إسلام ويب

تقويم الله لغزوة أحد [1]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من سنن الله في الحياة سنة تداول الأيام والأحداث، والتدافع بين الحق والباطل؛ وهذا مقتض لحصول ما أراده الله من الابتلاء والتمحيص والاصطفاء والاختيار، وقد يغفل عن هذا كثير من الناس فيحصل التأثر السلبي والانهزام والضعف، والمؤمن الصادق الذي يدرك هذه السنن يكون على قدر كبير من الثبات وقوة الشخصية في مواقفه ومبادئه. وأرشد سبحانه وتعالى عباده إلى معرفة هذه السنن وأن لا يهنوا أو يحزنوا لما أصابهم يوم أحد، فهم الأعلون عنده، وقد مس الكفار أعظم مما مسهم، وبين سبحانه أن نتيجة معركة أحد ابتلاء واختبار للمؤمنين الصادقين ورفع لمقام بعضهم إلى مرتبة الشهادة، وأنه سبحانه لا يحب الظالمين.

    1.   

    سنة الله في تداول الأيام

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن الله سبحانه وتعالى يحكم العالم بسنن لا تتغير، لا يمكن أن يجد لها الإنسان تبديلًا ولا أن يجد لها تحويلاً، وهذه السنن هي عادة الله في خلقه، وهي حاكمة للعالم كله، فمنها سنة التدافع بين الحق والباطل ولو توقفت لتعطلت الدنيا كلها، ومنها كذلك سنة ظهور الباطل وانتشاره امتحانًا للناس، ومنها سنة التضحيات واقترانها بالنصر، إنما النصر مع الصبر، وغيرها من السنن.

    ففي تقويم الله تعالى لغزوة أحد وبيانه لنتائجها يقول: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ[آل عمران:137].

    قد خلت: أي قد مضت من قبلكم يا معشر المؤمنين سنن، فما يحصل في التاريخ إنما هو تكرار لما حصل فيه في الماضي، فقد قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنْ الرُّسُلِ [الأحقاف:9].

    فما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدين جاء به الأنبياء من قبله، وما واجهه به المنذرون واجهوا به من قبله من الرسل ولذلك قال الله تعالى: مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [فصلت:43].

    فكل ما يحصل إنما هو تجارب مضت وهي معادة مكررة، ومن عادة الله سبحانه وتعالى أن تكون للباطل صولة ثم يضمحل بعد ذلك، ويظهر الحق فهو يعلو ولا يعلى عليه، ولذلك قال الله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21]، وقال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105]، إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ [الأنبياء:106].

    وقال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:55]، وقال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:39-41].

    وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].

    وقال تعالى: وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ[الأنفال:19].

    وقال تعالى: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا [الإسراء:8].

    أثر غفلة الناس عن سنة التداول وتغير الأمور

    فكل هذه الآيات تبين هذه السنة من سنن الله سبحانه وتعالى وهي متحققة لا محالة، ولكن كثيرًا من الناس يغفل عنها، فما يحصل لدى الناس من الانهزام والاستعجال وتمني خلاف الواقع إنما هو غفلة عن التجارب وعما مضى في تاريخ هذه البشرية، فكثير من الناس إذا تعلقت آمالهم بأمر من الأمور أو لاح لهم بارق النصر في جهة من الجهات، ثم أخلف ذلك فلم يتحقق، وذلك بأمر الله تعالى وحكمته البالغة انهزموا وأصيبوا بالإحباط، وسبب ذلك عدم اطلاعهم على السنن وعدم أخذهم بها، فلو أخذوا بسنن الله الماضية وحال السابقين لما أصابهم ذلك الوهن ولما حصل في قلوبهم ما حصل من الإخفاق والإحباط.

    إن على كل إنسان في خاصة نفسه أن ينظر إلى سنن الله المسيرة للعالم قبله، فكل إنسان في خاصة نفسه في حياته إخفاقات ونجاحات، وفي حياته تحقق لبعض الآمال وفوات لبعضها.

    تأثير سنة التداول على حياة المؤمن ومواقفه

    فإذا كان صاحب إيمان وتصديق يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأنه رفعت الأقلام وجفت الصحف عما هو كائن، فيتحقق قول الله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ[الحديد:22-23].

    ومن هنا فلا يمكن أن يحزن المؤمن ولا أن يهزم بعلمه أن كلما يصيبه قد كتب من قبل، وأن مع العسر يسراً، وأن بعد الحال الذي هو فيه حال آخر قد يغاير ذلك الحال وينافيه، كل ذلك مضى في تاريخ الأمم والشعوب.

    ومن هنا فعلى الإنسان إذا نال خيرًا عاجلًا أن لا يغتر به، وأن يعلم أنه ستأتي الدولة الأخرى بعد ذلك، فالدنيا دول فكل يوم لله فيه أمر، وقد جعل الله تعالى أحوال الناس متباينة، وكذلك إذا أصابته ضراء عليه أيضًا أن لا يتضعضع وأن لا يحزن لها؛ لأنه يعلم أن الدولة التي تلي تلك أيضًا على خلاف ذلك الواقع، ومن هنا فلا بد أن يتذكر الإنسان حال كل من سبقه، فالإنسان وارث لمن سبقه، وكل مكان أنت فيه قد سبقك إليه غيرك، فأنت وارث لآبائك وأجدادك ولتتذكر حالهم وما مر عليهم في هذه الدنيا، وبه تعلم أنك أنت لست بدعًا ولست تجربة جديدة، ولست نوعًا فريدًا، إنما أنت سالك لطريق الذين مضوا وسبقوا، والمقعد الذي تشغله قد شغله من قبلك آخرون فذهبوا، وهكذا في أمور الدنيا كلها، لا يمكن أن تتولى أمرًا ولا أن تقوم بوظيفة، ولا أن تشغل أي حيزٍ من الدنيا إلا وقد شغل قبلك ولو دامت لغيرك ما وصلت إليك.

    1.   

