إسلام ويب

لمن كان له قلبللشيخ : خالد الراشد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الحديث عن اليوم الآخر ليوقظ النائم من رقدته، وينبه الغافل من غفلته، ويحيي الإيمان في القلوب، ويفزع الناس إلى العمل بالقرآن، والاهتداء بسيد الأنام، لأنه إذا علم العبد أنه سيمر بأحوال وأهوال عظام تشيب لها الولدان استعد وعمل لذلك اليوم، وهذا إنما يكون لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

    1.   

    الحديث عن اليوم الآخر

    إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] .. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    أحبتي! حياكم الله وبياكم، وسدد على طريق الحق خطاكم، وجمعني وإياكم في دار كرامته إخواناً على سرر متقابلين، وأسأله سبحانه أن يفرج هم المهمومين، وأن يكشف كرب المكروبين، وأن يقضي الدين عن المدينين، وأن يدل الحيارى ويهدي الضالين، وأن يغفر للأحياء والميتين.

    لعلكم أحبتي قرأتم العنوان أو سمعتم به: لمن كان له قلب، وهل من الممكن أن يكون هناك أناس بلا قلوب؟

    نعم أحبتي، القلوب الغافلة، والقلوب الشاردة اللاهية، فإن هذه القلوب لا تعتبر قلوباً حية، وإنما القلوب الحية هي التي تنتفع بكلام الله وبكلام نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46].

    إن لم يكن ذكر الآخرة يحرك القلوب فما الذي يحركها؟!

    إن لم يكن ذكر الجنة يشوق القلوب فما الذي يشوقها؟!

    إن لم يكن ذكر النار يخوف القلوب فبالله عليكم قولوا لي: ما الذي يخوفها؟!

    إن لم يكن هذا الحديث يدعو الصالح إلى الزيادة في صلاحه، ويدعو العاصي إلى الكف عن غيه ومعصيته فما الذي سيدعوه؟!

    إن الحديث: لمن كان له قلب، إنما هو الحديث عن اليوم الآخر وما به من الشدائد والأهوال، وقد قرن الله تبارك وتعالى الإيمان به بالإيمان باليوم الآخر، فقال سبحانه: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:177]، وقال سبحانه: ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [الطلاق:2] فقدم سبحانه ذكر الإيمان باليوم الآخر على بقية أركان الإيمان الأخرى؛ لأن الإيمان بذلك -أحبتي- هو الضابط الحقيقي لسلوك الإنسان.

    إن الإيمان بذلك اليوم وما فيه من الشدائد والأهوال لهو المحرك الحقيقي لهذا الإنسان، فلا رادع للعصاة عن عصيانهم إلا بذكر ذلك اليوم، ولا مشوق لأهل الصلاح للزيادة في صلاحهم إلا بذكر ذلك اليوم، قال تعالى: ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود:103-105].

    إن الإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان، وعقيدة من عقائد الإسلام الأساسية، فقضية الإيمان باليوم الآخر هي التي يقوم عليها بناء العقيدة بعد قضية التوحيد، واليوم الآخر وما فيه من الأمور الغيبية التي لا يدركها العقل، ولا سبيل لمعرفتها إلا بالنص القرآني والسنة النبوية، وفي كتاب الله -أحبتي- من ذكر اليوم الآخر وما فيه من الأهوال الشيء الكثير، فما تكاد تخلو صفحة من صفحات الكتاب الكريم من صورة من صور ذلك اليوم، أو موقف من مواقف ذلك اليوم، فهو اليوم الذي لا يوم مثله، ولا يوم قبله، ولا يوم بعده، إنه اليوم العقيم، قال سبحانه: وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ [الحج:55].

    أسباب الحديث عن اليوم الآخر

    لماذا الحديث عن اليوم الآخر؟ والجواب: أن ذلك لأسباب عدة:

    أولاً: الغفلة التي استحكمت على حياة كثير من المسلمين، قال سبحانه: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى [الأنبياء:1-3] أي: بكثرة اللهو وكثرة المغريات.

    ثانياً: انشغال الناس بالدنيا وعمارتها أكثر من اشتغالهم بالاستعداد لليوم الآخر، قال سبحانه: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281].

