إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. مساعد الطيار
  5. عرض كتاب الإتقان
  6. عرض كتاب الإتقان (52) - النوع الثاني والخمسون في حقيقته ومجازه

عرض كتاب الإتقان (52) - النوع الثاني والخمسون في حقيقته ومجازهللشيخ : مساعد الطيار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الحقيقة والمجاز أسلوب من أساليب اللغة العربية التي هي توقيفية وأصل لجميع اللغات المشتقة منها، ويبقى الاختلاف بين العلماء حول إثبات المجاز في القرآن الكريم، وقد استدل المثبتون والنافون للمجاز بأدلة كثيرة.

    1.   

    المجاز في القرآن

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.

    طرح السيوطي رحمه الله تعالى في النوع الثاني والخمسين شيئاً مما يتعلق بالحقيقة والمجاز، وهو من مباحث علم البلاغة، وكما قلنا في هذه المباحث التي ستأتي كلها: إنها مرتبطة بمباحث علم البلاغة.

    الاختلاف في وقوع المجاز في القرآن

    وقوع الحقيقة لا خلاف فيه، وإنما الخلاف في المجاز هل هو واقع في القرآن أو لا؟

    وحكى أن المجاز هو قول الجمهور أي: إن المجاز واقع في القرآن، والخلاف في كونه واقع في اللغة هذا خلاف ضعيف، وإلا فالأصل وقوعه في اللغة، لكن هل وقع في القرآن أم لم يقع؟ هذا الذي وقع فيه الخلاف بين العلماء.

    ومن باب الفائدة ننتبه إلى أنه لا يلزم أن كل أسلوب عربي أن يكون موجوداً في القرآن. بخلاف العكس فكل أسلوب في القرآن فهو عربي.

    فالخلاف هنا ليس في كون المجاز موجوداً في اللغة أو ليس بموجود في اللغة، فالأصل أنه موجود في اللغة، والمخالفة في كونه موجوداً في اللغة مكابرة.

    تعريف المجاز

    ونحن نحتاج إلى أن نعرف ماهية المجاز، أي: كيف نحكم على هذا بأنه مجاز أو ليس بمجاز، وهذه قضية مرتبطة بالاصطلاح.

    لنأخذ مثالاً في ذلك: عندما نقول: اقرأ الكتاب. هل يتجه الذهن إلى غير الكتاب المعروف الذي يقرأ فيه الإنسان أياً كان نوع الكتاب؟ لا يتجه الذهن إلى غير ذلك، إذاً فالكتاب هو حقيقة في المكتوب الذي يكون إما في ورق وإما بين دفتين، فهذا هو الكتاب.

    هذا متعارف عليه وصار حقيقة، لا يمكن أن يأتي أحد ويقول: إن قولنا: اقرأ الكتاب. ليس هذا هو المراد به، فهذا نعده حقيقة.

    لو استعير لفظ الكتاب لأمر آخر، فسيكون فيه نقل؛ ولهذا فالنقل من شيء إلى شيء آخر هو الذي يعتبر مجازاً، فهذه قضية مهمة ننتبه لها؛ لكي نعرف ما هي المشكلة الحادثة بين القائلين بالمجاز والقائلين بنفي المجاز، أي: هل يوجد نقل للألفاظ من حقيقتها المعروفة إلى كناية أو استعارة في أمر آخر أم لا يوجد؟

    إذا تأملنا الكلام الدارج بيننا نجد بأنه كثير جداً، فهو متعاهد بيننا ومتعارف عليه أن كذا المراد به كذا، فأي نقل له إلى أمر آخر فهذا يعتبر مجازاً.

    مثال ذلك: عندما نقول: الثلاجة. إلى أين يتجه الذهن عندما تقول: عندي ثلاجة؟ إلى تلك الآلة المعروفة، هل يمكن أن ينتقل الذهن إلى أنك تريد صاحباً بليداً أو ولداً بليداً؟ لا يمكن أن يتجه، فعندما تقول: عندي ثلاجة. لا يتجه الذهن إلا إلى هذه الآلة المعروفة، فهي أول ما يتبادر إلى الذهن.

    فإذا قال قائل: ثلّج فيها لحماً. قال: لا. لا أقصد هذا، فهنا يكون خلل عند المتكلم بأنه لم يبين الواسطة للنقل من الحقيقة إلى المجاز.

