الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
تكلمنا في المجلس السابق فيما يتعلق بالأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القراءة خلف الإمام، سواءً كان ذلك في صلاة جهرية أو كان ذلك في صلاة سرية، وأوردنا جملة من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشرنا إلى شيء من الموقوفات في هذا الباب، وذكرنا بعضاً من الأحكام الفقهية المتعلقة بذلك.
ونكمل بعض الأحاديث في هذا الباب.
الحديث الأول: حديث جابر بن عبد الله عليه رضوان الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من كان له إمام، فقراءة الإمام له قراءة )، هذا الحديث أخرجه الدارقطني في كتابه السنن، و البيهقي، ويرويه محمد بن الحسن في الموطأ عن النعمان أبي حنيفة عليه رحمة الله عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا الحديث أسنده أبو حنيفة النعمان الإمام عليه رحمة الله عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعله مسنداً ( من كان له إمام، فقراءة الإمام له قراءة )، وفي إسناده أبو حنيفة وتفرد بوصله، ورواه الأئمة الثقات وجعلوه مرسلاً، يرويه سفيان بن عيينة ، و سفيان الثوري ، و زائدة ، و أبو عوانة ، وجرير ، وغيرهم يروونه عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يذكرون جابراً وهذا هو الصواب.
وقد رجح ذلك جماعة من الأئمة من النقاد كـأبي حاتم و الدارقطني و البيهقي وغيرهم أن الصواب في ذلك الإرسال.
وأبو حنيفة عليه رحمة الله في تفرده بهذا الحديث ذكر بعض العلماء له متابعاً هو الحسن بن عمارة وهو متروك الحديث، فلا تقبل متابعته حينئذ.
وبالنسبة لـأبي حنيفة في روايته للحديث وكلام العلماء فيه نقول: إن أبا حنيفة له من جهة كلام العلماء فيه جهتان:
الجهة الأولى: من جهة إمامته وجلالته في باب الفقه، والأئمة عليهم رحمة الله يتفقون في ذلك، يتفقون على إمامته وتصدره وأنه يقل أن يكون له نظير في باب الفقه والنظر.
الجهة الأخرى: ما يتعلق بأمور الرواية وهي الحفظ، فهو في باب الحفظ ضعيف، ولا أعلم أحداً من الأئمة من النقاد وثقه في باب الحفظ إلا ما جاء عن إمامين: ابن معين ، و علي بن المديني ، وثبت عنهما خلاف ذلك، أما يحيى بن معين فلا يصح الإسناد عنه في توثيق أبي حنيفة عليه رحمة الله، وأما علي بن المديني فقد جاء عنه التضعيف وهو صحيح، وعلى هذا نحمل ما جاء عنه في كلامه عن أبي حنيفة في أبواب التوثيق على أن المراد بذلك هي الإمامة في أمور الفقه والنظر.
فينبغي لطالب العلم عند اختلاف كلام الأئمة في أبواب الجرح والتعديل في الراوي أن ينظر إليها هل جاءت في سياق معين أم جاءت مطلقة، فكلام العلماء عليهم رحمة الله في أبواب الجرح والتعديل لا يخلو من حالين:
الحالة الأولى: أن يكون في سياق معين، فجاء لفظ التعديل وجاء لفظ التجريح على سياق، وهذا السياق إما أن يكون جاء في سياق حادثة أو واقعة، أو جاء بعد رواية حديثية أو نحو ذلك، أو عند نازلة في فتنة أو نحو ذلك، فعلى هذا نأخذ القول الذي يأتي في ذلك على ذلك القيد لا نحمله على الإطلاق.
