إسلام ويب

أهمية الصلاةللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الوعظ بالصلاة سنة نبوية؛ لأن بالصلاة سعادة الدنيا والآخرة، والناس -كما لا يخفى- في هذه الصلاة بين محسن ومسيء، ومن أعظم الإحسان فيها حضور القلب أثناءها، والملاحظ أن هذا الإحسان قليل بين الناس.

    1.   

    منزلة الصلاة

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    إحسان إقامة الصلاة يهون القيام بين يدي الله في الآخرة

    إخوتي في الله! من مواعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه ما وعظهم به في شأن الصلاة.

    وقد بوب الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: باب عظة الإمام الناس في شأن الصلاة، وذكر فيه حديثاً عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أقيموا الركوع والسجود، فوالله إني لأراكم من بعد ظهري كما أراكم بين يدي ).

    فهذه الموعظة البليغة قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات على المنبر يعظ الناس في شأن الصلاة، وهي موعظة الله لنبيه، فقد وعظه الله، وأمره بأن يحسن القيام بين يديه بالليل والنهار.

    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: للإنسان موقفان: موقف في صلاته، وموقف بين يدي الله يوم لقائه، فمن أحسن هذا الموقف في الدنيا هون عليه الموقف الآخر، ومن تهاون في هذا الموقف شدد عليه في الموقف الآخر، ثم استدل بقول الله سبحانه وتعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا * إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا [الإنسان:26-27].

    فالناس صنفان: صنف يقف بين يدي الله في الدنيا فيهون على نفسه الموقف الثقيل، وصنف آخر معرض عن الموقف في هذه الدنيا، لكنه يدخر لنفسه العناء والمشقة، فلا تكن من الصنف الثاني، وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا * إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا [الإنسان:26-27].

    فاليوم الثقيل الوقوف فيه يهون على أهل الصلاة، فأهل الصلاة آمنون، لكن ليسوا جميع المصلين، فالمصلون أصناف.

    فالصلاة وما لها من أثر في حياة المسلم العاجلة والآجلة تستحق أن يكرر الحديث عنها على الدوام، وهذا دأب القرآن، فالقرآن يعيد ويثني الحديث عن الصلاة، مرة أمراً بها، ومرةً مدحاً للخاشعين فيها وثناءً عليهم، ومرةً ذكراً لفوائدها وثمارها.

    حقيقة كون الصلاة عماد الدين

    الصلاة لم تكن عماد الدين لمجرد الحركات والكلمات، يا لها من مهمة سهلة لو كان عمود هذا الدين العظيم أن ينحني الإنسان ويسقط على الأرض ثم يقف لمدة دقائق يردد كلمات، لو كانت هذه الأعمال الظاهرة هي الصلاة لما استحقت كل هذه المنزلة، فهي عماد الإسلام، وهي الحد بين المؤمن والكافر، وهي كما أخبرنا الله في كتابه، وأخبرنا بها رسوله صلى الله عليه وسلم في صحيح سنته عليها تدور الخيرات، وهي مفتاح الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة، فليست قطعاً هذه الأعمال الظاهرة فقط.

    في الصحيحين من حديث عثمان رضي الله تعالى عنه، ويروي الحديث خادمه ومولاه حمران قال: ( دعا عثمانبماء، فأفرغ من الإناء على كفيه ثلاثاً فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء فأخذ ثلاثاً فمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يديه إلى المرفقين ثلاثاً، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه إلى الكعبين ثلاثاً، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه ).

    هذه الذنوب السابقة يمحوها الله عز وجل بركعتين، لكن ليست أي ركعات، ففي الحديث: (ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه).