    أهمية النظر في سنن الله وأخذ العبرة من السابقين

    ومن هنا فلابد من الانتفاع من تجارب السابقين، فالذين يقبلون على الدنيا بلهف، وهم ينظرون إليها نظرة إكبار وإعظام، ويتمنون إكمال كل متطلباتهم فيها، ويلهثون وراءها لم يأخذوا بهذه السنة ولم يتحققوا بحال الذين جمعوها فأوعوا، ولم يبق لهم أرب فيها إلا وصلوا إليه، ثم بعد ذلك ماذا كانت النهاية؟ إنما كانت النهاية الموت، وأن يتركوا ما جمعوه فيفرقه من وراءهم.

    كل من بلغ أملًا في هذه الحياة فنهايته عند انقطاع أجله، وبذلك يتفرق ما كان يجمعه ويتبدد ما كان يؤمله، وإذا أدرك الإنسان هذا الحال أخذ التجارب من أقرب الأقربين إليه ومن الذين يلونه، ثم الذين يلونهم وهكذا، وبهذا يدرك أنه لا يمكن أن يكون فلتة من الزمن ولا بدعًا من السابقين، وإنما هو سالك لطريق قد سلك من قبله.

    زوال الوهم والوهن بالنظر في سنن الله

    فإذا عرفنا ذلك وتأكدنا حصوله زال عنا أمران متضادان: أحدهما: الوهم، والثاني: الوهن.

    فالوهم يقتضي من الإنسان أن يتصور أنه بالإمكان أن يصل إلى ما لم يصل إليه غيره، وبذلك يفرح بنجاحاته ويحزن حزنًا شديدًا لإخفاقاته، ويعلق آمالًا ضخامًا كبارًا بأمور لا يمكن أن يصل إليها، فهذا يحصل من الوهم.

    أما الوهن: فإنه ضعف يصيب الإنسان إذا لم يصل إلى مبتغاه، وبذلك يتراجع عما يستطيع تحقيقه، فيكون ناقصا ًوهو قادر على التمام الممكن في حقه:

    ولم أر من عيوب الناس عيبًا كنقص القادرين على التمام

    فلذلك قال: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمران:137].

    والسنن: جمع سنة، والسنة المقصود بها سنة الله تعالى أي: عادته في الماضي، فالسنة تطلق على الطريقة خيرًا كانت أوشرًا، فمن إطلاقها على الخير قول الله تعالى: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا [الإسراء:77].

    وتطلق على الشر ومن ذلك قوله تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ[آل عمران:137].

    أمر الناس بالتفكر والنظر في أيام الله

    إذا كان الخطاب لأمة الدعوة وهم الكفار؛ لأنهم بذلك يسلكون طرق من سبقهم من المكذبين، وهذا ما تدل عليه نهاية الآية: فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [آل عمران:137].

    وقد قال بعض أهل التفسير المقصود بالسنن هنا ما يشمل أيام الله في نصرة أوليائه وأيامه في أخذ أعدائه، فيكون ذلك شاملًا للأمرين معًا، فيكون شاملًا لسنن الخير وسنن الشر، وذلك محتمل؛ لأنه سيأتي أيضًا التحدث عن حال الأنبياء السابقين ومجاهدتهم لقومهم.

    فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ [آل عمران:137]، هذا أمر معناه التسيير، معناه أن الإنسان لا يمكن أن يخرج من نطاق الأرض، بل إنما يسير في طرق السابقين الذين سبقوه إلى استعمالها وعمروها أكثر مما عمرها، وبذلك لا يستطيع الخروج عن أقطار السماوات والأرض، فالله سبحانه وتعالى يتحدى الثقلين الإنسان والجن بذلك، فيقول: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ [الرحمن:33].

    فلا يستطيع الإنسان أن يبتغي نفقًا في الأرض حتى يخرج منها أو سلمًا في السماء حتى يصل إليها، بل إنما يسير على الأرض كما سار السابقون من قبله.

    فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ [آل عمران:137]: وإذا سرتم فيها ماذا ستكون النتيجة؟ لا يقصد مجرد السير فيها أو أن تعمرها فتبني المباني وتلد الأولاد.

    لدوا للموت وابنوا للخراب فكلكم يصير إلى التراب

    إنما نتيجة ذلك أن تدرك العبرة، وأن تأخذ الحجة التي تقوم عليك من واقع السالفين الذين سبقوك إلى عمارتها، فلهذا قال: فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [آل عمران:137].

    فانظروا يا معشر السائلين في الأرض المتتبعين لآثار السابقين الذين عمروها وملئوها، ما ذا تجدون من آثارهم؟ هل تسمعون لهم حسًا؟ أو تجدون لهم أثرًا؟ إلا آثارا ًتدل على ما عمروا فيها وعلى ما استغلوا من خيراتها ثم ذهبوا، فذهب الأثر بعد العين ولم تبق لهم باقية.

    أين قوم نوح الذين ملئوا أقطارها وضاقت بهم، وأين بعدهم عاد الذين قالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً[فصلت:15].

    وأين بعدهم ثمود الذين لم يصل قوم قط إلى ما وصلوا إليه من قوة الأبدان والجسامة، أين فرعون الذي كان يقول: أنا ربكم الأعلى؟ أين عمرو بن كلثوم الذي قال: (متى ننقل إلى قوم رحانا).