الحالة الثانية: أن يأتي لفظ الجرح والتعديل ويراد من ذلك العموم بلا سياق، فتأتي العبارة ثم بالنظر إلى أصولها نجد أنه أطلق العبارة من غير تقييد ولا سياق ولا مناسبة حينئذ نحمل الحالة الثانية على أن المراد بها هي عموم حاله، والغالب في ذلك هو ما يتعلق في جانب الرواية، ونعرف السياقات بالرجوع إلى أصول الرواية، وذلك في الكتب الأصول التي تذكر التراجم، ومن ذلك كتب البخاري كالتاريخ، و كتب ابن أبي حاتم كالجرح والتعديل، والعلل، وكتب الدارقطني وعلل الإمام أحمد عليه رحمة الله ومسائله التي تروى عنه، وعلل ابن المديني وعلل يحيى بن معين ، والعلل التي يذكرها أو يجمعها بعض الأئمة عن جماعة من النقلة، وكذلك أيضاً كتب الأحاديث التي ترد في غرائب بعض الرواة كغرائب مالك للدارقطني ، وغرائب مالك أيضاً لـابن عساكر ، وغرائب أيضاً شعبة وغيرها من هذه المصنفات التي نعرف ونميز هل هذا الكلام جاء بإطلاق أم جاء بقيد! فجرح الإمام لراوٍ بعد حديث أمارة على تقييده أو ظنه على تقييده أنه أراد بتفرده بهذا الحديث، قد يكون الراوي ثقة في ذاته لكنه إذا تفرد بحديث بعينه ضعف الحديث لأجله، فيقولون: هذا الحديث تفرد به فلان وهو ضعيف ولا يريدون به بذاته، ولكن جاءت المناسبة عند تفرده في هذا الحديث فتكلموا عليه.
فألفاظ الجرح والتعديل والنظر في كتب التاريخ، عند إطلاق التعديل والجرح لابد من النظر إلى السياق.
كذلك أيضاً: لابد من النظر إلى جانب الاقتران، هل الإمام سئل عن هذا الراوي بعينه أم قرنه بغيره، فإذا سئل عنه بعينه فالأمر يتوجه إليه جرحاً وتعديلاً من غير مقارنة أو قيد بأحد، ولكن لو قورن بغيره فيقال: ما رأيك في فلان وفلان؟ فإن الثقة يضعف من دونه كلما علت مرتبته، فإذا كان إماماً جليلاً فإن من دونه من جهة الرواية يعد ضعيفاً يلينه العلماء، وهذه المراتب في ذلك ينظر فيها إلى المقترنين، ينظر إلى أعلاهما في ذلك؛ لأن الأئمة عليهم رحمة الله لا يسألون غالباً إلا عن متقاربين، والتقارب في ذلك يقع فيه شيء مثلاً من التفضيل أو ربما الجرح لأحد الرواة، وذلك يحمل على ذلك القيد أو تلك المناسبة وذلك السياق في التفاضل بينها بخلاف الكلام إذا سئل عن راو بعينه تجرداً، فإنه يحمل على حاله العامة وهي أمر الرواية.
أبو حنيفة عليه رحمة الله في كتب التراجم ثمة أقوام يضعفون وثمة أقوام يعدلون، والتعديل في ذلك أكثر، ولكن هذا التعديل الذي يأتي في كلام العلماء يراد به الإمامة والجلالة في الفقه، والغالب هذا في كتب التاريخ، أما ما يتعلق في كتب الجرح والتعديل وكتب الرجال فإنهم يتكلمون على جانب الرواية، ولهذا قل ما يتكلم أحد من أئمة النقد في أبي حنيفة في باب الرواية إلا ويغمزه بضعف أو لين أو سوء حفظ، ولهذا ينبغي أن نميز وندرك هذا، وهذا ليس خاصاً بـأبي حنيفة بل مدرسة أهل الرأي عموماً، حتى شيخه حماد بن أبي سليمان ، ولهذا يقول شعبة بن الحجاج في حماد بن أبي سليمان لما سئل عنه قال: لم يؤت حفظ الآثار وهو صاحب فقه، يعني: أنه صاحب فقه ودراية ولكنه من جهة الرواية وضبط المرويات لم يؤت هذا، وهذه مدرسة أهل الرأي لانشغالهم بالمعاني وتحليلها عن الروايات وضبطها، بخلاف غيرهم ممن جاورهم مثلاً من البصريين فإنهم أحسن حالاً منهم، كذلك أيضاً أهل بغداد أحسن حالاً من أهل البصرة، وأهل الشام أحسن حالاً من أهل العراق وهكذا.
