إسلام ويب

أقسام القلوبللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تنقلب قلوب الخلق بين قوة الإيمان وضعفه؛ ذلك لأنها بين إصبعين من أصابع الرحمن؛ وهي على أقسام: فمنها القلب الميت الذي لا يحب صاحبه الطاعة لله تعالى، ولا يستشعر لذة المناجاة، ومنها القلب المريض المتردد المتحير، ومنها القلب الصحيح الذي يحرص صاحبه على الزيادة في الخير، وتفقده لمواطن الخلل منه ليصلحها؛ فعلى المسلم تفقد قلبه ومعالجته ليذوق حلاوة الإيمان، ويفوز بخيري الدنيا والآخرة.

    1.   

    تجلي رحمة الله ببعض عباده لسلوكهم طريق الخير وتجنبهم طريق الشر

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد: فأبشروا واحمدوا الله سبحانه وتعالى على هذه النعمة العظيمة، فأنتم اليوم في هذه الليلة ضيوف الرحمن سبحانه وتعالى في بيت من بيوته، تتعرضون لنفحاته سبحانه وتعالى، ما يجمعكم إلا ضيافة الرحمن سبحانه وتعالى، وهذه المزية العظيمة ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين ( تأخر عنهم ذات ليلة لم يصل العشاء حتى ذهب عامة الليل، ثم خرج عليهم وقال: لقد علمت أنه لا ينتظرها الليلة سواكم ).

    وهي نعمة عظيمة أن يشعر الإنسان بأن الله سبحانه وتعالى لم يحجبه عنه، وأنه يسره لأن يكون من عباده؛ فالذين لا يرتضي الله عبادتهم ولا خدمتهم يصرفهم بأنواع الصوارف؛ فمنهم من يصرفه بالكفر، ومنهم من يصرفه بالغفلة، ومنهم من يصرفه بالمرض، ومنهم من يصرفه بالاشتغالات بأمور الدنيا، ومنهم من يصرفه بأن يسلط عليه الشهوات، ومنهم من يصرفه بأن يسلط عليه الشواغل من شياطين الجن والإنس.

    وإذا خلص الله سبحانه وتعالى عبداً من الشواغل، وأتى به إلى بيت من بيوته، يمر على الملائكة الكرام الكاتبين على أبواب المساجد، ويجالس ضيوف الملك الديان سبحانه وتعالى، وينتظر نفحاته في بيت من بيوته يسمع كتاب الله سبحانه وتعالى ويتدبره، ويسمع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما جلس يجافي جنبه عن مضجعه إلا ابتغاء مرضاة الله؛ فهي نعمة عظيمة جسيمة لا بد من تذكرها وشكرها لله سبحانه وتعالى.

    1.   

    حرص الشيطان على إغواء الناس بعد رمضان

    ثم عليك كذلك أن تتذكر أن هذا الشهر الذي نحن فيه -وهو شهر شوال- شهر يجتهد الشيطان فيه للقصاص من المؤمنين الذين فاتوه بالإيمان العظيم الذي بنوه في شهر رمضان؛ فقد وفق الله أقواماً لصيام رمضان وقيامه، ولقراءة القرآن وتدبره فيه، وللنفقة والصدقة، ووفق آخرين للذكر وعمارة المساجد والاعتكاف، وكل ذلك يسوء الشيطان الرجيم غاية الإساءة، فهو حريص على القصاص من أولئك القوم الذين فاتوه بعبادة الله التي من أجلها خلقوا، وفاتوه بما قدموا لأنفسهم، وهو عدوهم وقد أقسم بعزة الله ليغوينهم؛ فلما لم يستجيبوا لندائه لم ييأس منهم في شهر رمضان، ولكنه أمهلهم ليدخل شهر شوال؛ فيجتمع على إبليس جنده، ويخرج المصفدون من جنده من المردة من سجنه، وحينئذٍ يصول صولته ويجول جولته، وكثيراً ما يوقع كثيراً من الذين تابوا وأنابوا في شهر رمضان في الشباك والشراك في شهر شوال، فإذا كانت هذه الليلة مذكرةً لكم بليالي رمضان فهي نعمة عظيمة تدل على أن الإنسان على العهد مع الله سبحانه وتعالى، ومن المعلوم ما أخرجه البخاري في الصحيح من حديث شداد بن أوس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها في يوم فمات فيه دخل الجنة، ومن قالها في ليلة فمات فيها دخل الجنة ).

    فهذا الكلام الذي هو سيد الاستغفار فيه تذكر الإنسان لعهده مع الله سبحانه وتعالى، وتنفيذ لذلك العهد، والمؤمنون الذين كانوا يحسنون العبادة في رمضان قد عهدوا بذلك إلى الله سبحانه وتعالى، فهم يجددون العهد معه الآن في هذه الليلة، ويحرصون على أن يتذكروا ليالي رمضان، وأن يعلموا أن الأيام والليالي كلها لله، وأنه ما من وقت يمر إلا والله سبحانه وتعالى يستحق العبادة فيه، ويستحق إحسان العبادة وزيادةً فيها، ومن هنا فأنتم تحبون كل عابد لله سبحانه وتعالى؛ لأنه يؤدي عملاً تغبطونه عليه، وتودون مشاركته فيه، كما تحبون محمداً صلى الله عليه وسلم و أبا بكر و عمر و عثمان و علياً و جبريل و ميكائيل و إسرافيل ؛ لأنهم عبدوا الله سبحانه وتعالى كما يستحق؛ فمحبتكم لهم على أساس عبادتهم لله التي من أجلها خلقتم، وكذلك تحبون أن توفقوا لأية عبادة تتقربون فيها إلى الله، ولو كانت لحظةً واحدةً يحبس فيها الإنسان جوارحه عن معصية الله، ويحبس فيها بدنه ابتغاء مرضاة الله، وتعرضاً لنفحاته وهدايته سبحانه وتعالى، وهو الذي ( يمد يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويمد يده بالليل ليتوب مسيء النهار )، فسبحانه ما أحلمه وأكرمه.

    1.   

    أقسام القلوب وعلاماتها

    ثم علينا أن نتذكر كذلك أن المهم ومحل النظر الرباني منا هو ما كان في القلوب، فالقلوب ذات أهمية عظيمة في أصولنا، وفي أصل كياننا؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46]، والنبي صلى الله عليه وسلم قال فيما أخرج عنه البخاري و مسلم في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما: ( إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس؛ فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام؛ كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ).

    والقلوب تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قلب سليم، وقلب مريض، وقلب ميت، وكل إنسان منا محتاج إلى أن يشخص حالته، وأن ينظر بعين الفحص والتقييم إلى قلبه من أي القلوب هو؛ هل هو قلب سليم، أو قلب مريض، أو قلب ميت؟ وعلى أساس ذلك يحدد ويصنف مستقبله وواقعه.

    علامات القلب الميت

    إن القلب الميت من علامته ألا يحب صاحبه أية عبادة تقرب إلى الله، وألا يسر لحسنته، وألا يساء لسيئته، وألا يعرف معروفاً، وألا ينكر منكراً، وألا يحقر أمر الآخرة في خلده، وهذا الحال حاصل لكثير من الناس، هم يسرفون ويذنبون آناء الليل وأطراف النهار، ولا يستشعرون عظمة من يخالفون، وهم كذلك إذا وفق أحدهم لطاعة لم يستشعر لذة المناجاة، ولم يستشعر النعمة بالتوفيق لأداء هذه العبادة، وهم كذلك غافلون منهمكون في شئون الدنيا، فلا يخطر أمر الآخرة في خلد أي أحد منهم، ولا يتذكر أي أحد منهم أن إسرافيل قد أمسك بالقرن الآن، والتقمه وأصغى ليتاً وهو ينتظر الإذن بالنفخ في الصور، ولا يستشعرون أن يوم القيامة أمره عظيم جداً، كما قال تعالى: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2]، لا يتذكرون مشاهد القيامة وعرصاتها العظيمة، فقل من يستحضر تلك اللحظة التي يأخذ فيها طائره من عنقه، ويقرأه أمام الناس، ويقرأه على رءوس الملأ، فيقرأ كل أعماله وقد ناداه الملك الديان فقال: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء:14].

    قل منا من يدور في خلده حاله ذاك، فهو يقرأ على رءوس الملأ بحضرة الملك الديان، وبحضرة أنبيائه وملائكته، وبحضرة الخلائق أولهم وآخرهم، يقرأ فعلت يوماً كذا وكذا وكذا، وفعلت ليلة كذا وكذا وكذا، وهو يقر بما كان يكتمه ويخفيه، ويقره غاية الإقرار، يقر به على رءوس الملأ، ويقرأه جهاراً نهاراً لا يتلعثم ولا يتتعتع؛ فهذا الموقف لا شك موقف مؤثر، لكن قل من يدور في خلده من الناس، قل من يستشعر العرض على الملك الديان سبحانه وتعالى ساعة يعرض الناس حفاةً عراةً غرلاً، ليس مع أحد منهم إلا عمله، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18].

    أما من يستشعر تلك اللحظات التي يوضع فيها الموازين بالقسط لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا [الأنبياء:47] إنما يدور ذلك في خلد من كان قلبه سليماً حياً معافىً، وهو الذي يفكر فيما أمامه، وينتظر تلك المواقف وهو مؤمن بها صادق.

    إن أصحاب القلوب الميتة رغم قناعاتهم بهذه المواقف وبهذه الأمور، ورغم إيمانهم وتصديقهم بها لا يتصرفون على أساسها، فهم في واد وهي في واد آخر.

    علامات القلب المريض

    أما القلوب المريضة فمن علامتها التردد والتحير؛ فصاحب القلب المريض إذا سلك طريق الهداية لا يصبر على ذلك الطريق؛ بل إذا لم يسقط عند أول نكبة فسيسقط عند التي تليها أو التي بعدها، ومن علامة أصحاب القلوب المريضة أنهم ليست لديهم مناعةً من ميكروبات الإيمان؛ فهذا الإيمان يمرض كما تمرض الأبدان، وله فيروسات وميكروبات، وهذه الميكروبات هي من الأمراض المعدية؛ فيسمع الإنسان الكلمة الجارحة الخارقة في جدار الإيمان، فإذا لم ينكرها قلبه، ولم يقشعر لها أخذت مكانها في قلبه، واستقرت فيه، وهي فيروس ضار سيتكاثر ويتناما مثلما تتكاثر البكتيريا، وكذلك كثيراً ما يرى الفعل يفعله الإنسان من سخط الله؛ فإذا لم ينكره قلبه أشربه ودخل إليه، إذا لم يحبه ويباشره فعلى الأقل يسكت عنه، نسأل الله السلامة والعافية.

    كذلك من علامات القلوب المريضة: أن صاحب القلب المريض إذا رأى أي مخلص لله سبحانه وتعالى في أي عمل من الأعمال يتهمه دائماً في نيته وأنه هو غير مخلص، ولا يتصور أن يخلص الآخرون، إذا رأى أي مقدم سنةً للدين لا بد أن يتهمه بأنه غير صادق، إذا رأى من يجاهد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وهو لا يعرفه وما عرف فيه شراً ولا خيراً من قبل، فلا بد أن يتهمه وأن يبدأ أولاً بالبحث في مثالبة والنواقص التي لديه، وإذا رأى أي ساع في الخير ولو لم يعرفه ولم يسمع عنه أي ذكر فلا بد أن يبحث عن نواقصه، ومن أين جاءه الخلل والنقص؛ ولذلك فأصحاب القلوب المريضة يتغافلون عن أمراضهم وسوءاتهم وعيوبهم، ويبحثون عن عيوب الآخرين، فهم يلتمسون للآخرين العيوب، ويلتمسون مساوئهم وزلاتهم، ويظنون أنهم في منأىً عن تلك الوساوس والسوءات والمعايب، وأنهم يسكنون في برج عادي عال لا تتناوله تلك المصائب، ولا تصل إليه بوجه من الوجوه، ومن هنا فيتناسون عثراتهم وزلاتهم، ويجعلون من زلات الآخرين جبالاً عظيمةً، ويجعلون من الحبة قبة، ويجعلون من العثرة صفقةً، وهكذا في كل تتبعاتهم للأمور.

    وأصحاب القلوب المريضة يركنون دائماً إلى جانب الهدم؛ فلذلك يسرهم أن يسمعوا موسعاً مبصراً، ويسوءهم أن يسمعوا منذراً، وهم دائماً يحبون الركون إلى الراحة، ولا يحبون العمل بوجه من الوجوه، يحبون النوم والغفلة والراحلة، ويحبون أن يأخذوا قسطاً من هذه الحياة الدنيا، ولا يحبون أبداً أن يقدموا شيئاً لآخرتهم، وهم يتمادون في الإصرار على إغفال ما أمامهم؛ لأنهم يسوفون، وينخدعون بعقد الشيطان التي يعقدها على قافية رأس كل أحد منهم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب في كل عقدة: ( إن عليك ليلاً طويلاً فنم )؛ فلذلك يسهل على هؤلاء المبتلين بداء مرض القلب أن تسري إليهم وساوس الشيطان، ويسهل عليهم أن يتشككوا في أمور العقائد، وفي ثوابت الشرع، ويسهل عليهم أن يتساءلوا في أمر لا تبلغه العقول، ولا تصل إليه، في الوقت الذي نجد فيه أهل الإيمان وأهل سلامة القلوب لا يفكرون في ذلك النوع من التفكير، ولا يطرحون تلك الأسئلة على أنفسهم؛ لقناعتهم ولحصول السكينة في قلوبهم، ولحصول الطمأنينة التامة لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى، فلا يتشككون بشيء، ولا يقفون وقفة تحير في أي أمر من الأمور، وهم يقولون ما قال الزبيري رحمه الله:

    أأرجع بعدما رجفت عظامي وكان الموت أقرب ما يليني

    فما عوض لنا منهاج جهم بمنهاج ابن آمنة الأمين

    صلى الله عليه وسلم؛ فلذلك تجد هؤلاء يسيرون وراء كل ناعق، ويتربون في الأوحال، كلما عرضت شبهة من الشبه قالوا بها وتشربتها قلوبهم وآذانهم، وتلقفتها ألسنتهم قبل آذانهم.

