إسلام ويب

قراءة موضوعية في كتاب الاعتصام [3]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تجنب البدع والحذر منها لا يكون إلا بعد معرفتها؛ ولذلك عرف الشاطبي البدع بتعريفين، وكان من المهم معرفة العلاقة بين البدع والمعاملات والعادات، فالعادات أصلها الإباحة إلا إذا اقترن بها أمر شرعي فتكون بحسبه، ولا بد من ميزان عند الحكم على فعل أو قول ما بدخوله في البدع، والميزان هو الكتاب والسنة.

    1.   

    تعريف البدع وبيان معناها

    الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين.

    هذا هو المجلس الثالث من المجالس العلمية في النظر في كتاب أبي إسحاق الشاطبي المسمى بالاعتصام والتعليق عليه, وكنا في المجلس الذي سلف تكلمنا عن الباب الأول من أبواب الكتاب, وسبق أن الباب الأول ذكر فيه المؤلف ما يتصل بحد البدعة وتعريفها, وذكرنا أن المؤلف رحمه الله تعالى ذكر تعريفين للبدعة وبين أن كل تعريف هو فرع عن رأي.

    فالتعريف الأول قال فيه: (إنها طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية, يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه), ثم قال: (وهذا على رأي من لا يدخل العادات في البدع).

    قال: التعريف الثاني: (أنها طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية, يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية), قال: (وهذا على رأي من أدخل العادات).

    علاقة العادات بالبدع

    وسبقت الإشارة إلى أن الإشكال في هذا التعريف والذي قبله هو أن المصنف جعل كل تعريف فرعاً عن مذهب, أو عن معنى كلي, وهذه القضية الكلية هل العادات تدخل في البدع أم أن البدع تنحصر في العبادات المحضة؟ مع أن مسألة العادات كما سبق الكلام فيها يقال: إذا أردت تحرير ما يسمى بمحل النزاع, أو بنواة النظر في هذه المسألة, لا تجد أحداً من أئمة الإسلام يمكن أن يكون له دليل من الكتاب أو السنة, يقول: إن العادة المحضة تكون بدعة في حكم الشريعة, بمعنى أنها بدعة شرعاً, لا أحد يقول بذلك, وإلا لو كان الأمر كذلك لانغلقت على الناس حواسهم, ولضاق على الناس أمرهم, وإذا كان الله قد قال لنا في الدين: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78], فكيف تكون البدع في العادات, فإن طبيعة الناس واختلاف الزمان، واختلاف المكان يقود إلى تحول جملة من العادات المألوفة إلى عادات غير مألوفة، ثم العادة أصلها في الشرع الإباحة والإذن, وهذا بإجماع الأئمة, إلا إذا تعلق بالعادة ما يقود إلى كونها مخالفة لحكم الشريعة كأن يصير في الأكل والشرب وجه من السرف, فيقال: إن هذه العادة دخلت باب الكراهة؛ لأن الشريعة ذمت السرف والتبذير وما إلى ذلك. وكأن تجاوز العادة وجهاً من الفسق, فيقال: إن هذه العادة تكون شرعاً لما اتصل بها, فإن كان هذا المتصل منفكاً عنها وإنما يقارنها؛ أمر بترك المقارن لا العادة، وإذا كان المتصل بها هو في حقيقته منفك عنها، ولكنه يقارنها في تطبيقات بعض الناس فإنه لا يدعى إلى ترك العادة، وإنما يدعى إلى ترك المقارن أيضاً, الذي هو منفصل عنها ولكنه يصاحبها. ومعنى (أنه منفصل) أي: أنه لا يضمن فيها هذا الوجه من المعصية أو الفسق, فإن كان هذا الوجه من المعصية أو الفسق متضمناً في هذه العادة دعي إلى تركها؛ لأنها قد تضمنت ما هو مخالف للشرع، وأما إذا كانت العادة فسقاً محضاً فهذه من البديهيات في الشرع أنه يدعى إلى تركها من كل وجه، ويغلق بابها.

    فإذاً: العادة أصلها الإباحة, ولكن ينظر في العادة وحكم الشريعة فيها.

    فأصلها الإباحة من حيث جواز الابتداء, وقد يقول قائل: ما دام أن العادات قد تكون فيها جملة من المآخذ الشرعية لماذا نقول: الأصل الإباحة والإذن, بمعنى: أنه يجوز ابتداع العادات, بخلاف العبادات فإنه لا يجوز ابتداعها, بمعنى: لا يجوز إحداثها, بل لا بد أن تكون اقتداءً واهتداءً واتباعاً.

    فإذاً هذا معنى قولنا: إن الأصل في العادة الإذن, أي: أنه يجوز ابتداعها.

    ولا يقال له: ما الدليل على بدايتك بهذه العادة؟

    فإن هذا السؤال خطأ شرعاً؛ لأنه لا يلزم عليها دليل, لأن الشارع ما أراد أنها أمر توقيفي لا بد له من دليل يقود إليه, ويكون الجواب على هذا السائل أن الدليل على جواز الابتداء بها أن هذا هو الأصل, فهذا من الكلام الذي ليس له ضرورة، فإذاً هذا هو الأصل في العادات بإجماع المتقدمين من أهل العلم.

    كما أسلفت لما جاءت المصطلحات العلمية والتحقيقات العلمية؛ وبدأت تؤصل كثير من المسائل دخلت فيها هذه الفروضات والإشكالات؛ لأن جملة مما فرضه أصحابه أنه عادة اتصل به وجه من التعبد فصار مناسباً أن يقال: إنه عبادة, أو إنه إذا كان ليس على هدي الشريعة فإنه صار بدعة, فأحياناً يقع قدر من الاتصال.

    المآخذ على قاعدة (العادة محكمة) والأمثل في هذه القاعدة

    ولهذا أنا أقول: إن من أدق الفقه هو فقه الاتصال بين هذه الأمور التي قصد الشارع مراعاتها, ولكنه لم يجعلها أصلاً مفصلاً؛ مثل العادة, فالشارع قصد اعتبار العادة, فالعادة معتبرة, والعرف معتبر, وإن كانت العبارة التي درج عليها كثير من أهل القواعد؛ أن العادة محكَّمة, مع أن هذا التعبير فيما أرى ليس هو الفاضل, فلو عدل عنه إلى قول: العادة معتبرة, فهذا أدق في المعنى العلمي؛ لأن قولك: إن العادة محكَّمة؛ التحكيم في مدلوله الشرعي ومدلوله العلمي, سواء -العلمي بالمعنى الاصطلاحي أو حتى بالمعنى اللغوي- فكلمة التحكيم كلمة تعطي قدراً من الانصياع والالتزام بما قضى به هذا المحكم في هذا الحكم؛ ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى يذكر الحكم قضاءً محضاً مضافاً إليه, وإلى ما أنزله من الوحي, وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44], والحكم هو أن يحكموا بين الناس بالعدل وما إلى ذلك.

    فالحقيقة أن العادة ليست محكمة؛ ولهذا الآن لو سألنا سؤالاً: هل يجوز للناس أن يتحاكموا إلى عاداتهم؟ فيكون الجواب: لا, بل يتحاكمون إلى الشرع, فإذاً: العادة ليست محكمة, المشركون قالوا: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ [الزخرف:22], أي: على عادات, فهذه العادات قد تكون عادات مباحة, وقد تكون عادات مكروهة، وقد تكون عادات محرمة، إذاً العادة ليست محكمة بهذا المفهوم, صحيح أن الذين نطقوا بهذا من علماء القواعد والأصول والفقهاء ما أرادوا بذكر هذه العبارة التي درجوا عليها أن الناس يتحاكمون إليها, منهم من يقول: إن هذه القاعدة مجمع عليها؛ لأن مقصودهم بذلك أنها معتبرة, وليس بمعنى أنها محكمة أنها تفصل في سائر المسائل, فهناك جملة من المسائل ترد إلى العرف أو إلى العادة, والكثير من هذه المسائل يدخلها اختلاف؛ مثل: الإيجاب والقبول في كثير من العقود, هل يحصل بألفاظ مخصوصة؟ وهل يوكل ذلك إلى العرف والعادة؟

    جملة من الفقهاء يقولون: إن هذا يعتبر راجعاً إلى العرف والعادة.

    فإذاً مقصود أهل العلم بهذه الكلمة معروف وصحيح, ولكننا إذا أردنا التعبيرات المنضبطة فإنه يفترض أن نقول بعبارة أدق, لأن عبارة العادة محكمة لا تعتبر منضبطة، بل نقول: العادة معتبرة؛ لأنك لا تجد عادة تحكم وحدها في الشرع, لا بد أن يكون لها متصل شرعي.

    فإذاً: حقيقتها أنها اعتبرت في نتيجة الحكم وليس أنه اقتصر عليها وحدها في نتيجة الحكم, لا توجد أحكام في الشريعة تقتصر على العادة المجردة, بل لا بد أن تكون العادة متصلة بدلالة الشريعة, إما دلالة تبع وإما دلالة أصل أو ما إلى ذلك؛ فهذا الذي أراه أنه التعبير الأجود.

    من القواعد: أن العادة معتبرة, وهي معتبرة في الحكم, لكنها ليست محكمة, المحكم دائماً هو الشرع, وإذا قال الشرع باعتبار هذه العادة صار الحكم للشرع حتى لو أثرت العادة في الحكم هذا لا بأس به, وقولنا: العادة تؤثر في كثير من الأحكام, والعرف معتبر في كثير من الأحكام هذا لا إشكال فيه, بل هذا مما أجمع عليه, ولكنها ليست محكمة تحكيماً مجرداً عن الشريعة, وهذا ما تدل عليه كلمة التحكيم, فإن معنى التحكيم في اللغة والاصطلاح الانضباط والالتزام فكلمات الشارع تدل على هذا المعنى من القوة والعزم والانضباط.