    الصلاة التي أرادها الله ليست مجرد الحركات، والألفاظ التي تقال، روح الصلاة التي بها حركتها، وبها حياتها، هي الحضور والخشوع فيها، وإتمامها على الوجه الذي يريده الله، وهذه موعظة الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أقيموا الركوع والسجود )، يقول هذا الكلام لأصحابه، لخيرة هذه الأمة بعد نبيها، ثم يحلف لهم يميناً: ( فوالله إني لأراكم من بعد ظهري، كما أراكم بين يدي )، وفي هذا تأديب بليغ لهذه الأمة:

    الأدب الأول: أنه يقول لهم عليه الصلاة والسلام: كما أنكم لا تقصرون في هذه الصلاة إذا صليتم وأنا أنظر إليكم، بل تحسنون هذه الصلاة، وتؤدونها على الوجه الذي ينبغي إذا صليتم بين يدي، إذا صليتم وأنا أنظر إليكم، وأنت أيها المصلي تخيل نفسك أنك تصلي ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليك، كيف ستصلي هذه الصلاة؟ ألا يستحي الواحد منا حين يصلي وأمامه شخص آخر ينظر إليه، يستحي أن يقلب بصره يميناً وشمالاً، وأعلى وأسفل، ويستحي أن ينزل ويصعد بحركات لا سكون فيها ولا خشوع، يستحي من نظر هذا الإنسان، فكيف إذا كان الناظر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! تخيل نفسك أنك تصلي ورسول الله يزن لك صلاتك؛ ليحكم على هذه الصلاة؟ وما مدى مناسبتها وموافقتها لشرعه؟ تخيل هذا! الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لهم: (كما أنكم تحسنون الصلاة بين يدي فأحسنوها من وراء ظهري، فإني أنظر إليكم من وراءي كما أنظر إليكم بين يدي )، وهذا من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الله أعطاه القدرة على ذلك، والله على كل شيء قدير، فكان يرى المصلي وراءه، كما يراه أمامه.

    ثم هناك أدب آخر يرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم: وهو أنك إذا كنت ستحسن الصلاة عندما تستشعر أن بشراً ينظر إليك، كائناً من كان هذا البشر، رسول الله أو دونه، إذا كنت ستحسن الصلاة، وستراعي أحكامها، وتقيم خشوعها وركوعها إذا كان إنسان ينظر إليك، فتمثل نفسك دائماً، وتيقن دائماً أن الله عز وجل ينظر إليك على الدوام، كيف تصلي هذه الصلاة حين تقف بين يدي الله؟ المصلي يناجي ربه واقفاً بين يدي الله، وكم هي قلة الأدب حين يقف المصلي يناجي ربه، يكلم ربه، ويحادث ربه، وقلبه منصرف عن هذا الحديث، يا ترى هل هذه مناجاة؟! وهل هذا وقوف بين يدي العظيم سبحانه وتعالى؟! هل ذلك مما يليق بشأن الصلاة؟

    أقسام الناس تجاه الصلاة

    الصلاة أيها الأحباب! الناس ينقسمون فيها وبسببها إلى أشقياء وسعداء، فأناس يرتفعون بها إلى أعلى عليين، وأناس يسقطون بها وبسببها إلى أسفل سافلين، وكل ذلك بسبب ما تقوم به قلوبهم من أحوال في الصلاة.

    ما هي الصلاة؟ روح الصلاة الحضور فيها، إذا حصل هذا آتت الصلاة ثمرتها على الوجه الذي ينبغي.

    في صحيح مسلم يقول عليه الصلاة والسلام: ( ما من امرئٍ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها، وخشوعها، وركوعها، إلا كانت كفارة لما قبلها، وذلك الدهر كله )، فالمرء المسلم مطالب بهذه الوظائف إذا حضرت الصلاة المكتوبة، مطالب بأن يحسن وضوءها، ويحسن خشوعها، ويحسن ركوعها، وإلا فهو محل للوعظ والنصيحة، وإذا كان كذلك فكلنا إذاً محل لهذه الموعظة، كلنا إذاً محل لهذه النصيحة الداعية إلى القيام بالصلاة على الوجه الذي أراده الله قبل أن يندم الإنسان حين لا ينفع الندم.

    فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يوجه مواعظ عديدة للصحابة في شأن الصلاة، ودواوين السنة شاهدة بذلك، مرة صلى رجل وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتفاجئوا برسول الله يصعد المنبر ويقول: ( يا فلان! ما منعك أن تحسن صلاتك؟ ثم قال عليه الصلاة والسلام: ألا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي؟ ) ألا ينظر الواحد منا إلى صلاته إذا صلاها كيف صلاها؟ كيف أداها؟ حاسب نفسك على الصلاة اليوم قبل أن تحاسب عليها غداً، (ألا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي؟ فإنما يصلي لنفسه)، أنت تصلي لنفسك، وهذه الصلاة ستوزن، وهي أول ما يوزن، فإن ثقلت بها الموازين، وإلا فقد خاب صاحبها وخسر، هكذا يقول عليه الصلاة والسلام: ( أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر )، خيبة أي خيبة، وخسران وأي خسران حينما توزن هذه الصلاة، أنت اليوم لا تزال في المهلة، أنت اليوم لا تزال في زمن الإمكان، في زمن التدارك والإصلاح، زن صلاتك، حاسب نفسك في صلاتك، انظر في صلاتك.

    ألا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي؟ فإنما يصلي لنفسه، هذه الصلاة قد لا تغني عن صاحبها شيئاً، كما قال عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة منها قوله عليه الصلاة والسلام: ( رب مصلٍ لا خلاق له )، ليس له نصيب عند الله، فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5]، وذكر الرجل يصلي ستين سنة ليس له من صلاته شيء، قال: ( لا يتقبل الله منه صلاة )، ستين سنة يصلي ثم لا يتقبل الله عز وجل منه شيئاً، يتوهم أنه من أهل الصلاة، فإذا نصبت الموازين رأى أنه من الهالكين بسبب صلاته، فالصلاة قد تكون سبباً لعقاب الإنسان حين لا يقدرها حق قدرها، حين لا يتقي الله عز وجل فيها، فيؤديها كما أرادها الله عز وجل منه، أو قريباً من ذلك.

    لب الصلاة، وروح الصلاة إتمام صورتها الظاهرة، وإتمام صورتها الباطنة، الحضور والخشوع فيها، وقد قال عليه الصلاة والسلام لمن لا يقيم الصورة الظاهرة: ( ارجع فصل، فإنك لم تصل ) ثلاث مرات وهو يقول له هذه العبارة: وفي بعض الروايات: ( لو مات على هذه الحال مات على غير ملة أبي القاسم ).

    والصورة الباطنة يقول فيها ابن عباس رضي الله تعالى عنه: لا يكتب للمرء من صلاته إلا ما عقل منها، أي: ما حضر عقله فيها، فبقدر حضور قلبه وفكره في الصلاة ذاك هو الذي يكتب له من الصلاة، وبعد ذلك كل واحد يزن نفسه ويرى مقدار حضوره، وكيف يؤدي هذه الصلاة.

    المعاني الستة التي تجعل الصلاة كاملة

    لب الصلاة الحضور فيها، والحضور ليس بالأمر الهين، العلماء يقولون: الصلاة فيها ستة معانٍ يعني: الصلاة الكاملة، صلاة أولياء الله، صلاة المقربين، فيها ستة معانٍ، إذا استكملت هذه المعاني الستة كانت هذه الصلاة أوسع الأبواب المدخلة إلى رضوان الله:

    المرتبة الأولى: حضور القلب في الصلاة، يحضر وهو يدري ما يقول.

    المرتبة الثانية: التفهم، أن يفهم الإنسان ويتفهم الكلمات التي يقولها، والحركات التي يؤديها.

    المرتبة الثالثة: التعظيم لمن هو واقف بين يديه، وهذه طبيعة للإنسان، فالإنسان قد يخاطب شخصاً آخر، وهو حاضر الذهن، حاضر القلب، ويفهم أيضاً معنى الكلام الذي يقوله له؛ لأنه يريد أن يوصل إليه معانٍ ورسائل، لكنه غير معظم له، يحدث زوجته، ويحدث ولده، ويحدث صاحبه، ويحدث أباه وأمه، وهو حاضر الذهن، وهو يدري معاني الكلام الذي يقوله، لكنه لا يعظم هذا الإنسان الذي يحدثه، والصلاة ليست كذلك، الصلاة حضور وفهم للكلام الذي يقال، وأيضاً تعظيم لله، والتعظيم: الشعور بحقارة نفسك، وعظمة الله عز وجل الذي تحدثه.