الجهة الأخرى التي ينبغي النظر إليها في أمور الرواة، سواءً ذكر ذلك في أمور السياق أو عدمه: أن ينظر فيه إلى مراتب أحوال الراوي، هل الراوي له أبواب متعددة في ذاته؟ يعني: هل هو ممن يتولى منصب القضاء أو الإمامة أو الأذان أو له أبواب يعتني بها في أمور، هل هو صاحب فقه، أو صاحب تاريخ وسيرة، أو صاحب تفسير ونحو ذلك، له فنون، وله رواية أيضاً، هل ثمة شيء يشرك أمر الرواية أم لا؟ فإذا كان ثمة شيء يشرك أمر الرواية فعليه نحمل في ذلك الاختلاف والتباين الذي يأتي في كلام الأئمة، فالصدر في الناس الذي يتولى قضاء في بلدة أو نحو ذلك يشتهر في ذلك من جهة فضله وعدله وإمامته، كذلك أيضاً إذا كان صاحب صلاح من جهة الزهد والديانة والعبادة والورع، فإن العلماء عليهم رحمة الله يتكلمون عليه من جهة فضله، ولكن في باب الرواية لها بابها، وإذا أدركنا هذه الوجوه أدركنا أن الألفاظ التي يذكرها العلماء في الراوي الواحد المتباينة أنها لا تنزل على حال واحدة من الراوي، وبهذا نحل كثير من الإشكالات التي توجد عند اختلاف العلماء في الراوي الواحد بعينه.
وربما أيضاً حتى باب الرواية تتباين ولها مراتب وهي رواية، وذلك أنه له حديث قديم وله حديث جديد، أو له شيوخ يضبطوا مرويات هؤلاء الشيوخ، وله شيوخ لا يضبطون، أو ربما ثقة في أهل بلد وليس بثقة في أهل بلد، وكلها دائرة في أمر الرواية.
فينبغي لطالب العلم إذا وجد اختلاف في كلام الأئمة في راوٍ أن يبدأ بالمرحلة الأولى وهي النظر إلى الحالين من جهته، هل هذا الاختلاف جاء في سياق أو غيره بحيث يميز الإنسان! ثم بعد ذلك ينظر إلى ذات الراوي ينظر في تراجمه هل هو له ولايات، هل تقلد شيء، هل هو مثلاً عابد زاهد، من أهل الجهاد، من أهل القضاء، أهل الولاية، أو غير ذلك، فيستطيع حينئذ الإنسان أن يميز كلام العلماء في ذلك وأن يضعها في موضعها.
وهذا الحديث على ما تقدم الصواب فيه الإرسال، وهذا الذي يرويه الثقات من أصحاب موسى بن أبي عائشة ، يرويه سفيان بن عيينة ، و سفيان الثوري ، و شعبة بن الحجاج ، و أبو عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري وكذلك أيضاً يرويه جرير و زائدة وغيرهم يروونه عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد مرسلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الأرجح الذي رجحه الأئمة عليهم رحمة الله تعالى، ولهذا نقول: إنه لا يصح مرفوعاً من حديث جابر بن عبد الله على ما تقدم.
الحديث الثاني: حديث أبي سعيد الخدري عليه رضوان الله، بنحو أو يشابه لفظ حديث جابر بن عبد الله ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من كان له إمام، فقراءة الإمام له قراءة )، هذا الحديث يرويه أبو نعيم في كتابه الحلية، والدارقطني ، و البيهقي في كتابه السنن يرويانه من حديث إسماعيل بن عمرو بن نجيح عن الحسن بن صالح عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإسماعيل بن عمرو ضعيف الحديث، ضعفه جماعة من الأئمة كـالدارمي ، و ابن عدي في كتابه الكامل، و الدارقطني .