    القول في العادات عند اقترانها بوجه من التعبد

    وعلى كل حال فإن الإشكال في الكلام الذي ذكره الشاطبي رحمه الله أنه جعل التعريف الأول فرعاً عن المعنى الأول, وجعل التعريف الثاني فرعاً عن المعنى الثاني, فهذا هو الإشكال في كلامه؛ لأنه يمكن أن نقول: إن العادة لا تكون بدعة, فإذا اتصل بها وجه من التعبد فنقول: إنها صارت بدعة, لكن نقول: إنها تسمى هنا عبادة, فرجعنا إلى أن باب الابتداع في معناه الشرعي خاص بالعبادات, ويقال في الحروف الشرعية والحروف العلمية المنضبطة: إن العادات من حيث هي حال تجريدها أي لا يتصل بها حكم أنها تكون بدعة في الشرع, فما يتصل إما أن يدخل على العادة فيجعلها بدعة، وإما يدخل على العادة فيجعلها مطلوبة شرعاً, لأن صاحبها قصد بها تعبداً, وربما دخل المتصل الشرعي على العادة فجعلها فسقاً؛ لأنها تضمنت أمراً مخالفاً للشرع، فنقول فيه: إنه فسق, فيكون هذا الفعل في مجموعه فسقاً, وإذا كان الفسق متضمناً في العادة صارت العادة فسقاً, وأما إذا كانت العادة على معنى اختلاف الطبائع عند الناس كما هو الأصل فيها, فهذا هو الأصل في العادة؛ أنها من تنوع طبائع الناس وأحوالهم وبيئاتهم وما إلى ذلك؛ هنا يقال: إنها عادة مباحة, وهذه هي العادة بمفهومها المجرد.

    فإذاً: العادة من حيث هي لا تستطيع أن تقول: إنها بدعة، بل تكون تارة معتبرة في الشرع, بل مقصودة في الشرع, وتارة تكون منهياً عنها؛ إما لوجه من الابتداء باستجلابها نفعاً فتكون عبادة أو على معنى العبادة وهلم جرا, ولا أحد من العلماء يقول: إن العادة إذا حولت في قلوب الفاعلين إلى قصد التعبد فإنها لا تكون بدعة؛ فهذه الخرافات التي انتشرت في الأمم الوثنية والأمم المشركة، وما عاناه الرسل عليهم الصلاة والسلام كانت وجهاً من القصد في العبادة؛ فتحولت هذه العادات إلى عبادات، ولهذا صارت من العبادة لغير الله وما إلى ذلك, وإن كانت هذه العبادة لم يشرعها الله جل وعلا, ولكن القلوب انصرفت في عبادتها لغير الله سبحانه وتعالى.

    ثم لا تجد أيضاً أن ثمة خلافاً متبايناً في مسألة العادات, بل يقال: إن هذه مسألة فيها تفصيل, وهذا المعنى هو الذي يمكن؛ أن العادة من حيث هي لا تكون بدعة, وأما إذا اتصل بها متصل ما؛ فقد ينقلها إلى درجة من الابتداع إذا كان الفعل العادي قصد به التعبد لله سبحانه وتعالى, والتعبد بمعنى التعبد المحض, وإلا فإن الأفعال العادية كما تعرفون يشرع فيها النية الصالحة، كما قال معاذ لـ أبي موسى : وإني لأحتسب في نومتي كما أحتسب في قومتي, وليس تبتغي بالعادات وجه الله إلا ازددت بها درجة حتى اللقمة تجعلها في فيِّ امرأتك, فالأمور التي هي من عادات الناس وأحوالهم يشرع فيها النية الصالحة, وهذه مقاصد شرعية فاضلة, لكن تكون بدعة إذا داخلها شيء من التقرب؛ مثل من لم يأكل أكلاً معيناً, إما تقرباً وإما لأنه يرى أن من الدين أنه لا يأكل هذا الأكل؛ كما حصل لبعض الذين غلوا في أوجه الزهد والعبادة, فإنهم حرموا على أنفسهم بعض المطاعم, ولا شك أن هذا الفعل يكون بدعة في الدين, لكن لو أنه لم ير ذلك أو أنه لا يأكل هذا الأكل أو هذا الطعام ولا يشرب هذا الشراب ذوقاً, وهذا هو الأصل في عادته, فهذا لن تستطيع أن تقول: إن هذا الفعل بدعة؛ لأن هذا من حق كل إنسان.

    ولعل الموضوع من هذه الناحية يكون قد فصل بما فيه الكفاية.

    1.   

    أقسام حكاية الخلاف عند أهل العلم

    وأنا هنا أشير, وأنبه إلى أن حكاية الخلاف في المسائل العلمية يكون على قسمين:

    قسم: انضبط عند كثير من أهل العلم بالفقه أن هذه المسألة فيها خلاف؛ كالخلافات التي في الكتب للفقهاء, كالأئمة الأربعة وأمثالهم, وكثير من الخلافات في كتب أصول الفقه, فضلاً عن الخلافات التي في كتب العقائد بين أهل السنة ومخالفيهم, فهذه الخلافات نقول عنها: إنه قد انضبط أنها مادة من الخلاف.

    القسم الثاني: هي ما تحصل في نظر بعض أهل العلم أنه مادة من اختلاف الأوجه والإضافات.

    مثال الأول في العقائد: عند أهل السنة أن الإيمان: قول وعمل, وقالت المرجئة: الإيمان هو التصديق, وهذا خلاف, ولا أحد يقول: إن هذا من باب الإضافات والاختلاف في الوجوه.

    مثال في الفقه: لحم الجزور ينقض الوضوء أو لا ينقض الوضوء؟ قال الأئمة الثلاثة: لا ينقض الوضوء, وقال أحمد : ينقض الوضوء, هذا خلاف.

    مثلاً في مسائل أصول الفقه: هل الأمر الأصل فيه الوجوب أم الأصل فيه الاستحباب أو ما دونه؟ قال الجمهور: الأصل فيه الطلب العازم, وقال طائفة من أهل الأصول: الأصل فيه الطلب, ولا يقال: إنه بعزم, بل الأمر من حيث هو يفيد طلباً, أما ما بينهم فهذا حكم إضافي بحسب النصوص والقرائن وما إلى ذلك, وهذا من الخلاف المأثور والمحفوظ.

    والقسم الثاني: تجد أن الذين يذكرونه جملة من أهل العلم, ولربما أسسه أعيان, ثم صار من بعدهم ينقل عنهم نقلاً معروفاً, وهو ما تحصل في نظر أهل العلم أنه من الخلاف, ويكون عند التحقيق من باب اختلاف الأوجه والإضافات, وأرى أن هذه المسألة مسألة العادات من القسم الثاني؛ لأن من نظر إلى العادة على أنها مجردة, وأن الأصل في الشريعة الإذن في ابتدائها, قال: البدعة تخص بالعبادات دون العادات, ومن نظر إلى العادة على أنه مقترن بها شيء من التعبد، كما لكثير من العادات التي حولت من كونها عادة إلى التعبد بها أصلاً, قال: إن العادة قد تكون بدعة.

    فإذاً: لا ترى أن ثمة خلافاً هل العادة بدعة أو ليست بدعة؟ إنما اختلفت الأوجه والإضافات؛ فالعادة من هذا الوجه لا يمكن أن تكون بدعة, والعادة من هذا الوجه مناسب أن تكون بدعة إذا قصد بها التعبد على غير هدي الشريعة؛ فهذا يكون من باب اختلاف الأوجه والإضافات, وليس من الخلاف المنضبط الذي هو من الخلاف مادة والذي يتميز في المعنى عن معنى آخر, هذا التأكيد إنما أذكره؛ لأنه لا يصح لنا أن نقول: إن بعض العادات لا يمكن أن تدخله مادة الابتداع, بل قد تدخله إذا دخل فيه قصد التعبد, ولا يجوز بالمقابل أن نقول: إن العادات تكون بدعة على رأي طائفة من أهل العلم؛ فإن هذه الطائفة الذي أشار المؤلف إليها ليست طائفة محررة تقصد بكلامها أن العادة من حيث هي تكون بدعة.

    والشاطبي رحمه الله جعل في كتابه هذا وفي بعض كلام له في غيره من الكتب أن العادة المجردة لا تكون بدعة, ولكن في هذا الكتاب حكم على بعض الأمور العادية بأنها بدعة؛ لأنه في فقهه رحمه الله ونظره أنها اتصلت بنوع من التعبد, وأنت ترى أن نظام الاتصال ليس ذلك النظام الذي ينسب إلى ضابط دقيق, فعند صور الاتصال أنه يقصد بها التعبد لله, لكن صور الاتصال قد يتردد الناظر -من فقيه أو غيره- هل هذا من قصد التعبد أو من قصد الاحتساب؟ ألسنا نقول: إن الشريعة دعت الإنسان إلى أن يحتسب في حياته كلها؟ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162], فما دام أن الشريعة دعت إلى ذلك وثبت عن الصحابة أنهم يقولون: أحتسب نومتي وقومتي، فأحياناً فقه الاتصال قد لا يكون متحققاً لكل ناظر بدرجة منضبطة.

    التحية المعروفة في أيام الأعياد بغير السلام عليكم وعلاقتها بالبدعة

    ولكنه قد يختلف في بعض الأمر مثلما سبقت الإشارة إليه في تحية الناس بالعيد بغير السلام, بعبارات مخصوصة تقال في يوم العيد, وظهرت هذه في آخر عصر الصحابة رضي الله تعالى عنهم؛ وجاء بعض أهل العلم وكره ذلك, خشي أن يكون هذا من باب التعبد؛ لأن الذي وصل ذلك إنما يقصد به عند الثناء على أخيه المسلم موضوع الثواب والقصد, مع أننا نقول: الثواب ليس هو معنى التعبد, وإن كان هذا وجه من العبادة لله لا شك, لكنه ليس هو المعنى الذي يميز ما يكون عادة وما يكون عبادة, ومن هنا قال الجمهور من أهل العلم: إن هذه الكلمات في العيد هي من العادات, إذا كانت بأي تحية, والتحية الشرعية الإسلامية هي: السلام عليكم, فمتى يكون الأمر فيه مخالفة للشريعة؟ إذا ترك الناس السلام وهجروه واستعملوا بدله غيره, أما إذا استعملوا السلام وزادوا عليه ما هو من أعرافهم وعاداتهم وتقاليدهم؛ هو مما لا يخالف الشريعة في ظل ما حددته الشريعة؛ لأن الشريعة حددت للإنسان أنه إذا جلس أي مجلس أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله ويكفي, ولا يرى أنه يحق له أن يزيد أي كلمات من كلمات الترحيب أو الثناء أو الإكرام أو الإجلال أو ما إلى ذلك؛ ولهذا قال آدم عليه الصلاة والسلام للنبي صلى الله عليه وسلم لما عرج به إلى السماء: ( مرحباً بالنبي الصالح ), وهذه من الأمور التي كان الصحابة رضي الله عنهم يألفونها أو يعرفونها.