    المرتبة الرابعة: الخشية، والخوف الناشئ عن العلم بالله تعالى، والعلم بصفاته، والعلم بجلاله وكبريائه وقدسيته، فالعلم بحقه سبحانه وتعالى يورث في القلب الخوف من الله، وأن الإنسان لا يعطي هذا المقام حقه.

    المرتبة الخامسة وهي أعلى من الخشية: الرجاء والطمع إذا ما أدى الصلاة على هذا الوصف، فيطمع فيما آتاه الله عز وجل المصلين، وما رتبه من الأجور على هذه الفريضة.

    المرتبة السادسة وهي أعلى المقامات: الحياء، والحياء من الله أن يستشعر الإنسان بأنه مهما عمل فإنه لن يوفي الله حقه، ولن يعطي الله عز وجل فرضه، مهما فعل فإنه لن يقوم بالواجب على الوجه الذي ينبغي، فيستشعر الخجل من التقصير في حق صاحب الحق، وهذا هو الحياء، فالحياء خلق يمنع من التقصير في حق صاحب الحق، يشعر الإنسان بأنه مقصر، وأنه لم يؤد الحق كما ينبغي، فيشعر بالخجل، وإمام المصلين وسيد المرسلين كان إذا انصرف من صلاته يقول فور السلام مباشرة: أستغفر الله.. أستغفر الله.. أستغفر الله، وما هذا إلا شعور منه بأنه مهما فعل المصلي ومهما أحسن العابد فإنه لن يوفي الصلاة حقها.

    فهذا المقام الكامل للمصلين، وهذه هي المقامات الستة في الصلاة.

    ونحن نتحدث عن أنفسنا أيها الإخوان! في المقام الأول والثاني، مقام الحضور، ومقام الفهم، فحين نقول: يجب أن يكون الإنسان حاضر القلب، مستوعباً مدركاً معاني الكلمات التي يقولها ويرددها، فمعنى ذلك أن يكون من أهل الصلاة على الحقيقة، لا يكون ممن يقيم حركات ويتحرك بتصرفات لا تؤتي ثمارها التي رتبها الله عز وجل على هذه الصلاة.

    فالخشوع في الصلاة هو العلم المفقود، والجزء المفقود في حياتنا، ليس في صلاتنا فقط، وإنما في سائر عباداتنا، وهي علامة من علامات نبينا صلى الله عليه وسلم، ودلالة من دلائل نبوته، فقد أخبر بأن الخشوع يرفع من الناس شيئاً فشيئاً حيث قال: ( حتى تدخل المسجد الجامع فلا ترى فيه خاشعاً).

    ولنا أن نتفكر في هذه الكلمة العظيمة: (المسجد الجامع) الذي اجتمع الناس فيه لصلاة الجمعة، المسجد الجامع الذي يصلي فيه الناس الأعياد، قد اجتمعت جمعات كبيرة، ثم يقول: ( لا ترى فيهم خاشعاً )، ارتفع الخشوع، ونحن بأمس الحاجة أن نجاهد أنفسنا لتحصيل هذا الخشوع؛ لأنه روح صلاتنا التي لا حياة لها إلا به، قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2]، فالفلاح مرتب على هذا الخشوع، والفوز والنجاة مرتب على حضور النفس، ولذلك قال: ( فصلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه)، كيف نحصل هذا الخشوع؟ كيف نجاهد أنفسنا لنخشع في صلاتنا؟ هذا ما نتحدث عنه في الخطبة الثانية.

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

    1.   