    فكل أولئك قد ذهبوا وتركوا آثارهم لمن يأتي بعدهم، ومن هنا فلن تعمر بيتًا في الدنيا إلا وقد عمره قبلك آخرون، حتى القبور نحن مسبوقون إليها، فما في الأرض موضع إلا وقد قبر فيه بعض السابقين، وسيقبر فيه بعض اللاحقين، ولهذا قال أبو العلاء أحمد بن سليمان المعري:

    خفف الوطء ما أظن أديم الـ أرض إلا من هذه الأجساد

    وقبيح بنا وإن قدم العهد أوان الآباء والأجداد

    سر إن استطعت في الهواء رويدًا لا اختيالًا على رفات العباد

    رب لحدٍ قد صار لحدًا مراراً ضاحك من تزاحم الأضداد

    ودفين على بقايا دفين في طويل الأزمان والآباد

    فاسأل الفرقدين عمن أحسا من قبيل وآنسا من بلاد

    كم أقاما على زوال نهار وأنارا لمدلج في سواد

    تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب في ازدياد

    إن حزنا ًفي ساعة الموت أضعاف سرور في ساعة الميلاد

    الاعتبار بحال المكذبين من الأمم السابقة وعاقبتهم

    فلذلك يحتاج الإنسان إلى أن يأخذ العبرة من السابقين الذين سلفوا، فلذلك قال: ( فانظروا) أي: تفكروا، والنظر يطلق على نظر البصر ونظر القلب وكلاهما مقصود هنا.

    (كيف كان عاقبة المكذبين)، ماذا كانت نتيجتهم، أليست الفناء والانتقال من هذه الدار إلى الدار الآخرة؟ أليسوا جميعا ًقد قدموا إلى ما قد قدموا، وانقطعت آمالهم ولم يصلوا إلى مبتغاهم في هذه الحياة الدنيا، ولم يصل أحد منهم إلى الخلود.

    كل ذلك مقتضٍ منا أن نأخذ العبرة منهم، وأن نعلم أن ما سبقونا إليه هو طريقنا نحن على آثارهم أيضًا، فالنتيجة إنما هي بالفوز يوم القيامة، وقد قال الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].

    والمكذبون هم الذين كذبوا الرسل فتكذيب واحد من المرسلين تكذيب لكل المرسلين، ولهذا قال الله تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:105].

    ونوح أول الرسل إلى أهل الأرض فتكذيبهم له تكذيب لكل المرسلين؛ لأن ما جاءوا به هو أصل الدين عند الله كما قال الله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ[الشورى:13].

    فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [النحل:36]، وهذه العاقبة معروفة، فالإنسان المؤمن يعلم أن وعد الله لا يخلف، وأن الله سبحانه وتعالى توعد الظالمين بسوء المنقلب: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227]، فلذلك قال: فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [النحل:36].

    1.   

    بيان الله لسننه في الكون وفائدته

    هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ[آل عمران:138].

    هذا البيان الذي جاء من عند الله تعالى ببيان سننه وببيان المعادلة الواضحة بين الحق والباطل، وبيان الفرق الشاسع بين أهل الجنة وأهل النار، بيان أي: إيضاح يحتاج الناس إليه، فهو علم من علم الله تعالى وهو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك، (هذا بيان للناس).

    إقامة الحجة على الناس

    وهو بيان لجميع الناس من كان مصدقًا منهم ومن كان مكذبًا، فمن كان مصدقا ًفهو حجة له وتثبيت ومن كان مكذبًا كان حجة عليه، وكان دامغًا له بالمعجزة الظاهرة الباهرة، هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ[آل عمران:138].

    ومع ذلك فإن الحجية التي له تأخذ بألباب أهل الإيمان إذا أراد الله لهم الهداية، ففي هذا القرآن هداية لهم وهذا البيان سبب لهداية كثير من الناس، فالله سبحانه وتعالى يهدي به من شاء من عباده ويضل عنه من شاء منهم، فلهذا قال: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:138].

    وعظ المتقين وهدايتهم

    والهدى إنارة طريق الحق، وهو اسم مصدر الهداية، وهو قسمان: هداية توفيق وهداية إرشاد.

    فهداية التوفيق: أن يأخذ الله بناصية العبد إلى الخير، وهداية الإرشاد هي أن يقيم عليه الحجة، وأن يريه المحجة ببعثة الرسل وتنزيل الكتب، وهداية الإرشاد مثبتة، أثبت الله القدرة عليها للأنبياء، وهداية التوفيق إلى الله وحده.

    وهداية التوفيق هي التي نسألها ربنا في كل ركعة من ركعات صلاتنا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6].

    وهداية الإرشاد هي التي بين الله أنه أعطى ثمود فلم يأخذوا بها: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17].

    ولذلك بين الله تعالى قدرة النبي صلى الله عليه وسلم على هداية الإرشاد فقال: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52].

    وبين أنه لا يستطيع هداية التوفيق فقال: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]، وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:138].

    هذا البيان أيضًا فيه موعظة للمتقين، والموعظة مفعلة من الوعظ، والوعظ هو تحفيز النفس للطاعة أي: لامتثال الأمر واجتناب النهي، سواء كان ذلك بترقيق القلب أو كان بالترغيب والترهيب، أو كان ببيان الحكم، فالوعظ ثلاثة أقسام إما بترقيق القلب بذكر الموت وذكر الدار الآخرة، وذكر صفات الله سبحانه وتعالى وتمام قدرته.

    والقسم الثاني من الوعظ: هو الوعظ ببيان الحكم، أي: ببيان الأحكام، فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ[البقرة:275]، أي: جاءه أمر أو نهي من ربه، فهذا النوع يسمى وعظًا أيضًا.

    والقسم الثالث: هو الوعظ بالترغيب أو بالترهيب، فكل ذلك أيضًا يشمله الوعظ، فهي ثلاثة أقسام إذًا، فلذلك قال: وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:138].

    فالموعظة أهلها المنتفعون بها انتفاعًا كاملًا هم أهل الإيمان والتقوى، أما من سواهم فانتفاعهم بها ناقص، ولهذا قال الله تعالى: إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس:11].

    وقال تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [الأعلى:9-13].

    1.   

    أقسام الناس وموقفهم من الذكرى

    وقد ذكرت لكم من قبل أن الناس في الذكرى على أربعة أقسام:

    المعرضون عن الوعظ والتذكير

    القسم الأول: هم الذين لا يتحملونها ولا يستطيعون سماعها، ويفرون منها كما يفرون من الأسد، وهؤلاء هم الكافرون الذين قال الله فيهم: فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر:49-51].