    ومن هنا نقول: إن عادات العيد أو تحية العيد كما هي من الأمور التي اعتادها الناس فينبغي عدم التكلف في تركها، وإنما قد يقول بعض الإخوة كما قال الإمام أحمد : لا أبدأ به أحداً, لكن هذا لمن كان في درجة الإمام أحمد , بل في نفس الزمن الذي كان الإمام أحمد إماماً عرف في رده على البدع، فأراد ألا يفتح سؤالات للعامة, فكان موقفه أنه متمسك بالسنة ومتجاف عن البدعة, وهذا من فقه الإمام أحمد , ليس من باب أنه كان يكره هذا الفعل في نفسه أو يراه محرماً؛ لأنه لو كان ما يراه شرعياً لما أجازه, لكن ما قاله أمام العامة لا يساوي درجة ما تكون من كل أحد, وإنما قد تناسب من كان بمقام رفيع في الدين أو العلم، فهذا له اجتهاده الذي ينتهي إليه.

    1.   

    التعريف المختار للبدعة

    إذاً لو قلنا: أي التعريفين نختار، التعريف الأول أو الثاني؟ فهذه أول درجة, أنه ليس بالضرورة أن ما ذكره الشاطبي محققاً للتعريف الأول من حيث حروفه على المعنى الأول, والثاني من حيث حروفه على نفس المعنى، وإلا كان الخلاف بين التعريف الأول والثاني خلافاً لفظياً؛ لأن هناك افتراقاً في آخر جملة وهو يقصد بها المبالغة في التعبد, ويقصد بها ما يقصد بالطريقة الشرعية, هذا نوع من الخلاف اللفظي, قد تقول: إن المصنف ما أراد بها الخلاف اللفظي, نقول: نعم, المصنف فرق, ولكن هذا التفريق ليس منضبطاً ولا متحققاً فيما يظهر والله أعلم, فإن قيل: فما التعريف الشرعي للبدعة؟ قيل: التعريف الشرعي أن يقال: كل عبادة ما شرعها الله فهي بدعة, من تعبد بغير ما شرعه الله فقد ابتدع.

    إذاً: لماذا نعبر بأكثر من عبارة؟ هذا هو الذي أريد أن أصل إليه, ألم تروا أننا نحتاج إلى عبارات خاصة لتعريف البدعة؟ ويمكن أن يعبر بأكثر من تعبير؛ فيكون هذا قدراً أولياً من الفقه, وأن الفقه المفصل للفرق بين البدعة والسنة؛ فهذا لا يفيدك إياه كلمات يقولها عالم أو غيره، بل لا بد فيه من فقه الشريعة, فأنت إذا قلت: البدعة: كل عبادة لم تشرع, فهذا التعريف لا أحد يجد له فيه مدخلاً، لأنه مأخوذ من النص, من تعبد بغير ما شرع الله فقد ابتدع, من أحدث في أمر النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس منه فهذا هو البدعة, فتقول: هذا من أجود التعاريف؛ وحروفه في الجملة حروف شرعية نبوية, من عمل عملاً ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم تعبداً لله فهو بدعة, فيمكن أن تقول: إن هذه حدود أو تعاريف أو ضوابط كما يقال لمعنى البدعة, ولكنها تبقى جملة مجملة، أما الفقه المفصل فهذا هو الشامل.

    ولهذا إذا قيل: ما التعريف المختار للبدعة؟

    قيل: التعريف المختار هو التعريف الذي يتضمن المعنى، ولا يستلزم القطع عند صاحبه لمدلوله من حيث الحروف, على رأي يفرد في هذه المسائل وعنى بالرأي الذي يفرد, وهو ما أشار إليه المصنف في مسألة العادات والعبادات؛ مثل تقوى الله سبحانه وتعالى ما هي, ومثل التوحيد ما هو, ومثل الإيمان ما هو, هذه أمور الذكر لها سهل, ولكن يبقى أن الفقه كما أشرت ليس هو ذلك فقط, بل هذا جزء يسير منه, وعليه سواء قلت بتعريف الشاطبي الأول وفسرته تفسيراً صحيحاً, أو قلت بالتعريف الثاني وفسرته تفسيراً صحيحاً, أو قلت: إن البدعة: هي كل عبادة لم يشرعها الله، وهذا أيضاً تعريف صحيح, مع أن التعاريف هي تقريب للعامة وليست للخاصة, ومصطلح العام والخاص مصطلح معقول في المعنى والنظر والشافعي رحمه الله كثيراً ما يعبر به في التقاسيم العلمية, الخاصة: هم أهل النظر والعلم, والعامة: من ليسوا كذلك.

    المقصود بالتعاريف: هي التقريب للعامة, وقد يكون من العامة المبتدئ في أوائل النظر والعلم, فهذا لا يضاف إلى أنه من أهل الاجتهاد أو من أهل العلم الكبار أو ما إلى ذلك, فهي المقصود منها التقريب إذا كان كذلك, فإذا تبين لنا أنها تقريب للعامة, وأن الخاصة هم أهل فقه وأهل استقراء, إذا تبين هذا فالأنسب فيها أن تكون بكلمات وحروف بسيطة.

    ولهذا إذا قلت للعامي: البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرع, فلا يستطيع كثير من العوام أن يتفهموا هذه التركيبة, مع أن هذا مناسب في التعبير ولا إشكال فيه, لكن لو قلت للعامي أو المبتدئ في العلم: البدعة: كل عبادة ما شرعت فهي بدعة, هنا وصلت إليه رسالة علمية منضبطة؛ أن كل عبادة لا بد أن تكون مشروعة أو بدليل, وإلا صارت بدعة, فالأولى أن تؤخذ التعاريف التي هي أكثر وضوحاً في لغة العرب وأكثر انضباطاً في السبك, وأقصد به الإدراك البسيط, وإلا فقول المصنف منضبط من حيث السياق اللغوي كما هو معروف.

    إذاً: هذا ما يمكن أن نعلق عليه في قضية تعريف البدعة.

    الميزان لأقوال وأفعال العباد

    والنتيجة الأخيرة: لا تفترض أن التعريف الأول أو الثاني هو بمنزلة الميزان, إنما الميزان هو الكلمات الشرعية.. كلمات القرآن.. وكلمات الرسول صلى الله عليه وسلم فقط, أما ما بعد كلمات الله, أو ما بعد كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذه لا يجوز أن تقول فيها: لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها, هذه كلمات يدخلها النقص, يدخلها الخطأ, أما كلمات الله وكلمات رسوله عليه الصلاة والسلام فهي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. فمنطوقها مراد ومفهومها مراد أي: المفهوم الصحيح منها, وقد يجتهد المجتهد بمفهوم لا يكون مناسباً، وهذا أمر آخر, لكن في نفس الأمر منطوقها مراد, ومفهومها مراد, وأوتي عليه الصلاة والسلام جوامع الكلم؛ ولهذا كانت كلماته عليه الصلاة والسلام جامعة، فالغيبة مثلاً ذكر تعريفها فقال: ( ذكرك أخاك بما يكره ), هذا جامع مانع, ( الكبر بطر الحق وغمط الناس ), هذه الكلمات الجامعة.

    أما حدود العلماء وضوابط العلماء وتعاريف العلماء فمع ثنائنا عليها وإجلالنا لها إلا أننا نقول: هي من باب تطريد العلم, فليست من باب الميزان الذي تحاكم الأشياء إليها؛ لأني لا أريد أن يقول طالب العلم: أنا أرجح الأول أو الثاني في تعريف البدعة، وهو أن يقصد المبالغة في التعبد وحسب, أي: المبالغة التي يقصدها مبالغة, وإلا البدعة مبالغة من حيث هي, ولا نريد أن ينطلق آخر فيشير لكثير من العادات ويسميها بدعة، وهي في دين الله وشرعه مما أباحه الله, بل سماها الله زينة, قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف:32], فالله جعل لعباده التمتع بهذا الكون وأراد لهم ذلك، ولكن يتمتعون به التمتع الذي لا يلهيهم عن ذكر الله, وهذا هو الفرق بين المؤمنين وغير المؤمنين, ما حرم الله على المؤمنين الملابس والمطاعم والمشارب والمراكب والمناكح, ولكنه أراد ألا يكون ذلك ملهياً عن ذكر الله, فإذا ألهت عن ذكر الله فهذا هو الفرق, والمعروف أن الله سبحانه وتعالى حرم على أمة بعض المآكل التي فيها ضرر, فهناك قصد شرعي معين من تحريمها, فالتحريم يكون للمصلحة والجواز كذلك حتى صار جوازاً شرعياً منظماً, وفيه مصالح للناس, لكن الأصل أن أبواب الحلال أوسع من أبواب الحرام، ونقول: الأحكام الخمسة المباح منها أوسع دائرة، فإذاً: هذا الفقه لا بد أن يدركه طالب العلم.

    1.   

    البدعة الفعلية والبدعة التركية

    المسألة الرابعة, قال المصنف رحمه الله: [ فصل: وفي الحد أيضاً معنى آخر ينظر فيه، وهو أن البدعة من حيث قيل فيها: إنها طريقة في الدين مخترعة.. إلخ؛ يدخل في عموم لفظها البدعة الترَّكيَّة، كما يدخل فيه البدعة غير التركية ].

