحاديث الضعيفة للشيخ ناصر الدين فلم أجد هذا الحديث، فواصلت بحثي فوجدت هذا الحديث في كتاب (المنار المنيف في الصحيح والضعيف) لـابن القيم رحمه الله، وقد حكم عليه ابن القيم بأنه موضوع على النبي عليه الصلاة والسلام.

    وكان قد استقر عندي ببركة القراءة في كتب الشيخ الألباني أن التحذير من الأحاديث الضعيفة والموضوعة واجب أكيد، فقلت في نفسي: لابد أن أذهب إلى الشيخ وأبلغه أن هذا الحديث مكذوب. وكان للشيخ كشك رحمه جلسات في مسجده بين المغرب والعشاء، فلحقت بالصف الأول حتى أكون في أوائل الناس الذين يسلمون عليه، فسلمت عليه وهمست في أذنه إلى أن الحديث الذي ذكره في الجمعة الماضية وسميته قال عنه ابن القيم رحمه الله: إنه موضوع على النبي عليه الصلاة والسلام، فقال لي الشيخ: بل هو صحيح، وقال لي كلاماً لا أضبطه الآن، لكن خلاصة هذا الكلام أن ابن القيم لم يكن مصيباً في حكمه على هذا الحديث بالوضع، ولم يكن هناك وقت للمجادلة؛ لأن هناك طابوراً طويلاً خلفي، وكلهم يريد أن يسلم على الشيخ ويسر إليه بما يريد.

    وكان مما حز في نفسي أن الشيخ كشك رحمه الله سألني عن العلة في وضع هذا الحديث، فقلت له: لا أدري. فقال لي: يا بني! تعلم قبل أن تعترض. فمشيت من أمامه مستخزياً، وخرجت من عنده وكلي إصرار أن أدرس هذا العلم، حتى أعلم ما هو السبب في أن الحديث موضوع أو ضعيف أو باطل.

    فكان من بركات الشيخ الألباني عليَّ وعلى كثير من أمثالي أنني تمذهبت بمذهب أهل الحديث؛ لأن التمذهب بمذهب أهل الحديث بمثابة طوق النجاة، ولم أتقلب يميناً ولا شمالاً، ولا تعدد انتمائي للجماعات المختلفة أبداً، وكان الفضل في ذلك بعد الله للشيخ الألباني رحمه الله.

    فطفقت أسأل إخواني عن شيخ يدرس هذا العلم، فدللت في ذلك الوقت على شيخنا الشيخ محمد نجيب المطيعي رحمه الله، وكان يعقد هذه المجالس في بيت طلبة ماليزيا، وكان يدرس كتباً أربعة: كان يشرح صحيح البخاري، والمجموع للنووي ، وإحياء علوم الدين للغزالي ، والأشباه والنظائر للسيوطي .

    فوجدت في هذه المجالس ضالتي المفقودة، ودرست عليه نبذاً كثيرة من علم الحديث، ولكن قلبي متعلق بكتب الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله.

    الحويني ورحلته إلى الشيخ الألباني

    حتى منَّ الله تبارك وتعالى بأول رحلة إليه، وكانت في شهر محرم (1407) من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كنت التقيت قبلها بصهره وزوج ابنته الأخ نظام، فقلت له: إن كان هناك إمكانية للدراسة عند الشيخ وملازمته، فذكر لي أن المسألة في غاية الصعوبة، وأن ملازمة الشيخ مسألة صعبة، ولكن تعال وجرب، فكتبت للشيخ رسالة قلت له فيها كلاماً معناه: (إنني علمت أنكم تطردون الطلبة عن داركم، وأنا عندي أكثر من مائتي سؤال في علل الأحاديث ومعانيها، ولست أقنع إلا بجوابكم دون غيركم) أو كلاماً نحو هذا المعنى، وسلمها الأخ للشيخ، وقرأها عليه، وكان مما تألم منه الشيخ في هذه الرسالة كلمة (الطرد).

    وكنت قبلها قد صنفت ثلاثة كتب، وكانت جميعها قد وصلت إلى الشيخ الألباني قبل أن أذهب إليه، فذهبت في الثاني من محرم، وكان ذلك في سنة (1407هـ)، ونزلت في عمَّان، وكلمت الشيخ بالهاتف، وقد هيأت نفسي على الرضا بالطرد إذا فعل الشيخ ذلك، فباغتني بأن بدأ، فألقى عليَّ السلام، فرددت عليه السلام بمثل قوله، فقال لي: لم تحسن الرد. فقلت: لم يا شيخنا؟! قال: اجعل هذا بحثاً بيني وبينك إذا التقينا غداً. وظللت طوال الليل أتأمل لم أسأت الرد، فهو قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فقلت: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. ولم أكتحل بنوم حتى أذن المؤذن للفجر، وقررت في نفسي أن الذي يرد السلام يزيد شيئاً على الملقي، يعني: أن أزيد بعد: (وبركاته) لفظ: (ورضوانه) (ومغفرته) ولم أكن وقفت على بحث الشيخ في سلسلة الأحاديث الصحيحة (الجزء الثالث).. لماذا؟ لأنه لم يصلنا في ذلك الوقت.

    وراح عليَّ لقاء الفجر مع الشيخ بسبب أنني نمت قبل الفجر بقليل ولم أستيقظ إلا بعد الفجر، فأخذت منه موعداً آخر بعد صلاة العشاء في يوم الثالث من محرم، فبعد صلاة العشاء التقيت بالشيخ، وإن لساني ليعجز عن وصف شعوري عندما رأيته لأول مرة.

    وقد كتبت ترجمة للشيخ الألباني سميتها (الثمر الداني في الذب عن الألباني) وقد نشرت قبل سنتين وحتى هذه اللحظة أشعر أنني عاجز عن وصف الشيخ مع أنني أمهلت نفسي كثيراً حتى أكتب ما شعرت به أول مرة رأيت الشيخ فيها، وكأني رأيت رجلاً من القرون الثلاثة الأول، عليه نضارة أهل الحديث، والشيخ ناصر كان بهي الوجه أبيضه، مشرباً بحمرة، ربعة من الرجال، خفيف اللحية أبيضها -لحيته بيضاء- عيناه زرقاوان، وزرقتهما رائقة كأنها بحر، ثم هو قوي البنية، فلما صافحني صافحني بقوة، وظل قوياً إلى آخر حياته رحمه الله، وكان شاباً فتياً بهمته، وكان يقود السيارة بسرعة عالية، ويحكي لي بعض الإخوة الذين كانوا يذهبون معه إلى العمرة بسياراتهم، فكانوا يتبادلون القيادة، فكان الشيخ أكثرهم قيادة، وكان التعب والملل يدركهم، وأما الشيخ فكان يقود سبع ساعات متواصلة لا يمل ولا يكل، مع ما كان عليه من الشيخوخة وكبر سنه.