    وقال فيهم: وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [الأعلى:11-13].

    المنافقون والمطبوع على قلوبهم

    والقسم الثاني: الذين يتحملون سماعها بآذانهم، ولكن آذانهم غير أمينة، فلا توصلها إلى القلوب، وهم المنافقون الذين ختم الله على قلوبهم، فحال بينهم وبين الذكرى لا ينتفعون بها، وفيهم يقول الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ[محمد:16].

    أصحاب التفصيل والتمييز في الذكرى

    والقسم الثالث: هم الذين يفصلون فيها، فيسمعون من بعض الناس دون بعض، إذا قام مذكر يعرفونه أو يعجبهم مستواه أو نسبه أو شكله استمعوا إليه، وإذا قام غيره لم يطيقوا سماع موعظته وذكراه، وهؤلاء هم مرضى القلوب الذين يعرفون الحق بالرجال ولا يعرفون الرجال بالحق، وقد اتصفوا بصفة أهل مكة وأهل الطائف عند بعثة محمد صلى الله عليه وسلم عندما قالوا: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:31-32].

    السامعون للذكرى المنتفعون بها

    والقسم الرابع: الذين يسمعون الذكرى من كل أحد، فينتفعون بما فيها من الحق ويقبلونه ويردون ما فيها من الباطل، وهؤلاء هم المبشرون ببشارة الله تعالى، فقد قال تعالى: فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:17-18]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا [الفرقان:73].

    فهؤلاء هم المنتفعون بالذكرى فلذلك قال: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:138].

    فهو بيان للناس جميعا، ًوهو هدىً وموعظة يختصان بمن كان من أهل التقوى، فالقرآن بيان للناس جميعًا تقوم به الحجة على الخلائق جميعًا، ولكن إنما ينتفع به ويتعظ ويهتدي من كان من المتقين، وهم الذين يجتنبون ما نهى الله عنه ويمتثلون ما أمر به طاعة لله سبحانه وتعالى وتقربًا إليه.

    1.   

    تسلية الله وتعزيته للمؤمنين بما حصل يوم أحد

    ثم خاطبنا الله تعالى تسلية وتعزية عن آثار تلك المعركة التي هي معركة أحد، وذلك بيان أيضًا لآثار كل المعارك، فهي تعزية وتسلية للمؤمنين في كل زمان وفي كل مكان، عما يحصل من نظير ما حصل يوم أحد فقال: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139].

    ولا تهنوا يا معشر المؤمنين، أي: لا تضعفوا، والوهن: الضعف، وهو أن يحب الإنسان الحياة وأن يكره الموت، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أو من قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ويوشك أن يدب في نفوسكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت ).

    فهذا الوهن نهانا الله سبحانه وتعالى عنه، وهو حرام، وإنما يجتنبه الإنسان بتجنب أسبابه، فهذا الضعف النفسي هو ضعف في الشخصية والمنهي عنه هو ضعف الشخصية لا ضعف البدن، فضعف البدن ليس للإنسان فيه ملك، فالله تعالى يخلق الإنسان على ما شاء: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:8].

    فالمنهي عنه إذًا هو الضعف النفسي وضعف الشخصية بأن لا يستطيع الإنسان استغلال ما آتاه الله من القوة، وأن لا يمتثل ما جاء من الأمر بمدارسة السنن، فيتكعكع ويضعف عند الهزة الأولى، أو عند أية هزة من الهزات، وهو يعلم أن الحال سيتغير، فلذلك ليس هذا الضعف والوهن من تمام الشخصية، بل هو دليل على ضعفها ودليل على عجز صاحبها، ولذلك يقول متمم بن نويرة رضي الله عنه في مرثيته لأخيه مالك بن نويرة:

    لعمري وما دهري بتأبين هالكٍ ولا جزعًا مما أصاب فأوجعا

    لقد كفن المنهال تحت ردائه فتىً غير مبطان العشيات أروعا

    ولا وكل تهدي النساء لعرسه إذا القشع من برد الشتاء تكعكعا

    إلى أن يقول:

    وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

    فلما تفرقنا كأني ومالكاً لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

    يقول:

    وفقد بني أم تفانوا فلم أكن خلافهم أن أستكين وأخضعا

    ولكنني أمضي على ذاك مقدمًا إذا بعض من لاقى الخطوب توجعا

    فهذا هو تمام الشخصية وقوتها أن يكون الإنسان مستمرًا على أية حال تحت قدر الله سبحانه وتعالى، وبذلك لا يحزن ولا يهن ولا يضعف لأية نكبة أصابته، بل هو مستمر؛ ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أصاب المؤمنين القرح في يوم أحد وقتل منهم من قتل وجرح من جرح، نادى مناديه من الغد بالغزو في آثار المشركين، وأن لا يصحبه إلا من كان خرج معه بالأمس، فكان ذلك في غزوة حمراء الأسد ولم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم لأحدٍ لم يخرج إلى أحد أن يخرج في غزوة حمراء الأسد، إلا لـجابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام وحده، فإنه تخلف عن أحد بأمر أبيه وقد قتل أبوه شهيدًا يوم أحد، فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج مكان أبيه فخرج.

    وكان ذلك سببًا لهزيمة المشركين، فلما شعروا أن النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم، قالوا: والله ما أصابهم شيء فهم يخرجون في آثارنا ويغزوننا، فعرفوا أنما أصاب المؤمنين من القرح لا يمكن أن يؤثر في شخصياتهم ولا في قوتهم.

    وهذا هو الحال الذي ينبغي أن يظهر عليه المؤمن في كل أحيانه، حتى لو كان أسيرًا في أيدي أعدائه أو كان تحت قوتهم، فلابد أن يظهر متمسكًا بحبل الله تعالى معتصمًا به، وأن يظهر متقويًا بالله القوي العزيز، ومن كان متمسكًا بحبل الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يضعف أمام غيره، فأهل الإيمان قواهم الله سبحانه وتعالى وكتب لهم العزة: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8].