ولكنه لم يتفرد به، فقد أخرجه الطبراني في كتابه الأوسط من حديث النضر بن عبد الله عن الحسن بن صالح عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه المتابعة لا تغني لأن العلة باقية وأبو هارون العبدي الذي يرويه عن أبي سعيد الخدري ، قد تركه الأئمة كـوكيع بن الجراح ، ويحيى بن سعيد القطان ، ولم يحدث عنه الإمام أحمد عليه رحمة الله، فهو متهم في حديثه فيروي عن أبي سعيد الخدري الأحاديث المناكير التي لا يوافقه الثقات، ويقول شعبة بن الحجاج: لو شئت أن يحدثني أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري بأي حديث لحدثني، يعني: أنه مستعد للتلقين، وهذا دليل على اتهامه في الرواية، فيروي أحاديث خاصة عن أبي سعيد الخدري مناكير أو موضوعات ولا يثبت منها شيء، ومثل هذا الحديث الذي يتفرد به راوٍ وهو متروك الحديث أو ضعيف جداً، وجوده كعدمه، فلا يعتد به لا من جهة المتابعات ولا من جهة الشواهد فلا يعضد الأحاديث الماضية بعضها بعضاً لشدة ضعفها، وإنما الكلام على الموقوفات والغالب العمدة في هذا الباب.
الحديث الثالث: حديث عبد الله بن عباس عليه رضوان الله، وهو بمعنى حديث جابر بن عبد الله ، وأبي سعيد الخدري .
جاء من حديث أبي سهيل نافع عن مالك بن أنس عن عون بن عبد الله بن عتبة عن عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث تفرد بروايته عن أبي سهيل نافع عاصم بن عبد العزيز الأشجعي ، وقد ضعفه غير واحد من الأئمة كالإمام النسائي ، و البخاري وغيرهم.
وهذا الحديث أنكره الإمام أحمد عليه رحمة الله فقال: هو حديث منكر، وأنكره واستغربه أبو نعيم ، وأعله البيهقي عليه رحمة الله، والدارقطني ، وقال: رفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم.
فهذا الحديث معلول بعدة علل:
الأولى: أن هذا الحديث تفرد بروايته عاصم بن عبد العزيز الأشجعي وهو ضعيف الحديث، وبمثل هذه الطبقة المتأخرة النازلة لا يقبل العلماء التفردات.
الثانية: أن هذا الحديث يرويه أبو سهيل نافع عم الإمام مالك عن عون بن عبد الله بن عتبة ، وهذا الحديث لو كان عند عم الإمام مالك لما تركه الإمام مالك ؛ لأن الإمام مالكاً يحيط بحديث أهل المدينة فكيف بحديث أهل بيته وأحاديث شيوخه، ومثل هذا من الأحاديث الأصول التي لا يتركها من هو دون الإمام مالك عليه رحمة الله لو كانت في المدينة، وما ترك الإمام مالك رحمه الله مثل هذا الحديث إلا لعدم ثبوته عنده.
ومن قرائن الإعلال عند العلماء: أن الحديث إذا روي في بلد وفي الإسناد راو يتصل بأحد الثقات الحفاظ الكبار بسبب أو نسب، إما بالتلمذة، أو المشيخة، أو القرابة، أو من أقرانه، فهو في محيطه وهو قريب منه، والأئمة عليهم رحمة الله يستنكرون الأحاديث التي تكون بعيدة، لماذا لم يروها فلان وهو في البلدة الفلانية؟ فكيف والحديث قريب من عنده وفي بلده، أو ربما عند أهل بيته، ثم يدع مثل هذا ويروي عن الأبعدين، وكلما قرب الحديث الأصل المشهور العلم من إمام ثقة ثم لا يرويه، فهذا أمارة على علته.