    ثالثاً: أن الإيمان بالله واليوم الآخر وما فيه من الثواب والعقاب هو الموجه الحقيقي لسلوك الإنسان، فهناك فرق بين سلوك من يؤمن بالله واليوم الآخر، وسلوك من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، فمن علم أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن الأعمال الصالحة هي زاد الآخرة لم ينشغل بعمارة الدنيا عن عمارة الآخرة، قال سبحانه: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197]، وقال صلى الله عليه وسلم: (من جعل الهموم هماً واحداً - أي: هم الآخرة - كفاه الله هم الدنيا وهم الآخرة) فهناك فرق بين سلوك من يؤمن بالله واليوم الآخر وسلوك ضعيف الإيمان.

    قال صاحب الظلال: فالمصدق بيوم الدين يعمل وهو ناظر لميزان السماء لا لميزان الأرض، ولحساب الآخرة لا لحساب الدنيا. انتهى كلامه رحمه الله.

    فتجد المؤمن بالله واليوم الآخر له نظرة مختلفة للحياة، فترى فيه استقامة على دين الله، وترى فيه سعة تصور وقوة إيمان، وترى فيه ثباتاً في الشدائد وصبراً على المصائب، فهو يعلم أن ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الشورى:36]. وأما الذي لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر وما في ذلك اليوم من حساب وجزاء فهو يحاول جاهداً أن يحقق مآربه في هذه الحياة، لاهثاً وراء متعها، وحريصاً على جمعها، قد جعل الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه، فهو يقيس الأمور بالمنفعة الشخصية والخاصة، ولا يلتفت إلى بني جنسه إلا في حدود ما يحقق له المصالح فتباً له ولأمثاله.

    1.   

    الأدلة على إثبات اليوم الآخر

    استدل أهل العلم على إثبات اليوم الآخر بأدلة كثيرة، حيث إن الأولين قد أنكروا قضية الإيمان باليوم الآخر، وأنكروا قضية البعث والنشور، قال الله عنهم: وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الأنعام:29]، وقال عنهم: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7]؛ لهذا ركز القرآن على قضية الإيمان باليوم الآخر، وإثبات البعث والحساب والجزاء، فجاءت أدلة كثيرة لإثبات ذلك اليوم، ومنها:

    النشأة الأولى

    قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ [الحج:5] أي: إن كنتم في شك من البعث: فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا [الحج:5] فمن قدر على خلق الإنسان في أطوار متعددة لا يعجز عن إعادته مرة أخرى، بل الإعادة أهون عليه من البدء.

    فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبيده عظمة بالية أكل الدهر عليها وشرب، ووضعها بين يديه ففتها، ثم نفخها في الهواء، ثم قال: يا محمد! أيحيي الله هذا بعدما أرم؟ فقال بأبي هو وأمي: (نعم ويدخلك النار). فقال الله فيه: أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:77-78]، قل له يا محمد!: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:79] .

    المشاهد الكونية المحسوسة

    القدرة على خلق ما هو أ عظم من الإنسان

    الحكمة الإلهية

    من الأدلة أيضاً: الحكمة الإلهية، فالحكيم لا يترك الناس سدىً، ولا يخلقهم عبثاً، ولا يتركهم فلا يؤمرون ولا ينهون، ولا يزجرون على أعمالهم، قال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]، وقال سبحانه: أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة:36-40] بلى قادر وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [هود:17].

    فلو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حي

    ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعده عن كل شيء

    1.   

    صور وأهوال من يوم القيامة

    اسمع وافتح قلبك قبل أن تفتح أذنيك، فإن في هذا الحديث ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، قال تعالى: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]، وجاء في حديث أبي هريرة كما في حديث الطور قال: (ثم يأمر الله عز وجل إسرافيل فينفخ نفخة الصعق فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فإذا اجتمعوا أمواتاً جاء ملك الموت إلى الجبار فيقول: قد مات أهل السماء والأرض إلا من شئت، فيقول الله سبحانه وهو أعلم: من بقي؟ فيقول: يا رب! بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقي حملة العرش، وبقي جبريل وميكائيل وإسرافيل، وبقيت أنا، فيقول الله عز وجل: ليمت جبريل وميكائيل، فينطق الله عز وجل العرش فيقول: أي رب! يموت جبريل وميكائيل! فيقول جل جلاله: اسكت إني كتبت الموت على كل من تحت عرشي؛ فيموتان، قال: ثم يأتي ملك الموت إلى الجبار جل جلاله فيقول: يا رب! قد مات جبريل وميكائيل، فيقول الله سبحانه وهو أعلم: من بقي؟ فيقول: يا رب! بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقي حملة عرشك، وبقيت أنا، فيقول سبحانه: ليمت حملة العرش، فيموتون، فيأمر الله العرش فيقبض الصور من إسرافيل ثم يقول سبحانه: ليمت إسرافيل، فيموت، ثم يأتي ملك الموت فيقول: يا رب! قد مات حملة عرشك، فيقول سبحانه وهو أعلم: من بقي؟ فيقول: بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقيت أنا، فيقول الله: أنت خلق من خلقي، خلقتك لما رأيت فمت، فيموت، فإذا لم يبق إلا الله الواحد الأحد الصمد الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولداً فكان كما كان أولاً، طوى السماء كطي السجل للكتب، ثم قال: أنا الجبار لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد، ثم ينادي سبحانه: لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد، ثم ينادي سبحانه: لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد، فيجيب نفسه تبارك وتعالى: لله الواحد القهار).

    النفخ في الصور

    تبدأ الشدائد والأهوال بنفخة واحدة، وهي نفخة الصعق، فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ مرة أخرى وهي نفخة البعث، واسمع إلى القرآن وهو يحذر وينذر، ويذكر بشدة الشدائد والأهوال، فقال سبحانه مذكراً بأهوال ذلك اليوم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1-2]، إن في ذلك اليوم من الشدائد والأهوال ما فيه حياة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وقال سبحانه مصوراً تلك الشدائد: إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ * يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ * كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ [الانفطار:1-9] .

    حال السماوات والأرض يوم القيامة

    لو كان الإيمان بالله وباليوم الآخر قد خالط القلوب وتمكن منها لما غفلت عن ربها تبارك وتعالى، واسمع إلى هذه الشدائد والأهوال إن كان لك قلب، قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا [طه:105-108] .

    واسمع رعاك الله! فالحديث لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، من سره أن يرى القيامة رأي العين فليسمع هذه الآيات: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ [التكوير:1-14].

    نعم، إن في هذا الحديث حياة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

    فبنفخة واحدة بدأت القيامة، وبنفخة أخرى يبدأ البعث والنشور، وبعد النفخة الثانية: فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68] إنه الخروج من القبور، والسير إلى أرض المحشر، قال تعالى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [المعارج:43-44] وقال تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا [طه:108]، وقال سبحانه: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا [طه:111] فيسعون إلى أرض المحشر في سكون وخشوع لا تسمع منهم إلا صوت الأقدام والهمسات، ثم يقبض الجبار السماوات بيمينه والأرضين بيده الأخرى، ثم يقول: (أنا الملك، أين الجبارون؟! أين المتكبرون؟ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]).

    وعن عبيد الله بن مقسم أنه نظر إلى عبد الله بن عمر كيف يحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الموقف، قال: (يأخذ الله عز وجل سماواته وأراضيه بيديه فيقول: أنا الله ويقبض أصابعه ويبسطها فيقول: أنا الملك، يقول ابن عمر : حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفله حتى إني لأقول: أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم؟).

    وأما أرض المحشر -أحبتي- فأرض غير هذه الأرض، وأما سماؤه فسماء غير هذه السماء، قال سبحانه: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم:48].

    أحوال الناس يوم القيامة

    وأما أحوال الناس في ذلك اليوم العظيم، فقد قال تعالى: وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [إبراهيم:49-52] نعم، ( أُوْلُوا الأَلْبَابِ ) لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

    وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء - أي: مائلة إلى الحمرة - كقرصة النقي ليس فيها علم لأحد) رواه مسلم ، والقرصة: الرغيف. والنَّقي: الدقيق المنخول المنظف.

    وأما حال الناس: فحفاة عراة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً - أي: غير مختونين - قلت: يا رسول الله! النساء والرجال ينظر بعضهم إلى بعض، قال صلى الله عليه وسلم: يا عائشة ! يا ابنة الصديق ! الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض) متفق عليه.

    فمن الناس من يحشر على وجهه، كما قال سبحانه: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء:97]، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! كيف يحشر الكفار على وجوههم يوم القيامة؟ قال: أليس الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟ قال قتادة : بلى وعزة ربنا) متفق عليه.

