إسلام ويب

علم البلاغة [4]للشيخ : عبد العزيز بن علي الحربي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • فصاحة المتكلم تعني أن يكون له ملكة يقتدر بها على تأليف كلام فصيح، ولا يمكن أن يكون الكلام بليغاً إلا مع مراعاة مقتضى الحال. والبلاغة لها طرفان: أعلى وهو حد الإعجاز، وأسفل وهو الذي يقترب من كلام العجماوات، وبين ذاك وهذا مراتب.

    1.   

    الفصاحة في المتكلم

    الحمد لله رب العالمين، الحمد لله علم القرآن، خلق الإنسان علمه البيان، والصلاة والسلام على خير من نطق بالضاد، الذي أعطي جوامع الكلم، القائل: (إن من البيان لسحراً)، صلى الله عليه وآله وسلم.

    أما بعد:

    انتهينا من الفصاحة في الكلمة والكلام، وبقي بعد ذلك الكلام عن الفصاحة في المتكلم، والفصاحة في المتكلم هي: (القدرة على أن يتكلم بكلام فصيح)، والكلام الفصيح هو الذي توفرت فيه الشروط السابقة، وما على المتكلم إلا أن يلتزم بالشروط السابقة التي شرطناها في اللفظة المفردة، والتي عرفناها في الكلام، فإذا حصل له ذلك فإننا نقول عنه: إنه فصيح: (والفصاحة ملكة يقتدر بها على تأليف كلام فصيح)، لكن لابد أن يكون صحيحاً موافقاً لما شرطناه من قبل، لكن يضاف إلى ذلك بالنسبة للمتكلم أن يكون عنده ملكة يستطيع أن يعبر بها عن مقصده هو، وعما يريده السامع المخاطب، هذه الملكة هي ملكة تلد مع الإنسان، توجد مع الإنسان، قد تكون هذه الملكة ليست ملكةً قوية، ولكنها ملكة صغيرة، أو ملكة ضعيفة، بعد ذلك يستطيع أن ينميها بقراءة الألفاظ العربية قراءةً صحيحة، ابتداءً من القرآن الكريم، وبكلام النبي صلى الله عليه وسلم، مروراً بأشعار العرب وخطبها أيضاً قراءةً صحيحة، ولن يفلح طالب العلم في هذه المسألة حتى يقرأ على من يصحح له تلك الألفاظ تصحيحاً، وأن يقرأها هو قراءةً صحيحة؛ لأنه إذا كان وحده لا يستطيع أن يعلم نفسه، فلا بد أن يكون هنالك معلم لكي يعلمك نطق هذه الألفاظ ومعانيها، وإذا ما تعلمت وأصبح عندك ملكة راسخة في هذا العلم فإنك قل أن تحتاج إلى أحد في شيء حتى في علوم الشريعة إلا في الأشياء التي لا بد منها، ما تحتاج بعد ذلك إلى أن يشرح لك إنسان معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، أو (إنما الأعمال بالنيات)، أو أي كلام آخر لا تحتاج إليه والناس يحتاجون إليه حتى تعلمهم؛ لأن هذه الأشياء لا بد أن تؤخذ من أصحابها.

    فإذاً الفصاحة في المتكلم ملكة يستطيع بها أن يعبر عن مراده هو، هم يقولون: عن مراده هو، ونظيف إلى هذا أنه يستطيع أن يعبر عن مراده وعن مراد المتكلم، ولكنهم اقتصروا على كلمة مراده؛ لأن مراده في أي حال من الأحوال، أو في أي مقام من المقامات هو تابع للمخاطب، وإذا كان المخاطب يحتاج إلى أن يعظه، فقد أصبح مراد المخاطب مراداً له، فعبروا عن ذلك بهذا اللفظ الذي قسمناه بأن قلنا: التعبير عن مراده ومراد المخاطب.

    1.   