    فلا يمكن أن يهنوا في أي ظرف من الظروف، وقد قال أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي في سيف دولة بني حمدان:

    وحالات الزمان عليك شتى وحالك واحد في كل حال

    فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال

    فلذلك يحتاج الإنسان إلى تقوية شخصيته بمثل هذه المواقف، وأن يكون في كل حال يأخذ بما أمر به شرعًا، ويتقيد بالأوامر الشرعية وأداء الحق الذي عليه، ولا يبالي بعد ذلك تألب الناس عليه أو لم يتألبوا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـابن عباس رضي الله عنهما: ( واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف ).

    لابد إذًا أن يقوي المؤمن شخصيته بهذا الاعتبار، وأن يعلم أن الوهن إنما هو انتصار للعدو وتغلب عليه، وأن العزة وقوة الشخصية حتى لو كان في حالة الاستضعاف إنما يغيظ أعداءه ويقويه عليهم قوة عجيبة لا يمكن أن يتحكموا فيها.

    1.   

    نماذج من قوة شخصية المؤمن عبر التاريخ

    ثبات خبيب بن عدي وقوة شخصيته

    ومن هنا فإن خبيب بن عدي بن جحجب رضي الله عنه لما أسر، وقد خرج في بعث الرجيع أسره بنو هذيل وبنو سليم، فباعوه لقريش، وكانت أم أولاد طلحة بن أبي طلحة وهي امرأة من بني عبد الدار نذرت أن تشرب الخمر في رأس رجل من الأنصار حين قتل أولادها وهم حملة اللواء يوم أحد، فجيء بـخبيب إلى مكة فاشترته بمائة ناقة، وكان ذلك في الشهر الحرام فتركته أسيرًا في البيت حتى يخرج الشهر الحرام وتريد قتله، فمكث عند قريش في ذلك الشهر الحرام، فكانوا يأتونه ويجادلونه فظهر من قوة شخصيته ومن تمام شجاعته ما بهرهم، وظهر كذلك من أمانته واستقامته الشيء العجيب، فكانت تأتيه الفاكهة التي لا توجد في مكة فتوضع بين يديه، وهو أسير في أغلال الحديد، فيأتونه فيجدون لديه عناقيد العنب وهي لا توجد بمكة في ذلك الوقت، وأتاه صبي صغير فأجلسه في حجره، وقد جاء يحمل سكينًا فأخذها منه، فجاءت أمه عجلى تظن أنه سيذبح ولدها الصغير، فقال: لا عليك لن تراعي، فإن هذا الصغير لا ذنب له، فلم يحمله ظلم قريش له واعتداءهم عليه أن يعتدي هو على صبي صغير غير مجرم ولا مذنب.

    وعندما ذهبوا به لقتله خارج حدود الحرم وأعدوا له الخشبة لصلبه، تقدم إليه أبو سفيان بن حرب فقال: يا خبيب هل تحب أن تكون في قومك في منعة وعزة وأن يكون ولدنا محمد بأيدينا نقتله ونصلبه؟ قال: والله ما أود أنني في قومي وأن النبي صلى الله عليه وسلم تصيبه شوكة، وقد توضأ فصلى ركعتين، وقال: والله لولا أن تظنوا أن الجزع حملني على ذلك لأطلتهما، فهو يحب الصلاة وهي قرة عين المؤمن، وهو يعلم أنها آخر ساعة له في الدنيا، فأراد أن يصلي ركعتين ومع ذلك خففهما خشية أن يظن العدو أنه صاحب جزع أو خوف.

    فلما حملوه على الخشب أنشد أبياته المشهورة:

    ولست أبالي حين أقتل مسلمًا على أي جنب كان لله مصرعي

    وذلك في ذات الإله فإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع

    وسأل الله تعالى أن يبلغ سلامه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء جبريل فقص قصته على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الحال هو تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، فقد كانوا كذلك جميعًا، فقد أخذ الروم رجلًا منهم وكان أسود وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذوه أسيراً، وما رأى الروم قط رجلًا أسود قبله، فلما رأوا جلده ظنوا أنه قد صبغ بصبغ يقتضي شجاعة وقوة، فأرادوا غسل ذلك الصبغ عنه فأتوا بأنواع الغاسول وما زالوا يحكون جلده فلم يتأثر، فطبخوه في قدر من نحاس وغلوه في الزيت وهم يريدون أن يتغير لونه، وهو على كل ذلك صابر محتسب لم يتأثر أي تأثر لما حصل.

    ثبات أقوام من المؤمنين أمام الدجال في آخر الزمان

    وهذا الحال أيضًا هو ما يكون آخر الزمان للأقوام الذين يثبتهم الله تعالى، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أن الدجال ينزل على جبل من جبال المدينة وجيوشه ومسالخه بالسباخ، فيخرج إليه أهل المدينة وفيهم رجل من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم هو من أصلح الناس، فيقول: والله إنك للمسيح الدجال الذي أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأمر به فيقسم فرقتين فيمشي الدجال بينهما، ثم يناديه فيقوم فيقول: والله ما ازددت فيك إلا يقيناً، فلأنت المسيح الدجال عدو الله الذي حدثنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيضجعه ويريد أن يذبحه فلا يسلطه الله عليه، فيجعل ما بين ذقنه وترقوته نحاسًا ).

    فإذا عرف المؤمن أن هذه القصص ليست من نسج الخيال، وأنها واقع جاء في الوحي، فإنه يهون عليه ما يلقاه من الوعيد والتهديد من طرف أعداء الله سبحانه وتعالى وبذلك تقوى شخصيته ويتصف بالشجاعة المحمودة المطلوبة في المؤمن.

    نماذج معاصرة لقوة وثبات شخصية المؤمن

    وقد شوهد من ذلك أشياء عجيبة جدًا، ففي زماننا هذا أخذ أحد الدعاة المعروفين والعلماء المشهورين إلى المشنقة فلما وضع عليها أتاه بعض علماء السلطان يريد أن يلقنه الشهادة، فقال: قل أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم أقولها وأنا أقتل من أجلها وأنت تعيش بها.