ومن القرائن أيضاً: إذا قرب منه الحديث مكاناً ثم لم يروه ويقول بخلافه في الفتوى، فهذا قرينة على الإعلال، فينبغي أن ينظر في الأسانيد وما يتصل بها وما يتصل بهم من الرواة الثقات، وينظر في البلد من كان حاضراً في هذا البلد في هذه الحقبة هل يوجد راو كبير ضابط، ولماذا ترك مثل هذا الحديث، وهل يقول بهذه المسألة أو لا يقول بها! وسبب تركه لذلك، فهذا من الأمور المعينة على معرفة مواضع النكارة في الحديث.
الثالثة: أن عون لم يسمع من عبد الله بن عباس عليه رضوان الله، وقد ذكر ذلك الدارقطني عليه رحمة الله.
فهذا الحديث معلول بعدة علل، وقد تضافرت فيه فشدت من ضعفه، ولا يعتضد بغيره من الأحاديث السابقة.
الحديث الرابع: حديث عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله وهو بنحو ما تقدم، أخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث أحمد بن عبد الله بن ربيعة عن سفيان الثوري عن المغيرة عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود، وهذا إسناد كوفي تفرد به أحمد بن عبد الله بن ربيعة بن عجلان وهو مجهول لا يعرف.
وأيضاً من وجوه النكارة: أنه يروي عن إمام جليل صاحب رواية ودراية وهو سفيان الثوري ، ومثله لا ينفرد عنه مثل أحمد بن عبد الله بن ربيعة ، فتفرد مثله بمثل هذا الحديث أمارة على نكارته.
وأيضاً فإن هذا الإسناد إسناد كوفي، والأسانيد الكوفية في الأحاديث المرفوعة يشدد فيها ما لا يشدد في الموقوفات؛ لأن مثل هذا الحديث أصل ولو كان عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله فإن لـعبد الله بن مسعود أيضاً أصحاب في المدينة يروون عنه حديثه، ومثل هذا بهذه الطبقة في رواية عبد الله بن مسعود ويروي عنه علقمة ويروي عن علقمة إبراهيم وعن إبراهيم المغيرة وعن المغيرة سفيان الثوري هذه طبقة كوفية ثم لا يوجد هذا الحديث لا في الكوفة ولا في غيرها، مع مروره بأمثال هؤلاء الكبار، وهذا أمارة على نكارته، وأيضاً خطأ واتهام أحمد بن عبد الله بن ربيعة بن عجلان في هذا الحديث، ولو كان من حديث سفيان الثوري ما تركه أصحابه، ولو كان من حديث علقمة ما تركه أصحابه أيضاً الكبار لأنه مرفوع، لكن لو كان موقوفاً يمكن أن يتفرد به إبراهيم ، ولكنه مرفوع وأصل، ولهذا الأئمة عليهم رحمة الله تعالى لا يدعون مثله، فهو حديث منكر.
الحديث الخامس: حديث أنس بن مالك بهذا النحو، ويرويه غنيم بن سالم عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعاً، وهذا الحديث تفرد به غنيم بن سالم وهو ضعيف الحديث لا يحتج بحديثه، ولم يروه إلا غنيم بن سالم عن أنس بن مالك ولم يتابع عليه فهو مردود.
الحديث السادس: حديث علي بن أبي طالب عليه رضوان الله، بنحو حديث عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله، أخرجه الدارقطني في كتابه السنن، و البيهقي من حديث غسان عن قيس بن الربيع عن محمد بن سالم عن عامر بن شراحيل الشعبي عن الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حديث معلول بعدة علل:
الأولى: أنه يتفرد به بهذا الوجه غسان عن قيس بن الربيع وهما ضعيفان لا يحتج بحديثهما، يرويان هذا الحديث عن محمد بن سالم .
الثانية: أن غسان في روايته عن قيس بن الربيع عن محمد بن سالم خولف في هذا الحديث، فرواه عاصم بن علي عن محمد بن سالم عن عامر الشعبي مرسلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواية الإرسال أصح، رجحها جماعة كـالدارقطني عليه رحمة الله، والبيهقي، فالمرسل أصح من الموصول مع ضعف الجميع.