    أسباب الخشوع في الصلاة

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    استحضار أهمية الصلاة

    إخوتي في الله! الخشوع له أسباب: الحضور في الصلاة، والفهم لمعاني كلمات الصلاة، فحضور القلب له أسباب معينة أهمها: أن يعلم الإنسان بأن القلب يحضر في الأمر الذي يهمه، الأمر الذي تهتم به، الأمر الذي يعنيك، الأمر الذي تشعر بخطره، وتشعر بعواقبه ونتائجه قلبك يحضر فيه لا محالة، وإذا كان الأمر لا يهمك، وكان الأمر لا يعنيك، وكنت لا تدري عواقب ما أنت فيه، فإنك عبثاً تحاول إحضار القلب في شيء ترى أنه ليس لزاماً عليك أن يحضر فيه.

    الصلاة هل هي أمر مهم لك؟ هذا هو مناط إحضار القلب، فإذا حضر الإنسان في موقف عظيم بالنسبة له، كما يمثل العلماء بحضور الإنسان البسيط الفقير القروي المسكين مجلس الملك، ولك أن تتصور هذا المشهد، إذا أحضر الإنسان الفقير المسكين وأدخل على الملك، فكيف سيكون حاله؟ لا شك أنه مستجمع لكل قواه العقلية، وكل قواه النفسية أمام هذا الموقف الذي يهوله، فالقلب لا يتعطل، القلب لا شك أنه حاضر؛ لأنك ما دمت عاقلاً فقلبك حاضر، لكن أين يحضر؟ إنما يحضر فيما يهمه، فأنت في صلاتك قلبك حاضر لا محالة، لكنه أين هو حاضر؟ سل نفسك هذا السؤال، إنه حاضر في الأمر الذي أنت مهتم به، فإن كنت مهتماً بأمرٍ من أمور الدنيا كان القلب حاضراً في ذلك الأمر، وإذا كنت مهتماً بهذا الموقف الذي أنت فيه فسيكون القلب حاضراً هنا في هذا المقام الذي أنت فيه، فالقلب لا يتعطل يحضر لا محالة، لكنه يحضر في الأمر الذي يعنيه، وإذا كنت مغفلاً لا تدري ما هي الصلاة، فجدير بك أن تذكر نفسك بحقيقة الصلاة، حتى يصل هذا الوعي إلى القلب، وتفهم بأن هذا من أهم المهمات حتى يحضر القلب.

    فالصلاة معقد النجاة، إذا صلحت الصلاة نجوت وأفلحت، وإذا فسدت الصلاة خبت وخسرت، أرزاق الدنيا مرتهنة بصلاح الصلاة، وأرزاق الآخرة مرتهنة بصلاح الصلاة، ثم يا مغفل! ذكر نفسك حقيقة أخرى، وهي أن هذه الدنيا التي تشتغل بها، وتفكر من أجلها، وطار قلبك شعاعاً، وذهب همك أوزاعاً من أجلها هي شيء قليل قليل، وعن قريب يفنى، وتبقى الدار الآخرة، تبقى تلك الدار التي من أجلها تصلي، ولو كانت الدنيا ذهباً فانياً والآخرة خزفاً باقياً، لكان الخزف الباقي خير وأبقى من الذهب الفاني، فكيف والدنيا خزف فان، والآخرة ذهب باق، وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:17].

    إذا كنت لا تستحضر معنى الصلاة وأهمية الصلاة، فذكر نفسك هذه الحقائق حتى تعلم قدر الصلاة، وإذا علمت قدر الصلاة سهل عليك إحضار القلب، هذه الركيزة الأولى.

    الابتعاد عن الشواغل الظاهرة والباطنة

    الركيزة الثانية لإحضار الخشوع في القلب وقت الصلاة: أن تعلم أنه لا بد أن تعين القلب بصرف الشواغل عنه، فاصرف عن نفسك الشواغل عن الصلاة.

    والشواغل كما يقول العلماء: قسمان: شواغل ظاهرة، وشواغل باطنة، الشواغل الظاهرة تأتيك من السمع والبصر، ما يطرق سمعك وأنت تصلي، أو ما يطرق بصرك وأنت تصلي يذهب بك إلى فكر، ثم تتوزع الأفكار، فالأفكار يجر بعضها بعضاً، وقد قال العلماء: الإبصار مبدأ الأفكار، البصر وأنت تصلي مبدأ الفكرة، فاصرف عن نفسك ما تقع عليه العين مما يلهي وقت الصلاة، واصرف عن أذنك ما يلهي وقت الصلاة، فإذا صرفت عن نفسك الملهيات الظاهرة سهل عليك بعد ذلك أن يحضر القلب، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، ولذلك من السنة ألا تزين جدران المساجد، وألا يكتب على المحاريب، وألا تزين الفرش التي في المساجد، أن يصلي المصلي وأمامه لون واحد قريب من الجدار، قريب من السترة، حتى يقلل على نفسه الشواغل الظاهرة.

    من السنة ألا يصلي الإنسان إلا بعد أن يقضي حاجته من البول أو الغائط، وبعد أن يقضي حاجته من الطعام والشراب حتى يقبل على الصلاة وقد فرغ مما يمكن أن يشغل ذهنه، ويمنع حضور قلبه.

    وهناك شواغل باطنة: شواغل الأفكار، الأفكار التي منشؤها حب الدنيا والتعلق بها، حب الفاني والتعلق به، وهذا علاجه أن يحاول الإنسان جاهداً أن يتفهم، ويسأل نفسه عن معاني الكلمات التي يقولها.

    والحقيقة أن معاني الصلاة بحاجة إلى خطب، بحاجة إلى محاضرات، معاني الكلمات ومعاني الأفعال، ماذا أعني بهذه الكلمة، ولماذا أقوم وأقعد؟ ولماذا أركع وأسجد؟ ومحاولة سؤال المصلي نفسه، ما معنى الكلمات التي تقال، والحركات التي تفعل، فهذا سبب لمنع الصوارف الباطنة عن الإنسان، وإذا لم يفد هذا وقد لا يفيد في حياة كثير من الناس، ونحن منهم لا نزكي أنفسنا، لكن لنعلم قدر المصيبة التي نحن فيها.

    كثير منا حتى لو حاول أن يتفهم معاني الكلمات التي يقولها في صلاته، فإنه لا يستطيع أن يحضر قلبه في الصلاة؛ لأنه سكران بالدنيا، وليس بالخمر.

    قال بعض العلماء عند تفسير قول الله تعالى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء:43]، حرم الله في أول الأمر الخمر قرب الصلاة، قال لهم: حتى يصلي المصلي منكم ويعلم ماذا يقول، فحرم عليهم الخمر في هذه الساعات، حتى يؤدوا الصلاة على وجهها.

    قال بعض العلماء: وكم من مصلٍ لا يدري ما يقول، سل نفسك، هل تحصل لك هذه الحالة؟ كم مرة في اليوم والليلة تصلي وأنت لا تدري ما تقول؟ كثير من المصلين لا يشعر إلا عند سلام الإمام، وكثير من المصلين لا يدري كم صلى أثلاثاً أم أربعاً؟ وكثير من المصلين لا يدري ما هي الكلمات التي قرأها الإمام في صلاته، إذا سأل نفسه ما هي السور التي قرأها الإمام بعد الفاتحة، لا يستطيع أن يستحضر تلك السورة، كم من مصلٍ لا يدري ما يقول؟ سكران، لكنه سكران بشراب الدنيا، سكران بحب الدنيا، هذا السكر الإنسان بحاجة أن يجاهد نفسه؛ ليفيق منه حتى يعلم ما يقول، حتى يصلي الصلاة التي يريدها الله عز وجل، وقد يكون العلاج مراً وهذا شأن الدواء، قد يكون الدواء مراً لكن لا بد من مساغه، لا بد وأن يشرب الإنسان العاقل من كأسه، والدنيا إذا حضرت القلب واستولت عليه ربما كان العلاج أن ينفضها الإنسان عن قلبه، فالأمر الذي يهمك في صلاتك كان من دأب النبي صلى الله عليه وسلم، والصالحين بعده التخلص منه، فإن التخلص من شيء من الدنيا وخسارتها أهون وأيسر بكثير والله من أن يخسر الإنسان صلاته التي هي معقد فلاحه ونجاحه، أن يخسر الإنسان شيئاً من أعراض الدنيا أهون عليه من أن يخسر ثقل الميزان يوم القيامة.

    1.   

    نماذج من تخلص النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مما يلهي عن الصلاة

    صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنبجانية: جبة جديدة جميلة، أهديت له من صاحبه أبي جهم رضي الله عنه، صلى بها رسول الله الصلاة الأولى، لكن كان فيها خطوط، فيها أعلام، فلما فرغ من الصلاة خلعها سريعاً، وقال: ( اذهبوا بهذه إلى أبي جهم ، وائتوني بأنبجانيته )، أعطوني ثوبه القديم، أعطوني ذلك اللباس الخلق، وليأخذ هو هذا الجديد إذا شاء، وائتوني بأنبجانيته، (فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي).

    سهل عليك أن تتخلص من شيء من شهواتك في مقابل أن تسلم صلاتك.

    جاء في موطأ الإمام مالك أن أبا طلحة رضي الله تعالى عنه وأرضاه صلى في حائط في بستان له، فطار دبسي فأعجبه، فجلس يتتبع هذا الطائر ببصره، وهو ينظر إلى هذا الطائر يبحث عن مخرج حتى فرغ من الصلاة، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره بما جرى له مع الطائر، وقال: ذلك البستان صدقة في سبيل الله، فضعه حيث شئت يا رسول الله!

    يسهل على الإنسان العاقل أن يتخلص من كثير من أمور الدنيا من أجل أن تسلم له هذه الصلاة، نحن بحاجة أيها الأحباب! أن نحيي في حياتنا، في يومنا وليلتنا المجاهدة من أجل إحسان هذه الفريضة، إحسانها بأدائها في وقتها، وإحسان طهارتها، وإحسان صورتها الظاهرة، وإحسان صورتها الباطنة.

    1.   

    صفات صلاة المنافقين

    وإلا فلنعلم يقيناً أن المنافقين يصلون، ولكن صلاتهم عليهم حسرة، وقد وصفهم الله في كتابه بأربع صفات، هم مصلون لكن لهم صفات تخصهم، وتميزهم عن غيرهم من المصلين، فاحذر أن تكون ممن يتصف بهذه الصفات:

    الصفة الأولى: تأخيرها عن وقتها، قال عليه الصلاة والسلام: ( تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعاً ).

    الصفة الثانية: أنهم ينهضون إليها كسالى، ليست لديهم الرغبة الكاملة التي بها يتشوقون إلى الصلاة، فيقومون إليها برغبة طالبينها بحب، كما كان عليه الصلاة والسلام يقول: ( أرحنا بها يا بلال )، بل يقومون إليها كسالى، قال سبحانه: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى [النساء:142].

    الصفة الثالثة من صفات المصلين لكنهم من أهل النفاق الرياء، لا يفعلونها إخلاصاً لوجه الله، يُرَاءُونَ النَّاسَ [النساء:142].

    الصفة الرابعة: لا يذكرون الله فيها إلا قليلاً، وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:142]، وهذا هو موضوع الصلاة كما قال الله: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14].

    إذا أردت أن تكون جاداً مع نفسك، سل نفسك: هل أنت ممن يذكر الله في الصلاة، أو أنك تتحرك بحركات خالية من الذكر، مفرغة من الذكر؟ وإذا كانت خالية من الذكر، فإنها لن تأمر بالمعروف، ولن تنهى عن المنكر، ولن تنهى صاحبها عن الفحشاء.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، أن يرزقنا حسن الصلاة، اللهم يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! يا رب العالمين! أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، واخذل الكفرة والمشركين أعداءك أعداء الدين.

    اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756206881