    المصنف يشير في هذا الفصل إلى معنى من أجود وأهم المعاني, يقول رحمه الله: البدعة قد تكون فعلية, ولكن قد تكون البدعة تركية, فلا يتبادر إلى ذهنك من قوله: طريقة في الدين أنها أفعال, بل قد تكون تركية, هذا الذي أراد بكلامه هنا, فيقول بعده: [ فقد يقع الابتداع بنفس الترك تحريماً للمتروك أو غير تحريم ], يقول: قد يكون المتروك المباح بدعة, وذكر أن المباح إذا ترك فإن تركه على ثلاثة أوجه:

    ترك المباح لغرض شرعي

    قال المصنف رحمه الله: [ إما أن يكون لأمر يعتبر مثله شرعاً, أو لا ], يعني: كمن ترك طعاماً من باب الحمية الطبية فلا مانع من ترك هذا الطعام, يقول: إن الشريعة جاءت بحفظ الصحة، وحفظ النفس وما إلى ذلك, فهذا الترك يعتبر, ووجيه شرعاً, فهو قال: (إما أن يكون لأمر يعتبر شرعاً), ومثل له بهذا المثال: من ترك طعاماً للحمية.

    ترك المباح عبثاً

    قال: [ وإن كان الترك لغير ذلك ] أي: لغير أمر يعتبر شرعاً.

    قال المصنف رحمه الله: [ فإما أن يكون تديناً أو لا، فإن لم يكن تديناً فالتارك عابث بتحريمه الفعل, أو بعزيمته على الترك ], وقوله: (بتحريمه الفعل) هنا أراد المصنف بالتحريم هنا التحريم اللغوي, والذي هو بمعنى المنع؛ فالحرام في دلالة اللغة: هو الممنوع, وإلا لو أراد به التحريم الشرعي لم يدخل في هذا القسم, وهذا من باب ما ترك عبثاً [ فالتارك عابث بتحريمه الفعل, أو بعزيمته على تركه, ولا يسمى هذا الترك بدعة؛ إذ لا يدخل تحت لفظ الحد إلا على الطريقة الثانية ], وهذا هو الإشكال؛ نقول دائماً: الإشكال أن الإنسان يضع تعريفاً، ثم يجعل هذا التعريف هو الحاكم والميزان، وهذا لا يتحصل كما أسلفنا من كلام الناس, إلا إذا أجمعوا عليه, فيكون الإجماع مصدره الشرع والدليل؛ لأنه لا ينعقد الإجماع إلا على أدلة.

    قال المصنف رحمه الله: [ القائلة بأن البدعة تدخل في العادات, وأما على الطريقة الأولى فلا يدخل, وإلا فإن هذا التارك يصير عاصياً بتركه أو باعتقاده التحريم فيما أحل الله ], هنا المصنف كأنه يريد أن يقول: إن إشارته الأولى لا يقصد بها المعنى الشرعي, مع أنك ترى أن من حرم مباحاً فجعله من العبادة إذا قيل: إن هذا محرم؛ فمعناه من طاعة الله تركه, فمن جاء إلى مباح وحرمه تحريماً شرعياً على تعريف المصنف, فإنه يجعل من الترك شرعاً فهذا هو البدعة, بل هو أشد من البدعة؛ لأنه قد يتصل بمسألة أخرى كما هو معروف, وهو تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله.

    هذه مسائل قد تأخذ وصفاً أبعد من وصف البدعة المجردة, لكن حين نتكلم في مسألة البدعة يعد من أوجه الابتداع في الدين إذا تركه على معنى التحريم الشرعي له, وهذا من أوجه الضلال الكبيرة؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الثلاثة النفر أن يتركوا بعض المباح قال: ( من رغب عن سنتي )، إذاً: هو الابتداع في الدين, وهذا عند سائر أهل العلم يكون ضلالاً وابتداعاً سواء كان في العادات أو في العبادات؛ لأن هذا الابتداع هو الذي أشكل على تقرير المصنف في فروع المسائل في كتابه؛ لأنه التزم بهذين المذهبين، وربما لم يكن خلافاً ولكنه من باب اختلاف الأوجه والإضافات, والمصنف رحمه الله عند تقريره بعض المسائل يكون من باب اختلاف الأوجه والإضافات؛ مثلاً لما جاء للقدرية قال: من السلف من أخرجهم من أهل الإسلام، ومنهم من جعلهم في أهل الإسلام, مع أن كلام السلف في القدرية له وجهان: القدرية الذين ينكرون علم الله, ويقولون: لا يعلم الله ما سيكون من حال العباد, فهؤلاء لا أحد من المسلمين يقول: إنهم مسلمون, بل كفار عند أهل السنة, وحتى القدرية الذين دونهم وهم المعتزلة وعبد الجبار بن أحمد الهمداني في بعض كتبه يقول: إن شيوخ المعتزلة ذهبوا إلى تكفير هؤلاء القدرية الذين ينكرون علم الله؛ لأن هذا هو الكفر, وهذا كافر, وهذا معنى الكفر الأكبر, إذا أنكر شيئاً فطرياً, شرعياً, عقلياً, وهذا أشد من شرك مشركي العرب الذين يقرون بالربوبية؛ لأنهم أعطوا أوجهاً من الشرك في هذا الباب، وإن كانوا يقرون بأصل العلم, فهذا من أوجه الزندقة التي دخلت من بعض الملل اللاتينية الفلسفية على المسلمين, لكن الذين يقرون بعلم الله سبحانه وتعالى, وإنما تكلموا هل أراد هو أفعال العباد أو لم يردها هؤلاء هم الجماهير من القدرية, وقال فيهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ما علمت أحداً من السلف نطق بتكفيرهم، أي: أخرجهم من الإسلام, ومن كان من السلف يسمي القول كفراً, فليس المقصود أن القائلين يأخذون الحكم، بل هذه المسألة اشتبهت حتى على بعض رجال الحديث كما هو معروف, وإن كان إجماع السلف فيها معروفاً, فهذا هو الفرق الذي أشكل.

    ترك المباح تديناً

    قال المصنف رحمه الله: [ وأما إن كان الترك تديناً فهو الابتداع في الدين على كلتا الطريقتين ], يعني: إذا كان الترك للمباح تديناً؛ فهو الابتداع في الدين على كلتا الطريقتين, ما دام أنه رحمه الله يقول ذلك؛ فمن ترك المباح تحريماً له فإن تركه بدعة.

    ومعناه: أنه جعل من الدين الترك, وأنه لو أخذ هذا المباح فإنه يرى في نفسه أنه نقص دينه أو أثم بفعله.

    تقسيم ترك المباح من حيث الواقع

    لكن التقسيم عند المصنف رحمه الله تعالى ليس بذاك الذي ينتظم فيما أرى, وكأن المناسب أن يقال: إن التارك للمباح على قسمين فقط, وهذا الذي ذكره المصنف هو من باب الفرض النظري, أن التقسيم يمكن أن يكون على ثلاثة أقسام, لكن ليس كل ما يفرضه الذهن يمكن أن يكون متصوراً, وليس كل ما يكون متصوراً في الذهن يمكن أن يكون واقعاً, ما يتصوره الذهن الأصل فيه إمكان الوقوع من حيث الحكم العقلي، والوقوع من حيث الإمكان, يعني: يمكن الوقوع عقلاً, لكنه باعتبار أحوال الناس التي قرنتها جملة من المقارنات لا يقع هذا الأمر, وعليه نقول: إن التقسيم المناسب هو أن التارك للمباح على قسمين: إما أن يتركه لأمر يعتبر شرعاً, وإما أن يتركه تديناً, فإن تركه تديناً فهذا بدعة بالإجماع؛ لأنه أحدث في أمر الله ما ليس منه فهو رد؛ لأن شرع الله ليس هو فعل الأوامر فقط، فمن أوجب على نفسه أمراً لا يقول أحد: إن هذا أوجب على نفسه, أو استحب تلك العبادة التي لم يشرعها الله, إنما هذا من باب الابتداع, فكذلك التحريم, والكراهة؛ فكما أن الأمر من الله, وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23], هذا إيجاب وأمر من الله؛ فكذلك التحريم من الله سبحانه وتعالى, فهو الذي أحل الحلال وحرم الحرام؛ ولهذا قال الله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [النحل:116]؛ لأن الذي له الحكم الأول والآخر هو الله سبحانه وتعالى وحده, هو الذي يقضي بأن هذا مما أحل لعباده أو حرم عليهم.

    فإذاً: التقسيم المناسب أن يقال: إن الترك على قسمين: إما أن يكون لأمر يعتبر شرعاً, وإما أن يكون تديناً, فالثاني هو البدعة, والأول هو المقبول، وهذا القبول قد يرتقي إلى درجة الطلب, وقد ينزل به إلى درجة الإذن.

    مثال الأول: إذا قال الطبيب لإنسان بأن هذا الطعام يضر الصحة, ولربما قاد إلى الهلكة عند أكله, فيقال: إن الشريعة هنا تأمر هذا الإنسان أن يجتنب هذا الطعام, فهذا يكون من باب المطلوب, أما ما كان من ترك المباح على جهة الأذواق, يعني: إنسان لا يشرب نوعاً من المشروبات, أو لا يأكل نوعاً من المأكولات؛ لأن عادات الدول والشعوب مختلفة, فبعض الشعوب يستغرب أن أحداً يأكل لحم الجمل مثلاً؛ لأن العادات عندهم لا يأكلون لحم الجمل, والبعض لا يأكلون لحم البقر, هل نقول: إن هذه أمور ترجع إلى خلاف العلماء, هل العادة بدعة أو ما هي بدعة، وندخل في هذه التحقيقات هذا لا معنى له, ولا يمكن أن يكون هذا مما يشكل, فهذه أمور بحسب أذواق الناس, وبحسب ما اعتادوا عليه, ولا يمكن أن تتطرق إليه قضية البدعية, يعني: إنسان تأتيه بلحم البقر فلا يأكله, مهما كانت أحواله, يغلق على نفسه, ولا تجد أن نفسه تقبل أنه يأكل هذا اللحم, مع أنه يؤمن أنه حلال, لكن نفسه لا تقبل هذا هكذا تربى, وهكذا بيئته, فهل تقول: إن هذا قد يكون بدعة, أو على رأي بعضهم يكون بدعة أو لا يكون, هذا لا أحد يقول: إنه بدعة, ولا هو مما يتكلم فيه هنا عن جوانب تعبدية أو دينية, أما إذا كان الترك لأمر معتبر شرعاً نقول: ومما اعتبرته الشريعة أنها فتحت للناس اختلاف العادات واختلاف الأذواق, فقد يقول قائل: إن الترك لأمر يعتبر شرعاً, طيب, ومن يترك لحماً معيناً مع اعتبار الشريعة له؛ لأنها أذنت للناس أن تختلف أذواقهم, وفي الحديث: ( قدم لحم الضب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فما أكله, فقال له خالد: حرام؟ قال: لا, ولكنه ليس بأرض قومي )، ولكن قبل أن ينزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم, ولما كانت نظرته عليه الصلاة والسلام من باب التشريع نهى عن أكل لحم الضب, وقال: لا آكله، ولما جاءه الأعرابي وسأله, وقال: إن لحم الضب طعام أهلي, فخشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون من المسخ, ولكن لما جاءه الوحي بأنه ليس مسخاً, وأن الأمة الممسوخة لا تمكث في الأرض باقية أكثر من أربعين, أذن في ذلك لأصحابه، ولكنه عليه الصلاة والسلام عافته نفسه, وهذا من الأمور التي لا يمكن أن يتطرق إليها أمر البدعة، أما إذا كان الترك لا يعتبر شرعاً؛ فهذا ليس له إلا صيغة واحدة, أن الترك على سبيل التعبد.