    ففي الكلام الدارج، الأصل فيه أن يؤخذ على ظاهره، وظاهره هو الحقيقة المرادة به.

    في كثير من هذا الكلام ليس فيه مشكلة كبيرة، إنما المشكلة في الكلام القديم، أي: في كلام العرب، إذ كيف يمكن أن نثبت حقيقة الأمر من مجازه؟

    وهنا نقول: الاختلاف في أمثلة الحقيقة والمجاز لا يكسر قاعدة وجود المجاز. وهذه قاعدة ينتبه لها.

    فالاختلاف في الأمثلة لا يؤثر على الأصل، فنحن لا نريد أن نناقش: هل المجاز موجود أصلاً أو غير موجود؟ إذا كنا نقول: إن هذا النقل مجاز، فهذا اصطلاح، أي: أن نقل الكلمة من الأصل المتعارف عليه إلى أمر آخر فهو مجاز، إذاً المجاز موجود في اللغة وهو كثير، لكن ليس كثير على رأي ابن جني؛ لأن ابن جني جعل أغلب اللغة مجازاً، فنقول: المجاز كثير، لكن ليس إلى حد كبير جداً، بحيث أنه يجعل أغلب اللغة كما ذهب إليه ابن جني ، وهذا مذهب فاسد القول: بأن أغلب اللغة مجاز.

    الأصل في اللغة من حيث التوقيف والاجتهاد

    نأتي إلى مسألة مهمة جداً في هذا الأمر، وهي من القضايا التي يقال: إنها من عقد المجاز: من الذي يستطيع أن يقول: إن هذا الأمر هو الحقيقة الأولى؟

    نقول: هذا مرتبط بمسألة مهمة جداً وخطيرة، وهي: هل اللغة بتوقيف أو اللغة باستنباط واجتهاد؟ أي: هل وقّف الله سبحانه وتعالى آدم وبنيه على اللغة وهذه مسألة طويلة جداً، لكن لعلي أقتصر الفكرة اقتصاراً فيما بحثته ووصلت إليه: أن أصل اللغة توقيف قطعاً، وهذا يدل عليه الكتاب والسنة، ثم دخل بعد ذلك الاستعمال مع التوقيف.

    وهذا هو مشاهد عندنا الآن، أي: أن اللغة التي نتكلم بها حتى الدارجة، عندما نردها إلى الأصول الأولى سترجع إلى نفس الأصل.

    فمن باب الفائدة عندما تتأمل: اسأل أحد الأجداد ودعه يقص لك قصة، سيذكر أسماء وأشياء أنت لا تفقهها، فتقول له: يا جد! ما معنى كذا؟ هذه الآلة التي ذكرتها ما هي؟ ذكرت أنك شربت بكذا ما هو هذا؟ فيبدأ يصف لك ويصور؛ وليس عنده هذه الآلة ليريكها، لكن لو كانت الآلة موجودة ما احتاج هذا الوصف؛ لأنه متعارف فيما بيننا عليها.

    إذاً: إذا رجعنا إلى الأصل الأول، فأول من تكلم من البشر هو آدم عليه السلام، فمن الذي علم آدم وألهمه الكلام؟ الله سبحانه وتعالى، إذاً: أصل اللغة من هنا بدأ بالتوقيف، ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا [البقرة:31]، إذاً: فهذه هي بداية التعليم بتوقيف.

    وأيضاً فالرسول صلى الله عليه وسلم لما أخبرنا في الصحيح عن خبر قصة آدم وخلق آدم، وأن الله سبحانه وتعالى لما خلق آدم، فإن أول فعل حصل من آدم هو أنه عطس، فألهمه الله قوله: الحمد لله. فهذا إلهامات باللغة.

    أيضاً: ( الله سبحانه وتعالى قال له: اذهب وسلّم على أولئك النفر من الملائكة؛ فإنها تحيتك وتحية بنيك من بعدك، فقال آدم: السلام عليكم. قالوا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ).

    إذاً: هذه التحية الأصل أنها موجودة في بني آدم، كيف تعرف هذه التحية؟ بطريقين: إما بطريق النقل المتصل إلى آدم عليه السلام، وإما بطريق الوحي.