الثالثة: أن هذا الحديث يرويه الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، و الحارث الأعور يسيء الظن به أصحابه، وذلك كـعامر بن شراحيل الشعبي بل يتهمه، وإبراهيم النخعي ، وترك الأئمة عليهم رحمة الله حديثه.
ولكن نقول: إنه بالنسبة لرواية الحارث الأعور إنها على مراتب:
المرتبة الأولى: فيما يرويه في المرفوعات، فهذا لا يقبل منه شيء ما لم يتابع عليه ممن هو أحسن منه، وما يقبل من ذلك ما يتعلق في أمور الفرائض أمثل من غيرها في المرفوعات إذا توبع، أما منفرداً فلا يقبل فيها ولا في غيرها.
المرتبة الثانية: ما يرويه عن غير علي بن أبي طالب في المرفوع وهو أشد ضعفاً.
المرتبة الثالثة: ما يرويه عن علي بن أبي طالب موقوفاً في أمور الفرائض، فحديثه في الفرائض محمول لأن الحارث الأعور فرضي، وهو إنما أخذ عليه فيما أرى من حديثه فحش الغلط لا تعمد الكذب، وإن كان الأئمة عليهم رحمة الله يشددون في ذلك فيمن يكثر غلطه حتى ربما يتهم في ذلك، ولكن في كونه يروي عن علي بن أبي طالب عليه رضوان الله، وكذلك أيضاً في نقل عامر بن شراحيل الشعبي مع كونه يتهمه بالكذب، المراد بالكذب هو فحش الخطأ، فالمراد بالكذب عند الصدر الأول هو فحش الغلط.
فالحارث الأعور في ذاته في أمور الفرائض إمام فرضي لا ننظر إليها في أمور الجرح والتعديل لأنها هي أقوال له، ينظر إلى ما بعده وذلك من تلامذته سواءً كان عامر بن شراحيل الشعبي أو غير عامر بن شراحيل الشعبي ، أما هذا الحديث فنقول: الصواب فيه الإرسال، والصواب في ذلك الإرسال أنه من حديث عامر بن شراحيل الشعبي مرسلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن وجوه الترجيح في هذا: أن من أرسله أوثق وأحسن حالاً ممن وصله.
وكذلك من وجوه الترجيح: أن من وصله جرى على الجادة، ولدينا قرينة أن من يجري على الجادة أنه إذا خولف أمارة على وهمه، والجادة هي الطريقة يسميها العلماء الجادة، ويسمونها المجرة، وهي التي يسلك الإنسان أو تسبق على لسانه في الرواية فيحدث عن أحد بعينه فإذا نسي حدث عنه جرى على لسانه، فهذه السلسلة معروفة ورواية الشعبي عن الحارث عن علي بن أبي طالب سلسلة معروفة، فكان الحديث مرسلاً ولكنه لما رواه هؤلاء الضعفاء غسان عن قيس بن الربيع عن عامر بن شراحيل الشعبي جروا فيه على الجادة، والصواب في ذلك أنه على خلاف الجادة وهو أنه مرسل.
وهو مرسل ضعيف لأنه تفرد به محمد بن سالم عن عامر بن شراحيل الشعبي عن النبي عليه الصلاة والسلام، و محمد بن سالم ضعيف الحديث أيضاً.
فالحديث سواءً كان مرسلاً أو موصولاً لا يحتج به، وذلك لوجود علل متضافرة فيه سواءً بوجهيه في وجه الإرسال أو وجه الوصل، وهذه الطرق لا يعضد بعضها بعضاً؛ لأن كل حديث منها فيه راو شديد الضعف.