    وفي الحقيقة أني لما رأيته تذكرت حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأ سمع منا مقالة فوعاها، فأداها كما سمعها). قال ابن حبان رحمه الله بعد رواية هذا الحديث: (وإني لأرجو أن تدرك بركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم كل من نقل عنه حديثاً، فترى تلك النضرة في وجهه) ولقد كانت نضرة الحديث على وجه الشيخ باهرة ظاهرة.

    فلما اقتربت منه -اقتربت منه على حذر؛ لأن له هيبة شديدة- ففوجئت بأنه يعانقني وكان لقاءً حاراً، ولم أتوقع أن يتلقى الشيخ تلميذاً صغيراً بمثل هذه الحفاوة، فتكلمت معه ساعتين، وكانت هذه هي أول جلسة مع الشيخ الألباني رحمه الله، وبعد هذه الجلسة تنحيت به جانباً وأخبرته أنني لم أخرج من بلدي إلا للقائه والاستفادة من علمه، فلو أذن لي أن أخدمه، وأكون معه سنداً له أقضي له حاجياته، فاعتذر بعدم وجود الوقت الكافي، فقلت له: إذاً أعطني قليلاً من الوقت أسألك عن الأسئلة التي جئت من أجلها، فاعتذر أيضاً؛ لضيق وقته. فقلت له: أعطني شيئاً من وقتك ولو كان قليلاً، فاعتذر أيضاً؛ فأحسست برغبة حارة في البكاء، وأحسست أن رحلتي ضاعت، وأنا لم أخرج من بلدي إلا بأعجوبة، وكان حلماً لا أستطيع تحقيقه، فخروجي إلى الأردن كان معجزة، فقد كابدت فيه الأهوال وذقت المر حتى وصلت إلى الشيخ الألباني .

    فقلت له -وقد خنقتني العبرة-: يا شيخنا! والله ما خرجت إلا لطلب العلم، فإن كنت أخلصت نيتي؛ فإن الله عز وجل سيفتح لي، وإن كانت الأخرى فحسبي عقاباً عاجلاً أن أرجع إلى بلدي بخفي حنين، وسأدعو الله عز وجل.

    فافترقنا ولم أذق طعم النوم في تلك الليلة، وكاد رأسي أن ينفجر من الصداع.

    فلما صليت الفجر معه في اليوم التالي قابلني، فصافحته وقبلت يده، فقال لي مبادراً: لعل الله استجاب دعاءك. ففرحت فرحاً عظيماً بأن الشيخ رحمه الله قد سمح لي بالجلوس، وأنه سيأذن لي بالاستفادة منه وسؤاله.

    1.   

    الألباني ورحلته إلى بلاد الشام

    فكان من جملة فوائد الرحلة أنني سألته عن ترجمة لحياته، ولا أعلم أحداً سبقني إلى هذه الترجمة إلا الأخ محمد بن إبراهيم الشيباني، وهو أحد إخواننا من الكويت، وقد ألف في ذلك كتاباً وهو (حياة الألباني ) ويقع في مجلدين، وهذا هو الذي سبقني في سؤال الشيخ الألباني ولكن لا أعلم أحداً سبقني في تسجيل حياة الشيخ رحمه الله بتوضيح، وهذه الترجمة موجودة في خمسة أشرطة.

    فحياته رحمه الله -كما سردها لي- أنه ولد عام (1914م) أي: أن الشيخ الألباني رحمه الله توفي عن خمس وثمانين سنة.

    قال: وكنا في ألبانيا، وكان الحاكم أحمد سوغو بدأ يفرض على الألبانيين (القبعة) بدلاً من العمامة، وكان يضايق النساء في لباسهن، وكان والد الشيخ الألباني رحمه الله شيخ الحنفية في بلده، وكان هو المفتي الذي يرجع إليه، فلما رأى والده هذا النذير -نذير الشؤم- بفرض (القبعة) بدلاً من العمامة، وهذا هو شأن العلماء النابهين، فالمسألة ليست مجرد عمامة أو قبعة كما يتصور بعض الناس الذين يهمشون المسائل الخطيرة، ويقولون: المهم القلب .. لا، فالعمامة مظهر إسلامي والدين الإسلامي أصيل، بينما القبعة من أزياء أعدائنا، والقبعة إنما توضع على الرأس، وأعلى ما في المرء رأسه، فأنت حين تضع شيئاً على رأسك فكأنما وضعت عنواناً، وأعلى ما فيك هو الرأس، فلا يرى الناس إلا (القبعة).

    وهذه الغفلة قد سرت إلى بلادنا، وحتى في بعض الناس الذين يوصفون بالالتزام، فتجد ابنه يلبس (فنيلة) -مثلاً- عليها العلم الإمريكي، ويوضع العلم على صدر أبنائنا، وأنت تعلم أنه لا يوضع على الصدر إلا الوسام، فعندما أضع علم عدوي اللدود على صدر ابني، فكأنني أعطيته وساماً، أو يكون على ظهره، والولد يتحرك ليلاً ونهاراً وهو يرفع العلم الأمريكي مجاناً، ويصير لون العلم لوناً مستأنساً بالنسبة له، وليس غريباً، وهذا له تأثير خطير في مسألة الانتماء.

    فالمسألة ليست مسألة قماش يوضع على الرأس وإنما هو رمز تحمله، وأنت ترى كل دولة لها علم يرفرف باسمها، تكون حريصة على أن يظل العلم مرفوعاً، وأكبر جريمة أن شخصاً يمسك هذا العلم وينظف به الحذاء؛ لأن هذا يدل على أنه ليست له قيمة عنده.

    فلما رأى والد الشيخ الألباني هذا قرر أن يرحل إلى بلاد الشام لما كان قد قرأه من الأحاديث في فضائل الشام عامة وفي فضائل دمشق خاصة، فرحل إلى دمشق واستوطنها، وكان عمر الشيخ الألباني آنذاك تسع سنوات، ولم يكن يعرف عن العربية شيئاً، فبدأ تعليمه في جمعية اسمها ( جمعية الابتعاث الخيري ) وكان كما يقول: كأن الله عز وجل فطرني على محبة اللغة العربية، فتفوقت على أقراني من العرب السوريين من أول سنة، وقال: وأخذت الابتدائية في سنتين، وكان المدرس يعير الطلبة السوريين بي؛ لأنني رجل أعجمي، ومع ذلك أتقنت العربية خلال سنتين.

    ولم يواصل الشيخ رحمه الله تعليمه فخرج من المدرسة، وكان أبوه يمارس مهنة تصليح الساعات، فلما خرج من المدرسة بدأ يعمل مع خال له، وكان نجاراً يصنع البيوت التي سقفها من الخشب على نحو ما هو موجود في باريس.

    قال: فجئت ذات يوم مبكراً. فقال: ما جاء بك؟ فقلت: لأعمل، فقال: هذه المهنة لا تصلح لك، تعال معي، وبدأ الشيخ ناصر الدين رحمه الله يعمل مع والده في تصليح الساعات، حتى برع فيها، وكان الشيخ رحمه الله يقول: إن مهنة تصليح الساعات علمتني الدقة. وهو حقاً كان دقيقاً جداً، فعندما ذهبت إليه في بيته إلى (الفيلا) التي يسكن فيها في مازدا الجنوبية في الأردن، ودخلت الحديقة لمست أثر مهنته عليه.

    الشيخ الألباني وبداية الطريق إلى علم الحديث

    أول مرة يبدأ الشيخ ناصر فيها يقرأ في علم الحديث، كان سببها أنه قرأ مقالةً في مجلة المنار التي كان يصدرها آنذاك الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله، وكان الشيخ محمد رشيد رضا استوطن أهله الشام، ثم رحل إلى مصر، وأي شخص يريد أن يبرز في أي فن حتى المغنين ويريد أن يكون له صيت، وله شهرة، وأن يكون له احترام في مهنته يأتي إلى مصر.

    فنزح الشيخ محمد رشيد رضا ، والشيخ محب الدين الخطيب من الشام إلى مصر.

    وكان الشيخ محمد رشيد رضا يكتب في مجلة المنار، وكان قد كتب مقالاً عن كتاب (إحياء علوم الدين) وعن تخريج الحافظ زين الدين العراقي له، وهذه كانت أول مرة الشيخ الألباني يقرأ عن علم الحديث. قال الشيخ: فجعلت أبحث عن هذا الكتاب كالعاشق الولهان، حتى ظفرت به عند رجل كان يؤجر الكتب، لأنه لم يكن أحد يهتم بعلم الحديث؛ لأن علم الحديث من أصعب العلوم في ذلك الوقت، ويضاف إلى صعوبته أن دارسه لا يحصل على وظيفة بعد ذلك، والإنسان لو درس الفقه فربما يكون مفتياً، أو واعظاً، أو خطيباً، ولكن إن كان محدثاً -كما قال ابن معين وقال أحمد بن حنبل وقال الدارقطني - فأين يبيع بضاعته؟! فلم يكن أحد يقبل على دراسة علم الحديث.

    والناظر إلى المدارس التي بنيت في بلاد المسلمين قديماً يعلم غربة علم الحديث، فإذا نظرت إلى مدرسة نظام المفتي في بغداد، وكل المدارس التي جرت على هذا المنوال حتى الأزهر، فإنهم كانوا يهتمون بشيئين:

    الشيء الأول: الفقه وأصوله.

    والشيء الثاني: علم الكلام.

    بينما الحديث لا يدرس، فكان الذي يقبل على دراسة علم الحديث يدفع من جيبه، ولا يقبل عليه إلا إذا كان له هدف وكان محتسباً.

    فالشيخ الألباني بحث عن هذا الكتاب عند رجل فأجره منه لمدة سنة؛ لأنه لم يكن يستطيع شراءه، فبدأ الشيخ الألباني يفتح عينيه على علم الحديث.

    بين الشيخ الألباني ووالده

    فبدأ يحصل بينه وبين والده مجادلات، فوالده كان حنفياً جلداً، (جلد) أي: لا يخالف مذهب الأحناف في قليل أو كثير، ومن المعروف أن مذهب الأحناف يخالف كثيراً من الأحاديث الصحيحة، حتى إن العلماء أخرجوا كتباً في الرد على أبي حنيفة منهم الأوزاعي ، ومنهم أبو بكر بن أبي شيبة له في كتاب المصنف كتاب كبير اسمه (الرد على أبي حنيفة فيما خالف فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم) فكانت تحصل مجادلات بين الشيخ وبين أبيه.

    يقول الشيخ الألباني : فكان والدي كلما عجز عن الإتيان بحجة في مقابلي كان يرفع صوته ويقول: علم الحديث صنعة، ويأبى عليه أن يعارضه في شيء من الحديث، حتى كثرت مخالفته مع أبيه.

    ثم في يوم من الأيام، كان والد الشيخ الألباني على سفر، فجعل الشيخ البرهاني -وهو أحد مشايخ الشيخ الألباني - خلفاً له في صلاة الجماعة، وكان الشيخ الألباني في ذلك الوقت تبنى كراهة الجماعة الثانية في المسجد الذي له إمام راتب، وعلم مع دراسة الأدلة أن هذه المسألة مكروهة، وكان من شؤم تفرق المسلمين إلى شيع وأحزاب أن المسجد الواحد كان فيه أربعة محاريب: محراب للمالكية، ومحراب للحنفية، ومحراب للشافعية، ومحراب للحنابلة، وكان إمام الشافعية يصلي أولاً، لأن الشافعية يصلون الفجر بغلس -أي: في أول الوقت- والحنفية يصلون الفجر بإسفار -أي: في آخر وقت صلاة الصبح بعدما يسفر الفجر- فلما علم الشيخ الألباني أن الجماعة الثانية في المسجد لا تجوز وأراد خليفة والده أن يستخلفه إماماً؛ لأنه يريد السفر أبى ذلك، وقال: أنا لا أخالف ما أعتقده، فأنتم تؤخرون الصلاة، وإمام الشافعية يصلي قبلكم وكل هذا في مسجد واحد!! وقد قال الشيخ أحمد سالم رحمه الله: ولقد رأيت هذه المحاريب الأربعة في الجامع الأزهر، وكانت هذه المسألة جارية ومسألة عادية لا تعارض فيها ولا إشكال، وكل هذا بسبب غياب الدليل وعدم الرجوع إلى النص، وعدم الوقوف عند حدود ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    فبدأت هذه المخالفات تظهر في رفض الشيخ الألباني أن يصلي بدل الشيخ البرهاني ، بل كان يصلي مع الشافعية؛ لأنها أول جماعة تقام، فلما رجع والده من السفر حكى له الشيخ البرهاني الذي كان من ابنه، فأضمرها الوالد في نفسه، ولكنه بدأ يحصل نوع من الشقاق والنزاع بين الشيخ وبين أبيه.

    ولقد قرأ الشيخ الألباني -وهو يواصل القراءة في عقيدة السلف- أن الصلاة في المسجد الذي فيه قبر لا تجوز، وشاع في دمشق أن المسجد الأموي دفن فيه سبعون نبياً، قال الشيخ ناصر : فجعلت أفتش عن أصل هذا الكلام، فإذا سنده ضعيف جداً ولا أصل له، وأن هذه الحكاية لا تصح عن أحد من أئمة المسلمين ولا من المؤرخين.

    قال: فجمعت بعض ورقات في هذا الباب كانت نواة لكتابي (تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد) قال: ورفعت هذه الأوراق إلى الشيخ البرهاني وكان شيخي، وقلت له: في هذا البحث حرمة الصلاة في المسجد الذي فيه قبر، فقال: هات الأوراق، وقال: سأرد عليك بعد العيد. فلما كنا بعد العيد قال: لم تصنع شيئاً، ونحن إنما نأخذ الدين من كتب الفقه لا من كتب الحديث.

    قال الشيخ: وفي يوم من الأيام وبعد أن تعشينا قال لي والدي بلسان عربي مبين: إنك أكثرت مخالفتي ومخالفة الموروث من المذهب، فإما أن توافق وإما أن تهاجر. فقلت له: أمهلني ثلاثة أيام حتى أنظر في أمري. قال: ولما مضت الأيام قلت لوالدي: أنا لا أستطيع أن أترك ما أعتقد أنه الحق، ولا أستطيع أيضاً أن أزعجك، فسأهاجر.

    وهذا هو الذي نقوله لإخواننا الذين يتعرضون للضغط والإرهاق في بيوتهم من قبل آبائهم المناوئين لهم في التزامهم وإن كثيراً من الآباء يحلف بالطلاق إن لم يحلق ابنه لحيته ونحن نقول لهذا الولد: أطع ربك وأطع أباك، أطع ربك لأنه هو الذي أمرك على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أن تعفي لحيتك، وأطع أباك إذا أمرك بالخروج من البيت، فلا تحلق لحيتك واخرج من البيت، وبذلك تكون قد أطعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكون قد أطعت أباك أيضاً الذي أمرك بالخروج.

    الشيخ الألباني في المكتبة الظاهرية

    قال: وخرجت من البيت وليس معي درهم ولا دينار، ولا أدري إلى أين أذهب، حتى استأجرت من بعض إخواننا، وكان الشيخ الألباني رحمه الله له أيضاً دروس يعقدها في دمشق، وكان يشرح في تلك الأيام كتاب (زاد المعاد) لـابن القيم ، وكان من ثمرة تدريسه هذا الكتاب الذي وضعه على زاد المعاد باسم (التعليقات الجياد على زاد المعاد) خرج فيه أحاديثه، ونقحه، واعترض عليه في بعض المسائل وأدلى بحجته، وما لم يظهر دليله أظهر دليله، ولكن الشيخ -كما أخبرني- لم يتم هذا الكتاب ولم يطبعه حتى الآن.

    ودرَّس أيضاً كتاب الباعث الحثيث في شرح اختصار علوم الحديث للشيخ أحمد شاكر رحمه الله.

    قال: وتزوجت ولم يساعدني أبي بشيء إلا بمائتي (ليرة) سورية، قال: ولكني كنت دقيقاً في مهنتي فبسط الله علي الرزق، فكثرت الزبائن وتحسن الحال.

    ثم بدأ الشيخ يرتاد المكتبة الظاهرية، والمكتبة الظاهرية تساوي دار الكتب المصرية، فهي مكتبة عامرة بنفائس المخطوطات النادرة، فكان يذهب إلى هذه المكتبة ويمضي يومه كاملاً إلى وقت متأخر من الليل، حتى إن الموظفين في المكتبة إذا أرادوا كتاباً ولم يعلموا بمكانه كانوا يسألون الشيخ الألباني عنه وهم الموظفون المختصون بالمكتبة! حتى وصل به الحال إلى أن أخذ مزية لا أعلم أحداً في الدنيا أخذها غير الشيخ الألباني، وهي أن مدير المكتبة الظاهرية أعطاه مفتاح المكتبة، مع أنها مؤسسة حكومية، وأنت تعلم أن المخطوطات ثمينة، فالمخطوطة الواحدة تباع بمليون (جنيه) وهذه المخطوطات هي تراث أمتنا الذي جاء المستعمرون وسرقوه ومضوا، والحملة الفرنسية لما أتت شغلونا بالكلام الفارغ، يقولون: اللغة الهيروغليفية..! ماذا فعلت لنا هذه اللغة؟ عرفنا ماذا كان يأكل القدماء، وماذا كانوا يشربون، وكيف كانوا ينامون.. فما قيمة هذا الكلام؟ ولكن المستعمرين لما رحلوا إلى فرنسا سرقوا آلاف المخطوطات معهم وذهبوا لينصبوا المكتبات في باريس، ويوجد في العالم مئات المكتبات التي تضم آلاف المخطوطات الإسلامية.

    فمدير المكتبة الظاهرية أعطى الشيخ ناصر الدين الألباني المفتاح، وأعطاه غرفة خاصة في المكتبة، ولم يشغل نفسه كثيراً بالبحث عن القوت.

    فيا ليت طلاب العلم يتأسون به في ذلك، فالشيخ ناصر الدين الألباني لم يصل إلى هذه الرتبة بسهولة، إنما وصل إليها بعد جهد جهيد وعناء شديد وعزم لا يلين.

    الشيخ الألباني وتجرده للحق وبعض ما لقي من الإيذاء

    وكان هذا العزم واضحاً حتى في تصميمه على آرائه الشكلية التي خالف فيها الناس، فعندما كان يقتنع بمسألة فقهية فلا يتركها أبداً إلا إذا ظهر له دليل آخر يرجعه عنها، حتى ولو أوذي بسببها، وهذا فيه دلالة على صلابة الشيخ رحمه الله في الحق، وحسبك أنه مع نباهته ومع شدة تأثيره في الناس عاش غريباً إلى أن مات، فالشيخ الألباني قبل أربع سنوات كاد أن يطرد من الأردن بسبب فتوى له حرفتها بعض الجماعات الإسلامية ممن يسيطرون على مجلس الأمة الأردني، وزعموا أن الشيخ الألباني يوجب على الفلسطينيين الهجرة من فلسطين وتركها لليهود.

    وحتى أن بعض إخواني سمع هذه الفتوى في إذاعة إسرائيل، فالمذيع في إذاعة إسرائيل ذكر الشيخ الألباني وترجم له ترجمة لطيفة وظريفة وقال: إنه أكبر محدث في العالم الإسلامي، وقد أفتى بوجوب هجرة الفلسطينيين من فلسطين. مع أن الشيخ الألباني ما أفتى بذلك، وإنما الفتوى خرجت على مقتضى السؤال الذي وجه إليه، وأنت تعلم أن العالم أسير السؤال، والجواب إنما يخرج على مقتضى السؤال.

    السؤال الذي سمعته بأذني من السائل أنه قال للشيخ: إننا نعاني من الاضطهاد في الأرض المحتلة، ونخاف على أنفسنا، حتى لا يستطيع الواحد منا أن يقيم الصلاة في المسجد خوفاً على أهله؟ فقال له الشيخ: إذا لم تستطع أن تقيم الصلاة فيجب عليك أن تهاجر، فإن هذا النوع من الهجرة أوجبه جميع علماء المسلمين، وهذا النوع لم ينقطع: الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، ومن بلاد المعصية إلى بلاد الطاعة، ومن بلاد البدعة إلى بلاد السنة، فهذه الهجرة الواجبة ينبغي على المسلم أن يسعى إليها ولا تسقط عنه إلا بعجزه عن الهجرة.

    فالجواب واضح، قال: إذا عجزتم عن عبادة الله فاخرجوا من دياركم وارجعوا إليها فاتحين.

    وكاد الشيخ رحمه الله أن يطرد بسبب هذه الفتوى، لولا تدخل بعض كبار تلاميذه، مثل الشيخ: أبي مالك محمد بن إبراهيم الشقرة ، وهو مدير المسجد الأقصى في الأردن، وخطيب مسجد صلاح الدين ومن أفضل تلاميذ الشيخ ومن أشدهم وفاءً له، وكان هذا الشيخ له حظوة عند الملك حسين ، ودخل إلى الملك حسين أكثر من مرة، بل ما دخل الشيخ الألباني الأردن إلا بضمان الشيخ أبي مالك ؛ لأنهم رفضوا أيضاً استقباله في الأردن، وظل الشيخ ثلاثة أشهر على الحدود لا يدري إلى أي بلد يدخل؛ لأن كل بلد ترفض دخوله.

    ولما عقد مؤتمر السنة والسيرة النبوية عام (1400هـ) هنا في مصر دعي إليه كل الناس إلا الشيخ الألباني ، مع أن أغلب هؤلاء المؤتمرين الذين حضررا المؤتمر ليس لهم أي جهد يشكر في خدمة هذه الأمة فيما يتعلق بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف لا يدعى مثل هذا الشيخ العظيم؟

    وظل هذا التجاهل الرسمي للشيخ الألباني حتى العام الماضي، فأعطوه جائزة الملك عن خدمة الحديث، وهو الذي شرف الجائزة، والجائزة لم تشرفه يوماً من الأيام، ولقد ظل الشيخ يخدم السنة أكثر من ستين عاماً وهو إمام للسنة وإمام للعقيدة وإمام في الفقه وفي تعظيم النبي، وظل رد الفعل الرسمي هذا ضعيفاً جداً، ولكن الله عز وجل جعل له من المحبة في قلوب المسلمين ما ظهر مقتضاه حين مات، فيوم موته كانت فجيعة، وكثير من الناس لم يصدق أن الشيخ الألباني رحمة الله عليه مات، ولقد وصلت كتبه إلى آخر مكان في الدنيا، وجعل الله تبارك وتعالى لها القبول في الأرض، ورزقه الله عز وجل حسن التصنيف، بحيث أنه لو عرض مسألة ما، فإنك تقتنع بها ولو كان الشيخ مخطئاً فيها، وإنك إذا قرأت كلامه وقع في قلبك أنه الحق، وهذا لم يبدع فيه إلا قليل من أهل العلم ممن رزق حسن العبارة في التصنيف.

    فالشيخ رحمه الله ظل غريباً، ولم يتحرك بعز الدولة -أي دولة- إلى أن مات، وكان رأيه في حرب الخليج رأياً واضحاً، وقد أوذي بسببه أيضاً، ولم يتراجع فيه لأنه يعتقد أنه الحق في المسألة.

    والشيخ الألباني رحمه الله كان إذا اعتقد مسألة أنها حق لا يفارقها أبداً ولو أدى ذلك إلى حرمانه من سكنى آمنة، أو إلى طرد من البلد، وكان ذلك أيضاً سبباً في محنته لما سجن في سوريا.. فإنه كان متزعماً للتدريس، وجمع الله عز وجل حوله الأفئدة، وكان رجلاً نابهاً، قال لي: كان عندي سيارة قديمة وكنت أطوف سوريا كلها بهذه السيارة، ومرة اختلف إخواني السلفيون في حلب -وكان هو يسكن في دمشق- فقالوا: إن لم تتدارك إخوانك تفرقوا. وذهب إلى هناك وسهر الليل كله، وظل هناك أكثر من أسبوع حتى فصل النزاع بين إخوانه ورجع.

    فكان قد أوقف حياته كلها لهذه الدعوة المباركة، ولما سجنوه استثمر وقته في السجن وأخرج لنا كتاباً وهو (مختصر صحيح الإمام مسلم رحمه الله) درس الكتاب دراسة دقيقة، وجرد الكتاب من أسانيده، وجمع وضم الروايات بعضها إلى بعض، وأخرج مختصر صحيح مسلم بقلمه، ولا أظن أن هذا الكتاب قد طبع حتى الآن.

    والذي طبع هو مختصر صحيح مسلم بتحقيق الشيخ الألباني ، أما (مختصر صحيح مسلم) للشيخ الألباني نفسه فلم يطبع.

    علاقة الشيخ الألباني مع طلابه الغرباء

    وقد كنت أصحبه في زياراته فكان يقدمني لعلمه بأنني غريب، وكان يواسيني، ومرة دعاه جماعة من الأثرياء في منطقة جبل عمان، وهذه المنطقة يسكن فيها الناس الأثرياء، فقلت له: يا شيخنا! هل يمكن أن أصحبك؟ قال: نعم، انتظرني تحت الجسر الفلاني في الساعة الفلانية، وكان دقيقاً في مواعيده، فجاء وكان معه زوجته أم الفضل في الكرسي الخلفي، فجلست بجانبه وشعرت بالحرج أنني أركب معه وامرأته في السيارة، فلاحظ ذلك فجعل يسري ذلك عني ويسألني عن حياتي الشخصية، مثلاً: (هل تزوجت؟ هل عندك سيارة؟ موديل كم؟ كيف تعلمت القيادة؟ وفي كم أيام تعلمتها؟ كيف تأكل؟ وكيف تشرب؟ ومن أين تكسب قوتك؟) لا تتصور كيف كان وقع هذا الكلام وما له من الأثر عليَّ!