    علامات القلب السليم

    ثم من علامات القلب السليم: حرصه على الازدياد من الخير دائماً، وتقصير صاحبه للأمل، وإيثاره للدار الآخرة على الأولى، وانطلاقه من مبدأ التسليم لأمر الله سبحانه وتعالى، والقناعة بكل ما جاء من عنده دون نقاش، وتذوقه لمعاني الإيمان، فكل هذا من صفات القلوب السليمة؛ ولذلك فإن إبراهيم عليه السلام قد ضرب الله فيه المثل لأصحاب القلوب السليمة: إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصافات:84]، فكل أمره موافق للفطرة؛ ولهذا اتخذه الله خليلاً، وهذا أعلى مقام للمخلوق أن يتخذه الرب سبحانه وتعالى خليلاً، فإنما اختار الله إبراهيم خليلاً حين نقاه وامتحنه ونجح في كل الامتحانات كما قال الله تعالى: وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة:124].

    ولذلك فإن أصحاب القلوب السليمة يتبعون ملة إبراهيم ، ويجتهدون في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالطاعات ولو خالفت أهواءهم، كما تقرب إبراهيم بذبح ولده حين أمر بذلك في المنام مع محبته له وحاجته إليه، وكما نفذ الأمر بترك ولده وجاريته بواد غير ذي زرع لا ماء فيه ولا مرعى امتثالاً لأمر الله، وكما بادر كذلك بالامتثال في هجرته عن قومه حين كفروا بالله، وكما أظهر توكله على الله في المضايق عندما قال: (حسبي الله ونعم الوكيل) حينما رماه أصحابه في النار فقال الله: يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69].

    إن أصحاب القلوب السليمة منا دائماً ينتقدون أنفسهم، ويرون العيب فيها، ويظنون بالآخرين ظن السلامة، ويرون أنفسهم دون الآخرين دائماً؛ فهم يعلمون أن معايير هذه الحياة الدنيا تختلف عن معايير الآخرة؛ فالمعايير الأخروية هي المعايير المعتبرة، وإنما معيار الفضل فيها بالتقوى فقط كما قال الله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، ومن هنا فهم يضعون أنفسهم في قفص الاتهام دائماً، يعلمون أن النفس أمارة بالسوء، ويعلمون أنها تسعى للراحة ولا تريد عملاً ولا تعباً، ويسعون لمجاهدة الشيطان، فأوقاتهم كلها مجاهدة؛ ولذلك فإن الشيطان يتعب مع هؤلاء، يبني حيله، ويندي رسله ويبقى هؤلاء صامدين على الحق، لا يتأثرون بمكائد الشيطان.

    علاج أمراض القلوب

    بعد معرفتنا لبعض مظاهر أنواع القلوب الثلاثة علينا أن نطبق ذلك على أنفسنا، وإذا راجعنا هذا التصنيف فعرف كل واحد منا داءه ومكمن هذا الداء فهنا عليه بعد ذلك العلاج، ومن أهم ما نعالج به أمورنا عملية بسيطة جداً لا شك أن أكثر السامعين والسامعات يعرفها ويدرسها من خلال انتشار الهاتف الجوال في صفوف الناس، فهذا الهاتف كما تعلمون له ذاكرتان: ذاكرة الجهاز، وذاكرة الشريحة، يخزن الإنسان بعض الأرقام والعناوين على ذاكرة الشريحة، لكن يمكن أن ينسخها في ذاكرة الجهاز، والنسخ قسمان: نسخ مع الاحتفاظ بالأصل، ونسخ مع إزالة الأصل، لكن النسخ في ذاكرة القلوب دائماً مع الاحتفاظ بالأصل؛ فنحن لدينا قناعات عقلية راسخة في العقول نريد نسخها إلى القلوب والعواطف، فلا شك أن جميع السامعين والسامعات يعرفون أن الكذب حرام، ومن صفات المنافقين ومن آياتهم، وأن الصدق واجب، وأنه من صفات المؤمنين، ويعرفون أن الغيبة حرام، وأن أكل الربا حرام، ويعرفون كذلك ما في قيام الليل وصيام النفل من الأجر العظيم والمنزلة العالية عند الله سبحانه وتعالى، لكن هل هذه القناعات تلقى تطبيقاً في كل الأحيان؟ أبداً؛ بل أكثر الناس وهو مقتنع بهذه الأمور يخالفها في أكثر أوقاته، والسبب أن هذه القناعة قد اختزنها بعقله ولم يوصلها إلى قلبه ولا إلى عاطفته، ومن هنا لا بد أن نعمل عواطفنا، فننقل قناعاتنا العقلية إلى محل الحب والكره منا وهو العاطفة والقلب؛ فإذا أحببنا كل ما يحبه الله حباً شديداً، وأبغضنا كل ما يبغضه الله بغضاً شديداً حينئذٍ سهل على جوارحنا أن تنقاد وراء العواطف، وتنساق وراء ما يحبه الله، وتبتعد عن كل ما يكرهه الله، وهذا الأمر ميسور سهل لكل من عرف الداء، أما من لم يعرف هذا أصلاً فلا يرجى له الشفاء منه؛ لأنه مبتلىً بداء عضال، وهو لا يستشعر خطر ذلك المرض.

    إن علينا يا إخواني أن نحاول أن نجعل من أنفسنا خصماً لنا، وأن يجلس كل واحد منا في خلوته أو في جلوته ويجعل نفسه شخصاً آخر بين يديه يحاوره ويكلمه، فيعرض على نفسه علو الهمة، ويعرض عليها محبة كل ما يحبه الله، ويعرض عليها بغض كل ما يبغضه الله، حتى لو وقع هو فيه، فإذا وقع فيما يبغض الله وكان مبغوضاً لديه هو سهلت عليه التوبة منه، وكانت توبته صادقةً، وإذا فعل ما يحبه الله كان ذلك بصدق التوجه إلى الله سبحانه وتعالى ولم يكن ذلك بالتقليد، ولم يكن ذلك بمجرد الهواية أو لأنه رأى الآخرين يفعلونه أو رئاء الناس؛ بل فعله على أساس أنه محبوب لله سبحانه وتعالى، يتقرب به إليه.

    1.   

    تذوق حلاوة الإيمان

    إننا إذا حصل في أنفسنا محبة لكل ما يحبه الله، وبغض لكل ما يبغضه الله فسنذوق بذلك حلاوة الإيمان التي يتنافس فيها المتنافسون، فقد أخرج البخاري و مسلم في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار ).

    حلاوة الإيمان إنما تذاق بالمحبة والكره، وهذا جانب ما يتعبد به لله إلا القلائل من الناس، قليل من الناس جداً من تصل عبادته إلى محل الحب والكره، أكثر الناس يتعبدون إما بالقناعة العقلية المحضة؛ فتكون عباداتهم جافة كتحركات الماكينات، أو يتعبدون تقليداً على أساس الرياء أو الأهواء، وذلك ما لا يغني عنهم بين يدي الله شيئاً، وقليل ما هم أولئك الذين وصلت محبة الله سبحانه وتعالى إلى شغاف قلوبهم، فانطلقوا من هذه المحبة فأحبوا كل ما يحبه الله، وأبغضوا كل ما يبغضه الله، وأحبوا كل من يحبه الله، وأبغضوا كل من يبغضه الله، وصدقوا في ذلك صدقاً يقينياً لا يتزلزل، لكن هذا المقام ليس مستحيلاً ولا صعباً؛ بل يمكن الوصول إليه عن طريق التربية، وعن طريق التعاون على البر والتقوى.

    ونحن عباد الله تعترينا كثير من الساعات التي فيها ضعف -بدني أو إيماني أو قلبي- أمام الشهوة، وضعف أمام الشبهة، وضعف أمام إخوان السوء، وضعف أمام الظروف المحيطة بنا سواءً كانت ظروفاً اقتصادية أو سياسيةً أو اجتماعية، كل هذه الظروف تؤثر فينا، وتأتي تلك الساعات التي نجد فيها هذا الضعف بارزاً؛ لكن في المقابل نجد آخرين في تلك الساعات يواجهون نفحات ربانية يتقوون بها قوةً عجيبةً خارقةً للعادة، أليس جديراً بنا أن نحاول في ساعات ضعفنا أن نتصل بأولئك الأقوياء ليمدونا في ساعة قوتهم، وأن نكون مدداً لهم في المقابل إذا ضعفوا فنمدهم في ساعة ضعفهم، إننا بذلك نحقق مراد الله سبحانه وتعالى حين أمرنا بالتعاون على البر والتقوى فقال: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ [المائدة:2].

    1.   

    بعض ما ينبغي فعله لرقة القلب

    أليس جديراً بالشاب المسلم الذي يحس بضعف أمام محيطه أو بيئته أو أمام شهوته أو شبهته أن يبحث عن خليل له في الله، ما أحبه إلا لوجه الله ليجالسه في ساعة ضعفه هو، فيتقوى مما يسمع منه، ويقول: اجلس بنا نؤمن ساعة، ويجرون إلى الله سبحانه وتعالى من تلك الجبهة التي هزموا أمامها من عمل الشيطان، أو من عمل النفس الأمارة بالسوء، أو من عمل إخوان السوء، فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات:50]، وحينئذٍ يمدهم الله سبحانه وتعالى بالأمداد التي لا تنقطع، وبالعطايا التي لا حصر لها، وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً [الإسراء:20].