    ثم لما رفع في المشنقة انقطع الحبل فضحك وقال: كل دنياكم ركيكة حتى حبال مشانقكم.

    كذلك فإن السجناء الآن في جوانتنامو يذكر عنهم الذين خرجوا منهم من الثبات الشيء العجيب، يذكرون أن رجلًا من أهل جزيرة العرب لم يكن قط من الذين قاموا بأية أعمال ضد أمريكا، ولكنه خرج إلى باكستان لعلاج ابنته، فكان هناك في وقت الأحداث التي حصلت في أفغانستان وفي غزو أمريكا لأفغانستان فأخذوه أسيرًا ووضع في جوانتنامو، فجاء رجل من العتاة من قوات الغزاة يريد حلق لحيته، فلما اقترب إليه عضه وهو أسير قد كتفت يداه ورجلاه، عضه في يده فقطع يده، ثبات عجيب وقوة عجيبة حتى في مثل هذه الأحوال.

    وبهذا يعلم أن شخصية المؤمن لا بد أن تكون مرتبطة بهذا القرآن الذي يقوي الشخصيات لهذا المستوى، ولذلك قال: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا[آل عمران:139].

    كذلك جاء النهي عن الحزن بعد النهي عن الوهن؛ لأن الوهن يقتضي من الإنسان إذا أصابه أن يخنع ويذل للمخلوقين، وأن ينصاع لضغوطهم إذا ضغطوا بأي ضغط من الضغوط سواء كان ترغيبًا أو ترهيبًا، أو غير ذلك، ربما استجاب له صاحب الوهن.

    والحزن لا يؤدي به إلى الخنوع والخضوع للضغوط، ولكنه يؤدي به إلى الإحباط وربما أدى به إلى الغفلة عن شئونه، فالحزن يحب الشيطان إدخاله على المؤمنين، ولذلك قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إِنَّمَا النَّجْوَى مِنْ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ [المجادلة:9-10].

    فالحزن إنما يحصل للإنسان إذا باغته أمر لم يكن يتوقعه، فإذا كان الإنسان يعلم أن كل ما يصيبه قد كتب من قبل، وأنه يتوقع كل هذه الأحداث التي أصابت من قبله، فكل إنسان منا عليه أن يتوقع مثلًا ما أصاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم معه، ما أصاب خبيب بن عدي وما أصاب غيره، كل إنسان من المؤمنين ينبغي أن يتوقعه، وإذا توقعه الإنسان وكان على أسوأ الاحتمالات فإن جاءه ما دونه علم أن ما أصابه أقل بكثير مما أصاب أولئك السابقين، فكان ذلك تعزية وتسلية.

    وإن أصابه مثل ما أصابهم حمد الله أنه لحق بهم، وأذكر أن الأستاذ الشيخ خالد مشعل حفظه الله تعالى لما نجا من محاولة الاغتيال التي دبرها الصهاينة عليهم لعائن الله، سئل عن كيفية نجاته منها؟ فقال: لم نبلغ بعد مقام الشهادة في سبيل الله.

    كان يتمنى أن يكون شهيدًا بذلك، قال: (لم نبلغ بعد مقام الشهادة في سبيل الله)، وكذلك قال هذه الكلمة أو كلمة قريبًا منها جوهر دوداييف رحمة الله عليه من قبل، قالها وهو يقصف في جروزني وقد اتخذ لها الروس سياسة الأرض المحرقة، فقسموها إلى أثمان وكل ثمن يحرق بكامله، ويزال كل ما فيه من المباني، ثم يذهبون إلى الثمن الذي يليه، وكان في كوخ من خشب والقذائف تسقط عن يمينه وشماله، وقد أحرق قصر الرئاسة بكامله، فإذا هو يريد أن ينام، قيل: أتنام في مثل هذا الحال؟ قال: نعم إننا لم نبلغ بعد مقام الشهادة.

    1.   

    تقوية الله للمؤمنين ونهيهم عن الحزن والوهن

    فلذلك نهانا الله سبحانه وتعالى عن الحزن بعد نهيه لنا عن الوهن فقال: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا [آل عمران:139].

    ولا شك أن هذا النهي هو نهي من الرب الكريم سبحانه وتعالى، وهو كاف لاجتناب ذلك، لكن مع هذا يحتاج المؤمن إلى تقوية للامتثال، كيف ذلك؟ قال: وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139].

    فمن كان مؤمنًا صادقًا مع الله سبحانه وتعالى فهو الأعلى قطعًا؛ لأن كلمة الله هي العليا على كل حال، وبالتالي ستكون النتيجة لصالحه على كل الأحوال، فـإبراهيم عليه السلام ألم يتألب عليه قومه ويرموه في النار؟ ألم يقل الله: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69].

    ألم يجعل الله له لسان صدق في الآخرين واستجاب دعاءه بمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته، فكل ذلك يقتضي من المؤمن أن يعلم أنه هو الأعلى ما دام مؤمنًا صادقًا، فهو الأعلى، وهو المنصور لا محالة، وبذلك يتسلى عن كل ما يصيبه ولا يحزن عليه وبالأخص إذا ذكر ما بقي مما يرجوه من نعمة الله تعالى عليه.

    نظر المؤمن إلى الجانب المشرق عند فوات الفرص وحصول البلاء

    فالإنسان إذا فاتته فرصة امتحان وعرف أن الفرصة ستتكرر أليس ذلك تسلية له؟ إذا لم تنجح في الامتحان، ولكن نجحت في انتظار الدورة، ستستعد لذلك الامتحان الثاني، والمؤمن يعلم أن الفرصة إذا فاتت فبعدها فرص أخرى، وقد ترك من خير الله وفضله ورحمته ما هو تعزية له.