    فطريق النقل واضح عندنا أنه منقطع؛ لأن كثيراً من بني آدم نسوا هذه التحية التي قال عنها الله: ( إنها تحيتك وتحية بنيك من بعدك )، فانقطع عند كثير من بني آدم، لكن الوحي موجود، وكمال الوحي يظهر فيما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهي التحية التي تكلم بها آدم لما خلقه الله سبحانه وتعالى، وهي التي يحي بها المسلمون بعضهم بعضاً.

    واليهود لا زال عندهم جزء من هذه التحية، ومن باب الفائدة: اليهود يشينون السين شين، أي: يجعلون السين شيناً، فإذا جاء يقول: السلام. يقول: شلم. فهذا مما اتفقت فيه الشرائع، وهي التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال: ( إنها تحيتك وتحية بنيك من بعدك )، فأبناء إبراهيم عليه الصلاة والسلام كلهم أهل سلام، ولهذا لما دخل الملائكة عليه قالوا: (السلام).

    فالسلام تحية موجودة عند الأنبياء، مأخوذة بطريق الوحي، وهي التي قال عنها الله سبحانه وتعالى لآدم: ( تحيتك وتحية بنيك من بعدك )، واقرأ في القرآن تجد لفظة: (السلام) متكررة مع الأنبياء.

    فأصل اللغات التوقيف، هذه اللغة التي تكلم بها آدم عليه السلام لغة تحمل صفة مهمة جداً يجب أن ينتبه لها وهي المرونة في الاشتقاق؛ لأنا نعلم أن الأصل في الأسماء أنها لا تتغير، قد تتحور لكنها لا تتغير، فأحياناً نقول مثلاً: (طوني) وأحياناً نقول: توني. وهو علم واحد، لكن يتحور النطق هل ننطقها بالطاء أو بالتاء. الأسماء لا تتغير، لكن قد يصيبها شيء من التحوير فقط لا غير.

    وأهم اسم من الأسماء عندنا التي نطق بها آدم اسمه هو، وآدم عريق في العربية؛ لأنه إما أن يكون من الأدمة وهي الحرمة المائلة للسواد أو أن يكون من أديم الشيء الذي هو المختلط، وقد أخذ من أديم الأرض أي: من خلط من تراب الأرض. فهذا في النهاية هو مشتق.

    مثله كذلك لفظ الجلالة؛ لأن الله سبحانه وتعالى ألهمه كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم قال له عندما عطس: ( الحمد لله )، والأسماء لا تتغير وإن كان يصيبها التحور، فاسم الجلالة نطق به آدم وهو الذي ننطق به اليوم كما هو.

    فهذه اللغة الشريفة التي عُلِّمها آدم لغة قابلة للاشتقاق، استمرت هذه اللغة في بنيه ونشز عنها بعض بنيه لأسباب ليس هذا مجال ذكرها، لكن المقصد أن هذه اللغة التي كان يتكلم بها آدم، وهي لغة قابلة للاشتقاق والتطور، استمرت هذه اللغة بالاشتقاق والتطور، واحتفظت ببعض الأصول والكلام الذي قاله آدم عليه السلام في السماء وفي الأرض، وزاد عليها أشياء كثيرة جداً، حتى نزل القرآن، وعندما نزل القرآن توقفت اللغة فترة من الزمن، وهي اللغة التي تسمى المعيارية.. اللغة التي يحتكم إليها ويوزن بها لغة القرآن، هذه اللغة تسمى عند اللغويين اللغة المعيارية، أي: التي يوزن بها الكلام.

    فإذا أردنا أن نقول: لهجة بني فلان ينطقون بكذا، وهذه لها أصل في العربية، هو كلامهم عربي لكننا نقول: نزنها باللغة المعيارية التي نزل بها القرآن، فصارت هذه اللغة المعيارية هي مجال الوزن لما بعدها مما جاء من اللهجات، ولما قبلها مما هو من اللهجات القديمة.

    ولو كنا نتصور أن القرآن لم ينزل فاللغة تبقى بنفس التصور، لكن في نفس البنية الاشتقاقية الموجودة، والبنية الاشتقاقية لا زالت موجودة إلى اليوم، ولكن صيغ الاشتقاق قد تختلف عن اللغة المعيارية، أي: صيغ الاشتقاق عند العامة سواءً العامة في جزيرة العرب بجميع أطيافها -اليمن والبحرين وقطر وعمان والسعودية، وكذلك في العراق والشام وفي مصر وفي المغرب العربي كله-، كلهم يتكلمون باللغة العربية، واللهجات الدارجة عندهم لهجات فيها اشتقاق، بعضها يكون مبني على اشتقاقات من أصول عربية وبعضها قد يكون من غير أصول عربية، ونحن نتكلم عما يكون من أصول عربية.