    مقامات البلاغة

    ننتقل بعد ذلك إلى البلاغة، انتهينا من الفصاحة، في الحقيقة لم أنس كلامي الذي قلت فيه: إننا سوف ندرس رءوس مسائل البلاغة في هذه الأيام التي سنعيشها مع البلاغة، وهي أيام قليلة، لا ينسى ذلك الوعد، ولكنني حين شرعت بالأمس ووجدت أن الكلام قد طال بنا في مقدمة البلاغة ظهر لي أن القفزات التي سوف نقفزها من هنا ومن هنا إلى هناك وهنالك قفزات قد لا يحتاج إليها الذكي، ولا ينتفع بها من دونه، لا ينتفع بها المبتدئ، وأننا سوف نبتر المسائل بتراً، وعنَّ لي أن نقرأ بتؤدة واطمئنان، وألا نفيض أيضاً في الشرح ولا نتوسع فيه، ولكن لا بد أن نذكر ما لا بد من ذكره، ثم إن هيأ الله لنا بعد ذلك أن نواصل مثل هذه الدروس على مدار العام فذلك حسن إن شاء الله، وإلا فستكونون قد ملكتم مفاتح خزائن هذا العلم بالكلام عن هذه المقدمات التي سوف نتكلم عنها، فهي أهم المسائل التي ينبغي أن يعرفها طالب العلم فيما يتعلق بتعريف البلاغة، وما يتعلق بتعريف كل نوع من أنواع البلاغة أعني المعاني والبيان والبديع، وكذلك ما يتعلق بركن البلاغة وهو علم المعاني، فسوف ندرس من ذلك ما توافر لنا بإذن الله تعالى.

    البلاغة عرفنا أن معناها الوصول والانتهاء، يقول الله تعالى: ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [النجم:30]، يعني: هذا منتهى علمه، هذا هو المنتهى الذي وصلوا إليه، علمهم ينتهي إلى هذا الحد، كذلك البلاغة هي أن يبلغ الإنسان إلى مراده وإلى أقصى ما يريد، وذكرنا من قبل تعريفات البلاغة العامة:

    فمنهم يقول: إن البلاغة هي الإيجاز.

    ومنهم من يقول: إن البلاغة هي الوصل والفصل.

    ومنهم من يقول: إن البلاغة هي أن تقول فلا تخطئ، وأن تسرع فلا تبطئ.

    ومنهم من يقول: إن البلاغة هي البلوغ إلى المعنى إذا لم يكن سفر الكلام، وهذا التعريف لـابن المعتمر، لكن هنا تعريف خاص، البلاغة نحن قلنا: إنها تكون في الكلام، وتكون في المتكلم، ولا تكون في الكلمة الواحدة، لا تكون في اللفظة، إنما تكون في الكلام والمتكلم، فنقول: فلان بليغ، ونقول: كلام بليغ.

    البلاغة في الكلام هي مراعاة مقتضى الحال، مقتضى الحال يعني: مطلوب الحال، الحال ماذا يطلب منك؟ ماذا يحتاج إليه الحال، الأحوال متعددة، هنالك مقامات متفاوتة، هنالك مقام يحتاج إلى تنكير ولا يحتاج إلى أن تذكر اللفظة معرفة؛ لأنك تريد الإبهام، هنالك مقام يحتاج إلى التعريف؛ لأن المقام مقام تعريف، هنالك مقام يحتاج إلى بسط وإطناب، هنالك مقام يحتاج إلى إيجاز، وهذا سوف نعرفه في المسند إليه، حينما يقول الإنسان الذي يتحرى أن يصطاد غزالاً وبجانبه إنسان رأى هذا الغزال، هل يسوغ له أن يقول: إني أرى غزالاً فارم لي بسلاحك أو ببندقيتك؟ لا، هنا الفرصة ضيقة، ليس هنالك مقام للشرح، ليس هنالك ما يحتاج إلى أن يطيل فيه الكلام، فيقول: غزال فوراً، حتى إنه لا يقول: هذا غزال، ليس هنالك ما يدعو إلى أن يأتي بهذا، هنالك غريق يحتاج إنقاذ، الغريق نفسه يقول: أغرق أغرق، ولا يحتاج إلى أن يأتينا بمقدمات يشرح لنا فيها كيف غرق، وكذلك الذي يستغيث بالناس.