    ولهذا فإن عروة بن الزبير رضي الله عنهما لما قطعت رجله ومات ولده، فذكر له ذلك رفع يديه إلى السماء وقال: ايمنك لئن أخذت لقد أبقيت، ولئن ابتليت لقد عافيت.

    (ايمنك) يقسم على الله سبحانه وتعالى لئن أخذت لقد أبقيت، فنعمك كثيرة أكثر مما أخذت.

    ولئن ابتليت لقد عافيت: هذا اعتراف بالجميل لله سبحانه وتعالى في مثل هذا المشهد والموقف.

    وكذلك فإن فاطمة بنت يزيد بن السكن بن وقش الأشهلية لما قتل ثمانية من رجالها يوم أحد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهم: أبوها، وولداها، وأخواها، وزوجها، وعم أبيها، وكلهم قتلوا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد عندما رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة استقبله أهلها رجالًا ونساءً كبارًا وصغارًا يستقبلون النبي صلى الله عليه وسلم بعد المعركة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم جريحًا قد كسرت رباعيته، ودخلت حلقة من حلقات المغفر في جبينه وجحشت ركبته بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، فخاف الناس أن يتعبه أولئك الذين يسلمون عليه، فأرادوا أن يحولوا بينه وبينهم، فرأى فاطمة بنت يزيد فقال: ( دعوا هذه، فقد قتل بين يدي اليوم ثمانية من رجالها، فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأته قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله كل مصيبة بعد رؤيتك جلل )، كل مصيبة بعد رؤيتك أي: بعد مشاهدة النبي صلى الله عليه وسلم فهي جلل، أي لا تساوي شيئًا.

    فهذا هو الذي ينبغي أن يكون عليه المؤمن، وأن يتذكر أن المصائب بعدها ما ينتظره الإنسان عند الله سبحانه وتعالى مما هو خير منها، كما قال الشاعر لـابن عباس رضي الله عنهما لما توفي العباس:

    اصبر نكن بك صابرين فإنما صبر الرعية عند صبر الراس

    خير من العباس أجرك بعده والله خير منك لـلعباس

    وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، وهذا فيه بيان لمبايعة بين الله تعالى وعباده، فالعباد من جانبهم عليهم أن يصدقوا الله تعالى وأن يكونوا مؤمنين صادقين والله سبحانه وتعالى وعد من كان كذلك بالنصرة والتمكين، فلهذا قال: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، فما لدى الله متحقق لا محالة بقي ما لدينا نحن من هذه البيعة؟ فعلينا أن نكون من المؤمنين الصادقين وسيحقق الله وعده لا محالة.

    تسلية المؤمنين بمس القرح للمشركين

    إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران:140]، جملة أخرى تابعة للجملة السابقة في كونها حملًا على العزاء والتسلية.

    (إن يمسسكم قرح)، أي: إن تصبكم مصيبة.

    والقرح: الجرح والمقصود به الألم والحزن على فراق الذين قتلوا في غزوة أحد: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران:140].

    فالمشركون أيضًا أصابهم قرح مثله، فقد قتل منهم يوم بدر سبعون وأسر سبعون، وقتل منهم يوم أحد ثمانية وأربعون منهم الذين يحملون اللواء وهم تسعة، كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:

    منع النوم بالعشاء الهموم وخيال إذا تغور النجوم

    من حبيب أصاب قلبك منه سقم فهو داخل مكتوم

    لم تفتها شمس النهار بشيء غير أن الشباب ليس يدوم

    رب حلم أضاعه عدم المال وجهل غطى عليه النعيم

    لا تسبنني فلست بسبي إن سبي من الرجال الكريم

    ولي البأس منكم إذ رحلتم عصبة من بني قصي صميم

    تسعة تحملوا اللواء وطارت في رعاع من القنا مخزوم

    لم تطق حمله العواتق منكم إنما يحمل اللواء النجوم

    إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا [آل عمران:140]، هذه سنة من سنن الله الماضية.

    تلك الأيام نداولها بين الناس: فالله تعالى قادر على أن يهدي الناس أجمعين، وقادر على نصرة المؤمنين في كل الأحيان، وقادر على أن يمكنهم من رقاب أعدائهم، لكن أراد بحكمته البالغة أن يبقى التدافع من عمل الناس، وأن تبقى الأيام دولًا بينهم، فهذه الدول لا بد أن تبقى هكذا في أيام الزمان، فكل يوم من أيام الدهر لصالح بعض الناس واليوم الآخر لصالح غيره، كما قال أبو الطيب المتنبي: مصائب قوم عند قوم فوائد.

    فلذلك قال: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، أي: نجعلها دولاً، فالدنيا دول، والمقصود بالدول هنا تقلبات الدهر فكل ظرف يأتي فيه ما كتب الله من خير أو شر، وبذلك يكون الإنسان عرضة لتقلبات الدهر فالدهر غيَر وكل يوم يأتي بالجديد.

    وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، وهذه السنة حدث بها أبو سفيان هرقل عندما عرض عليه فسأله عن الحرب بينهم وبين نبينا صلى الله عليه وسلم فقال: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه، فكذلك قال: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، لماذا كان ذلك؟ لماذا كانت غزوة أحد بعد غزوة بدر فنيل من المؤمنين فيها وقتل منهم من قتل، فقتل حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء، وقتل عبد الله بن جحش أمير المؤمنين المجدع، وهو أول من لقب بأمير المؤمنين، وقتل مصعب بن عمير سفير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتل شماس بن عثمان، وقتل سبعون رجلًا من الأنصار لماذا قتل أولئك كلهم؟ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:140].

    1.   

    حكم الله في نتائج معركة أحد

    هذه نتائج المعركة، نتائج ما حصل يوم أحد ما بينه الله تعالى هنا، فقد بين الله سبحانه وتعالى أن له حكمًا في كل ذلك منها:

    امتحان المؤمنين وبيان الثابتين منهم

    امتحان المؤمنين وبيان الثابتين منهم الذين لا ينهزمون، الذين يصدقون الله سبحانه وتعالى ما عاهدوه عليه، كحال أنس بن النضر عم أنس بن مالك رضي الله عنه، فإنه لما خرج قال لـسعد بن معاذ: يا سعد والله الذي لا إله غيره إني لأشم رائحة الجنة دون جبل أحد.