    1.   

    تأثير تطور الكلام على الحكم بالحقيقة والمجاز

    إذاً: تطور الكلام يؤثر على الحكم بالحقيقة والمجاز، فحينما نقول: أن القرآن أصله من مادة قرأ، لكن هل أصل (قرأ) بمعنى تلا أو قرأ بمعنى جمع؟ الأصل: جمع؛ لأن التالي يجمع الحرف إلى الحرف والكلمة إلى الكلمة والجملة إلى الجملة، فالأصل الأول هو الجمع، فعندما نتكلم عن الحقيقة والمجاز ننظر ما هو الأصل الأول الذي انبثقت منه هذه الكلمات، وهو ما فعله ابن فارس وكذلك ما يفعله الراغب الأصفهاني في غريب القرآن.

    فهذا أصل يمكن أن يتفق على كثير منه، لكن ليس هذا هو الأصل فيما يستخدم الحقيقة والمجاز، والأصل هو الرجوع إلى كثرة الاستعمال.

    نأخذ مثال آخر: الثياب عندما أقول: لبست الثوب، ماذا تفهم من (لبست الثوب)؟ أي: الثوب الملبوس، فلان ثيابه نظيفة، فيتجه الذهن عندما تقول: فلان ثيابه نظيفة إلى الثياب الملبوسة، لكن قد تستخدم فلان ثيابه نظيفة أي: غير مدنس، أي: عمله طاهر لا دنس فيه، وقد فُسّر به قوله تعالى: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4]، من يرى المجاز يقول: تفسير الثياب بالعمل هذا من باب المجاز، وتفسير الثياب بالثياب الملبوسة هذا من باب الحقيقة، ويشهد لمن فسّر الثياب بالثياب الملبوسة القراءة الشاذة (وثيابك فقصّر)، ومن قال بأن المراد عملك صحيح، يدور السؤال التالي: هل عملك حقيقة أو مجاز؟ هذا الذي يقع فيه الخلاف.

    لو أردنا أن نرجع إلى أصل مادة الثياب التي هي مادة ثوب؛ فإن معنى الثوب الذي هو الرجوع إلى الحالة الأولى، فهل أريد أن أرجع إلى أصل الاشتقاق أو نقول: الثياب المراد بها الملبوسة؟

    القصد من ذلك: أن قضية تحليل الحقيقة والمجاز لا شك أنها قضية عسيرة، لكن الذي عليه عامة اللغويين هو النظر إلى الاستعمال، أي: كثرة الاستعمال، فأنا لا أنظر إلى أصل هذه الكلمة التي انبثقت منه وهو أصل الاشتقاق، وإنما أنظر إلى ما هو استخدام هذه الكلمة عند العرب؟ عندما تُطلق هذه اللفظة فإنه يتجه الذهن إلى شيء معيّن، هذا هو في الغالب ما يقال عنه الحقيقة. ثم ما عدا ذلك يسمى مجازاً، فلا ننتقل عن الحقيقة إلى المجاز إلا بقرينة.

    وكما ذكرنا أنه عندما يقول القائل: عندي ثلاجة، ولا يبين القرينة يكون قصوراً في كلامه، لكن إذا احتمل الكلام الحقيقة والمجاز فإنه لا يكون من باب القصور كما سيأتي بعد قليل.

    فعندما ذكر ما يتعلق بقضية إنكار المجاز، لم يذكر كل ما يتعلق بالمجاز، وهناك كتب للمثبتين للمجاز وكتب للنافين للمجاز، كتب طويلة لكن نحاول نختصر على ما يسمح به المقام.

    بعض الشبه الموجودة في المجاز

    من الشبه الموجودة في المجاز أنهم يقولون: المجاز أخو الكذب. ولا شك أن القرآن منزه عن الكذب.

    وكذلك يقولون: إن المتكلم لا يعدل إلى المجاز إلا إذا ضاقت به الحقيقة فيستعير، وهاتان الشبهتان غير دقيقتين، أولاً: أنه لا يلزم من المجاز الكذب، أي: إن قصور الوصول إلى معرفة المجاز لا يلزم منه الكذب.

    بمعنى: أنه عندما يقول قائل: رأيت أسداً يخطب. فلا يأتي واحد يقول له: كذبت؛ الأسد لا يتكلم؟ فهذا من باب المماحكة وليس مما يقال عنه: إنه رد صحيح؛ لأنه عندما يقول: رأيت أسداً يخطب، هو أراد أن يصفه بالشجاعة وبالفصاحة، فنعرف أن الأسد لا يتكلم، فلما قال: (يخطب) هذه قرينة تدل على أنه أراد رجلاً يشبه الأسد في قوته، وهو كذلك فصيح، فإذاً هناك قرينة، لكن لو يقول: رأيت أسداً. لا يمكن أن يتجه الذهن إلى أسد أنه رجل، بل يتجه إلى أن المراد به الأسد المعروف، لكن عندما قال: (يخطب)، هذه نقلته القرينة من الحقيقة إلى المجاز.

    فدعوى الكذب هذه غير دقيقة إطلاقاً، وأنا أرى أن من قال: إن المجاز يجوز تكذيبه، هذا ليس بصحيح ولا بدقيق، ما دام يوجد قرينة فإنه لا يقع التكذيب، وإنما يكون قصور فيمن سمع الكلام ولم يفهمه.

    القضية الثانية التي ذكروها: أنه لا يعدل إليه إلا إذا ضاقت به الحقيقة، هذا ليس بصحيح أيضاً؛ لأن المجاز يعتبر من البلاغة ومن محاسن الكلام، فكيف تكون البلاغة ومحاسن الكلام عيٌّ؟ ليست بعي أبداً، وإنما نقول: إذا استخدم المجاز في مكانه فلا شك أنه في مكانه اللائق خصوصاً إذا كان في القرآن أو في حديث النبي صلى الله عليه وسلم.

    أما في الكلام الدارج بين الناس، في إشعار الناس.. فقد يقال: إن الاعتراض على الشعراء ممكن، والخلاف معهم ممكن، أما في كلام الله عندما يستخدم فلا. هذا على من يثبت المجاز.

    الصحيح في وجود المجاز في القرآن

    ثم ذكر بعد ذلك من أفرده بالتأليف، وقبل ذلك نناقش: هل يوجد في القرآن مجاز أو لا؟

    الصحيح عندي أنه يوجد في القرآن مجاز، لكن لا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا بالقرينة، فإذاً الخلاف الآن هل هو في المجاز أو في القرينة؟ في القرينة، بمعنى أنه عندما يأتي من يثبت المجاز ويعمل المجاز في أسماء الله، كالمعتزلة، أو يعمل المجاز في كثير من صفات الله، كالأشاعرة والماتريدية وغيرهم من أهل الكلام.

    فخلافنا معهم ليس في إثبات المجاز وعدمه وإنما هو في إثبات قرينة المجاز. على سبيل المثال: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، أينما ذهب صاحب المجاز -الذي يرى وقوع المجاز- في صفات الله، فإنه يقع في عيٍّ في مثل هذا المثال، ولهذا من أكبر القائلين بالمجاز الزمخشري وقد وقع في إشكال في هذه الآية، اعترض على من فسّر الآية بمجاز ثم فسره هو بمجاز آخر.

    ولهذا يتمحلون في مثل قوله: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] بتمحلات كثيرة: أنه نعمتان: نعمة الدنيا ونعمة الآخرة. فاليد بمعنى النعمة موجود في كلام العرب، لكن من أين نأخذ قرينة أن تثنية اليد هنا المراد بها نعمة الدنيا ونعمة الآخرة؟ أين هو من سياق الآية، هل سياق الآية يدل على هذا؟

    فالقرينة هنا انكسرت، فلو أثبتنا المجاز فلا غضاضة في هذا الأمر، وإنما يقع الخلاف بين من يرى المجاز في صفات الله ومن لا يراه في قضية القرينة.

    فخلافنا في قضية القرينة وليس في قضية المجاز، فينتبه لهذا. فمن أثبت المجاز من أهل السنة والمثبتون للمجاز من أهل السنة عدد ليس بالقليل من أوائل من أثبت المجاز من أهل السنة الإمام البخاري ، المتوفي سنة 256هـ، ولهذا نقول: إنه عرف المجاز قبله؛ لأن الإمام البخاري يتحدث في كتاب خلق أفعال العباد له فيقول: وقال بعضهم -أي: بعض العلماء-: إن أكثر مغاليط الناس من هذه الأوجه حين لم يعرفوا المجاز من التحقيق؛ خلافاً لمن قال من العلماء المحررين إن المجاز بهذا التعريف -أي: المجاز مقابل الحقيقة- لم يعرف إلا بعد القرن الثالث، وإنما الصحيح أن أهل السنة كانوا يعرفونه. وهذا مثال صريح وواضح في كتاب خلق أفعال العباد للإمام البخاري.

    يقول: لم يعرفوا المجاز من التحقيق، ولا الفعل من المفعول، ولا الوصف من الصفة، ولم يعرفوا الكذب لم صار كذباً ولا الصدق لم صار صدقاً.

    فأما بيان المجاز من التحقيق فمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم للفرس: ( وجدته بحراً ) وهذا الذي يحور فيما بين الناس وتحقيقه: إن مشيه حسن. ومثل قول القائل: علم الله معنا وفينا، وأنا في علم الله. إنما المراد من ذلك: أن الله يعلمنا وهو التحقيق. ومثل قول القائل: النهر يجري، ومعناه: أن الماء يجري. وهو التحقيق. وأشباهه في اللغات كثيرة.

    ثم ذكر بسنده الحديث الذي ذكره قال: عن أنس بن مالك: ( كان فزع بالمدينة فاستعار النبي صلى الله عليه وسلم فرساً من أبي طلحة يقال له المندوب فركب، فلما رجع قال: ما رأينا من شيء وإن وجدناه لبحراً )، يقصد الفرس. هذا النص واضح جداً أنه في المجاز الذي يقابل الحقيقة.

    فالذي نريد أن نقوله: إن إثبات المجاز ليس هو المشكلة، وإنما الكلام في قضية القرينة، هل ما يذكره أهل الكلام في تأويل أسماء الله أو صفاته صحيح في القرينة أو لا؟ ولهذا نلاحظ أن من ركب المجاز -وهم علماء أفاضل وليسوا بمعصومين- مثل العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى في كتابه مجاز القرآن، وقع في كثير من الأغلاط بسبب المبالغة في المجاز، فوقع في أشياء كثيرة زعمها من المجاز وليست من المجاز، فوقوع مثله في هذا لا يعني ذلك أن المجاز ليس بصحيح في أصله.

    ونقصد من ذلك أنه حينما يعترض على مثل هذا العالم أو غيره من العلماء في إثباتهم لمجازات كثيرة، فإن الأمر في هذا سهل؛ لأنه -كما قيل-: كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر عليه الصلاة والسلام.

    كذلك الذين يبالغون في نفي المجاز لهم وجه في ذلك، ولكن إثباته وإن كان فيه على قول من يقول بنفيه صعوبة، فكذلك نفيه على قول من يقول به أيضاً فيه صعوبة، فإذاً المسألة تكاد تكون قوية، ولولا مبالغة الشيخين ابن تيمية و ابن القيم في نفي المجاز ما صار المجاز مشكلاً عند من جاء بعدهم، ولكن نقول من باب التحقيق العلمي: إنه يجب أن ننظر إلى الأقوال وليس إلى الرجال.

    ودائماً إذا نوقش هذا الموضوع تجد أن بعض العلماء يعترض فيقول: ولكن شيخ الإسلام قال كذا. وأنا لا أعده من الأسلوب العلمي؛ لأن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى قال: إنه لم يعرف الحقيقة والمجاز إلا بعد المائة الثالثة.

    وهذا النص بين أيديكم من إمام من أئمة أهل السنة في كتاب من أوسع كتبه انتشاراً وهو خلق أفعال العباد، وقد نص على الحقيقة والمجاز وهو قبل هذه الفترة التي ذكر.

    المقصد من ذلك: أن يكون عندنا نظر وتحرير في مثل هذه المسائل، لكن لا يعني ذلك أنه إذا أتانا آت وقال: كلامكم هذا كله لا أقبله، وأنا أقول بأنه لا يوجد مجاز، نقول: لك قولك ولا إشكال في هذا، لكن المسألة مسألة علمية يجب أن ينتبه إلى هذا.

    فلا يعاب على من أثبت المجاز إلا إذا وقع في أخطاء في التأويل، كما لا يعاب على من نفى المجاز أيضاً؛ لأن هذا هو سبيل العلم وهي قضية مرتبطة بالاجتهاد.