    وأنت إذا شاء الله سبحانه وتعالى وجعل لك في القلوب مكاناً، وجعل لك في الأفئدة وداً فأعظم ما ترقق به هذا الود أن تهتم بالحياة الشخصية لمريدك، فلا تجعل العلاقة بينك وبينه علاقة محاضرة أو تدريس كتاب.. لا، ليس هذا هو الذي يربطك به، والنبي صلى الله عليه وسلم كان كثيراً ما يهتم بمثل هذا، ولعلكم تعلمون الحوار الذي دار بينه وبين جابر بن عبد الله الأنصاري لما رجع هو وجابر من غزوة من الغزوات بعدما أعيا جمل جابر ، فجعل يقول له: (ما أعجلك يا جابر ! قلت: يا رسول الله! أنا حديث عهد بعرس. قال: بكراً تزوجت أم ثيباً؟ قال: قلت: بل ثيباً، قال: فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك وتضاحكها وتضاحكك! فقلت: يا رسول الله! إن أبي ترك لي تسع نسوة حمق، فكرهت أن آتيهن بحمقاء مثلهن، فقلت: هذه أجمع لأمري وأرشد. قال: أصبت. قال: ما ترك عبد الله من الدين؟ قلت: يا رسول الله! ترك ألف ألف وسبعمائة ألف، -على والده عبد الله بن حرام (مليون وسبعمائة ألف درهم)- فسأله: كيف سيرد هذا الدين؟ قال: إن عندنا حائطاً -بستاناً- فيه نخل. فقال صلى الله عليه وسلم: إذا جاء جذاذ نخلكم فأتني -إذا طلع الثمر فادعني- ثم قال له: بعني جملك يا جابر . فقال: هو لك يا رسول الله. قال: لا، بعنيه. قال: هو لك. قال: بعنيه. فباعه بثنتي عشرة أوقية، واشترط ظهره إلى المدينة -أي: بشرط أن يركبه مجاناً إلى المدينة- فلما وصلوا إلى المدينة ووصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته جاء جابر بالجمل إلى النبي، فقال له: خذ الجمل والدراهم) إنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يسهم في قضاء دين عبد الله بن حرام والد جابر بن عبد الله .

    فكان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يفعل ذلك، فمثلاً: قال يوماً في مجلس فيه عمر بن الخطاب : (دخلت الجنة البارحة -أي: في المنام- فرأيت قصراً، ورأيت على القصر جارية تتوضأ -في بعض الروايات: جارية وضيئة تتوضأ- فقلت: لمن هذا القصر؟ فقيل: لـعمر ، قلت: ومن هذه؟ قيل: جارية لـعمر . قال: فلما ذكرت غيرتك وليت مدبراً. فبكى عمر وقال: يا رسول الله! أعليك أغار؟!) فمثلك في وفائه لأصحابه حتى في المنام لا يغار منك، فقد كان رسول الله وفياً لأصحابه حتى في المنام، قال: (فلما ذكرت غيرتك وليت مدبراً).

    وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة : (بينما رجل يسوق بقرة إذ ركب عليها، فالتفتت إليه البقرة وقالت: ما لهذا خلقنا، إنما خلقنا للحرث. فقال الناس: سبحان الله.. بقرة تتكلم! فقال صلى الله عليه وسلم: فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر ، وليسا ثم -أي: لم يكونا موجودين في المجلس- قال: وبينما راع في غنمه إذ عدا الذئب على غنمه فأخذ شاة، فطلبه الراعي حتى أخذها منه، فأقعى الذئب على ذنبه وقال للراعي: أما تتقي الله؟! تأخذ مني رزقاً ساقه الله إليَّ؟! فقال الراعي: ما رأيت كاليوم عجباً: ذئب يتكلم! وقال الصحابة: سبحان الله.. ذئب يتكلم! قال: فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر).

    فهذه المحاورة التي جرت بيني وبين الشيخ كنت أحس فيها بالدهشة، فالأصل أنك إذا رأيت الرجل مندهشاً مستغرباً أن تسكن من روعه.

    وقال لي: كم عندك من الولد؟ وكانت ابنتي الأولى -التي رزقت بها- رزقت بها قبل أن أسافر بيومين، فقلت له: رزقت ابنة. قال: ما اسمها؟ قلت: سلمى . قال: سلمها الله. فاستبشرت بيني وبين نفسي لعل دعوة الشيخ تدركها، وظل يسألني في ذلك حتى وصلنا إلى الباب، فقال لي: أنا أعلم حرصك على السؤال، ولكن أنا وأنت ضيوف، وليس من الأدب أن تنتزع الوقت لنفسك من صاحب البيت، ولكن إذا انتهى من الأسئلة فلا بأس؛ فهو يعلم أنني جئت من بلدي وأنا حريص على طلب العلم، فيرشدني ويدلني كيف أستثمر الوقت، وفعلاً لم يسأل صاحب البيت غير سؤال واحد؛ لأن صاحب البيت كان يريد أن يحظى ببركة دخول الشيخ عنده وزيارة الشيخ لبيته، وكان هذا اليوم من أظرف الأيام التي قضيتها.

    الشيخ الألباني والتمذهب

    وكان من الأسئلة المهمة التي سألتها الشيخ في هذا اليوم سألته عن التمذهب؛ لأنه شاع بين الناس أن الشيخ ناصر الدين الألباني يحارب المذاهب الأربعة، ويحارب التقليد، وكانت -في الحقيقة- شائعة قوية جداً وصلتنا إلى مصر، وكنت أريد أن أعرف رأي الشيخ فيها، فلما تكلم الشيخ في هذه المسألة تكلم بكلام هو الذي عليه الأئمة الأربعة، فالشيخ ناصر لا يقول للمسلمين: لا تتمذهبوا وإنما يقول: لا تتخذوا المذهب ديناً، بمعنى: أن تجمد على المذهب، وإذا علمت الحق في غيره تقول: لا، أنا لا أخالف المذهب، فهذا هو الذي كان الشيخ ناصر ينكره، وقد أنكره العلماء المتقدمون، وتبرءوا من مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم أحياءً وأمواتاً، وقالوا قولتهم المشهورة: ( إذا صح الحديث فهو مذهبي).