وهل الأئمة عليهم رحمة الله يقوون الحديث بكثرة طرقه أم لا؟
نقول: الأئمة لديهم هذا لكنه باب ضيق، يعني: لا يقوون ذلك إلا في أضيق السبل وكثرة الطرق تغر الناظر وتخدعه، ولكن الأئمة يدركون أن كثرة الطرق أحياناً تدل على الرد وعلى الضعف، ولهذا أحد الأئمة عليهم رحمة الله سئل عن راو فقال: ما تنقمون عليه؟ قال: يأتيني بعشرة أحاديث في فضائل النعل، فهذا أمارة على أن هذه الطرق وكثرتها تدل على الضعف، فكيف جمع عشرة كلها في النعل، وأين فضل الصلاة، والزكاة، والصيام، وغيرها ما جاءت إما أنه يبيع نعالاً، فهذا أمارة على الضعف، وكذلك أيضاً فيما يرد في فضل الديك أو البطيخ أو غيرها ممن يتكلم عليها ويورد الأحاديث المتضافرة في هذا، ويتوسع في هذا المتأخرون ويشدد في ذلك الأئمة المتقدمون عليهم رحمة الله، فالمتأخرون يغترون بالأرقام من جهة كثرة الطرق ويجعلونها قرينة على التصحيح، والأئمة يأخذونها عكس، الدليل على التهمة، لأن الشريعة محكمة في نظامها وأحكامها، فلابد للأحاديث التي جاءت في الشريعة جاءت في عبادات وجاءت في عقائد لابد أن تكون أمور العقائد والإيمان بالله تضافراً في النصوص أكثر، وجاءت بعد ذلك صلاة من جهة الصلاة يأتي بها أكثر، والزكاة، ثم الصيام، ثم الحج، أو غير ذلك، لكن لو يأتيني واحد بعبادة من العبادات هي دون هذه ثم يأتي بفضائل لها هي أكثر من الصلاة هذا أمارة على إما اختلال نظام الشريعة وحاشاها، وإما أنه يكذب، أو أنه مثلاً يأتي بفضل مثلاً فضائل النوافل والعبادات وغير ذلك أو السنن أو التسبيح أو التهليل أو نحو ذلك، ثم يأتي بعد ذلك في دائرة ضيقة ما يأتي من الأمور اليسيرة من فضائل الطعام أو نحو ذلك.
ولهذا أبو موسى المديني لما سئل عن فضائل البطيخ قال: كثرة طرقها لا تدل إلا على ضعفها، يعني: تأتي بثلاثين أو أربعين حديثاً في فضل البطيخ، أو لمن نظر إلى أحاديث فضائل الديك يجد أنها كثيرة متضافرة، وكثرتها تدل على ضعفها، لأن الشريعة إنما جاءت بفضائل العبادات ما جاءت بفضائل البهائم، إن جاء فيها نص عابر أو نحو ذلك لكن يكثر الإنسان مثل هذا أمارة على رده.
فالأئمة عليهم رحمة الله حينما يتكلم النقاد على مثل هذه الأحاديث التي تقدمت معنا مع كثرة طرقها في هذا الباب، يقولون بردها ولا يغترون بوفرتها على خلاف المتأخرين ينظرون إليها يقول: هذا مرسل، وهذا موصول، وهذا فيه راو مجهول وغير ذلك، ثم يقولون: هي حسنة بمجموعها، أو يدل على أن لها أصلاً، هذا من التساهل، ولهذا يتساهل المتأخرون في هذا الجانب ومن نظر في كتب التخاريج المتأخرة وجد ذلك ظاهراً، وذلك يظهر كثيراً عند الإمام السيوطي رحمه الله، وكذلك أيضاً المناوي توسع في هذا في أمور التصحيح بمجموع الطرق، وحتى يصحح الموقوف بالمرفوع، والمرفوع بالموقوف، والآية بالحديث، يصحح الحديث بالآية، هذا شيء فيه من الضعف والبعد عن الأصول، ولا شك أن هذا لا يجري على طرائق الأئمة عليهم رحمة الله من جهة الاستئناس وثبوت المعنى، لك أن تصحح الحديث بالآية.
أما من جهة ثبوت الرواية تثبت رواية لشاهد لها مجرد في القرآن هذا بعيد جداً، لا يجري على الأصول ولا يستعمله العلماء عليهم رحمة الله.
أسأل الله عز وجل لي ولكم التوفيق، والسداد، والإعانة، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر