إسلام ويب

مكفرات الذنوبللشيخ : أبو إسحاق الحويني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أعظم الآفات التي تصيب الإنسان هي آفة الذنب، يتولى كبر ذلك كله الشيطان، حيث يبدأ عداوته معه منذ نزوله من رحم أمه إلى أن يفارق الحياة، ومع ذلك فإن مكفرات الذنوب كثيرة، دلت عليها نصوص الكتاب والسنة، والله تعالى أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدنا كان في صحراء ففقد راحلته عليها طعامه وشرابه ثم وجدها، وما على العبد إلا أن يرحل إلى الله بأعمال صالحة مقرونة بالخوف والرجاء، وليعلم عظم الثمرة والأجر الذي يعطيه الله له مقابل البذل والجهد والعطاء القليل المطلوب منه.

    1.   

    فرح الله بتوبة عبده

    إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    قال العلماء: لكل شيء آفة تجتثه، ومن أعظم الآفات التي تصيب الإنسان آفة الذنب، كما صح في الحديث: (إن الشيطان ذئب الإنسان) ذئب الإنسان ينتظر منه أي غفلة ليفترسه.

    نظرت في الكتاب والسنة فوجدت أن مكفرات الذنوب عشراً، لا تكاد الأدلة تخرج عنها، أربع من الله، وثلاث من العبد، وثلاث من الناس.

    أما الأربع التي يبتدئها الله عز وجل: فالمصائب في الدنيا والبرزخ والقيامة، ثم عفو الله عز وجل برحمته بغير كسب من العبد، يعفو عنه هكذا بلا مقابل.

    وثلاث من العبد -المكلف-: التوبة، الاستغفار، الحسنات الماحية.

    وثلاث من الناس: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وإهداء العمل الصالح من الناس له -على قول للعلماء-، ثم دعاء المؤمنين له.

    وكل الأدلة تقريباً أو غالباً جزماً لا تخرج عن هذه العشر المكفرات.

    هذا إنما ابتدأت به لأقول: إن باب الذنب بمقابله عشرات من أبواب التوبة، لاسيما إذا رجعت إلى ربك تبارك وتعالى فإنه يعاملك بمعاملة الأكرمين، لا يعنفك، إنما يعفو، كما في الحديث الصحيح: (قال الله عز وجل: أذنب عبدي ذنباً فقال: رب! إني أذنبت ذنباً، فاغفر لي. فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به. ثم أذنب ذنباً فقال: رب! إني أذنبت ذنباً، فاغفر لي. فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به. ثم أذنب ذنباً فقال: رب! إني أذنبت ذنباً، فاغفر لي. فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، فليعمل عبدي ما شاء) ليعمل ما شاء ليس إذناً أن يفعل ما يشاء، كما قال تعالى: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29] مع أنه لم يرخص في الكفر لأحد، كما قال تبارك وتعالى: وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7] لكن هذه صيغة زجر.

    كما لو قلت لولدك: ذاكر أو لا تذاكر، أنت حر. هل قوله: (أنت حر) يعد إذناً منه ألا يذاكر؟ هذا تهديد، لكنه خرج مخرج التخيير، وهذا يكون أبلغ في الزجر كما قال الله تبارك وتعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الانشقاق:24] وهل العذاب يبشر به! لا تكون البشرى إلا لشيء حسن، فلما توضع كلمة البشرى في العذاب؛ فيكون هذا تقريعاً أقوى مما لو قرعه بألفاظ التقريع نفسها.

    مداخل الذنوب لا حصر لها، لذلك قال الله تبارك وتعالى: وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا [الفرقان:58] (بذنوب) ما قال: (بحسنات)، إنما قال: (بذنوب)، إنما خص الذنب هنا بالذكر للدلالة على الإحاطة؛ لأن أغلب الذنوب تكون سراً، هل المؤمن بلا ذنب؟ التقي بلا ذنب؟ لكن لا يستطيع أن يجهر به هكذا أمام الناس، فأغلب الذنوب تكون سراً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (والإثم: ما حاك في صدرك، وخشيت أن يطلع عليه الناس) كم من الأشياء التي يفعلها الإنسان وهو يخشى أن يعلمها الناس، هي كثيرة لا حصر لها عند الفرد الواحد، انظر كم فرداً من لدن آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة، كل واحد لديه صندوق أسرار، يستحي أن يبرز جزئية منه للناس.

    فربنا سبحانه وتعالى يقول: وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ [الفرقان:58] كفى بهذا دلالة على الإحاطة، وهذه الآية تشعرك بأن أغلب الذنوب تكون في الخفاء؛ لأن الله عز وجل ذكر الآية للدلالة على إحاطته بفعل العبد، فهذه الآية آية مدح لإحاطته عز وجل، فلا يمكن أن تكون الذنوب صغيرة أو حقيرة؛ لأن الإحاطة حينئذ تكون ضعيفة.

    ثم هناك عدوك الذي لا يغفل عنك، والذي أعلن عداوته لك منذ نزلت من رحم أمك، كما قال عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة عند الإمام مسلم : (كل بني آدم يمسه الشيطان يوم يولد؛ لذلك يستهل صارخاً) يبكي الولد الذي نزل من رحم الأم؛ لأن الشيطان نخسه (إلا مريم وابنها) ، وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ [آل عمران:36-37] لذلك مريم وابنها عليهما السلام ما مسهما الشيطان، وهذا الحديث من الأحاديث القوية؛ لأن فيها لفظة (كل) التي تفيد العموم، ثم ذكر اسم الجنس، الذي يقوي أكثر هذا العموم، ينخسه؛ هو يقول له: من أجلك أنت خلقت أنا.. ألا ينبهك مثل هذا؟!

    ما قصر النبي صلى الله عليه سلم في البلاغ أبداً، لقد أوتينا من جهلنا وإهمالنا، قال عليه الصلاة والسلام: (أنا آخذ بحججكم، وأنتم تتهافتون على النار تتفلتون مني) كأن إنساناً يريد بكل قوته أن يدخل جهنم، وأنت ممسك به بكل قوتك، ومع ذلك غلبك ودخل جهنم.

    فإذا كان الشيطان ذئب الإنسان، ونحن نعلم أنه لا يموت إلى يوم القيامة حتى تستريح من شره، ونحن نعلم أنه لا يغفل عنك طرفة عين، وأنه في كل يوم يرسل سراياه تترا إلى بني آدم، كما في حديث جابر في صحيح مسلم، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يضع عرشه على الماء كل صبح، ثم يرسل سراياه تترا -أي: بعضها يتبع بعضاً- كموج البحر إلى بني آدم) ليسوا ذاهبين لشرب الشاي بل لإضلال الناس، فنحن لو نعمل كعمل الشياطين في منتهى الجد لكنا من الأبرار، الشيطان بنفسه يتابع أعوانه الصغار، يجلس على الكرسي ... كل واحد يعرض تقريره.. ماذا فعلت؟ ما تركته حتى فعل كذا وكذا، أي: يمثل له بأي معصية.

    ما تركته حتى زنى.. لم تصنع شيئاً، وهل هذا شغل!

    وأنت؟ ما تركته حتى سرق.. لم تصنع شيئاً.

    وأنت؟ ما تركته حتى قتل أخاه.. وهل هذا شغل!

    وأنت؟ ما تركته حتى ضرب أباه.

    وأنت؟ ما تركته... كل المعاصي.

    حتى يأتي أحدهم، ماذا فعلت؟

    يقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله.. حينئذ يقوم إبليس من على الكرسي، ويأخذ الشيطان هذا بالأحضان، يلتزمه ويعتنقه، ويقول له: نعم أنت، أنت أنت..! هذا هو الشغل.

    قلنا قبل ذلك: الطلاق مباح، لو أن رجلاً طلق امرأته الصوامة القوامة المخبتة الخاشعة -إلى آخرها من الصفات الحسنة- لا يكون آثماً، لكنه لو زنى؛ لكان آثماً، وإذا كان غير محصن؛ يجلد.. محصن؛ يرجم.. قتل؛ يقتل، يقاد منه أو يدفع الدية.. سرق؛ تقطع يده، هذه كلها ذنوب، ومع ذلك هذه الذنوب لا يكترث بها إبليس، وعند الشيء المباح ينبسط.. لماذا؟ لأن إبليس يعلم أن العبد لو ظل في المعصية مائة عام وتاب، تاب الله عليه، فذهب كل عمل إبليس أدراج الرياح؛ لأن الذي يسقط الذنب يريد لك المغفرة والنجاة، ولا يعجل كعجلة أحدنا، لذلك كتب ربنا في كتابه الذي عنده: (إن رحمتي تغلب غضبي)، أين تجد هذا الرب؟ لا يسخط، ولا يبادر كمبادرة أحدنا، ولا حتى يجزي السيئة بعشر أمثالها، بينما الحسنة بعشر إلى سبعمائة، والسيئة مثلها ويمحو، وهذا الرب الجليل لا يستحق أن يعصى، ولو لم يتفضل عليك بكل شيء ما استحق أن يعصى، هو الذي لا يحب إلا لذاته، هو الله عز وجل.

    فإبليس -الذي هو ذئب الإنسان- يعلم أن العبد إذا رجع من المعصية رجع إلى رب غفور، فما الذي يجعلك تتوانى؟ ومكفرات الذنب كثيرة، ولو لم يكن من فائدة تعود عليك إلا أن الله يفرح برجوعك لكان الواجب عليك أن ترجع. أتستقل بفرح الله برجوعك؟!

    قال بعض العلماء في قوله تبارك وتعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15] قال: أشد عليهم من عذاب النار: أن يحرموا رؤية الله. وإنما أخذ مثل هذا الفهم من بعض الأحاديث التي فيها أن أهل الجنة لم يرزقوا شيئاً في الجنة أجل من رؤية الله عز وجل.

    كذلك إذا حُجب العبد عن ربه كان أشد من عذاب النار، وفي صحيح مسلم -والحديث أيضاً في صحيح البخاري لكن سياق مسلم أوسع- قال صلى الله عليه وسلم: (لله أفرح بتوبة عبده العاصي من أحدكم بأرض فلاة، معه راحلة عليها طعامه وشرابه) وجد شجرة، وأراد أن يستريح، فنام وترك الراحلة، وعليها أكله وشربه، فلما استيقظ لم يجد الراحلة، والصحراء سيموت إذا لم يتجاوزها، وهذا الطعام الذي أعده يبلغه المنزل، بحث عنها، يئس من وجودها، أيقن بالهلاك، فقال لنفسه: أرجع إلى مكاني وأموت -يموت في الظل- فلما رجع إذا به يجد الراحلة، فقال ممتناً ذاكراً: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك، قال صلى الله عليه وسلم: أخطأ من شدة الفرح).

    الله عز وجل إذا رجعت يكون فرحه برجوعك أشد من فرح هذا الرجل بوجود الراحلة، تضن على نفسك أن يفرح الله برجوعك وهو مستغن عنك، فرح المفاجأة جعله يقسم، بعد أن أيقن بالهلاك، فلما وجد الراحلة لم يتماسك، وكذلك المفاجآت دائماً تفتت عزم القلب أو تشده، ولذلك الله عز وجل بشر الذين اتقوه وتركوا معاصيه تأميلاً لما عنده عز وجل، فقال: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3] لأن فرحة الرزق الذي يأتيك على غير حسبان لا تعادلها فرحة، لذلك مثلاً لو أنك تأخذ مرتباً كبيراً -مثلاً ألف جنيه في الشهر- ومعتاد أن تذهب للخزنة كل شهر، تأخذ ألف جنيه، لكن فوجئت بالرجل يقول لك: أنت مرتبك ألف وخمسمائة.. لماذا الخمسمائة؟ قال: لأنه حصل زيادات وحوافز. فأنت تكون فرحتك بالخمسمائة أعظم من فرحتك بالألف؛ لأنها جاءتك على غير حساب.

    كذلك كل شيء لا يحتسب: إما أن يسعد به غاية السعادة، أو يتجرعه غاية المرارة، وقد ضربنا مثلاً للسعادة بالآية، لكن لو أن جارك حصل بينك وبينه شجار خفيف، فوجدت أنه فتي وضربك.. هذا متوقع، لكن أن يحصل بينك وبين ابنك شجار خفيف، فوجدته رفع يده ولطمك، فيكون وقع هذه اللطمة أعظم ألف مرة من ضرب أي مخلوق؛ لأنك ما توقعتها وجعلتها في حسبانك يوماً ما.

    ففرح الله تبارك وتعالى برجوعك -وهو المستغني عنك- لو لم يكن في التوبة وراءها ذنب، ولو لم يكن إلا أن يفرح الله برجوعك لا تضن على روحك؛ لفرحة الله تبارك وتعالى بك، والفرحة مستلزمة لرضاه ومحبته تبارك وتعالى.

    1.   

    العبودية بين الطاعة والذل

    تنازع العلماء في مسألة قد تبدو عجيبة، قالوا: أيهما أفضل: العبد التائب، أم العبد الذي لم يعص الله قط؟ الذي لم يعص الله أفضل بلا شك، وهذا هو البدهي، لا ننازع ولا نناقش في هذه الجزئية.

    لكن نقول: مما يفضل به العبد التائب على العبد الطائع أبداً: أن العبد الذي عصى الله تبارك وتعالى ثم تاب إليه زاد عبودية في نفسه على عبودية الطائع أبداً، وهي عبودية الذل والانكسار، والرجل الذي لم يعص الله قط -على افتراض وجوده- قد يدركه العجب بعمله يوماً ما، يقول: أنا رجل لي سنين أقوم الليل، وما مر علي خميس ولا إثنين أبداً إلا وأنا صائم، وكذلك ثلاثة أيام من كل شهر، وأتصدق والحمد لله، فهذا قد يدركه العجب من هنا.

    إنما العبد العاصي إذا تاب توبة نصوحاً يجعل الذنب دائماً أمامه، يخشى ألا يقبل الله عمله لهذا الذنب، كيف لا وأنبياء الله عز وجل أدركهم مثل هذا الشعور، فلفظوا به في عرصات القيامة، كما في حديث الشفاعة المشهور، الناس يبحثون عن أي شفيع، يذهبون إلى آدم عليه السلام: أنت أبونا، صورك الله ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، اشفع لنا عند ربك. يقول: نفسي نفسي، أمرني ألا آكل من الشجرة فأكلت. مع أن آدم عليه السلام تاب الله عليه، بل اجتباه الله بعد الذنب، لكنه تذكر ذنبه وخشي أن يؤخذ به.

    إبراهيم عليه السلام.. نوح عليه السلام.. موسى عليه السلام، كل واحد منهم يقول: نفسي نفسي!