    أليس جديراً بالأخت المسلمة وهي تشكو من القسوة والغفلة، وتشكو من جمود الدموع إذا أحست بضعف أمام بيئتها ومحيطها أو واقعها في بيتها أن تنطلق إلى جارتها التي ما أحبتها إلا لوجه الله لتجالسها ساعةً في ذات الله.

    بل أليس جديراً بنا جميعاً أن نجعل هذه الزيارة في ذات الله سنةً نحييها بعد أن أماتها الناس، ونحن نعلم أن الرب الملك الديان سبحانه وتعالى يقول يوم القيامة: ( وجبت محبتي للمتحابين في، والمتباغضين في، والمتزاورين في )؛ فأولئك هم الذين يحبهم الله سبحانه وتعالى ووجبت لهم محبته.

    وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه عز وجل: ( يقول الله تعالى: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي ).

    وفي الصحيحين كذلك من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأه ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ).

    أليس جديراً بنا أن نحاول أن نلتحق بهؤلاء الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

    قد صح في الصحيحين ( أن أبا بكر و عمر رضي الله عنهما قال أحدهما للآخر بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعال بنا نزور أم أيمن كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فذهبا إلى هذه المرأة المؤمنة يزورانها في الله لتذكرهما بالله )، وهما سيدا أهل الأرض في ذلك الوقت، هذا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا وزيره وأمير المؤمنين بعده، يزوران هذه المرأة المؤمنة لتزيدهما نوراً ويقيناً وضياءً، ويسمعا منها بعض ما كان يسمعه منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ( فلما أتيا وسلما بكت أم أيمن ، فظنا أنها تبكي لمصيبتها بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعزياها فقالا: أما علمت أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الدنيا؟ قالت: أما إني لا أبكي لأني لا أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الدنيا، ولكن أبكي لانقطاع الوحي عن الأرض، فهيجتهما على البكاء فبكيا قليلاً ثم قاما ).

    قلب الإنسان بين قوة الإيمان وضعفه

    إن سنة التشاور في الله سبحانه وتعالى مما يثبت الله به قلوب المؤمنين، ومما يعين به الناس على الطاعات التالية، فإن للإنسان ساعتين: ساعة قوة وساعة ضعف، فساعة القوة ينبغي أن يوصل فيها هذا النور الذي اؤتمن عليه ليثبت آخرين، وساعة الضعف ينبغي أن ينتفع فيها من قوة إخوانه الآخرين، وأن يستفيد مما اقتبسوه من نور الله سبحانه وتعالى في تلك اللحظة؛ ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه حين شكوا إليه كما في صحيح مسلم قال: ( لو تدومون على ما تكونون عليه عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولكن ساعةً وساعة ).

    فالساعة التي يجد فيها الإنسان ذلك الإشراق الرباني الكبير، والإقبال على الله سبحانه وتعالى، ورفض كل من دونه، وعدم تعليق الأمل إلا به، ويجد الأبواب كلها قد أغلقت إلا باب الملك الديان، ويجد قلبه غير متعلق بأي شيء مما سواه، بل قد انتفض من هذه الدنيا، وتخلص منها بكلية فقال بلسان المقال لم يكن ذلك بلسان الحال:

    فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب

    وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب

    إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب

    يحاول في ذلك الوقت أن يصدر هذا النور الذي اؤتمن عليه، وأن ينفع به الآخرين وأن يثبتهم به، وقد كان التابعون إذا أجدبت قلوبهم ذهبوا إلى الحسن بن أبي الحسن البصري فيجدون عنده مرعىً خصيباً، فـالحسن رحمه الله كان لا يبخل على إخوانه بساعات الإيمان التي يجد فيها الإشراقات الربانية، وتجري الحكمة على لسانه مما وقر في قلبه من الإيمان.

    وقد كان كثير من التابعين كذلك يزورون إياس بن معاوية بن قرة المزني فيذكرهم بالله سبحانه وتعالى، وكان أهل الشام إذا أحسوا بالقسوة وجفاف العيون ذهبوا إلى أبي إدريس الخولاني فيجتمع حوله شبابهم وشيبهم، فيخرج عليهم معزلاً فيذكرهم بالله سبحانه وتعالى، ويتذكر هو ويبكي، ويخلفون عنه جميعاً وهم يئزون ويجأرون إلى الله سبحانه وتعالى.

    وقد قال مالك رحمه الله: لو أدركتم ما أدركت لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، فقد أدركت محمد بن المنكدر وكان إذا حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى حتى رحمناه وقمنا عنه، وأدركت جعفر بن محمد وكان ذا دعابة، فإذا ذكر عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى حتى كأنه ما عرفك ولا عرفته.