    فإذاً: كل ترك ليس تعبداً فهو مما أذنت فيه الشريعة, ومن ترك الشيء تديناً نقول: إن هذا بدعة بلا جدال؛ لأن من صلى بصفة معينة ليست على هدي الشريعة يقال: هذا بدعة؛ لأن الصلاة عبادة فرضتها الشريعة بصفة محدودة أيضاً: أليس من أخص المعاني التي تضمنت الصوم: أنه إمساك عن الأكل والشرب, فهو لا يحرم على نفسه هذا الطعام من حيث هو طعام, وإنما يحرم على نفسه الأكل والشرب في هذا الشهر؛ لأن الله أوجب صومه, فإذا أتيت إلى مثل الصيام فهو يدل على أن الترك يدخل في باب الابتداع؛ لأن الشريعة طلبت منا تركاً, وهو ترك الأكل والشرب في نهار رمضان عبادة لله سبحانه وتعالى, فتبين لك أن البدعة تدخل في باب الترك الذي يقابل الفعل, وأن البدعة تدخل في باب الفعل؛ لأن الشريعة تارة تكون أمراً بفعل وتارة تكون أمراً بترك.

    إذاً: كأن هذا هو التقسيم المقارب للحقيقة الواقعة.

    ترك المندوب والواجب وعلاقته بالبدعة

    قال المصنف رحمه الله: [ فإن قيل: فتارك المطلوبات الشرعية ندباً أو وجوباً هل يسمى مبتدعاً أم لا؟ فالجواب: أن التارك للمطلوبات على ضربين:

    أحدهما: أن يتركها لغير التدين؛ إما كسلاً أو تضييعاً أو ما أشبه ذلك من الدواعي النفسية, فهذا الضرب راجع إلى المخالفة للأمر.

    والثاني: أن يتركها تديناً, وهذا الضرب من قبيل البدع ], وهذا التقرير من المصنف تقرير حسن منضبط, وهو أن من ترك واجباً أو مستحباً ينظر في سبب تركه, فإن كان تركه من باب التدين, سمي هذا الترك بدعة, وإن كان الترك كسلاً وضعفاً وما إلى ذلك فهذا يسمى معصية ومخالفة بحسب درجات الحكم في الشريعة.

    ننتقل بعده إلى الباب الثاني من أبواب الكتاب.

    1.   

    ذم البدع وسوء منقلب أصحابها

    قال المصنف رحمه الله: [ الباب الثاني: في ذم البدع وسوء منقلب أصحابها ].

    هنا جزء من الحكم كلي لا ينبغي أن يتطرق إليه بشيء من التردد أو الخلاف أو الجدل, بل هذا من الأمور الكلية المنضبطة شرعاً, وهو أن البدع مذمومة شرعاً, هذا أمر كما هو معروف مما استقر في الشريعة, وأن الشريعة جاءت بذم البدعة, وأن سبب الضلال في كثير من الأمم هو هذه البدع التي أحدثوها في دينهم, حتى انحرف أهل الكتاب عن كتابهم؛ ولهذا تجد أن الله جل ذكره يقول في كتابه عن قوم من أهل الكتاب: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ [الحديد:27], فالبدع مذمومة في الشرع, فالنبي عليه الصلاة والسلام كان كثيراً ما يحذر منها, ويقول عليه الصلاة والسلام كما في حديث جابر المخرج في الصحيح: ( أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله, وخير الهدي هدي محمد, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة ), أي: كل محدثة في الدين ( وكل بدعة ضلالة ), فهذا مما استقر في كلام الله وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام, ومما تواتر في الشريعة, ومما أجمع أهل العلم من أئمة هذه الأمة وسلفها من الصحابة والتابعين وأهل القرون الثلاثة الفاضلة على ذم البدع، وهذا من المعاني الكلية عند المسلمين؛ أنهم يذمون البدع في الدين, وهذا قدر منضبط, ولكن المصنف رحمه الله تعالى أراد أن يفصل ذلك.

    ونقول: إن تفصيله لهذا يقع على قسمين, إذاً لدينا معنى كلي؛ وهو ذم البدع, وهذا لا أحد ينازع فيه, والبدع يجب على المسلمين أن يتجافوا عنها, وأن يهتدوا بهدي الله وهدي رسوله صلى الله عليه وآله وسلم, والإقبال على المعاني المعروفة من تحقيق الإيمان, وأن تحقيق الإيمان وتحقيق التوحيد لا يكون إلا باتباع السنن المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم, والآثار المروية عنه, وعن أئمة أصحابه الذين أثنى الله عليهم في كتابه؛ لأن الله امتدح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, وأصحابه رضي الله عنهم ممن امتازوا عن غيرهم بصحبتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا جعل الله الهدى في اتباعهم, قال: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100], فجعل من التدين الاتباع لهدي الصحابة؛ ولهذا أجمع أهل العلم على أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كلهم عدول خيار, وأنه لا يجوز القدح في أحد منهم, بل جميعهم أئمة هدى, إلى غير ذلك مما هو معروف في كلام الأئمة.

    طريقة ذكر المؤلف باب ذم البدع

    والمصنف رحمه الله فصل هذا المعنى الكلي على قسمين:

    قسم منه مما هو منضبط؛ كنقل المصنف جملاً أو آيات من القرآن, وجملاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذم البدع والحوادث, وكذلك جملة مما نقله عن الأئمة من بعدهم, وجملة مما ذكره المصنف في ذم البدع, فهذا قسم منضبط.

    وقسم آخر هو القسم الثاني في هذا الباب, وهو معان حصلها المصنف بنفسه أو نقلها عن بعض أهل العلم في ذم البدع, فيقال: هذه المعاني إذا أخذت بفقه أمكن أن يقال: إنها مما يذكر في هذا الباب, ولكن إذا أخذت بغير فقه فإنه ربما دخل عليها وجه من الغلو في الأحكام, والله جل وعلا ما أمرنا بالغلو بالدين, وإنما أمرنا بالعدل, والعدل لا يكون غلواً, الله يقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [النحل:90], إذاً: بعد هذه الأوجه أحب أن نكون على التصور الكلي من هذا الباب.

    إذاً القسم الثاني: هي جمل من المعاني العلمية, إما أنها تحصلت للمصنف بتتبعه, وإما أنه نقلها عن بعض أهل العلم, أو بعض الصوفية الذين نقل عنهم, فيقال: بعض هذا القسم إذا أخذ بفقه وحسن نظر أمكن أن يكون مما يذكر في هذا الباب, وأما إذا أخذ بغير فقه, بل بغلو في تفسيره وطرده فلا, ومن الغلو أن تجعل هذه المعاني كأنها محل قطع وجزم، فهذا أرى أنه من الغلو الذي لا يصح؛ لكون هذه من المعاني التي ذكرها عن بعض المتقدمين من الأئمة؛ وأن صاحب البدعة لا توبة له, وهذا المعنى إذا ألزمته على قواعد الشريعة من نصوص الكتاب والسنة, هل صاحب البدعة لا توبة له؟ صاحب البدعة أشد أو الذي قال: (وما رب العالمين) الذي قال: (وما رب العالمين) هو فرعون, فهذا توزن عليه, أيهم أشد: الذي فعل بدعة وهو في دين الإسلام وعلى الإسلام, أو الذي يعبد اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى؟

    المشرك أشد بلا شك, ومع ذلك المشرك إذا تاب تاب الله عليه, ولم يثبت في نظام الإسلام وشرائع الأنبياء أن أحداً ليس له توبة, وهذا من المعاني التي دخلت في تحريف بعض أهل الكتاب لكتابهم, وهذا رجل من بني إسرائيل لما قتل تسعاً وتسعين نفساً, فسأل من سأل من العُبَّاد والجهال: هل له من توبة؟ فقيل له: ليس لك توبة, فهذا من البدع في أديان الأنبياء السابقين, قد يقول قائل: طيب, جاء هذا عن بعض السلف, قال فلان من السلف، والذي روي عنه كان فقيهاً في الدين إماماً, مجمعاً على إمامته، نقول: هذه هي الإشارة التي قصدت في الذكر, أولاً ينظر في هذه الرواية أهي محفوظة عن هذا الإمام أم لا؟ فإن كانت محفوظة عنه فإن كلامه بحكم إمامته رويت عن رجل ضال, أو رجل مجهول, ماذا يقال؟ نقول: هذه الرواية باطلة لكن لو فرض أنها جاءت عن إمام له اعتباره, فهل نترك القاعدة الشرعية التي هي منضبطة من كلام الله ورسوله، ونقول: هذا واحد من السلف, لا, بل يؤخذ قوله ويرد إلى معنى تعتبره الشريعة, وتقره الشريعة, قد يفيد هذا بأنهم أرادوا بذلك مسألة: هل تقبل توبته ظاهراً إذا وصل إلى السلطان حكم من الأحكام في التعزير, تعرفون أنهم في كتب الفقهاء قد تكلموا في ما يسمى بتوبة الزنديق, كانوا يقصدون بأنه لا تقبل توبته في الأحكام الظاهرة، إذاً: لعل هذه المعاني لا بد أن ترد إلى فقه مناسب, فمن كانت توبته صادقة تقبل بينه وبين ربه, والتوبة بين العبد وبين ربه تقبل أياً كان الفعل, فمن تاب صدقاً من قلبه فإن الله جل وعلا يتوب عليه, سواء كان فعله معصية أو بدعة أو شركاً, ما دام أنه رجع وتاب التوبة الشرعية بحكمها ومعناها الشرعي، فهذا هو القسم الثاني الذي أحببت من القارئ الناظر في هذا الكتاب أن ينتبه له.