    هذا حال الأنبياء المغفور لهم، يدخلون الجنة قبل أممهم، ولا يدخلون الجنة إلا بعد شهادتهم لهم أنهم آمنوا، ومع ذلك يقولون مثل هذا الكلام.

    العبد إذا تاب، ووضع الذنب أمامه، وخشي هذا الذنب كان سبيله إلى الجنة.

    ولذلك قال من قال من السلف: رب طاعة أورثت عزاً واستكباراً، ورب معصية أورثت ذلاً وانكساراً.

    وقال الآخر: إن العبد ليفعل الذنب فيأخذ بيده إلى الجنة، قالوا: كيف ذلك؟ قال: لا يزال ينظر إلى الذنب، ويجّود عمله ويحسنه حتى يلقى الله محسناً.

    هذه عبودية الذل والانكسار، العبد التائب من العصيان شارك العبد الطائع دائماً عبودية المحبة، وعبودية التسليم، وعبودية الرضا، وزاد عليه على الأقل عبودية الذل والانكسار وبهذا الأصل ينحل الإشكال.

    رأى جماعة رجلاً من الصالحين يوم مات ولده يضحك، فاستشكلوا هذا الأمر.. لماذا؟ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يوم مات إبراهيم بكى، وهذا يضحك! فهل هذا راض أكثر من الرسول عليه الصلاة والسلام! إذا راعينا هذا الأصل انحل الإشكال، إذا مات الولد؛ العبد مطالب بأكثر من عبودية: مطالب بعبودية التسليم والرضا، وهو مطالب أيضاً بالرحمة والرأفة، فقلب ذلك العابد لم يتسع إلا لعبودية الرضا، إنما النبي صلى الله عليه وسلم قلبه اتسع، أعطى الرحمة حقها فبكى على الولد، وأعطى التسليم حقه: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن ولا نقول ما يغضب الرب، ولما رأوه يبكي قالوا: تبكي! قال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده)، هذه عبودية التسليم والرضا، اتسع قلبه فأعطى هذا وذاك، وضاق قلب هذا العابد، فلما تزاحمت عليه أكثر من عبودية لم يستطع إلا أن يقدم عبودية الرضا.

    عبودية الذل والانكسار من أجلِّ ما يحصله الإنسان، كل شر في الأرض أحد أسبابه ضياع هذه العبودية، هذه العبودية هي المدخل الحقيقي الواضح لصفة العبادة المقبولة؛ لأن العبادة المقبولة هي أن تعبد الله عز وجل بالخوف والرجاء، كما يقول ابن القيم رحمه الله: الخوف والرجاء بالنسبة للعبادة كجناحي طائر، لا يبلغ الطائر المنزل بجناح واحد، كذلك لا يبلغ العبد الجنة -التي هي المنزل- إلا إذا حقق هذين النوعين.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    1.   

    غلبة الرجاء على الخوف سبب في التهاون

    الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

    أغلب المفرطين في زماننا الآن يعبدون الله بالرجاء، والعجيب أنه يوجد من ينسب إلى هذا الدين من يغذي هذا الشعور، على صفحات الجرائد والمجلات فيقول: الله! انتم تخوفون الناس من النار، ألا يوجد جنة، كله (وبئس المصير). فهم لا يريدون أن نتكلم عن النار إطلاقاً! هل هذا مجتمع رباني كل أفراده أبرار أخيار، أو هو مجتمع ملآن بالمخالفات، بلا شك أنت محتاج أن تقول له: ستدخل النار.

    إذا كان هناك ولد منحل، يخرج مع البنات، ويشرب الحشيش، ويشرب الكوكايين والسجائر، لو أن أباه جاء له بسيارة لخطّأه كل الناس حتى أهله، يقولون: هذا دلع، يجب أن تشد عليه.

    كذلك الواعظون عندما يرون هذا الانحلال كله؟ هل تريدهم أن يقولوا له: وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ [الرحمن:62] وما الذي عمله؟! أن لكل مقام مقال.

    فهناك من يغذي في الناس هذا الشعور، يعبد الله بالرجاء، والطمع في رحمته، ولذلك ستجد إنساناً لا يصلي، ولا يعمل أي شيء، تقول له: يا أخي صل. يقول لك: يا أخي! إن الله غفور رحيم. لماذا غفور رحيم فقط والله قال: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر:49-50] لما لم تكملها؟ وقد قدم تبارك وتعالى الرحمة على العذاب؛ لأن هذه كما قال في الحديث القدسي: (إن رحمتي تغلب غضبي) لكي يكون باب العذر واسعاً بالنسبة للعبد، فعبادته لله بالرجاء، يجعله يقصر أكثر، ولو عبد الله بالخوف فقط يكفر؛ لأن مهما فعلت من حسنات لا تكون ثمناً للجنة أبداً.

    الرسول عليه الصلاة والسلام لو لم يقل لنا: (لن يدخل أحد الجنة بعمله) لظننا أن أعمالنا تبلغنا المنزل؛ لأننا نقرأ في كتاب الله عز وجل ذلك ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32] (الباء) هنا (باء) السببية، أي: ادخلوا الجنة بسبب ما كنتم تعملون، إذاً السبب أدخلك الجنة، إذاً عملك بلغك المنزل، الآية هكذا، والرسول عليه الصلاة والسلام المبين لكلام الله عز وجل صحح لنا هذا المفهوم المغلوط، فقال: (لن يدخل أحد الجنة بعمله، ولا أنت يا رسول الله؟ ولا أنا) هذا منتهى اليأس، رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من مشى على الأرض بقدميه، ولا يوجد رجل في الدنيا عبد الله مثل عبادته، ولا جوّدها تجويده، يقول: أنا لا أدخل الجنة بعملي..!

    إذاً: أنت مهما فعلت لن تدخل الجنة، وماذا تكون النتيجة؟ لماذا أعمل، لماذا أترك الفراش الوثير وأقوم الليل، لماذا أجوع نفسي وأصوم، لماذا أخرج من مالي الذي هو من كدي وعرقي لفلان، أنا أولى، إذا علم أن كل طاعة مردودة يئس.

    هذه القاعدة موجودة في أماكن كثيرة، ومن أبرزها في الجيش: السيئة تعم والحسنة تخص، طيب أنا رجل مستقيم ومنضبط، وأنت تعلم هذا، فلماذا تعاقبني؟

    أنا أسأل نفسي: لماذا أنا واقف انتباه وشادد عظمي؟ حتى لا أنام، أي خلاص لا جزاء، فهذا العمل يفقد الانتماء، والمحبة، والولاء، وهذه حقيقة، ولذلك في السابق عندما كان الناس يدخلون الجيش ولا يخرجون منه، فكان الكثير منهم يحفظون القرآن عن ظهر قلب حتى يعفوا من الجيش، وكان الذي يدخل الجيش مفقود، والذي يخرج منه مولود، عندما يكون الواحد هذا شعوره هل يمكن أن تنتصر به؟ تنتصر بواحد يرى أن وجوده في الجهاد أو في هذا الرباط مغرم؟ طبعاً لا يمكن أن تنتصر بهم، شيء طبيعي جداً أن يهزم.

    لذلك من يعبد الله بالخوف فقط، فيرى أن كل طاعة لا قيمة لها، لن يضل هكذا على طول، بل سيسأل نفسه: ولماذا أعمل وأنا غير مستفيد من عملي، ثم ستجده يكف عن العمل.

    كذلك الذي يقول: إن الله غفور رحيم، يا أخي! مهما تركت؛ ربنا رحمته واسعة، هو غفر لأكثر مني وأشد عتواً وعدواناً على حرماته.. ويضل هكذا؛ فيضيع.

    لكن العبادة الحقة صفتها: أن تعبد الله عز وجل بالخوف والرجاء معاً، فتلقى الله محسناً.

    طيب: أنا أريد أن أبلغ المنزل.. ماذا أفعل؟ المرة القادمة لن أتصدق علانية، أتصدق في السر، لعل هذا الشعور يزول، هو تصدق أول مرة، حمله هذا الخوف مع مداومته للطلب على أن يتصدق مرة ثانية، فتأتيه نفسه: مالك هذا حلال، لا تنس أنه كان فيه شبهة يوماً ما اقترفتها.

    طيب: إذاً ما الحل؟ اتق الشبهات، اجعل مالك حلالاً، فيذهب إذا كان هناك أي مبايعات فيها حرام أو شبهة يتجنبها.

    إذاً: كلما قدم طاعة؛ لامته نفسه وشككته فيها، فيقوم يحسن الطاعة أكثر لعلها تقبل، فما إن يفعل حتى يرجع إلى نفسه فيشك أنها قبلت أو حيزت بالقبول، فيجود عمله أكثر لعله يقبل.. وهكذا يلقى الله تبارك وتعالى دائماً محسناً.

    وأريد أن أنبه إلى جزئية مهمة، في قوله تبارك وتعالى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32] إذا كان (الباء) هنا (باء) السببية، فكيف نوفق بين الآية وبين الحديث: (لن يدخل أحد الجنة بعمله) ؟

    الجواب: أن هذا من تمام تفضل الله عليك، يعطيك الكثير بما تبذله من القليل الذي أمرك به.

    نضرب مثالاً: أصعب شيء في الدنيا أنك تجمع ما بين قلبين.. لماذا؟ لأن القلب ليس في ملكك ولا في ملك أحد، فلما يكون أحدهم رأس ماله العصافير التي في الدنيا؛ إذاً هو فقير؛ لأنها ليست في يمينه، والقلب معروف أنه ملك الرب تبارك وتعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء) وقال صلى الله عليه وسلم: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) وكان أكثر يمينه (لا ومقلب القلوب) إعلاناً عن عجز الإنسان التام إزاء هذا القلب، وهذه حقيقة لا يمكن دفعها، لأنك أنت أحياناً تُغلب على حب إنسان وددت أنك أنت تكرهه، كم من العشاق الذين تلفوا فعلاً أو كاد بعضهم أن يتلف بعدما ذهبت نفسه وراء حبيبه! قيل له: انس. قال: لا أستطيع. لو كان قلبه بيده ما عذب إنسان نفسه طرفة عين.

    إذاً: أصعب شيء أن تجمع بين قلبين، وقد قال الله تبارك وتعالى ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ [الأنفال:63].

    لنفرض إن إنساناً لديه ما في الأرض جميعاً، ولكي يحصل ما في الأرض جميعاً ويصبح ملكه، هو يحتاج جهداً جباراً، ولو أنه تاجر في التراب لربح، وبعد ذلك أتحداه أن يوفق ما بين قلبين، قام وأتى بكل تعبه وقسمه نصفين، وقال: أنت تأخذ النصف والآخر يأخذ النصف الآخر، بشرط أن تحبوا بعضاً.. هو لا يستطيع أن يفعل هذا؛ لأن ربنا سبحانه وتعالى قال: لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ [الأنفال:63] إذاً هذه تحتاج معجزة، ليست بملك أحد.

    إذاً: ما قولك في أن هناك شيئاً يسيراً جداً يمكنك به أن تجمع بين القلبين وأنت واضع رجلاً على رجل، وأمرت به! قال صلى الله عليه وسلم: (لتسوون بين صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم -وفي رواية- بين قلوبكم) هل تسوية الصفوف أسهل أو أجمع بين قلبين؟ انظر إلى هذا اليسر! أن تسوي البدن بالبدن فقط.

    إذاً: هل بمجرد أننا نسوي الصف تتساوى جميع القلوب؟ لا تتساوى، لكن انظر إلى ما أمرت به وهو في ملكك ويمينك ما أيسره! وانظر إلى ما أعطاك في مقابله لا تستطيعه أبداً مهما فعلت، فقصر في ما في يمينه، وأراد أن يفعل الذي يعجز عنه، كل الذين يوفقون الآن بين القلوب، يقول لك: توفيق بين الجماعات، ونقعد مع بعض، ونعمل اجتماعات، ونعمل أي شيء.

    يا أخي! افعل ما أمرت به، نحن نعلم أن ما أمرت به في ملكك ويمينك، فهو ميسور؛ لأنه على قدر قوتك وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:28] لكن الثمرة التي يعطيكها الله عز وجل في مقابل هذا الذي تبذله أعظم بكثير جداً من بذلك وعطائك.

    أنت مطلوب منك سبب لابد أن تفعله؛ حتى يعطيك الثمرة، وإذا لم تفعله لا يمكن يعطيك.

    أشياء يسيرة يجب الالتفات لها، بعض المسلمين الآن يقولون عن مثل هذه الجزئيات أنها قشور، تصور: تسوية الصف عند بعض المسلمين قشور! يقول: يا أخي! أي تسوية صف الذي أنت مهتم بها ربع ساعة والمسلمون يذبحون في لبنان ، إذاً: نم على ظهرك، حلت مشكلة لبنان، حررت البوسنة والهرسك.. انظر التهريج! ترك ما أمر به، ولو فعل ما يوعظ به لكان خيراً له وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15].

    أحياناً قد يعمل الإنسان عملاً تراه في منتهى الجمال، مع أنه يسير ولم يقصده، والله تبارك وتعالى، لا يستصغر معصية ولا يستقل بطاعة، وفي الحديث: (إفراغك من دلوك في دلو أخيك صدقة) نحن قصرنا فيما أمرنا به فحرمنا الثمرة.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

    اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.

    ربنا آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

    1.   

    الأجور الكثيرة المترتبة على الأعمال القليلة

    إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.

    قال العلماء: كل ما أوجبه الله تبارك وتعالى على العبد ففي إمكانه أن يفعله؛ لذلك أوجبه عليك، وكل طاعة دخلت في دائرة الاستحباب؛ يبلغه الله عز وجل إياها بجده وحسن قصده وإن كان ضعيفاً.

    أقول هذا الكلام؛ لأن هذا ملتصق بما ذكرته آنفاً: أن ما تؤمر به قد يكون شيئاً يسيراً، لكن ما تعطاه بامتثالك بهذا اليسير يكون أعظم بكثير جداً من الذي بذلته.

    هذه مسألة أدندن عليها؛ لأن بعض الناس استقلوها، وأراد أن يدخل في المنطقة الصعبة التي ليست له، يرجع دائماً منها بخفي حنين.

    إذاً: دائرة المستحبات أوسع جداً من إمكانات العبد؛ لأن الورع ليس له آخر، ولو كنت سيد الورعين في هذا الزمان لما استطعت أن تأتي على كل ما ينبغي أن يتورع منه، نعم أنت بإمكانك هذا النهار ألا تأكل أي فاكهة أو لحماً أو أي شيء فيه شبهة، مثلما حكي عن بعض العلماء أنه لما سرقت شاة في أيامه؛ ذهب إلى قصاب وسأل عن العمر الافتراضي الذي تعيشه الشاة، قال له -مثلاً-: عشر سنين؛ فحرم على نفسه أكل لحوم الشاة عشر سنين، حتى يضمن أنه لن يدخل بطنه شيء من لحم الشاة المسروقة.

    إن ديننا وضع هذا الحرج، أنت غير مطالب أن تذهب إلى كل جزار لتنظر إلى كباشه من أين مصدرها، بل لو تحريت ذلك لدخلت في باب التنطع المنهي عنه، فلو تجاوز ذلك الأمر به لدخل باب الحرام مباشرةً، لكن أنت بينك وبين نفسك ترى أن صلاحك في ذلك.. افعل، لكن لا تأمر أحداً به؛ لأن الورع غير ملزم، بمعنى أنا مأذون لي أن أتمتع بالحلال، فأنت إن شئت تورعت، أنت حر، لكن لو أردت أن تفتح باب الورع في كل جزئية.. هذا مستحيل؛ إلا أن تكون نبياً.

    إذاً: دائرة المستحبات واسعة جداً، وهذه التي نحن نخصها بالذكر الآن، طالما أنها واسعة جداً، ولا تستطيع تحصيلها كلها، فجهدك القليل كيف تأخذ به ثواب كل هذا المستحب الذي لم تفعله؟ هنا تأتي الأمثلة التي سوف نضربها الآن، والبيان الذي ذكره العلماء في كتبهم، أنك تفعل الشيء اليسير الذي أنيط بك فعله، وما عليك من الباقي.

    مسألة تسوية الصف هذه السنة صارت غريبة تحتاج إلى تهيئة من الإمام الراتب الذي يصلي دائماً، مع أن الناس الآن كل واحد يسوي نفسه بنفسه، والإمام يقول: (استووا) ووجهه إلى القبلة، لكن لو أن إماماً جعل يسويهم ثلث ساعة، ويمر على الصفوف المتطاولة، ويحاول يعمل مثل ما ورد في بعض الآثار، يأتي بجريدة خضراء، ومن ثم أنت ركبتك بارزة قليلاً، أنت كوعك ... هل أنت متصور أن المصلين يسلمون له بذلك؟ طبعاً لا يسلمون له بذلك. بل قد تصير مشكلة كبيرة لو أن هذه الجريدة أوجعت إنساناً. فمثل هذه السنة تحتاج إلى تهيئة.

    كذلك بعض الأئمة مثلاً لما نصلي وراءه الجمعة يطيل في القراءة، ويطيل في الركوع، ويطيل في مواضع لم يتعود العامة أن يطيل فيها، لو كان حافظاً فيها ذكراً واحداً فقط لانتهى في خمس عشرة ثانية، مثلاً الجلسة ما بين السجدتين، كثير من الناس يتصور أن ترفع رأسك فقط، وليس فيها ذكر، بل فيها: (اللهم عافني واجبرني، وارحمني واهدني، وارزقني وتولني).

    النبي عليه الصلاة والسلام كانت صلاته واحدة، يقرأ خمسين آية، يركع بمقدار خمسين آية، يرفع (سمع الله لمن حمده) ويقعد يذكر الله بمقدار خمسين آية، يسجد بمقدار خمسين آية، يرفع ما بين السجدتين بمقدار خمسين آية، يسجد سجوداً ثانياً بمقدار خمسين آية.. كانت صلاته هكذا عليه الصلاة والسلام.

    هو يقول لك ماذا؟

    ليس خمسين آية، عشر آيات فقط، أحياناً يمد المد المتصل والمنفصل، يأتي لك بأربع حركات في المنفصل وست حركات في المتصل ويشبع، بدل ما تأخذ القراءة عشر دقائق تأخذ لها خمس عشرة دقيقة، بسبب المدود، فهو يقعد ما بين السجدتين خمس دقائق، والخمس الدقائق هذه تفقع مرارة تسعين بالمائة من المصلين، لاسيما إذا أضفت إلى ذلك وجود الأولاد الذين يبكون، أحد المصلين يقول في نفسه: أنا قرأت حديث: (إني لأدخل في الصلاة فأريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي) وهذا هل يسمع أم ماذا؟ فيخرج متغيضاً من الصلاة.

    هذا الإمام ينبغي أن يعرف المسجد الذي يصلي فيه، صلاة الإمام الراتب كيف هي؟ ويسأل ويرى، اتركه يصلي كيفما يريد، لكن إذا سمع صوت بكاء يتجوز، الخطأ هنا خطأ الإمام الراتب الذي لم يعلم رواد المسجد هذه السنن، يأخذها شيئاً فشيئاً، بحيث لو جاء رجل فأطال؛ تكون المسألة غير مستغربة.

    ولذلك كان من أغرب الغرائب أن مسجداً من المساجد التي تقام بها السنة الناس لا يعرفون أن المسافر يصلي ركعتين، طيب وهذه من أين أتت؟!

    أنا مرة صليت في مسجد من المساجد التي تقام فيها هذه السنن في محافظة من المحافظات، وبعد أن انتهينا من المحاضرة ذهبت أتوضأ للعشاء، وقد كان المسجد مكتظاً إلى آخره، ثم جئت لأصلي، فلم أجد مكاناً لأصلي فيه، فنظرت فإذا بي أجد فرجة تحت سرير السلم في آخره، فمشيت بين الصفوف، وليس في ذلك قطع لسترة المأمومين.

    المهم: وأنا ذاهب وجدت أحدهم يقطع بيده طريقي، فتجاوزته برفق ومررت، أنا قلت في نفسي: بعد أن أكمل الصلاة أذهب وأقول له: يا عم الحاج! وجهك منور، والسنة كذا وكذا. هو ما أمهلني، انتهينا من الصلاة: ما الذي فعلته؟ كيف تمر من بين المصلين؟ قلت له: هناك حديث في البخاري . قال: أي بخاري؟!!

    المفزع إلى الآن أنه ليس هناك أي إثارة، الإثارة ستأتي قريباً، ذهبنا نتعشى، فلقيت الجماعة الذين اعترضوا علي هم الذين يضعون الأكل، طيب: نتعرف.. فلان رئيس مجلس الإدارة، وفلان عضو مجلس الإدارة، وهم الذين قالوا: أي بخاري؟! وأي كلام تتحدث عنه! فهل يعقل أن رئيس مجلس إدارة مسجد يقيم السنة لا يعرف مثل هذا؟ طيب: هذا خطأ من؟ خطأ الإمام الراتب، الذي لم يبذل جهداً في تعليم رواد المسجد الأصليين مثل هذه الأشياء.

    أنا أقول هذا الكلام حتى نعرف أننا سندخل معارك من أجل تسوية الصفوف، فأنا لو أردت أن أسوي الصف ممكن الذي لا يعترض يسكت، لكن بينه وبين نفسه غير راض على هذا الأمر، فما بالك بالعوام، فانظر سنة خفيفة ممكن نفعلها، انظر كيف صارت بإهمالنا صعبة الآن!

    لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى

    فهذه الجبال التي هي التفات القلوب عن بعضها الآن؛ سببها الحصوة التي تركناها، حصوة مع حصوة وصارت جبلاً، ليس بالسبب تنال، لكن الله عز وجل -كما قلت- يعاملك بالفضل، فقط افعل ما أمرت به وإن كان ضئيلاً.

    الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب المواقيت باب وقت صلاة العصر، روى ثلاثة أحاديث في هذا الباب، الحديث الأول عن أبي هريرة : (من أدرك ركعة من العصر فقد أدرك) وهذا واضح الدلالة، والحديث الثاني حديث ابن عمر رضي الله عنهما، والحديث الثالث حديث أبي موسى الأشعري .

    حديث ابن عمر يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس) عمر هذه الأمة بالنسبة لأعمار الأمم السالفة مثل ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، (أوتي أهل التوراة التوراة ، فعملوا حتى إذا انتصف النهار وعجزوا؛ فأعطوا قيراطاً قيراطاً، وأوتي أهل الإنجيل الإنجيل ، فعملوا حتى إذا انتصف النهار -لصلاة العصر يعني- وعجزوا؛ فأعطوا قيراطاً قيراطاً، وأوتينا القرآن، فعملنا من وقت صلاة العصر إلى غروب الشمس؛ فأعطانا قيراطين قيراطين، اعترض اليهود والنصارى قالوا: أي ربنا! كنا أكثر عملاً منهم وأقل أجراً. فقال: هل ظلمتكم من أجوركم من شيء؟ قالوا: لا. قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء) فهذه الأمة تعامل بالفضل.

    لكن ما علاقة هذا الحديث بتبويب الإمام البخاري (باب من أدرك ركعة من العصر) مع أن الحديث هذا ما فيه لا ظهر ولا عصر، إلا لضرب المثل فقط؟

    الإمام البخاري وضع هذا الحديث في هذا الباب برغم خفاء دلالته؛ ليقول: إن الله تبارك وتعالى عاملك بالفضل يوم أن قبل منك ركعة في الوقت وثلاث ركعات في غير الوقت، فعاملك بالفضل؛ لأنك عندما تصلي ركعة واحدة من العصر، ويدخل عليك المغرب، إذاً هناك ثلاثة ركعات من العصر وقعت في وقت المغرب، إذاً أنت ما صليتها في وقتها، إذاً المفروض أن الثلاث الركعات هذه لا تحسب لك.. لا، تكرماً منه تبارك وتعالى وهب لك الثلاث الركعات في غير الوقت للركعة التي أدركتها في الوقت!

    البخاري رحمه الله يريد أن يقول هكذا، فكما أننا أقل أعماراً إلا أننا أعظم أجراً، وكما أن الركعة هي أقل القليل في صلاة العصر فقد أعطاك أجر العصر كله بإدراك ركعة واحدة، وما عاملك بالعدل، فقبل منك ركعة وحرمك أجر ثلاث ركعات.. إذاً نحن نعامل بالفضل.

    الله عز وجل يعطيك الشيء الجزيل على الشيء اليسير الذي أمرك أن تفعله، وأنت ترى هذا في أعمارنا من الستين إلى السبعين، وقليل من يصل إلى مائة، ومع ذلك تستطيع أن تلقى الله عز وجل بعبادة أربعة آلاف سنة، قال تبارك وتعالى: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:3] ألف شهر، أي: ثلاثاً وثمانين سنة وبضعة أشهر، الغ الكسر واجعلها ثلاثاً وثمانين سنة، فأنت مثلاً إذا أعطاك الله من العمر ستين سنة، فُرض عليك رمضان وأنت ابن خمس عشرة سنة، فتكون قد أدركت خمسة وأربعين رمضاناً، ولنفترض أنك صمته، وقمت ليلة القدر في كل رمضان إيماناً واحتساباً، إذاً تضرب خمسة وأربعين في ثلاث وثمانين تصير ثلاثة آلاف سنة وتزيد، إذاً أنت تلقى الله بثلاثة آلاف سنة ونيف عبادة صافية، وليس عمرك ثلاثة آلاف، نمت منها ألفين، وضيعت خمسمائة، وصرفت في العداوات -أيضاً- خمسمائة، وفي اللهو واللعب خمسمائة، ثم في أي شيء مائتين وخمسين.. وهكذا، أنت عبد طول الثلاثة آلاف سنة.

    أقصر عمرك هذا أطول من عمر نوح عليه السلام في العبادة، فانظر كيف تعامل بالفضل! ونحن لا زلنا نعيش على الدنيا هذه برغم المخالفات وعدونا يستغلنا ويستأصل شأفتنا، لكن ربنا سبحانه وتعالى حتى الآن يرحمنا، لأننا نعيش فقط.

    فإذاً: أنت مطالب أن تبذل، وربنا يسدد، ولذلك تتمة الحديث: (اعلموا أنه لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)، فخشي الرسول عليه الصلاة والسلام أن يتطرق اليأس إلى الصحابة العاملين، فإذا كان عليه الصلاة والسلام لن يدخل الجنة بعمله، فماذا يعملون؟ قال لهم: (ولكن سددوا وأبشروا وأملوا، واستعينوا بشيء من الدلجة، فإن الأرض تطوى) والحديث هذا في منتهى الجمال، بالذات الفقرة الأخيرة هذه.

    (سددوا، أبشروا، أملوا) يعني: لا يتطرق لك اليأس من الكلام المتقدم -أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله- سدد، أبشر، أمل.

    (واستعينوا بشيء من الدلجة) الدلجة: هي الليل.

    (فإن الأرض تطوى) وهذا حق، فإن الأرض تطوى بالليل، والمسافة أقل، ومن يمشي في الليل يعرف هذا، وهذا الحديث أول ما قرأته قلت: أجربه، ولن أجربه لأن إيماني متوقف على التجربة.. لا، لأزداد إيماناً، كما كان بعض العلماء كلما ظهرت فتنة من الفتن والآيات يسجد، فيقولون له: أتسجد لفتنة! قال: أسجد إيماناً وتصديقاً. الرسول قال لي أن هذا سيحصل، فأنا أسجد إيماناً وتصديقاً بما قال.

    فكنت آخذ المسافة مثلاً من القاهرة إلى بلدي بالنهار في ثلاث ساعات إلا ربع الساعة، والطريق مفتوح، والأمبير واحد، أي: أن السرعة واحدة، لكي لا يقول قائل: في النهار يكون ازدحام.. وخرجت بعد أن صليت الفجر، والنور بزغ وملأ الكون، بدأت أمشي والطريق سالم.

    ولما أسافر في الليل، والقيادة في الليل بالنسبة لي مرهقة جداً ومتعبة؛ لأن لدي عملية في الذراع، ولا أرى أمامي إلا الشيء اليسير، والمفروض أن أمشي خائفاً، مع تقليل السرعة، وهذا الذي كان، فكنت أقلل السرعة، إذا كنت أمشي على تسعين مثلاً أمشي على سبعين، أو على ثمانين، وكنت أصل في ساعتين وربع.. فالأرض تطوى بالليل.

    فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (استعينوا بشيء من الدلجة) هذا لا يعني أنك إن أردت تصل إلى الجنة تسافر بالليل.. لا، ليس المقصود هذا، الدلجة هي قيام الليل، ولذلك تجد عبادة الليل جميلة جداً، لها طعم غريب، ولذة! إحساسك أنك تناجي مع قلة من البشر في هذا الوقت، ولذلك الله عز وجل -كما في سنن النسائي وغيره- يضحك إلى من هذا صنيعه، وضحك الله عز وجل حقيقة، وهو مستلزم لرحمته ورضاه، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليضحك إلى عبد سار مع رفقة له، حتى إذا أدركهم التعب عرشوا -ضربوا الخيام لكي يناموا- فتوضأ، وكان النوم أحب شيء إليه -من كثرة التعب- فقام يتملكني ويتلو آياتي) هو تركهم ناموا، وله حبيب ذهب يناجيه، توضأ برغم حاجته إلى النوم (أحب شيء إليه) قام يتلو الآيات، فربنا سبحانه وتعالى يضحك لهذا.

    وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الصلاة بعد المكتوبة فقال: (جوف الليل الآخر) فالعبادة في هذا الوقت لها لذة، ولذلك قال قتادة : ( قلما سهر الليل منافق ) أي: في العبادة، ولذلك المحششون لا يحششون إلا في الليل، وعندما يظهر وجه الفجر (الله أكبر) يلم عدته ويذهب ينام.. انظر إلى الغضب، مثل الذين يقيمون الموالد والأفراح، لا يفضون هذه المراسم إلا مع أذان الفجر.

    فتأمل.. الإنسان عندما يرى حالهم هذا يتمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان إذا سمع الأذان ولى وله ضراط) هو هذا، لما يسمع الأذان يلم عدته وينصرف ينام (قلما) ولو قال قتادة : (ما سهر الليل) وترك كلمة (قل) هذه، لكان صادقاً.

    إذاً قول النبي صلى الله عليه وسلم (استعينوا بشيء من الدلجة) أي عبادة بالليل حلوة، حتى لو أنت أخذت الصدقة في جنح الليل، وقطعت الخطوات فإنك تحس بلذة لهذه الخطوات.

    ولذلك ربنا سبحانه وتعالى لما ذكر العابدين في الدلجة وصفهم بقوله: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ [السجدة:16] (تتجافى) صار هناك جفوة بين جنبه وبين الفراش.

    يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة:16] هو هذا الخوف والرجاء الذي تكلمنا عليه، خوفاً منه، وطمعاً في رحمته.

    العبادة بالليل ليست هينة؛ لأنها تحتاج مجاهدة، كما قال بعض السلف: عالجت قيام الليل سنة واستمتعت به عشرين سنة. أول سنة مكابدة وجهد.. لماذا؟ لأنك تأتي متأخراً، ثم تلعب مع الأولاد قليلاً، إلى أن تتعشى، ثم تدخل الفراش، وتجلس مع الزوجة قليلاً، ثم ما تدري إلا والساعة تشير إلى الواحدة.. وهذا هو حال أغلب الناس.

    ومن حاول أن ينام مبكراً، فيذهب من بعد العشاء بنصف ساعة أو ساعة لينام، فما رأيك أنه يضل يقظاً حتى الساعة واحدة ويبتدئ النوم يخطف عينه الساعة واحدة، يقوم يقول لنفسه: ولماذا تضييع الوقت هذا، أقوم أعمل أي حاجة مفيدة -يقول لنفسه هكذا، والشيطان يدخله.

    يا أخي! أنت حتى تتعود أن تنام بعد العشاء بساعة هذا فيه مجاهدة، وبالعكس ممكن أنك ما تنام حتى الفجر ولا ساعة واحدة.. لماذا؟ لأنك واضع دماغك، فإذا جاءت الساعة واحدة تبتدئ تعاني من الآثار الجانبية للصداع إلى الفجر، يقوم الشيطان يدخل لك، يقول لك: لا، لا، خلاص.. أنا أستثمر حياتي، أستثمر العمر، أنا أضيعه.. ويضل على عادته.

    إن كل شيء يحتاج إلى ممارسة، حتى الإيمان، والإخلاص، والخشوع، فإذا كنت أريد أن أخشع .يقوم يقول لك: استجمع نفسك، غمض عينيك، فكر في الآيات، تمعن في التفسير.. فهو حتى يفكر في الآيات يحتاج جهداً.

    أحدهم قال لي: أنا لا أخشع ولا ساعة. قلت له: خذ معنى آية وفكر فيها. وقع في إشكال آخر: أنه يضل يفكر في الآية الأولى والقارئ يقرأ، فلا يأخذ باله من كل الآيات التي بعدها، فجاء مرة أخرى يسأل: أنا في قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [البقرة:164] ظللت أفكر في السماء والنجوم والقمر ...إلخ، والآيات التي بعد هذه ما سمعتها.. فماذا أفعل؟

    فالمسألة لا تأتي هكذا، المسألة تحتاج مجاهدة وتعباً، أنت ورثت تركة مثقلة بالديون هي: عدم وجود التربية، هذه تركة خاسرة كلها، ومع الجهد الذي تبذله في تصحيح نفسك عليك أن تتهيأ على وضع معين.

    إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ولا يلين إذا قومته الخشب

    لو كان غصناً لاستطعت أن تعدله، لكن لو كان هذا الغصن شجرة.. كيف تعدله؟

    فلذلك مسألة الاستعانة بقيام الليل ييسر عليك عمل النهار، وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن الأرض تطوى)، فكما أن الأرض تطوى بالليل للمسافر فإن العبادة لسهولتها يحصل الإنسان أكبر قدر من العبادة إذا فعل ذلك بالليل، فانظر.. يسر، وعلى الجانب الآخر المحصلة عظيمة جداً؛ لأن الله عز وجل يقول: يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [البقرة:212] ستكسب بغير حساب.

    إذاً: أنت مطلوب منك السبب، وقد ضربنا المثل قبل ذلك بـمريم عليها السلام، لما قال ربنا سبحانه وتعالى قال: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا [مريم:25] المرأة النفساء لا تكاد تقوى على الحركة بعد الولادة.

    والنبي عليه الصلاة والسلام شبه المؤمن بالنخل؛ لأن كله منافع، والنخلة لا تهتز أبداً بسهولة، ممكن أن تجد شجرة كافور تقع، مع أن جذرها قد يصل إلى البر الثاني، ومع ذلك فإن الريح تقلعها من جذرها، لكن نادر جداً أن النخلة -مع أن جذورها ليست طويلة- تقلعها الريح.

    المؤمن في ثباته مثل النخلة، فأنت لو أتيت بمائة رجل من أشداء الرجال، وتقول لهم: هزوا النخلة هذه، لكي ينزلوا منها فرعاً أو تمراً.. لا يستطيعون.

    إذاً امرأة نفساء والآن ولدت ويقول الله لها: (وهزي) ..!

    بل هناك أعجب من هذا: أنها وهي سليمة لا ولادة ولا نفاس كان يأتيها الرزق وهي قاعدة قال تعالى: يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:37] إذاً وهي صحيحة مائة بالمائة يأتيها الرزق وهي قاعدة، وعندما يأتيها النفاس وتكون متعبة يقول لها: (هزي) هل رأيت المفارقات؟!

    (هزي) هذه إشارة إلى ضرورة السبب، هل هزتها هذه هي التي جعلت النخلة تساقط؟! انظر إلى السبب كم هو صغير، والمحصلة والأثر كبير: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ [مريم:25] وفي القراءة الأخرى (تَسَّاقَط) واللفظ العربي لما تزيد عليه حرفاً؛ يزيد المعنى مباشرة، (تَسَّاقَط) والسين هذه مشددة، والحرف المشدد لما تفكه يبقى حرفان من جنس الحرف، فـ(تَسَّاقَط) (تسساقط) هكذا، اجعل سينين جنب بعض، وزيادة السين هذه تدل على زيادة المعنى في المقابل.