    وذكرنا كلام البخاري لكي ينتبه إلى أننا إذا كنا سنقول: قال فلان، سنقول: قال فلان. فإذاً المسألة ليست بقول فلان أو فلان، وإنما المسألة في نفس القضية العلمية، صحيح أنه يستأنس بأقوال هؤلاء، ولكن ليسوا ممن يحتج بهم وإنما يحتج لهم -هذه قاعدة العلم-، إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا جاء أيضاً إجماع فهذه لا شك في ذلك.

    ذكرت هذا لأنني أعلم بأنه سيكون هناك شيء من الاعتراض على مثل هذا الأمر، لكن خذوا الأمر بأنه مسألة علمية قابلة للأخذ والعطاء.

    هذا ما يتعلق بقضية المجاز، وهو مهم جداً فيما يتعلق بهذا، وكل ما ذكره الإمام في النهاية مرتبط بأنواع المجاز وما يقع فيه المجاز، ولعل هذا التحرير الموجز يكفينا عن متابعة السيوطي في أمثلته التي ذكر، ويمكن أن يرجع في ذلك إلى الكتب التي تكلمت عن المجاز.

    1.   

    الأسئلة

    رأي السيوطي في المجاز

    السؤال: هل السيوطي يرى المجاز؟

    الجواب: نعم. السيوطي يرى المجاز، والآن أثبت المجاز المقابل للحقيقة؛ لأن كلامنا الآن عن المجاز مقابل الحقيقة، وشيخ الإسلام يرى أن المجاز مقابل الحقيقة لم يُعرف إلا بعد المائة الثالثة، ليست القضية في المجاز في القرآن.

    ولا شك أن له أثراً في التفسير، وما دام له أثر في التفسير فلا شك أنه من علم التفسير، وكذلك من علوم القرآن.

    كون المجاز عقلياً أم نقلياً

    السؤال: هل هذا عقلي أو نقلي؟

    الجواب: عقلي أصله النقل.

    أدلة منكري المجاز

    السؤال: [ ما هي أدلة منكري المجاز؟ ]

    الجواب: منكروا المجاز يرون أنها حقيقة، فالقرية لا تسمى قرية إلا إذا كان فيها أهلها، في قوله: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف:82] أي: أهل القرية، يقولون: لا تسمى قرية إلا إذا كان فيها ساكن.

    وهناك إجابات كثيرة، وبعضهم يقول: هذا توسع في العربية. وهو أسلوب عربي. وعندما نقول: توسع في العربية وأسلوب عربي، هذا صار خلاف في المصطلح وليس خلاف في حقيقة الأمر.

    القول بوجود المجاز في القرآن

    السؤال: [ هل الصحيح القول بالمجاز أم إنكار ذلك؟ ]

    الجواب: إذاً نقول: إن القول بالمجاز هو سائغ ليس فيه إشكال، وهو بلا شك من ناحية التفسير ومن ناحية فهم المعاني أريح من القول بعدم المجاز، لكن الإشكالية جاءت من كونه أن أهل التأويل على طبقاتهم دخلوا من باب المجاز، أي: ركبوا المجاز في التأويل.

    ولهذا فالفلاسفة مثلاً كـابن رشد الحفيد و ابن سينا دخلوا من هذا الباب، وهو باب المجاز، فجعلوا حتى أخبار المعاد من باب المجاز، وهذه من المشكلات بلا شك، فركبوا ما ركبه المتكلمون في أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته، أي: رتبوا هذا الأمر على ما فعله المتكلمون، و ابن رشد له كلام واضح وصريح جداً بأنه اعتمد على التأويل الذي اعتمد عليه الأشاعرة في نفي أخبار المعاد، فجعل شيئاً يجب تأويله شيئاً متردداً، وشيئاً يجوز، فالذي يجوز ذكره، وهو أخبار المعاد، فمثلاً: الصراط والعذاب والجنة والنار.. فهذا أدخل فيه جواز التأويل، وهو الذي قال به ابن سينا أنه من باب التخييل، وأنها ليست حقيقة.

    فقضية المجاز والتأويل لا شك أنها قضية خطيرة، لكن يجب أن يكون عند من يقول بالمجاز أصول واضحة جداً؛ لكي يعرف ما يدخل المجاز وما لا يدخله.

    سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755907056