    فأولئك القوم كانت مجالستهم تزيد الإيمان، فكان الناس يحرصون على مجالستهم؛ ولذلك يقول رجل من أهل خراسان: دخلت البصرة فأتيت السوق فسألتهم: من سيد أهل البصرة؟ فقالوا: الحسن بن أبي الحسن ، فقلت: وبم سادكم؟ فقالوا: احتجنا إلى ما عنده، واستغنى عما عندنا. فقد كان الحسن من الزهاد لا يريد شيئاً من أمور دنياهم، وهم يحتاجون إلى ما عنده من أمور الدين، فقد استغنى عما عندهم، واحتاجوا إلى ما عنده.

    فهذا الحال جدير بنا أن نحييه اليوم، وأن نحاول أن يستفيد بعضنا من بعض، وأن يحرص بعضنا كذلك على إفادة الآخرين؛ فليست نفحات الإيمان بالأمور السلبية التي ينزوي بها الإنسان في طائفة المسجد أو في حجرة نومه؛ بل عليه في وقت الإشراق أن يمد إخوانه بما آتاه الله، وهو يعلم أن النعم لا تدوم، وأن تلك الإشراقات الربانية إنما هي نعم من الله سبحانه وتعالى؛ فعليه أن يبادر بتوزيعها وتسليمها إلى أهلها قبل أن يفوت الأوان، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع: ( بلغوا عني ولو آية )، ويقول: ( ليبلغ الشاهد منكم الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع )، ويقول فيما تواتر عنه: ( نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ).

    1.   

    بعض المعينات على الثبات على الدين والاستقامة

    كثيرة هي الأسئلة المهمة التي ترد علينا؛ لكن من أهم الأسئلة ما يتعلق بالثبات على الدين والاستقامة عليه، وبالأخص في أوساط الشباب الذين هم عرضة لكل هذه الفتن والمصائب.

    استشعار التحديات

    فمن أهم ما يثبت الله به قلوب أولئك: أن يستشعروا التحديات، وأن يحسوا بأنهم في جهاد مرير، عدته الصبر واليقين، وأن يعلموا أن الشيطان يغزوهم بالشهوات والشبهات، وأن الشهوات لا تقف أمام الصبر، وأن الشبهات لا تقف أمام اليقين، وأن الإنسان إذا جمع بين الصبر واليقين نال الإمامة في الدين؛ لقول الله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].

    النظر في سير السابقين من الصالحين

    كذلك مما يثبتهم الله به مشاهدتهم للذين سبقوهم على الدرب، وساروا على هذا الطريق من أهل الإيمان والأحوال الصادقة؛ فإن مجالسة أولئك تطرد الشيطان ويخسأ بها، فعلى الإنسان أن يزور الذين سبقوه إلى الالتزام ويرى أحوالهم وما هم فيه، فيراهم مشغولين بأمر الآخرة في كل أوقاتهم، وإذا انشغلوا بشيء من أمور الدنيا جعلوه زاداً إلى الدار الآخرة، وعليه أن يسألهم عن نياتهم وتفكيراتهم، ويتطلع إلى الحكم التي تصدر منهم، ويعلم أن حكمةً واحدة قد ينتفع بها لسنوات طويلة، كما انتفع عمر بن عبد العزيز رحمه الله بحكمة واحدة من شيخ كبير السن قال له: يا بني! إن أمامك عقبةً لا يقطعها إلا كل ضامر مهزول، فكانت هذه الحكمة زاد عمر بن عبد العزيز في مسيرته إلى الله سبحانه وتعالى.

    ومما يثبتهم كذلك قراءتهم لسير السابقين من الصالحين؛ فجدير بالشباب المسلم أن يقرأ سيرة أبي بكر الصديق وكيف ثبت في وقت المحنة، وجدير بهم أن يقرءوا سيرة أحمد بن حنبل وكيف ثبت في وقت المحنة، جدير بهم كذلك أن يقرءوا توبة التوابين من عباد الله، أن يقرءوا توبة الفضيل بن عياض ، وأن يقرءوا قصص أولئك الصالحين السابقين، فقد قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: قصص الصالحين جند من جنود الله يثبت الله بها قلوب عباده، ومصداق ذلك من القرآن قول الله تعالى: وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود:120].

    فيحتاج الإنسان إلى زاد من قصص أولئك، والوقت الذي يعيشه على حياة أولئك وقد ماتوا وانقطعت أعمالهم من هذه الحياة الدنيا يكون امتداداً في حياة أولئك، وتذكراً لما عاشوه من الهموم، وما حملوه من الأعباء، فعسى أن تخلف أحدهم، أو تسد مسداً لهذه الأمة تحتاج إليك فيه.