    وكذلك مقام الإطناب، يقولون: إن مقامات الحب ومقامات خطاب المحبوب يحتاج إلى كلام طويل؛ لأن المحب لا يشبع من الكلام مع محبوبه، والكلام المختصر في هذا المقام معيب؛ ولهذا عندما قال الله تعالى لموسى: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى [طه:17]، كان يكفي أن يقول: عصى أو عصاي، لكنه كره مثل هذا الخطاب، وأراد أن يتلذذ في كلامه بمخاطبة المولى عز وجل، فقال: هي عصاي، واتكأ على هذا الضمير كما يتوكأ على العصا، والضمير هو (هي)، فقال: هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي، ولعله أراد أن يطيل الكلام، ولكنه وصل إلى هذا الحد وقال: وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى [طه:18]، ولم يطلب منه هذا الكلام.

    كذلك في مقام التظلم حينما يتظلم الإنسان، أو حينما يشكو، حينما يكون في مقام الخصومة ويحتاج إلى أن يستعطف الذي يشتكي عنده، فقد جرت العادة على أن يذكر شيئاً من الأمور التي تدل على أنه مظلوم،

    ومثال ذلك قول الله تعالى: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ [ص:21-22]، ماذا قال المدعي؟ قال: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ [ص:23]، انظروا إلى دعواه، قال: (إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة) أصل الدعوى ما هي؟ أن هذا أخذ نعجة هذا وكفى، يعني كان من السهل أن يقول: هذا ظلمني وأخذ نعجتي، أو هذا أخذ نعجتي، وما دخل أن يقول: إن فلان له تسع وتسعون نعجة وأنا ما عندي إلا نعجة واحدة، ومع ذلك أراد أخذها؟ أراد بهذا الكلام أن يستعطف به داود عليه السلام، ولهذا أثر في حكم داود عليه السلام، فقال قبل أن يسمع كلام الطرف الاخر: قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ [ص:24]، حتى أن داود عليه السلام أيضاً أدخل كلمة (إلى نعاجه)، وكان يكفي أن يقول: لقد ظلمك بسؤال نعجتك فقط، لكن قال: إلى نعاجه، وهذا من أثر ذلك الاستعطاف، احتاج إلى هذا اللفظ من أجل أن المدعي قد قال: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا [ص:23].

    كذلك في مقام الخطابة، وهذا أمر يحتاج إليه طالب العلم، هنالك مقام يحتاج إلى أن تتكلم فيه كلاماً طويلاً عريضاً؛ لأن القضية التي تتحدث عنها تحتاج إلى تفسير، وتحتاج إلى أن تتكلم بطريقة محددة ومعينة، هنالك مقام أوفى تتحدث فيه مع أناس يحتاجون إلى أن تلقي إليهم فكرة تحملها من أولها إلى آخرها، هنالك مقام يحتاج إلى أن توجز فيه الكلام، هذه العيوب لو فتشتم في المجتمع وما فيه من خطباء تجدون أن العيوب التي لا يراعى فيها مقتضى الحال متفشية، فهذا خطيب في يوم الجمعة يقلب خطبة الجمعة إلى نشرة أخبار، وإلى أخبار سياسية، فيها تحليلات سياسية، وتنبؤات سياسية، وبأنه سوف يكون كذا وكذا وكذا وكذا، وكأنه لم يكفنا ما نسمعه من نشرات الأخبار، وما نراه في القنوات التي تعرض لنا مثل هذه الأخبار من أناس متخصصين، فهو قد أقحم نفسه أولاً، ثم إنه شغلنا بمقام يحتاج إلى أن ترق قلوبنا فيه بكلام الله تعالى وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم يشرحه لنا، ويذكرنا باليوم الآخر، ولكنه يعمد إلى مثل هذا النوع.

    هناك مقام لا يحتاج إلى رفع صوت فترفع فيه صوتك، وهو مقام يحتاج إلى تحاور، ويحتاج إلى تكليم ومناقشة فكرة، لماذا ترفع صوتك؟ بعض الخطباء أيضاً يتكلم بكلام ويصيح صياحا، لكن لا ندري ما هي الفكرة، ما هو الكلام الذي يتكلم به، إنما هو يتكلم ويتكلم حتى ينقطع الكلام، لا هو يعرف الفكرة التي يتكلم فيها، وليس له هدف إلا أن يقول للناس: اعرفوني، أو أنا أحسن أن أتكلم، ويتعلم الحلاقة في رءوس اليتامى، هكذا يفعل كثير منهم.

    فطالب العلم الذي يتكلم في مقام تدريس، أو في مقام خطابة، أو في مقام وعظ، أو في مقام استدلال، أو في مقام شرح يحتاج إلى أن يراعي هذه المسائل من أولها إلى آخرها، حتى مقام التعليم، مقام التعليم أيضاً كذلك يحتاج إلى أن ينتبه طالب العلم إلى من يخاطب، وإلى الدرس الذي يدرسه، وكيف يستطيع أن يوصل المعلومات إليهم بطريقة صحيحة.

    وأنا أضرب على ذلك مثلاً لنفسي، وإن كان هذا المثل أمراً سلبياً بالنسبة لي، ولكن لا بأس أن يضرب الإنسان على ذلك مثلاً ولو كان بنفسه، فإنني في أيام مرحلة الكلية كان لدينا مادة اسمها طرق التدريس، وكلفوا كل طالب بأن يؤدي درساً في المرحلة الثانوية، وقالوا لي: اختر ما تشاء، فاخترت مادة التفسير، فمتى يكون الدرس؟ قالوا: غداً، في أي آية؟ قالوا: عند قول الله تعالى في سورة النمل: وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ [النمل:81]، فحضرته في الليل، أنا قد درست النحو والصرف والبلاغة، وهذا أيضاً درس ألقيه على عدد كبير، فحضرت درسي وجئت بعد ذلك في الصباح، وبدأت من أول الحصة إلى آخرها أشرح لهم في الواو في قوله: وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ [النمل:81]، الواو، ثم بعد ذلك (ما)، وانتهت الحصة وأنا لم أكمل الكلام عن (ما) ومعانيها ومواقعها، وماذا ألف فيها من مؤلفات، فلما انتهيت وجدت أن الطلاب قد أعجبوا بمثل هذا الدرس، الذي يدل على أن هذا الشارح بحث، وأنا قد حضرته من قبل، ولما راجعت نفسي بعد ذلك عرفت أن هذه طريقة غير موافقة لمقتضى الحال، الطلاب لا يحتاجون إلى مثل هذا، ولا نحتاج إلى أن نفصل الكلام، المادة مادة تفسير، والتفسير الأصل فيه أن تذكر معنى الآيات، وأن تشرح الشرح الجملي، ولا بأس أن تشير إلى الألفاظ إشارةً يسيرة، أما أن تقلب المادة وهي في التفسير إلى نحو، أو أن تقلبها إلى علم كلام ومنطق فهذا غير سائغ، ولهذا قالوا عن بعض كتب التفسير: فيها كل شيء إلا التفسير، تركوا روح القرآن والتفسير الصحيح، وذهبوا بعد ذلك إلى أمور أخرى.