    فالشيخ ناصر كان يقول: إذا كنت أنا شافعي المذهب، وظهر الحق في المسألة عند المالكية أو الحنابلة أو الحنفية، فليس معنى ذلك على الإطلاق أن أجمد على مذهبي وأقول: أنا شافعي ولا أخالف المذهب، وأترك الحق الذي قامت عليه الدلائل وأخالفه. فالشيخ ناصر كان يحارب هذا أشد المحاربة، كما كان الأئمة المتقدمون أيضاً يحاربون هذا أشد المحاربة.

    قال رجل للشافعي رحمه الله: (إذا جاءك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالف قولاً لبعض العلماء الذين من قبلك، أتأخذ بالحديث؟ قال: فصاح الشافعي وعلا صوته وغضب وقال: تراني في كنيسة؟! تراني في بيعة؟! ترى على وسطي زناراً؟! إذا قلت بقول على خلاف الحديث فاعلم أن عقلي قد ذهب).

    فالأئمة كلهم كانوا يحذرون من مخالفة النبي عليه الصلاة والسلام، فجاء الشيخ الألباني وأخذ هذا ومضى على نفس المنوال، ولكن الحياة العلمية كانت جامدة، وقد كان الناس ركنوا إلى التقليد، وأصحاب المذاهب كلهم لا يتركون المذهب، حتى لو كان على خلاف الحديث الصحيح، بل كانوا يأخذون بفتاوى بعض المتأخرين التي لا يجوز أن تكتب في كتب الفقه أبداً، فمثلاً هناك كتاب من أهم كتب الأحناف المتأخرة ذكر فيه الإمامة في الصلاة ومن أحق الناس بها، ووصل به الحال أن يقول بعدما يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فأكبرهم سناً، فأقدمهم هجرة، فأجملهم زوجة، فأكبرهم رأساً، فأصغرهم عضواً! وهذا مكتوب في كتب الفقه، فهل هذا الكلام يكتب في كتب الفقه ويكون عمدة؟! (أجملهم زوجة) ولا يتأتى هذا إلا إذا كشفنا عن وجوه النساء وقلنا: أجمل واحدة هي امرأة الشيخ الفلاني، إذاً فهو الذي يؤم الناس، ولماذا أجملهم زوجة؟ قالوا: هذا يدل على أنه عفيف. ولا ينظر إلى النساء لأنها تكفيه، فهل يعقل هذا الكلام؟! وهل هذه الآراء تسمى فقهاً؟ وهناك كثير من الآراء التي لا تصل في الفساد إلى هذا، ولكنها آراء تعتمد على أحاديث ضعيفة موضوعة ومنكرة باتفاق علماء الحديث، ومع ذلك جاء الفقهاء الذين لا يعلمون الصحيح من الضعيف، فأسسوا عليها أقوالاً وأحكاماً فقهية، ولقد وقف الشيخ ضد هؤلاء وقفة قوية صامدة، ولذلك فإن أعداءه كثيرون، لماذا؟ لأنه فل جموعهم بالحجة القوية البالغة.

    فالشيخ ناصر لا يقول: بأنه لا يجوز لأحد أن يتمذهب بأحد المذاهب الأربعة، بل يقول: تمذهب، ولا بأس أن تتخذ المذهب وسيلة لدراسة الفقه، ولكن إذا علمت أن الحق في مذهب آخر فإنه يجب عليك أن تتبع الحق مهما كان.

    ولقد سألته: أي المذاهب تختار -أي: لو أن هناك طالب علم أراد أن يدرس الفقه ويتخذ المذهب سُلماً لدراسة الفقه، مع الشرط الذي ذكرناه، وهو أنه إذا علم الحق في مذهب آخر فيجب عليه أن يتبع الحق حيث كان. قلت له: فأي المذاهب تفضل لطالب العلم؟

    قال: المذهب الشافعي، هو أثرى المذاهب جميعاً، ثم المذهب الحنبلي، ثم المذهب المالكي، ثم المذهب الحنفي، وهذا مع رعاية الدليل والنظر إليه.

    تواضع الشيخ الألباني وبساطته

    فلما كان في اليوم الثاني لم يأت الشيخ الألباني رحمه الله لصلاة الفجر، وكان يأتي من على بعد (خمسة عشر كيلو) ليصلي في هذا المسجد الذي كان يؤخر الصلاة نصف ساعة، وكان الشيخ الألباني يرى أن الصلاة تصلى قبل الوقت بحوالي نصف ساعة في بقية المساجد، فكان لأجل هذا يأتي من سكنه إلى هذا المسجد ليصلي فيه.

    فالشيخ لم يأت لصلاة الفجر في هذا اليوم، فخشيت على ضياع هذا اليوم بلا استفادة، فقررت أن أذهب إليه، فاستشرت إخواني فأجمعوا ألا أذهب، وقالوا: الشيخ لا يفتح الباب لأحد ليس له موعد سابق. وأنت بعد المكانة التي وصلت إليها لا يليق بك أن يقول لك: ارجع، فلا عليك أن يضيع عليك اليوم، ولكن لا تحرج نفسك، وكذلك رفيقي في هذه الرحلة، استشرته قلت: ما رأيك؟ قال: أنا رأيي أن تذهب، فقوى من عزمي أمران:

    الأمر الأول: أن صاحبي -الذي كان معي- أشار عليّ بالذهاب.

    الأمر الثاني: أنني تذكرت وقتها قصة وقعت لـابن حبان مع شيخه ابن خزيمة ، وذكرها ياقوت الحموي في مادة (بست) -المدينة التي كان منها ابن حبان البستي - فلما ذكر مدينة بست، وذكر من فيها من العلماء ذكر ابن حبان وذكر له هذه الواقعة مع شيخه كليب، أما ابن حبان رحمه الله كان بعثه لسفر لهما، وكان ابن حبان يكثر من سؤال ابن خزيمة ويخزيه، فسأله سؤالاً: فقال له ابن خزيمة : يا بارد ! تنح عني -أي: اتركني- قال: فكتبها ابن حبان (يا بارد تنح عني)، فقالوا له: أي فائدة في هذه العبارة؟ قال: لا أدع لفظة تخرج من فم الشيخ إلا كتبتها.

    فأنا قلت: ومالي لا أفعل مثلما فعل ابن حبان ، وحتى لو قال لي: ارجع كما قال ابن خزيمة لـابن حبان لعددت هذه من فوائد هذا اليوم، وانطلقنا، وكانت المفاجأة أنه الذي فتح الباب واستقبلنا هاشاً باشاً، وجلسنا في حديقة منزله.