    إذاً: القسم الأول لا جدال فيه, وهو من العلم المحكم من الآيات والأحاديث, وجملة من الآثار المروية عن صدر هذه الأمة في ضلال البدع, فهذا العلم نسميه العلم المحكم.

    القسم الثاني في كلام المصنف في هذا الباب هو من العلم المتشابه, بمعنى: لا بد أن يرد إلى المحكم, وإذا كان الله جل وعلا ذكر في كتابه ما هو المحكم وما هو المتشابه، إلا أن المتشابه في القرآن ليس هو المتشابه في مقصودي، المقصود الآن المتشابه في كلام بعض أهل العلم, هذا قد يكون خطأً, أما كتاب الله، فقال تعالى: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت:42], لكن أقصد أن الله جل وعلا أمرنا في المتشابه من كلامه أن يرد إلى المحكم مع أن المتشابه هو في نفسه حق محض لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت:42], فلك أن تقول: إن القسم الثاني من كلام المصنف ليس كمتشابه القرآن, لكنه من المتشابه العلمي, بمعنى أنه لا ينبغي أن يلقى على العامة, لأنهم لا يفقهون المتشابه وإنما يخاطبون بالمحكم, خاصة إذا غلب المتشابه عند إلقائه على العامة وترك المحكم, فينبغي أن يحدثوا بالمحكم من العلم البين؛ لأن علياً رضي الله عنه قال وهذا من فقهه: حدثوا الناس بما يعرفون, أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: وكلام علي هذا إذا كان في ما هو من كلام الله ورسوله أنه لا يلقى مجزأً أو منفكاً عن صورته لبعض العامة, فكيف إذا كان الكلام ليس من كلام الله ولا كلام رسوله، ولكنه من كلام العلماء، فيكون هذا من باب أولى, وهذا تعليق شيخ الإسلام ابن تيمية على أثر علي وهو أثر صحيح, ومقصود علي ليس بالضرورة التكذيب الذي هو بمعنى الجحد, بل يكون من المعاني المقصودة في الشرع: وهو ألا يفهم العامة خلاف القواعد الشرعية, ومما قد يفهمه العامة أنهم يقلدون خلقاً من عباد الله من رحمة الله, والله يقول: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56], والقنوط من رحمة الله سبحانه وتعالى ليس حالاً من المسلمين, إنما هذه من الأحوال التي ابتدعها المنحرفون عن هدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

    1.   

    ذم البدع من جهة النظر

    وهذه المعاني التي أشار إليها المصنف لخصتها على سبيل الاختصار, فالمصنف رحمه الله يذكر في هذا الباب في ذم البدع وسوء منقلب أصحابها, نقول: أولاً: ذمها من جهة النظر, وثانياً ذمها من جهة النقل, فهو ذمها من وجهين, وأراد بالنظر: النظر العقلي المبني على الأصول الشرعية, وأراد بالنقل: الآيات والأحاديث والآثار, وهذا من ترتيب المصنف، وإلا لو قدم الذم من جهة النقل لكان هذا هو الأولى؛ لأن الناس في باب البدع لو حكموا عقولهم فيها لما انضبط لهم هذا الشأن, ولربما احتج قوم بما هو من عقولهم؛ نعم هذا لا يكون عقلاً صحيحاً عند التحقيق, لكن على كل حال هذا أمر سهل, وهو من باب التركيب ليس إلا.

    قال رحمه الله: إنها تذم من جهة النظر من خمسة أوجه:

    العقول غير مستقلة بمصالحها

    قال المصنف رحمه الله: [ الأول: أن العقول غير مستقلة بمصالحها ], وهذا معنى منضبط: أن العقل لا يستقل بمصالحه, مع أن المصنف -كما سيأتينا في الباب الثالث- زاد كلمة استقلال العقل في إدراك المصالح, وهذا ما يرجع لمسألة في كتب الأصوليين والنُظَّار وهي مسألة (التحسين والتقبيح العقليين), ومعروف أن كثيراً من كتب النظر والأصول تحكي في هذه المسألة قولين: قول المعتزلة, وقول الأشعرية, وإذا كان السياق أصولياً وليس في كتب النظار, فعلى القول الأول قول الحنفية, والقول الثاني قول الشافعية, مع أنه عند التحقيق يحصل بهذين القولين, لكن الشاطبي رحمه الله يميل إلى الطريقة المعروفة عند متكلمي أصحاب الأشعري, فهو يميل إلى هذا، ولذلك كلامه في إغلاق العقل عن المصالح أقول: إن فيه شيئاً من الزيادة, يأتي هذا إن شاء الله في الباب الثالث, في بيان خطأ التحسين والتقبيح العقليين.

    الشريعة الكاملة ومحاولة الزيادة والنقصان

    قال المصنف رحمه الله: [ الثاني: أن الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة والنقصان ] وهذا وجه حسن ولطيف, فإن من أراد إحداث بدعة فإنه يخاطب صاحب هذه البدعة بقوله: إن الشريعة كاملة, والله يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3], فما دام أن الدين كامل بصريح القرآن فإن البدعة ما يكون لها أثر فائدة من جهة العقل؛ لأن البدعة والإحداث إنما يكون لأمر ناقص, وأما إذا كان الشيء كاملاً تماماً فإن الزيادة عليه تخالف العقل؛ لأن العقل لا يقبل الزيادة على الكامل.

    حال المبتدع تجاه الشرع

    قال المصنف رحمه الله: [ الثالث: المبتدع معاند للشرع مشاق له ] وهذا الوجه من الأوجه التي أشرت إليها أنه من القسم المتشابه في العلم؛ لأنك لن تستطيع أن تلتزم أن كل بدعة فعلها شخص ما من المسلمين أنه يكون معانداً للشرع, لأنه هنا المعاندة تأتي بمعنى الرد، وتأتي المعاندة بمعنى أن الفعل من حيث هو هل يكون كذلك, إذاً: هذا من الأمور التي يدخلها التشابه, ولا تستطيع أن تصف كل زلة من البدع بأن صاحبها يكون قاصداً لهذه المعاندة أو ما إلى ذلك؛ لأن هذا قد يؤدي إلى أوجه من الحكم المغلظ الذي يتصل بالكفر وما إلى ذلك.

    فإذاً: البدعة فيها شيء من المشاقة، كما وصف الله سبحانه وتعالى المخالفة بالمشاقة, هذه أمور لا تكون على النفي المطلق، لكنها في نفس الوقت ليست على الإثبات المطلق, بل تحتاج إلى فقه وحسن نظر في قواعد الشريعة وأقوال سلف الأمة.

    مضاهات الشرع من قبل المبتدع واتباعه الهوى

    وقوله: [وأن المبتدع نزل نفسه مضاهياً للشرع], صحيح أن فعله بدعة من حيث هو, لكنه هل أراد أن يكون مماثل لحكم الشارع, أو أراد أنه مشرع, هذه ليست من الأمور التي تكون متضمنة في الإرادات، وإنما قد تكون من اللوازم أحياناً أو ما إلى ذلك, ومعروف أن اللازم في المذهب ليس بمذهب, وهذا من العلم الذي ينبغي الفقه فيه, ومن المعلوم أن أحكام أئمة السنة والجماعة على البدع التي حدثت في زمنهم, تارة يكون الحكم من باب ذكر المطابقة, وتارة يكون هذا ليس من باب الحكم, وإنما هو من باب الوصل بلازم القول؛ كما قالوا عن المرجئة في قولهم: الإيمان تصديق، فعلى هذا القول يكون إيمان الرسول صلى الله عليه وسلم وإيمان الفُسَّاق سواء, هل أحد من المسلمين يقول: إن إيمان النبي صلى الله عليه وسلم وإيمان الضُلّال سواء من كل وجه؟ لا أحد, هذا لازم من لوازم القول, والمعروف في القواعد العلمية أن لازم المذهب ليس بمذهب إلا إذا التزمه صاحبه.

    فإذاً لا يسمى لازماً وإنما يسمى متضمناً أو مطابقاً في هذا المذهب, وإلا فلازم المذهب ليس بمذهب, وإلا لأُخِذ الناس بلوازم أقوالهم وحصلت أمور من الإسراف في الرد, وربما من الأحكام الخارجة عن هذه الأوجه التي ذكرها المصنف.

    1.   

    ذم البدع من جهة النقل

    قال المصنف رحمه الله: [الخامس: أنه اتباع للهوى] وهذا من الأمور المعروفة في صفة البدعة.

    ذم البدع في القرآن

    بعد ذلك أتى بالنقل فقال: [وأما النقل فمن وجوه، أحدها ما جاء في القرآن] وذكر جملة من آيات القرآن في ذم الخروج عن الشريعة وذم الابتداع, وهذه هي الآيات المحكمة التي ينبغي لطالب العلم أن يتفقه فيها وأن ينظرها, وأن الميزان العادل الذي لا زيادة فيه ولا نقص فيه هو كتاب الله, لا يدخله شيء من المبالغة والتكلف, بل هو منهج وسط: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة:143], هنا سياق الآية قال: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143], ثم قال: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة:143], فلا يكون الشاهد شاهداً مناسباً إلا إذا كان عدلاً وسطاً, وهكذا الشاهد بمعنى الحاكم على الشيء, لا يكون شاهداً أو حاكماً في قضايا البدع إلا إذا كان منهجه وسطياً, أما إذا كان منهجه فيه إفراط أو تفريط، فهذا النصيحة الشرعية له أن يتجرد عن الحكم, وأن هذا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: هو أشد من القضاء على الناس في أحكام دينهم.

    ذم البدع في السنة

    ثم قال: والوجه الثاني: النقل مما جاء في الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأخص ما جاء في الرواية في هذا الباب حديث عائشة المتفق على صحته: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ), فهذا من العلم المحكم, ومن جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام, وهذا هو العلم الذي نقول: يجب أن يحدث به الخاصة والعامة, وأن ينشر بين المسلمين, هذه هي الكلمات المعصومة العادلة الهادية.

    ذم البدع عند الصحابة والتابعين

    الثالث: قال: ما جاء من النقل عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين, والسلف رحمهم الله ورضي عنهم أهل القرون الثلاثة الفاضلة جاء عنهم ذم البدع, وذم أصحابها, وكلامهم في هذا متواتر, وإذا راجعت كتب السنة وجدت هذا مما تواتر عن أئمة الصحابة ولا سيما الذين أدركوا البدع في آخر عصر الخلفاء, وكذلك من جاء بعدهم من الأئمة؛ كالأئمة الأربعة؛ أعني: مالكاً , و أبا حنيفة , و الشافعي , و أحمد , فذم البدع مجمع عليه بين أئمة السلف وجاءت كلماتهم في هذا متواترة.

    والمصنف ساق جملاً من كلام الصحابة والتابعين والأئمة وهي من الهدي الذي ينبغي الاعتبار والفقه فيه.

    ذم البدع وأهلها عند مشاهير الصوفية

    الوجه الرابع: قال: ما جاء في ذم البدع وأهلها عن الصوفية المشهورين, فبين المصنف كلاماً، فقال رحمه الله: [ وإنما خصصنا هذا الموضع بالذكر وإن كان فيما تقدم من النقل الكفاية؛ لأن كثيراً من الجهال يعتقدون فيهم ] يعني: الصوفية [ أنهم متساهلون في الاتباع ]، يعني: والصواب عنده أن أول شيء بنوا عليه طريقتهم: اتباع السنة واجتناب ما خالفها, ولا يعني أن هذا المعنى ليس مطرداً في سائر من يسميهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الصوفية والمتصوفة, أو الصوفية الذين هم على طريقة أهل الحديث, أي: على طريقة أهل الآثار.

    ومعروف أن التصوف كلمة عامة, وأن التصوف: عبارة عن منهج عام, تحت هذا المنهج جملة من الأوجه المختلفة, فثمة ما سمي تصوفاً, أو سمي صاحبه صوفياً, وهو لا يُحفظ عنه, أي: عن هذا الرجل العابد أو الإمام أنه كان يتلقب بهذا اللقب قصداً, وإنما سماه الناس كذلك؛ كبعض أئمة التابعين والزهاد, الذين سماهم من سماهم بالصوفية, وهم كانوا عُبَّاداً زهاداً أئمة فضلاء, وبعض الناس سمى نفسه صوفياً وقبل هذه التسمية, وهو في الجملة على السنة، ولكن عنده شيء من النقص والخطأ, وهؤلاء من يسمونهم في كلام المحققين كـابن تيمية ونحوه: بفضلاء وعباد الصوفية, وهناك قوم دخلت عليهم شيء من البدع في مسائل العبادة أو مسائل النذر, وهناك قوم زاد بهم هذا القدر من التصوف إلى أوجه من الغلو, واقتبسوا التصوف المأخوذ عن أئمة الفلاسفة الذين كانوا قبل الإسلام؛ كالتصوف الذي انتهى بأصحابه إلى القول بالحلول, أو انتهى بأصحابه إلى القول بوحدة الوجود, أو ما إلى ذلك من مسالك الصوفية والتصوف الغالي, الذي تبناه من تبناه من غلاة الصوفية.

    فالتصوف إذاً ليس وجهاً واحداً أو كلمة واحدة أو منظوراً واحداً, فأراد المصنف أن ينبه إلى أن ثمة قوماً على الاقتصاد والاعتدال من الصوفية, وهذا موضوع كما أسلفت له كلام؛ ولهذا تجده قال: قال الفضيل بن عياض , مع أن الفضيل بن عياض يعد من كبار أئمة أهل السنة وعبادهم، وليس من الصوفية المتأخرين.. إلخ, وكذلك الجنيد بن محمد يسمي نفسه صوفياً, ويلتزم هذه التسمية, ويبين أنه على طريقة التصوف, ولكنه كما قال ابن تيمية رحمه الله يعد من فضلاء الصوفية ومقتصديهم, أو هو أحياناً يكون من الصوفية التابعين للأثر, وإن كان هذا لا يستلزم أن كل حروف الجنيد وكلماته بالضرورة تكون حروفاً مطلقة القبول أو ما إلى ذلك.

    ذم الرأي المذموم

    قال: الوجه الخامس والأخير: من النقل ما جاء منه في ذم الرأي المذموم, ثم ذكر جملة من الآثار في ذم الرأي, وأنت إذا قرأت ما تقدم في كلام المحدثين وجدت ذكر ما يقابلهم وهم أهل الرأي, فهل المراد هنا بالرأي البدعة العقدية أم ما هو أقل من ذلك؟

    قال المصنف رحمه الله: [ اختلف العلماء بالرأي المقصود بهذه الأخبار والآثار ], إذاً هناك جمل كثيرة عن العلماء في ذم الرأي, اختلفوا في المقصود بالرأي في هذه الآثار، القول الأول: [ المراد به رأي أهل البدع المخالفين للسنن, لا سيما في الاعتقاد ].

    وقيل: وهو الرأي الثاني عنده أن هذا في جميع الرأي الخارج عن الشريعة, سواء كان في باب الاعتقاد أو في غيره, والصحيح أن الرأي الذي يخالف الشريعة يقال: إنه مذموم, سواء سميته بدعة, أو سميته باسم آخر, وهذا لا أظن أنه مما اختلف فيه, ولهذا الآثار التي وردت في ذم الرأي لا شك أنها تعني كثيراً من الرأي في غير مسائل الاعتقاد، ولا مبرر لقصرها على مسائل الاعتقاد إلا حيث كان النص المعين متجهاً إلى حكم عقدي فيوضع عنه الآخر, إذاً كأنه لما قال: إن ثمة اختلافاً بين العلماء في المقصود بهذه الآثار؛ فهذا يكون من القسم اختلاف الأوجه والإضافات.

    وقد قلنا: الخلاف يكون على وجهين؛ أن يكون خلافاً محكماً منضبطاً, أو يكون نظراً, هو حقيقة من اختلاف الأوجه والإضافات, لأن الآثار التي كثرت خاصة على المحدثين في ظل الرأي كانوا يشيرون بقدر منها إلى ذم الرأي الذي زاد فيه بعض الكوفيين, وهم أهل الرأي, لكن كما تعرف أن هذا معنى قاعدة شرعية, لكن ليس بالضرورة أن كل من قال قولاً في ظل رأي معين فيلزم أن يكون ذمه صحيحاً, فربما جاء صاحب حديث, وقال قولاً في فقيه من الفقهاء عرف بالسنة ولم يعرف أنه من أهل الرأي, ويكون الصواب مع ذلك الفقيه؛ لأنه بنى قوله على قياس صحيح, وهذا المحدث لا يصل إلى هذه الدرجة من ضبط القياس, فأنت تعرف أن أهل الحديث عرفوا بالرواية أكثر مما عرفوا بالنظر إلى اعتبار القياس وما إلى ذلك؛ ولهذا الإمام أحمد رحمه الله جاء عنه أنه قال: ما عرفنا الناسخ والمنسوخ إلا لما جالسنا الشافعي .

    فإذاً تميز أبو حنيفة بوجه من العلم وتميز ابن معين رحمه الله بوجه من العلم لم يتميز به أبو حنيفة , فليس بالضرورة أن كل من استدل يكون استدلاله مطابقاً في نفس الأمر؛ يعني: مثلاً إذا جاء شخص ورأى شخصاً يصور التصوير المعروف, قال: معاذ الله هذا حرام، فأنت تقول: نسكت لقوله؛ لأن هذا الرجل عنده دليل من السنة الصحيحة, لا, هو دليل من السنة الصحيحة, لكن بقي: هل هذا الدليل يتضمن الدلالة على تحريم هذه الصورة من الحكم أو ليس كذلك؟ فليس الإشكال في صحة الدليل، وإنما الإشكال هل هذا الذي حكم عليه داخل في دلالة هذا الدليل أو ليس داخلاً فيه؟

    فإذاً: ليس بالضرورة أن كل من استدل يكون كلامه هذا مصححاً, يعني: بعض الناس الآن وبعض العوام يتكلم بملء فيه, ثم يقول: قال الله تعالى, يعني: كأن كلامه يمثل الكلام السابق بهذا الدليل على قول الله جل وعلا, ولكن لا يلزم أن كل المعاني التي سقتها تكون صحيحة بهذا الدليل, بل ربما جعله مخالفاً لهذا الدليل من القرآن, فليس كل دليل يزكي قولاً من الأقوال، وأن الاستدلال قد يكون صواباً وقد يكون خطأً، بخلاف الدليل من الكتاب والسنة فإنه صواب مطلقاً ليس إلا.

    الأوصاف المحذورة والمعاني المذمومة في البدع

    قال المصنف رحمه الله: [ الوجه السادس.

    يذكر فيه بعض ما في البدع من الأوصاف المحذورة والمعاني المذمومة.