    فلهذا نحتاج إلى أن نراعي دائماً مقتضى الحال، الغبي عندما نخاطبه ينبغي أن يكون بطريقة مناسبة؛ لأن الدواء القوي للجسم الضعيف غير مناسب، وهذا مثل ذلك، عندما تعطي علماً قوياً لطفل صغير أو لإنسان كبير جاهل فكأنما تعطيه دواءً قوياً مثل السَقَمونيا عند المتقدمين دواء قوي جداً، وإذا تعاطاه الإنسان بجرعة كبيرة فإنه يموت، ويحتاج إلى أن يراعي الإنسان في مخاطبته خطاب الذكي فهو غير خطاب الغبي، خطاب العالم غير خطاب الجاهل، حينما يخاطب الإنسان الأمير هل يخاطبه كما يخاطب السَوَقة، وكما يخاطب عامة الناس، مثلا عندما يزور الإنسان مريضا، فإن الأصل أن يأتي إليه يبشره، وينفس عنه كربته، ونحو ذلك، لا أن يذكر عنده بأن فلاناً الذي أصيب بنفس المرض الذي أصيب به لم يمكث إلا شهراً ثم مات بعد ذلك، هذا لا يصلح؛ ولهذا البلاغة تعلمك كيف تكون صاحب عقل اجتماعي أو عقل معيشي، كيف تتعايش مع الناس، أنت هنا لا تتعلم البلاغة فقط من أجل أن يكون لسانك فصيحاً ونطقك صحيحاً، ولكن هي تعلمك وتغذي عقلك ولسانك وقلبك.

    عندكم في التلخيص يقول: (مقامات الكلام متفاوتة، لكل كلمة مع صاحبتها مقام).

    هنالك شاعر راجز اسمه العجاج معروف، شعره وديوانه مطبوع، حينما كان يحتضر ويعاني من سكرات الموت قالوا له: مت يا أبا الجحاف قرير العين؛ فإن لديك ابناً يقول الشعر كما تقوله أنت، وإذا مات الإنسان كما جاء في الحديث وقد ترك ابناً فإنه لم ينقطع عمله، يعني (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، ومنها: ولد صالح يدعو له)، لكن هذا لا يدعو له فقط، بل يحيي ذكره؛ لأنه نهج نهج أبيه، وما دام قد نهج نهج أبيه فكأن أباه باق، فقالوا له: مت يا أبا الجحاف قرير العين، فإن ابنك رؤبة بن العجاج يقول الشعر، فقال: نعم، إني أنا أقول الشعر، فأقول البيت وأخاه، وهو يقول البيت وابن عمه، وكان صغيراً، يعني يأتي ببيت وببيت آخر لا يناسب البيت الذي سبق، فكأنه يقول: أنا لا أموت وأنا قرير العين؛ لأن الابن له منهج آخر.

    فلكل كلمة مع صاحبتها مقام، يعني أيضاً لا تقل: إن البلاغة هي مراعاة مقتضى الحال، ثم بعد ذلك تأتي بكلام بعضه مناسب وبعضه ليس بمناسب، فيكون هناك خلخلة في الكلام؛ بعضه هنا وبعضه هنا، هذا هو الذي أراده المصنف صاحب التلخيص بقوله: لكل كلمة مع صاحبتها مقام.

    1.   

    طرفا البلاغة

    والبلاغة لها طرفان: طرف أعلى وهو حد الإعجاز وما يقرب منه، يعني كلام الله تعالى الذي هو الإعجاز بحيث لا يستطيع إنسان أن يأتي بمثله، يستطيع أن يأتي بلفظة مفردة أو بجملة، لكنه لا يستطيع أن يأتي بمثل أقصر سورة منه لا يستطيع ذلك، فهذا كلام الله، وهو أيضاً على درجات لكن جميعها في الذروة من البلاغة بحيث لا يستطيع أحد أن يتكلم بمثل هذا الكلام.