    وأنا أوصي إخواننا المتصدرين للدعوة أن يتبسطوا في معاملة الغرباء، فأنت لا تعلم ظروف هذا الغريب، ولا تدري كيف وصل إليك.

    فأجلسنا الشيخ وأصر على أن نفطر معه، فكان يأتي بالطعام، فكنت أريد أن أقوم بمساعدته، فكان يأبى عليَّ ويقول: اجلس. فأقول: يا شيخ! هذا من سوء الأدب أنني أجلس وأنت الذي تخدمني. فقال لي عبارة حفرت في ذهني قال: (الامتثال هو الأدب، بل هو خير من الأدب) الامتثال: أي أن تمتثل أمره، أفضل من سلوكك الذي تظنه أدباً؛ لأن الطاعة والامتثال هنا هي الأدب بعينه.

    ومرة شخص من الذين يقولون: أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله في التشهد والأذان جرى بيني وبينه مناقشة، فقلت: إن النبي عليه الصلاة والسلام كان يعلم الصحابة التشهد كما يعلمهم السورة من القرآن، وكل صيغ التشهد ليس فيها (سيدنا) أبداً، وهو سيدنا بلا شك، ولكن علينا أن نقف عند حدود ما علمنا، فقال: لا، الرسول كان لا يقول: سيدنا؛ لأنه كان متواضعاً.

    فقلت له: حسناً.. الصحابة بعدما مات النبي صلى الله عليه وسلم هل ظلوا على سوء أدبهم معه صلى الله عليه وسلم؟ ولماذا لم يقولوا: أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله؟!

    فأحد الذين معه قال: يا أخي! يقول الرسول: (لا تسيدوني في الصلاة)، وهذا حديث لا أصل له، وتصحيح الكلمة: (لا تسودوني) من السؤدد، فانظر إلى سيء الأدب، الذي ليس عنده رائحة الأدب بماذا يرد، يقول: هو قال: لا تسيدوني وأنا سأسيده.

    إذاً هذا سيئ الأدب؛ لأنه إذا سلمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسيدوني في الصلاة) فلا يجوز لأحد أن يخالف أمره؛ لأنه إذا خالف أمره لم يدع له اعتباراً، فمسألة الوقوف عند الأمر والنهي هي التي تبين أن الإنسان يجعل للآمر الناهي اعتباراً عنده.

    فكان يقول: (الامتثال هو الأدب، بل هو خير من الأدب) وكان هذا اليوم هو أفضل أيام الرحلة على الإطلاق، ففيه تلطف الشيخ رحمه الله، ولقد كنا متعودين من الشيخ الألباني الصرامة العلمية في الكلام، ولا تحس أن فيه لطفاً ووداً، والأشرطة التي سجلتها في ترجمة الشيخ ناصر فيها أن الشيخ ضحك وتبسم، حتى إن الشيخ محمد إسماعيل المقدم حفظه الله لما سمع الأشرطة في أول مرة قال لي: كنت أتمنى أن تحذف ضحكات الشيخ الألباني . فقلت له: لماذا؟ قال: لأننا ما تعودنا هذا من الشيخ، ونحن متعودون أن نسمع كلاماً علمياً، وما تعودنا على مسألة الرقة ومسألة الضحك.

    شدة الشيخ الألباني على المخالفين للدليل

    فالشيخ ناصر مشهور عند الناس أنه صارم، نعم كان الشيخ صارماًً؛ لأن أكثر الذين خالطوه ما كانوا يتأدبون مع الدليل، ولا أقول: يتأدبون معه؛ فالشيخ لم يكن يهتم بذلك، وقد رأيت أناساً في مجلس الشيخ الألباني وأحدهم نائم على ظهره وهو واضع إحدى رجليه على الأخرى أمام الشيخ الألباني ! وآخر قدمه موجهة إلى وجه الشيخ الألباني .

    وأما أن يعترض أحدهم على الشيخ بعد ظهور الدليل، ويجادل بالباطل، فكان يصير قاسياً جداً.

    بعض إخواننا أراد أن يناظره في مسألة في (كتاب المحلى) فجمع بحثاً وذهب إلى الشيخ ناصر وظن أنه سيقيم عليه الحجة، وقد سمعت الأشرطة، ولما سمعتها تعجبت من طريقة الشيخ الألباني في إقامة الدليل وإقامة الحجة، ولقد سأله عن أشياء في بحثه لم يستطع أن يرد عليها، وجعل يناظره فيها، وكانت المناظرة حامية جداً، فعندما أحرج الأخ قال وهو يسأل الشيخ: يا شيخنا! قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لا يرحم صغيرنا)، فكانت لفتة طيبة، فضحك الشيخ ناصر ضحكة تشعر أنها من القلب، قال له: هات ما عندك.

    رقة الشيخ الألباني في آخر حياته ورؤيا رؤيت له

    فالشيخ الألباني كان صارماً، ولكن في المناظرات مع المخالفين، ولكنه كان رقيقاً جداً في آخر حياته، وغلب عليه الزهد، ورق قلبه كثيراً، وكان سريع الدمعة في آخر حياته، وقد حدثني إخواني كثيراً عنه، وسمعته في أشرطة مع أخت جزائرية اتصلت به، وقالت: يا شيخ! أنا رأيت في المنام أنا وأخت لي -وكنا في شرفة- أن النبي صلى الله عليه وسلم يمشي في الطريق، وبعد ذلك بقليل رأيت شيخاً يمشي خلفه، فسألتني صاحبتي: من هذا؟ قلت: الشيخ الألباني ، فرأيتك تمشي خلف النبي صلى الله عليه وسلم على نفس الطريق. فالشيخ لم يتمالك نفسه من البكاء، وبكى وانتحب بصوت عال، وفض المجلس الذي كان معقوداً آنذاك لطلبة العلم في بيته أو في بيت أحد إخوته، فكان سريع الدمعة غزير العبرة في آخر حياته.

    نسأل الله تبارك وتعالى أن يرحم الشيخ الكبير، وأن يجزيه عما فعل من تنقية لسنة النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الضعيفة والموضوعة والمنكرة، ومن تعظيم الدليل، ومن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، أن يجزيه عنا خير الجزاء، وأن يخلف على المسلمين في مصابهم الجلل، لاسيما وقد فقدنا ركناً رشيداً أيضاً بوفاة شيخ جليل قبل أربعة أشهر وهو سماحة شيخنا الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله، فمات أكبر علمين من علماء المسلمين في هذا العصر، فنسأل الله تبارك وتعالى أن يرحم من مضى، وأن يبارك فيمن بقي.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755898000