    وهذه القاعدة هي التي يقولها علماء البيان: إذا زاد المبنى زاد المعنى. قال تبارك وتعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ [طه:132] انظر إلى (الطاء) كيف هي ثقيلة! تحس أنك حامل جبلاً، وهذا الحرف من حروف التفخيم، ولذلك ترى شكل الحرف نفسه منفوخاً، وكذلك (ظاء) تملأ فمك به، تحس بثقل وأنت تقوله، ولذلك سموا أيضاً حروف الاستعلاء، حروف التفخيم، فلما تسمع (اصبر)، ولما تسمع (اصطبر) تحس أن (اصطبر) هذه ثقيلة قليلاً.. طيب: هي ثقلت هكذا؟ لا، ثقل الحرف أعطى معنى مقابلاً يجب أن يبذل وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132] الصلاة تحتاج صبراً.

    طيب: سقا في الجنة وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان:21] وفي الدنيا وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ [الجن:16] وليس سقيناهم، جعل الهمزة هنا وسط، لأن الماء الزلال الفرات ممكن تغص به، وهذه المشقة في الجنة ليست موجودة، لذلك حذف الألف، فصارت (سقاهم) انظر.. هل تحس بسهولة (سقاهم) هذه؟ غير (أسقيناهم) وهمزة قطع أيضاً؛ فزيادة المبنى يدل على زيادة المعنى في المقابل.

    فهنا (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تَسَّاقَطْ) مما يدل على كثرة التمر النازل لكن هل ينزل من تلقاء نفسه؟ تنزل النخلة كلها؟ لا، تنزل بسبب، كما قال الشاعر في وصف ذلك وأجاد:

    توكل على الرحمن في الأمر كله ولا ترغبن بالعجز يوماً عن الطلب

    ألم تر أن الله قال لمريم وهزي إليك الجذع يساقط الرطب

    فلو شاء أن تجنيه من غير هزه جنته ولكن كل رزق له سبب

    إذاً يجب أن نبذل ما أمرنا به على الوصف الذي أمرنا به، المحصلة: أن الله تبارك وتعالى يعطينا الذي وعد، فإن الله إذا وعد لابد أنه منجز وعده، وإذا أوعد فهو بالخيار.

    وقد ورد هذا في حديث صحيح، ولأنه أوجب على نفسه تنفيذ ما وعد صار للعباد عليه حق من هذا الباب، وإلا فليس لهم عنده شيء، ولا لهم عليه حق؛ لأنه هو الذي تبارك وتعالى وعدهم، ووعده لا يتخلف، فصار كأنه حق لهم.

    يبقى في نهاية هذا الكلام التنبيه على جزئية في الخطبة، وهي: لماذا الشيطان لا يكترث بالذنوب وإن كانت عظائم، ويتهلل ويبتهج بالطلاق وهو مباح؟

    الجواب: إن الشيطان يبحث عن أعظم المفسدتين، كما أنك كمكلف تبحث عن أرجح المصلحتين، وتدفع أكبر الضررين بارتكاب أخفهما، والشيطان يريد أن يحقق أكبر قدر من المصيبة، فالمصيبة المترتبة على هدم البيوت أعظم؛ لأن الرجل إذا طلق المرأة وأراد أن يتزوج المرأة الجديدة لا تريد أن تربي العيال، المرأة -زوجته التي طلقت- لما تتزوج، الرجل الآخر ليس على استعداد أن يربي أولاد غيره؛ تكون النتيجة: الأولاد يتشرذمون ويتشردون، ويصيرون من جند إبليس في الأرض، يستعين بهم كقوات الاحتياط الاستراتيجي، الاستدعاء المستمر، العصابات، يريد أن ينفذ أي شيء على الأرض هو هذا الموجود؛ فيكون الضرر الجسيم بهم أعظم من ارتكاب جريمة الزنا والقتل، فالذي يحاد الله ورسوله بارتكاب قتل الجماعة والعصابات أعظم من الزاني، ولذلك الله عز وجل أنزل فيهم حد الحرابة: يصلبون، وتقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وينفون من الأرض؛ فضاعف عليهم العقوبة لعظم الذنب، فلذلك إبليس ابتهج بهذا، لأن العبد يتوب بعد طول ذنوب: رب إني أذنبت ذنباً فاغفر لي، فإذا أقبل على الله عز وجل؛ أسقط عنه، وكأن عمل إبليس ذهب هدراً، بخلاف الطلاق الذي هو باب مباح. فقد يلتبس على العبد مثل هذه الجزئية.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله تبارك وتعالى لي ولكم.

    1.   

    الأسئلة

    مواطن رفع اليدين في الدعاء

    السؤال: ما هي المواطن التي لا يجب رفع اليدين فيها بالدعاء؟

    الجواب: أما (المواطن التي لا يجب) فالسؤال هكذا صعب.

    لا، مسألة تحريم رفع اليدين في الدعاء...... هكذا.. لا، ارفع في الاستسقاء، ربما يكون مقصود السائل في غير المواضع التي ورد فيها الرفع، فنحن نقول: إذا كان هناك موضع مشتهر فيه جمع، وفيه دعاء، ومع ذلك لم ينقل رفع الأيدي فالصواب عدم الرفع.. لماذا؟ لأنه لو كان لنقل ولتوافرت الهمم والدواعي على النقل، مثل الرفع في خطبة الجمعة.

    والجمع التي صلاها الرسول عليه الصلاة والسلام كثيرة ولم ينقل في حدود ما أعلم، وفي حدود علم علماء المدينة الذين أخذت عنهم هذه الفتوى أن الصحابة كانوا يرفعون أيديهم في دعاء الجمعة -مثلاً-، مع أن الجمعة تجمع أكبر عدد من المصلين، أكثر من الصلاة العادية، وتتكرر كل أسبوع، فالصحابة الذين نقلوا أدق صفة صلاته عليه الصلاة والسلام، مثلاً وهو ساجد عليه الصلاة والسلام يثني أصابع رجليه إلى القبلة، إذاً يرى هذا ولا يرى أحدهم ماذا يعمل كل جمعة.

    فلما توافرت الهمم والدواعي أو كان هذا الأمر بمكان تتوافر الهمم والدواعي على نقله، ومع ذلك لم ينقل، فنقطع بعدم حدوثه، بخلاف ما يكون خفياً عن ذلك، مثلاً: إذا أراد أن يدعو الله عز وجل بدعاء في أي موطن وفي أي وقت فرفع يديه فدعا، فهذا لا نقول له: لا ترفع يديك.. لماذا؟ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليستحي من العبد أن يرفع إليه يديه فيردهما صفراً خائبتين) فهذا رفع اليد، اجعله أيضاً في المواطن العامة، لكن المواطن الخاصة بالذات التي تتوافر الهمم والدواعي على النقل ومع ذلك لم ينقل، فنحن لا نقول برفع اليد فيه.. والله أعلم.

    درجة حديث: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة)

    السؤال: ما صحة حديث (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) هل هو على سبيل الأفضلية؟

    الجواب: هذا الحديث اختلف العلماء في رفعه ووصله، والصواب أنه مرفوع، والرواية الموقوفة لا تقدح في الرواية المرفوعة، لكن هذا الحديث على الأفضلية، وليس على نفي الذات، والذي جعلنا لا نقول بذلك: أنه لم يتبن أحد من العلماء -حتى الذين صححوا هذا الحديث- القول بنفي الذات، وصرفوا (لا) -هذه (لا اعتكاف)- على نفي الكمال.

    والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756271280