    وما يقرب منه ككلام النبي صلى الله عليه وسلم، وكلام قليل من البلغاء يصلون إلى حد قريب من الإعجاز، لكنهم لم يصلوا إلى تلك المرتبة التي هي حد الإعجاز، وهنالك كلام أسفل في الجهة الأخرى، وهو إذا ما غُير الكلام عنه إلى ما دونه يلتحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات، يعني يحكموا على ذلك الكلام المنحدر ذوقاً ولفظاً ومعنىً بأنه يشبه كلام العجماوات، التي تردد كلام البشر، فلا يكون كلاماً بليغاً أبداً، ومثَّلوا لذلك بمثل فقالوا: إن رجلاً سألوه عن أتان له، والأتان: أنثى الحمار، فقالوا: كيف هذه الأتان؟ فقال: أحبلها وتلد لي، هذا الكلام يصح أن نقول: إنه يلحق بكلام الحيوانات، وهو يريد هذا، لو كان في غير هذا المقام لجاز لنا أن نقول: إنه كلام بليغ؛ لأن فيه إسناداً مجازياً، لو كان مثلاً في قول القائل: بنى الأمير المدينة، هو ما بناها، لكنه أمر ببنائها، فأسندنا اللفظ إلى غير ما هو له، وهناك قرينة تدل على ذلك، لكن في هذا المقام الكلام سخيف لا يصلح، كيف تقول: أحبلها وتلد لي؟ هو يريد أنه يتسبب في أن يأتي بحمار ينزو عليها ثم بعد ذلك تلد، فقال: أسند الإحبال إلى نفسه والولادة إلى نفسه فوقع مرتين، فمثل هذا الكلام لا نقول عنه: إنه كلام بليغ.

    يقولون في قاعدة عامة: إن كل كلام بليغ فصيح، وكل متكلم بليغ فصيح، ولا عكس، ليس كل فصيح بليغاً، ليس كل كلام فصيح بليغاً، وليس كل متكلم فصيح بليغاً أيضاً، لماذا؟ لأن مقتضى الحال شرط نشترطه في البلاغة ولا نشترطه في الفصاحة، بينهما عموم وخصوص مطلق، وهذه من العبارات أيضاً التي تكثر في الكتب، ولا بد أن يعرفها طالب العلم، عموم وخصوص مطلق، أو عموم وخصوص من وجه، وهي بضابط بسيط (الخبر هو الأعم)، يعني المراد دائماً العموم في الأفراد، حينما تقول: كل إنسان حيوان هذا صحيح أم ليس بصحيح؟ صحيح، فالذي يكون خبراً هو الأعم، لكن إذا عكست لا يكون هذا صحيحاً، فليس كل حيوان إنساناً، بل هنالك من الحيوانات ما ليس بإنسان، فهو ينفرد من جهة ولا ينفرد من جهة، أما حين ينفرد ويتفرع بعد ذلك من جهة ومن جهة أخرى فهذا عموم يسمونه العموم والخصوص الوجهي من وجه، كما قالوا ذلك في الكلام والكلم يلتقيان في شيء، ثم ينفرد بعد ذلك كل واحد منهما بشيء، فحينما نقول: كل رسول نبي، هذا هو الصحيح أن كل رسول نبي، ودائماً ابحث عن العموم في الأفراد، هل في الأفراد الأكثر أفراداً الأنبياء أم الرسل؟ الأنبياء هم أكثر أفراداً، لا تنظر إلى الرسالة من حيث أنها أكثر لا، من حيث الأفراد الأنبياء وهم الأكثر، وإذا قلنا: كل رسول نبي يكون هذا صحيحاً، والعكس ليس بصحيح، هذا حينما نفرق بين الرسول والنبي.

    أما البلاغة في المتكلم فهي أيضاً كذلك ملكة يقتدر بها على تأليف كلام بليغ، يعني هي ملكة راسخة في النفس، يستطيع صاحبها بعد ذلك أن يعبر عن المقصود بكلام بليغ، والكلام البليغ قد عرفناه، يعني هي ملكة راسخة في نفس المتكلم يستطيع بعدها أن يعبر بكلام في أي مقام من المقامات بما يقتضيه ذلك المقام، وبما يتطلبه الواقع، ويخاطب الذكي بخطاب ذكي، والغبي بخطاب غبي، والجماعة بخطاب الجماعة، ويخاطب الفرد بخطاب الفرد، والأنثى بالأنثى وهكذا، هذه هي البلاغة في المتكلم، فالبلاغة في الكلام هي مراعاة مقتضى الحال، وفي المتكلم تطبيق لهذا الكلام وهذا المعنى، يعني يكون عنده ملكة يقتدر بها على تأليف كلامٍ بليغ.