    دنو الشمس من رءوس الخلائق يوم القيامة

    ثم يزداد الهول والكرب بأهل الموقف، فتدنو الشمس من رءوس العباد فيغرقون في العرق، فعن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، قال سليم بن عامر : فو الله الذي لا إله إلا هو ما أدري ما يعني بالميل: أمسافة الأرض أم الميل الذي تكتحل به العين؟ قال: فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق: فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً).

    عبد الله! أما تتفكر وتتدبر في الموقف وشدته، وفي ذل الخلق وانكسارهم في ذلك اليوم الطويل، والأبصار خاشعة، والقلوب وجلة، وأنا وأنت والجميع في انتظار النهاية كيف تكون؟ وأن يكون المصير؟

    مثل لقلبك أيها المغرور

    يوم القيامة والسماء تمور

    قد كورت شمس النهار وأضعفت حراً على رءوس العباد تفور

    وإذا الجبال تقلعت بأصولها

    فرأيتها مثل السحاب تسير

    وإذا النجوم تساقطت وتناثرت

    وتبدلت بعد الضياء كدور

    وإذا العشار تعطلت عن أهلها

    خلت الديار فما بها معمور

    وإذا الوحوش لدى القيامة أحضرت

    وتقول للأملاك أين نسير؟

    فيقال سيروا تشهدون فضائحاً وعجائباً قد أحضرت وأمور

    وإذا الجنين بأمه متعلق خوف الحساب وقلبه مذعور

    هذا بلا ذنب يخاف لهوله

    كيف المقيم على الذنوب دهور

    مجيء النار يوم القيامة

    ثم تزداد الشدائد والأهوال، فيؤتى بجهنم يسمع: لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [الفرقان:12]، قال سبحانه: كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:21-24]، وعند ذلك يندم النادمون، ويتحسر المتحسرون، ويتمنون أن لو ساعة واحدة يرجعون ليعملوا صالحاً، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها) لو تركت على أهل المحشر لأتت عليهم من أولهم إلى آخرهم، قال تعالى: إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا [الفرقان:12-14] .

    إنه يوم: مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4]، إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا [المعارج:6-7]، إنه يوم الطامة ويوم الصآخة، إنه يوم الفرار قال تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37]، والناس على هذه الحال في الموقف الشديد، والكرب العظيم، ويطول الانتظار والكل ينتظر الحساب والوقوف بين يدي الملك الديان.

    الشفاعة العظمى في أهل الموقف

    ثم يأتي الفرج في أهل الموقف بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاء عن أبي هريرة عند مسلم ، قال: (أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بلحم. فرفع إليه الذراع فنهس منها نهسة فقال: أنا سيد الناس يوم القيامة. أتدرون بم ذاك؟ ثم قال: يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فلا يغادر منهم أحداً، فيبصرهم الناظر، ويسمعهم الداعي، حتى إذا اجتمعوا في صعيد واحد، وأدنيت الشمس من رءوس العباد، وغرق الناس بعرقهم، وازدادت الأهوال والشدائد على الناس نظر بعضهم إلى بعض فقالوا: ألا ترون ما نحن فيه؟ ألا ترون ما قد بلغنا من الهم والغم والكرب؟ ألا ترون من يشفع لنا عند ربنا؟ فيقول بعضهم لبعض: أبوكم آدم فيأتون آدم، فيقولون: يا آدم! أنت أبو البشر. خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسكنك جنته وأمر الملائكة أن تسجد لك - سجود تشريف لا سجود عبادة - ألا ترى إلى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم والكرب؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي. فيتبرأ منهم أبو البشر، فيزداد الغم والهم والكرب على الناس، فيقال لهم: اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحاً فيقولون: أنت أول الرسل إلى الأرض، وسماك الله عبداً شكوراً. ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي، نفسي نفسي. اذهبوا إلى إبراهيم عليه السلام).

    يا صاحب القلب! تخيل أنا وأنت معهم: (فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم! أنت نبي الله وخليله، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني كذبت ثلاث كذبات - لو عددناها لوجدناها من صالح الأعمال - نفسي نفسي).