    حال الأمة وما تتعرض له

    وكذلك مما يكون وسيلةً للثبات: أن يتذكر الإنسان حال أمته، وما تتعرض له هذه الأمة من المصاعب والنكبات، وأن يستشعر الإنسان المؤامرة الدولية على هذا الدين، وأن يستشعر كذلك الطابور الخامس من المنافقين في داخل الأمة الإسلامية، وما يمكر به هؤلاء من أنواع المكر، وأن يعلم أن النصارى واليهود عليهم لعنة الله وهم يخدمون دينهم المحرف المبدل ويبذلون في سبيله كل ما يستطيعون؛ يتعرضون لأنواع النكبات والمصائب وهم صابرون صامدون، وجدير بنا نحن كذلك أن نسير على طريق الحق الذي لدينا، ونحن نعلم أن مآلنا إذا سرنا على الطريق غير حالهم وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104]، ونحن نعلم أن ديننا هو الحق من عند الله سبحانه وتعالى، وأنه ناسخ لكل ما سواه ومهيمن عليه، جدير بنا أن نبذل أضعاف ما يبذلون، وأن نقدم من التضحيات خيراً مما يقدمون.

    النظر فيما عمله من خير في السابق

    كذلك على الإنسان المسلم السائر في طريق الحق أن يتذكر الأشواط التي قطعها في هذا الطريق، وأن يحرص على ألا يكون كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا [النحل:92]، فعيب على الإنسان أن يتوب في شهر رمضان، وعيب عليه أن ينيب ويقبل على الله، ويترك ما كان يزاوله من المعاصي، ويبدله الله خيراً منه من الأعمال الصالحة، ثم يرجع أدباره ويتقهقر ويتدحرج حتى يرجع إلى الحضيض وإلى أسفل السافلين، فهذا لا يرضاه صاحب الهمة لنفسه؛ بل جدير بالإنسان إذا ترقى في درجات الكمال أن يطلب الازدياد، وأن يزيد من الخير كلما ازداد من العمر.

    ورج الفتى للخير ما إن رأيته على السن خيراً لا يزال يزيد

    تذكر الآمال المعقودة به

    كذلك مما يزيد الثبات على هذا الدين أن يتذكر الإنسان الآمال المعقودة به هو، فأنتم تعلق بكم هذه الأمة آمالاً عظيمة، تريد أن يكون منكم العلماء الربانيون المربون الصادقون الذين لا يخافون في الله لومة لائم، ولا يرغبون في حطام الدنيا، ولا يؤثرونه على الدار الآخرة، وهم أمناء الله على الوحي، صادقون فيما يبلغون، ما أحسن أثرهم على الناس! وما أسوأ أثر الناس عليهم كما قال أحمد بن حنبل رحمه الله، وتأمل فيكم الأمة أن يكون منكم القاعدون الفاتحون الذين يعيدون للأمة أمجادها، ويصلحون ما أفسد الناس من آثارها، وتؤمل فيكم هذه الأمة أن يكون منكم كذلك الباذلون في سبيل الله، المنتجون الذين يسعون لأن تستغني هذه الأمة عن أعبائها بمنتجها المحلي، ويخدمون الدين بذلك القبيل، وتؤمل فيكم هذه الأمة أن يكون منكم ذوو الأقلام السيالة، وذوو الطرائق الجياشة، الذين ينافحون عن الدين، ويدافعون عنه وعن أهله، فهم حراس للدين، كلما سمعوا كلمةً كانوا كأنما سمعوا هيعةً فطاروا إليها يحامون عن دين الله وأهله، ويقولون ما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:

    هجوت محمداً فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء

    أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء

    هجوت مباركاً براً حنيفاً أمين الله شيمته الوفاء

    فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء

    لساني صارم لا عيب فيه وبحري لا تكدره الدلاء

    وتؤمل فيكم هذه الأمة كذلك أن يكون منكم الذين يتعلمون علوم الدنيا ليغنوا هذه الأمة عن معارف أعدائها، وليسدوا لهذه الأمة مسداً تحتاج إليه في كل شئونها؛ فمن العار والعيب على النسوة المسلمات أن يكون العلاج الطبي للنساء في بلاد المسلمين تحت أيدي الكفرة الفجرة من الذكور من النصارى وغيرهم، وعار كذلك على الشباب المسلم مثل هذا النوع؛ فلذلك لا بد أن يستشعر الشباب المسلم ما تعلقه هذه الأمة به من الآمال، وأن يستشعر كذلك ما تشكوه هذه الأمة من الآلام.

    أبعد بلوغي خمس عشرة ألعب وألهو بلذات الحياة وأطرب

    ولي نظر عال ونفس أبية مقاماً على هام المجرة تطلب

    وعندي آمال أريد بلوغها تضيع إذا لاعبت دهري وتذهب

    ولي أمة منكودة الحظ لم تجد سبيلاً إلى العيش الذي تتطلب

    على أمرها أنفقت دهري تحسراً فما طاب لي طعم ولا لذ مشرب

    ولا راق لي نوم وإن نمت ساعةً فإني على جمر الغضا أتقلب

    اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756352054