    إذاً نحن انتهينا من البلاغة والفصاحة، نشرع بعد ذلك في علم المعاني الذي هو الركيزة الأساس في دروسنا هذه.

    1.   

    علم المعاني

    سبق أن ذكرنا أن عبد القاهر الجرجاني في كتابه دلائل الإعجاز حينما تكلم عن البلاغة كاد أن يقتصر على معاني النحو، التي سوف نعرفها بالتفصيل، وحينما جاء السكاكي حذف المضاف إليه وهو النحو، واكتفى بكلمة معاني، وأضاف إليها الألف واللام فأصبحت المعاني، فسماه علم المعاني، فهو إذاً علم معاني النحو،

    تعريف علم المعاني

    ولذلك يعرف علم المعاني بأنه: علم يعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق مقتضى الحال، يعني علم المعاني هو علم المسائل التي إذا عرفها الإنسان وطبقها على مقتضى الحال يكون قد أداها أداءً صحيحاً.

    إذاً: فالبلاغة جملةً وتفصيلاً: معرفة معاني الألفاظ، التي ينبغي أن يعرفها من حيث استعمالها وعدم استعمالها، متى يستعملها، ومتى لا يستعملها، متى يحذف ومتى لا يحذف، متى يذكر ذلك اللفظ، ومتى لا يذكره، متى يتوسع في المقام ومتى لا يتوسع، متى يقدم الجار والمجرور، متى يقول: إياك أعني، متى يقول للمخاطب: أنا لا أريد إلا أنت، حينما يريد أن يقول: أنا لا أذهب إلا إليك، وكان المقام مقام إيجاز واختصار، يقول إليك أذهب، هذا كله في القرآن، مثل قوله تعالى: إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:28]، إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:203]، تجد المفسرين يقولون: إليه لا إلى غيره، وانتهى الكلام، لو قال: تحشرون إليه يمكن أن يحتمل الكلام أنهم يحشرون إلى غيره مثلاً.

    كذلك حينما تريد أن تعبر بأنه ليس هنالك شاعر إلا المتنبي ماذا تقول؟ الشاعر المتنبي، وإذا أردت أن توضح أكثر ماذا تقول؟ إنما الشاعر المتنبي أو تقول: ما شاعر إلا المتنبي، كل هذا تعرفه في القصر، فإذا أردت أن تقول أن المتنبي لا يحسن غير الشعر تقول، ما المتنبي إلا شاعر، ولذلك يقولون: إنه قصر منصوص على صفة، وذلك قصر صفة على موصوف، هذا سوف نعرفه في باب القصر.

    كذلك حينما يكون هنالك حذف، يعني أنت تريد أن تجعل اللفظ عاماً حتى يذهب الإنسان في تقديره كل مذهب، أو حتى يصل إلى أنه لا يخرج عن هذا اللفظ أحد، مثلاً قول الله تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ [يونس:25]، يدعو الصحابة، يدعو المخاطبين في ذلك الزمان، يدعو الإنس، يدعو المكلفين كلهم من الإنس والجن، هنا سوف نعرفه في متعلقات الفعل، وحينما تبحث في التفسير تجد أنهم يقولون: إن المعنى: والله يدعو كل أحد إلى دار السلام، والله يدعو الجميع إلى دار السلام، يدعوهم إلى الجنة جميعاً، فلا يستثنى من ذلك أحدًا، لكن من أطاع دخل الجنة، ومن عصى فقد أبى.