    أحبتي! هذا هو حال الأنبياء، وحال أولي العزم من الرسل، ومقال الحال يقول: اللهم سلم سلم! فكيف يكون حالي وحالك؟! وكيف يكون حال العصاة المقصرين والمفرطين؟! (اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى فيقولون: أنت نبي الله وكليمه. ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نفسي نفسي. اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى فيقولون: أنت نبي الله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر له ذنباً. ويقول: نفسي نفسي. اذهبوا إلى محمد صلوات ربي وسلامه عليه، فيأتون محمداً - وفي رواية فيأتوني فيقولون: يا محمد! أنت نبي الله وخاتم المرسلين، وغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم والكرب؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فأقول: أنا لها أنا لها، فأنطلق إلى العرش فأخر ساجداً - اسمع فالحديث لمن كان له قلب- فيفتح الله علي ويلهمني من محامده ما لم يفتحه لأحد قبلي، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب! أمتي أمتي ).

    وانظر إلى الحبيب فهو لم ينسانا على شدة الموقف والأهوال، نادى بأعلى الصوت: أمتي أمتي، فأين أمته شيبهم وشبابهم ونساؤهم؟ أين هم من سنته وسيرته ونصرة دعوته؟ أما قال الله: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]. (فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب! أمتي أمتي، فيقال: يا محمد! أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه، من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب. والذي نفس محمد بيده! إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر) وفي رواية: (وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام).

    يا مدعي حب طه لا تخالفه

    فالخلف يحرم في دين المحبين

    ما لي أراك تأخذ شيئاً من شريعته

    وتترك البعض تهويناً وتدوينا

    خذها سماوية خيراً تفوز به

    أو اطرحها وخذ رجس الشياطين

    الحوض وصفته

    هل سمعت أيها الأخ الحبيب عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم، ومن يرد عليه، ومن يصد عنه؟

    فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ترد علي أمتي الحوض، وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله، قالوا: يا نبي الله! أتعرفنا؟ قال: نعم، لكم سيما - أي: علامة - ليست لأحد غيركم، تردون علي غراً محجلين من آثار الوضوء، وليصدن عني طائفة منكم فلا يصلون، فأقول: يا رب! هؤلاء من أصحابي فيجيئني ملك فيقول: وهل تدري يا محمد ما أحدثوا من بعدك؟).

    كم غيروا! وكم بدلوا! وكم تهاونوا! وقد اختلف العلماء متى يكون الورود على الحوض وأين؟ فقيل: قبل الصراط. وقيل: إنه يكون بعد الحساب والميزان والصراط والله أعلم.

    وأما وصف الحوض ففتح قلبك رعاك الله! فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه -أي: آنيته- كنجوم السماء، من شرب منه لا يظمأ أبداً) متفق عليه.

    الحساب وأحوال الناس فيه

    ثم يبدأ الحساب، فتكشف الحقائق، وتظهر الفضائح، قال تعالى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18] تذكر يا عبد الله! أنك بين يدي الله موقوف، وسيكلمك ربك ليس بينك وبينه ترجمان، فتنظر أيمن منك فلا ترى إلا ما قدمت، وتنظر أشأم منك فلا ترى إلا ما قدمت، وتنظر أمامك فلا ترى إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، وستقف وستسأل عن القليل والكثير ، وعن الصغير والكبير، وعن العمر فيم أفنيته؟ وعن الشباب كيف قضيته؟ وعن المال من أين اكتسبته وفيم أنفقته؟ فلا تظن أن الحساب سيكون يسيراً، إنه حساب بالذرة، قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، وفي ذلك اليوم قال سبحانه: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:30]، ويقول تعالى: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [النحل:111].

    وحال الناس كما أخبر الله عنهم، فقال: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]. وستسأل عن الصلاة كيف أديتها؟ وهل حفظتها؟

    وستسأل عن الصوم والزكاة، وعن كل صغيرة وكبيرة، وعن كل كملة قلتها وسمعتها، وستسأل عن حقوق وواجبات وأوامر ومنهيات.

    وأما حال الناس في الحساب: فمنهم من يحاسب حساباً يسيراً، وينقلب إلى أهله مسروراً، ومنهم من يحاسب حساباً عسيراً، ويدعو ثبوراً، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه - أي: ستره - فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى العبد في نفسه أنه قد هلك، قال الله: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رءوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18]).

    وقال تعالى: أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ [المؤمنون:105-106].

    الأمنية: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون:107].