    فلذلك قال: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:140]، فالإيمان ليس بالدعاوي وليس بالتظني ولا بالتمني وإنما هو ما وقر في القلب وصدقته الجوارح، فما وقر في قلب الإنسان وصدقته جوارحه هو الإيمان الحق فلذلك قال: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:140].

    والمقصود بعلمه لذلك: كشفه له إلى عالم الشهادة، فالله يعلم حقيقة الأمور ولا يبدو له البداء ولا يتغير علمه، لكن علم الله قسمان: قسم منه يتعلق بالغيب، وقسم يتعلق بالشهادة:

    ففي علم الغيب يعلم الله حقيقة ما يكون قبل أن يكون.

    وفي علم الشهادة يبرز ما شاء من ذلك؛ فلذلك قال: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:140]، أي: يبرز ذلك من عالم الغيب إلى عالم الشهادة.

    اتخاذ الشهداء واصطفاؤهم

    وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140]، أي: من حكمة الله أيضًا وهي حكمة يغفل عنها كثير من الناس أن من مراتب الإيمان مرتبة تسمى الشهادة في سبيل الله، لا يمكن أن ينالها المؤمنون لولا ما نيل منهم، لا يمكن أن يبلغها أحد إلا إذا كان مجاهدًا في سبيل الله، ويقدم نفسه لله فداءً لدينه سبحانه وتعالى.

    فالذي يقدم نفسه فداءً لدين الله وفداءً لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو الشهيد في سبيل الله سواء عاش أو مات؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض، فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله )، وقال: ( إن يوم أحد يوم كله لـطلحة بن عبيد الله ).

    فالشهادة مقام عال جدًا ومطلب رفيع، وهو أقصى ما تبلغه أماني المؤمنين في هذه الحياة وأقصى ما تتعلق به آمالهم أن ينالوه هو مقام الشهادة في سبيل الله، نسأل الله تعالى أن يرزقنا الشهادة مقبلين غير مدبرين في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.

    فلذلك قال: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:140]، هذه جملة اعتراضية وجاءت بين هذه الحكم التي كانت بسببها معركة أحد، وقد ذكرت لكم من قبل أني فكّرت في هذه الجملة الاعتراضية لماذا وقعت في هذه المكان؟ فاكتشفت أن الإنسان قد يخطر في باله إذا قرأ قوله: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140] أن يقول: لماذا يمكنهم من رقابنا فيقتلوننا هل معنى هذا أنه يفضلهم علينا أو أنهم أحب إليه منا؟ فأجاب الله ذلك فقال: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:140].

    فلا تظنوا أن ما يحصل من تمكين الأعداء من المؤمنين أو من انتصارهم الظاهر في الحياة الدينا أنه بسبب محبة الله لهم أو نصرته لهم أبدًا: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:140].

    إنما يفتنهم بذلك، فهو مجرد فتنة لهم، ولهذا فإن الله تعالى لا يحب الظالمين أبدًا، وهذا يشمل من كان ظالمًاً لنفسه ومن كان ظالمًاً لغيره، ومن كان الله سبحانه وتعالى لا يحبه لا يمكن أن يوفقه، من كان بغيضًا لدى الله ممقوتًا لديه لا يمكن أن يوفقه الله.

    وقد قال بعض أهل العلم: من أخطر آثار الظلم أنه ضد لمحبة الله سبحانه وتعالى، فمن كان من أهل الظلم كان متعرضًا لكل شر من سوء الخاتمة وغير ذلك من سوء المنقلب؛ لأن الله تعالى لا يحبه، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:140].

    وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا[آل عمران:140-141]، جملة أخرى عادت إلى السياق وهي التمحيص ليظهر من كان من أهل النفاق ويظهر من كان في قلبه مرض، فإنهم لم يكونوا ليظهروا ذلك في حال القوة والمنعة والعزة، وإنما يظهرونه في حال الاستضعاف، ولذلك فإن من حكمة الله تعالى في الأزمات كلها انكشاف كثير من الذين لا يرتضي الله تعالى خدمتهم للدين، فإنهم في أوقات الراحة والعافية يسيرون في الركب وهم معهم، فإذا جاءت الأزمات تساقطوا وطلب كل واحد منهم لنفسه وليجة أو منصرفًا ينصرف فيه.

    ولذلك فإن عبد الله بن أبي ابن سلول رجع عن النبي صلى الله عليه وسلم بنصف الجيش، بسبعمائة مقاتل يوم أحد، فكان الجيش ألفًا وأربعمائة مقاتل فرفع ابن أبي لواءً وقال: من لا يريد القتال فليمل إليّ، فاجتمع عليه المنافقون ومن في قلبه مرض، فكانوا نصف الجيش ورجع بهم إلى المدينة، وقد وقف عليهم عبد الله بن عمرو بن حرام فقال: ( يا قوم لا تخذلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الموقف، وأنتم ترون العدو؟ فقالوا: لو كنا نعلم قتالًا لاتبعناكم ).

    فأنزل الله سبحانه وتعالى فيهم الآيات التي ستأتينا بعد هذه في هذه السورة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإٍلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ [آل عمران:156-158]..

    إلى آخر الآيات.

    فلذلك كانوا يقولون: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ[آل عمران:167]، نسأل الله السلامة والعافية.

    فكذلك في كل أزمة يتساقط المتساقطون، ويهرب المخذولون الذين كانوا في مقدمة الركب في الظاهر، فإذا جاء وقت الشدة تراجعوا وتأخروا فليس المقام مقامهم، وبذلك يعرفون قدر أنفسهم.

    وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718711

    عدد مرات الحفظ

    765121534