    وهكذا أيضاً أحياناً هنالك شيء تستحيي من ذكره، فلا تلفظ به، وتكل السامع إلى فطنته، هو الذي يستطيع بفطنته أن يتوصل إلى ذلك المقصود، كأن يكون هنالك شيء يستحيا من ذكره وجاء في السياق، هل رأيت هذا؟ تقول: ما رأيته، ولا تذكره هو؛ لأنك تستبشع ذكره، ويمثلون على ذلك بحديث ضعيف، وهو قول عائشة: (ما رأيت منه ولا رأى مني)، المحذوف في (ما رأيت منه ولا رأى مني) العورة، قالوا: إنها حذفته لشناعة اللفظ يعني للتنزه عنه، إلا أن الحديث كما ذكرت لكم ضعيف، ولا يصلح شيء في الباب أيضاً.

    ظهور علم البلاغة وإيثار هذا المصطلح على علم الفصاحة

    متى ظهر علم البلاغة؟ ولماذا لم يطلق عليه علم الفصاحة؟

    اشتهرت البلاغة من أيام القزويني، لكن بالضبط لا يعرف أول من سماها البلاغة، ولماذا لم تلقب بالفصاحة مع أنها أشمل؛ لأن لفظ البلاغة أقوى، وعادةً من وصف بالبلاغة هو أقوى ممن وصف بالفصاحة؛ لأن الأصل في الفصاحة هو ذكر الألفاظ فصيحةً بلسان فصيح، أما البلاغة فهي الوصول إلى الهدف والمقصود، إذا كان الإنسان يصل إلى هدفه المطابق لمقتضى الحال، فإطلاق البلاغة على هذا العلم خير من إطلاق الفصاحة.

    هل الأفصح أن يقول: طبيعي أو طبعي؛ لأن في الكلام ورد لفظ طبيعي؟

    الجواب: هذه مسألة طويلة عريضة، الأفصح أن نقول: طبيعي، وليس كما قال بعض المصححين: إن الأفصح أن نقول: طبعي، صحيح أن ابن مالك قال:

    وفعلي في فعيلة التزم

    ولكن الصحيح أن كثيراً من الباحثين وجدوا أن النسبة إلى فعيلة في كلام العرب في كثير من الألفاظ، ووجد على ذلك أكثر من مائة شاهد، ما لم يكن اللفظ اسم قبيلة مشهورة فإن الأصل في النسبة تكون على إثبات الياء، على وزن فعيلة، فعيلي، كما قال الشاعر:

    ولست بنحوي يلوك لسانه ولكن سليقي أقول فأعرب

    سليقي، فنقول: صحيح، ونقول: طبيعي، ونقول: عقيدي، لكن لا نقول عقائدي؛ لأنه نسب إلى الجمع، إنما نقول: طبيعي ونقول: عقيدي وهكذا، وإن قلت: طبعي فقد وافقت القياس الذي ذكروه، لكن هنالك كثير من الأقيسة التي يدعيها النحويون، وأنتم تعلمون أن كثيراً من النحويين لم يكن لديه ورع، أو يرى أن هذا العلم لا يحتاج إلى ورع، فكانوا يضعون القواعد، ثم يجدون بعد ذلك أشياء شذت عن هذه القاعدة فيقولون: هذا شاذ، وتجدون بعد ذلك ألفاظا كثيرة تصل إلى عشرة عشرين ثلاثين، كيف نقول: إنها شاذة؟ وحتى في القرآن يعني عندنا في استحوذ هي في القياس استحاذ، وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ [الطلاق:4]، الأصل أن الحمل لا يجمع على أحمال هكذا يقولون، يعني أن القاعدة: أن اللفظ الذي يكون على زنة فعل لا يجمع على أفعال، إنما تجمع على زنة فعول أو جمع آخر، عندما تقول مثلاً: بحث وأبحاث لا، قل: بحوث، وهذا ليس بصحيح، فقد وجدوا هنالك ألفاظ كثيرة منها هذه الآية، لكن قالوا في هذه الآية: هذا اللفظ شاذ، (( وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ ))، وهذا جمع حَمل وليس جمع حِمل، طبعاً ليس كل فاعل، إذا كان صحيح العين ولم يكن أيضاً مضعفاً، بخلاف جد وأجداد، نعم.

    وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756593541