    الجواب: قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]. إنها محكمة، شعارها: لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [غافر:17]، وقاضيها: الملك الديان الذي: (حرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرماً)، والشهود في المحكمة: السمع والبصر واللسان: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ [فصلت:19-24].

    فلا إله إلا الله كيف يكون الحال إذا شهدت العينان وقالت: أنا إلى الحرام نظرت!

    ولا إله إلا لله إذا شهدت الأذنان فقالت: أنا إلى الحرام استمعت!

    ولا إله إلا لله إذا شهدت اليدان وقالت: أنا بالحرام بطشت وأخذت!

    ولا إله إلا الله إذا شهدت الرجلان وقالت: أنا للحرام مشيت!

    ذبح الموت

    وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فينادى أهل الجنة: يا أهل الجنة! فيشرئبون وينظرون فيقال لهم: أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت، ثم ينادى أهل النار فيقال: يا أهل النار! أتعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون فيقولون: نعم هذا الموت، فيؤمر به فيذبح ثم ينادى: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، وينادى: يا أهل النار! خلود فلا موت، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم:39-40]).

    إنه اليوم الآخر، إنه اليوم الذي لا يوم بعده، قال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:94].

    يا عجباً للناس لو فكروا

    وحاسبوا أنفسهم وأبصروا

    وعبروا الدنيا إلى غيرها فإنما الدنيا لهم معبر

    لا فخر إلا فخر أهل التقى

    غداً إذا ضمهم المحشر

    ليعلمن الناس أن التقى

    والبر كانا خير ما يدخر

    صفة أخذ الكتاب

    يا صاحب القلب! تخيل الموقف وقد تطايرت الصحف والكتب، وإلى أي فريق ستنتمي إلى أصحاب اليمين أم إلى أصحاب الشمال؟

    وبأي يد ستأخذ الكتاب بالشمال أم باليمين؟

    قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:19-20]، النتيجة: فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:21-24].

    وفي المقابل: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ [الحاقة:25-26].

    الأمنية: يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:27-29].

    النتيجة: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:30-32].

    ما ذنبه؟ إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ [الحاقة:33-37] نسأل الله السلامة والعافية!

    إن الحديث إنما ينفع صاحب القلب، فإن كنا نعرف هذا ونسمع هذا فلا بد من العمل والصدق والإخلاص والصبر والاحتساب، وإلا سنقول:

    واحسرتي واشقوتي

    من يوم نشر كتابيه

    واطول حزني إن

    أكن أوتيته بشماليه

    وإذا سألت عن الخطأ ماذا يكون جوابيه

    واحر قلبي أن يكون مع القلوب القاسيه

    العبور على الصراط وأحوال الناس فيه

    يا عبد الله! أتظن أن الموقف قد انتهى؟ لا، فإن القادم أشد وأعظم! ستؤمر -أيها المسكين- أن تعبر الصراط، ثم إما إلى جنة وإما إلى نار، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ويضرب الجسر على جهنم فأكون أول من يجيب ودعاء الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم! وبه كلاليب - أي: في الصراط - مثل شوك السعدان - نبت له شوك معكوف - غير أنها لا يعلم قدر عظمها إلا الله، يخطف الناس بأعمالهم، فمنهم الموبق الهالك بعمله، ومنهم الناجي المقطع بالكلاليب، ومنهم من يعبره كطرف العين، ومنهم كالبرق، ومنهم كالريح، ومنهم كأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكدوس في جهنم، ومنهم من يحبو حبواً، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يسحب سحباً) فقل لي بربك: كيف سيكون العبور؟

    أبت نفسي تتوب فما احتيالي

    إذا برز العباد لذي الجلال

    وقاموا من قبورهم سكارى

    بأوزار كأمثال الجبال

    وقد نصب الصراط لكي يجوزوا

    فمنهم من يكب على الشمال

    ومنهم من يسير لدار عدن

    تلقاه العرائس بالغوالي

    يقول له المهيمن يا وليي

    غفرت لك الذنوب فلا تبالي

    أسألك بالله: كيف سيكون العبور؟ قيل لأحد الصالحين وقد مات فرئي في المنام: ماذا صنع الله بك؟ قال: وضعت قدماً على الصراط والقدم الأخرى في الجنة. نهاية ذلك اليوم: إما إلى جنة وإما إلى نار، قال سبحانه: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر:71-72].

    وأما الفريق الآخر: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر:73-74].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756175910