    الوجه السادس في ذم البدع في كلام الشاطبي ، ساق فيه سبعة عشر وجهاً وصفياً في ذم البدع, هذه الأوجه التي ذكرها الشاطبي هي في الجملة نوع من التحصيل للآثار, يعني: فهم من الآثار السابقة والدلائل السابقة من النقل فكأنه جعلها نتائج للأوجه الخمسة التي ساقها من النقل, ويذكر فيها مثلاً أن البدعة لا يقبل معها عمل, فمثلاً: البدعة مانعة من الشفاعة.. إلخ, وهذه الأوجه كثير منها يدخل فيها أو ينطبق عليها ما أشرت إليه سابقاً من كونها تحتاج إلى قدر من الاعتدال ولا تؤخذ بإطلاقها, أو على أنها كلمات منضبطة ومطلقة, أو أنها من الفقه المحكم المستقيم, إذ هي محل تأمل ومحل فقه إذا فسرت تفسيراً مقبولاً معتدلاً موافقاً لهدي السلف رحمهم الله, ولما جاء في كلام الله ورسوله.

    هذه الأمور يمكن أن يعتدل ويقتصد في أمرها, وأما إذا أخذ بعضها على إطلاق, فإن هذا الإطلاق بالأكيد لا يكون معتدلاً؛ مثل ما أشرت إليه سابقاً في مسألة التوبة, وفي مسألة أنه لا يقبل معها عمل, هل تقول: إن من ابتدع بدعة معينة فإن كل أعماله الصالحة تفسد, المتصل بهذه البدعة والمنفصل عنها؟

    هذه لا تستطيع أن تقول فيها: تفسد، كما عرض لبعض المتقدمين ممن قالوا كلاماً في هذا؛ فينبغي أن يكون الحكم على هذا.

    فإذاً: هذه أمور ينبغي الاعتدال وحسن الفقه بها.

    ونكتفي بهذا ونقف عليه في هذا المجلس.

    1.   

    الأسئلة

    مدى صحة نسبة القول بفناء النار لشيخ الإسلام ابن تيمية

    السؤال: القول بفناء النار هل صح عن ابن تيمية ؟

    الجواب: فيما أرى أنه ليس له كلام صريح منضبط في مسألة فناء النار هنا في رسالة تنسب لـشيخ الإسلام ؛ جزم بعض المحققين أنها له، لكن لست متأكداً بأن هذه الرسالة مما انضبط أنها له، وأرى أن الأفضل في مسألة كهذه أنه لا يجزم بأن شيخ الإسلام كان يقول بذلك ما دام أنه لم يذكر في كتبه وكلامه, بل إذا ذكر المسألة في كتبه تجد أنه لا يلتبس بوجه في هذه المسألة.

    علاقة الشاطبي بابن تيمية من حيث النتاج العلمي

    السؤال: كان زمن الشاطبي رحمه الله قريب العهد من زمن ابن تيمية ، فهل كان الشاطبي ينقل عنه وعن تلاميذه؟

    الجواب: نعم هو استفاد منه بالتأكيد, فبعض كلام الشاطبي في الموافقات وشيء من كلامه في الاعتصام من كلام ابن تيمية رحمه الله، لكنه ليس بالضرورة أنه اتصل بفقهه اتصالاً واسعاً, لكنه نقل بعض المسائل, وهذا يدل إلى أن بعض أجزاء كتب ابن تيمية وصلت إلى الشاطبي , لكن من البين أن الشاطبي يعد من العلماء الذين يحسنون الالتقاط والنقل للكلام.

    علاقة الشاطبي بالتصوف والصوفية

    السؤال: هل كان الشاطبي له علاقة بالتصوف أو أحد من مشايخه؟

    الجواب: مشايخه لا أدري ما فلسفتها, وإلا الإنسان دائماً لا ينبغي أن يتأثر بكل من أخذ عنه شيئاً من العلم, وإنما الإنسان يحكم عليه إذا أصبح عالماً أو إماماً أو فقيهاً, فليس بالضرورة أنك تلزمه بكل ما مر عليه في تاريخ مشايخه؛ لأنه قد يكون مر على شيوخ من الصوفية أو شيوخ من كذا أو شيوخ من الفقهاء أو شيوخ من الحديث ليس بالضرورة أن الإنسان يرتبط بكل هذا المعنى الذي بالغ الناس فيه وبالغوا في عشقه وتقليده وعده والإضافة إليه.

    تلقين الميت في القبر

    السؤال: ذكرت تلقين الميت في قبره؟

    الجواب: هذه حصلت في آخر عصر الصحابة, وليس المقصود بذلك إلا التمثيل المعروف أن ابن تيمية رحمه الله تكلم عن حكمها وذكر فيها أقوالاً للفقهاء.

    الاجتهاد في إيجاد القواعد والضوابط والواجب على من حصل له هذا

    السؤال: ألا ترى أن وضع الضابط لرجل استقرأ الفروع والأحكام يعتبر أولى من الرجوع إلى فقهاء المسلمين؟

    الجواب: من اتخذ ضابطاً في عقله أو في ذهنه أو في كلامه أو كتبه لا بأس بالأخذ به, لكن حتى هذا الضابط الذي انتهى إليه يجب أن يكون عنده محلاً للمراجعة والسؤال, ولا يجعله مغلقاً, ومما أؤكد على طالب العلم كثيراً أنه لا ينبغي أن يجعل ما انتهى إليه من العلم الاجتهادي أنه نتائج منتهية, بل ينبغي له أن يعرض عليه السؤال دائماً, بخلاف العلم اليقيني أو القطعي فهذا مثل الذي يتعلق بالعقائد والأصول بباب آخر, لكن في ترجيح الفقهاء أو في مسائل كهذه نظراً أو ما إلى ذلك, ينبغي أن يجعل أمره غير جازم ويحصل فيه قدر من المراجعة, منه ومن غيره.

    صيام يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم

    السؤال: هل يعد الصوم يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم من البدعة؟

    الجواب: يقول شيخ الإسلام : إن هذا اليوم الذي ولد فيه الرسول إذا خص بالصيام, فإن هذا التخصيص لا شك أنه لا أصل له، وهو وجه من البدعة؛ وأما إذا صام أياماً صادف أن هذا اليوم منها فليس الترك مقصوداً في ذلك.

    الرد على تعريف البدعة بقوله صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك)

    السؤال: أليس قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( احرص على ما ينفعك ), يخرق التعريف الثاني؟

    الجواب: كأن الأخ يشير إلى مسألة العادات، العادات كما أسلفت, هي أظهر شرعاً من أن يستدل عليها بأدلة, وعلى حين تكون من الائتلاف أو الإشارات أو الإيماءات, هناك أدلة صريحة تدل على أن العادات لا إشكال فيها.

    علاقة العادات بالبدع

    السؤال: ربما أن الشاطبي أدخل العادات؟

    الجواب: الشاطبي ما التزم لأحد التعريفين مع أنها في تطبيقات في الكتاب يدخل بعض العادات في البدع أحياناً ويكون إدخاله لها لوجوب اتصال العادة بأمر شرعي, وأحياناً لا يكون كذلك, وبالتأكيد أن مسألة تأثر الشاطبي رحمه الله برأي كثير من متكلمة أهل الإثبات في مسألة التحسين والتقبيح حركت جانب الحكم على بعض العادات بأنها بدعة, يعني: العادات لو تأملت هناك من الاتصال بين هذا وهذا, فهو يغلق تحسين العقل وتقبيحه إغلاقاً على الطريقة الكلامية المعروفة عند قوم من المتكلمين, هذا حرك فيه جانب الحكم على بعض العادات أنها بدعة؛ لأن بعض المعتزلة يقولون: إن الذي يفعل هذه العادات العقل ويستحسنها، والعقل لا يستحسن، فمن أين جاء بهذا الاستحسان؟ إما أن تقول: من الشارع، يقول الشريعة ما استحسنتها, لأنها جديدة, يقول: وإما أن يكون العقل, يقول: العقل لا يحسن.

    إذاً: هنا بدعة, أحياناً يدخل على هذه النتائج وإن كان هذا ليس مطرداً عنده.

    التعامل مع من يحارب السنن

    السؤال: كيف السبيل لمن يحارب سنة أو كيف التعامل معه؟

    الجواب: الأمور المحاربة, كلمة (محاربة) كلمة كبيرة, هناك محاربة, وهناك مخالفة, وهناك خطأ, وهناك اختلاف في اجتهاد أحياناً, لكن المحاربة تدل على أن لها أحكامها الخاصة في التعامل معه ونصر السنة وما إلى ذلك.

    علاقة المثال بإيضاح التعريف والمقال

    السؤال: ألا يمكن أن نقول: إن صاحب التعريف والحد لا يتوقف على صاحب التمثيل؟

    الجواب: بلى, أحسنت, صاحب التعريف لا يتوقف على صاحب التمثيل، قد يكون المثال ليس مناسباً وما علق على الحد الأول أو الثاني من جهة المثال، فهذا المعنى الذي أشار إليه الأخ معنى صحيح, إنك إذا وجدت مثالاً ليس مناسباً ذكره المؤلف على تعريفه لا يلزم أنه هو الذي يسقط التعريف, فإنك يمكن أن تستغني عن المثل, لكن في الحقيقة في كلام الشاطبي الإشكال في أصل التفريع على رأيين أكثر من مسألة المثال المعين.

    حكم الرحلات الطلابية وما يصاحبها من عبادات وعادات

    السؤال: هناك بعض من ينتسب إلى أهل السنة يرى بدعية الرحلات الطلابية .. إلخ؟

    الجواب: هذه الرحلات بما هو معروف بحسب ما يحتف بها من الأحوال, فإذا كانت من الأمور العادية المحضة فالإنسان قد أذنت الشريعة له بالنزهة وما إلى ذلك, وأما إن كان يدخلها شيء من الارتباطات أو المفاهيم التعبدية, أو الالتزامات التعبدية فهذه ينهى عنها من هذا الوجه, فهي من مسائل العادات التي لا تأخذ حكماً واحداً, بل تكون بحسب حالها, والحكم على الشيء كما هو معروف فرع عن تصوره في كل حالة، وكل صورة لها حكمها, فلا تستطيع أن تقول فيها قولاً مطلقاً بقبوله أو تتركها.

    إحداث قول ثالث في مسألة ما

    السؤال: يقول: هل يجوز إحداث قول ثالث في أي مسألة كانت فيها قولان؟

    الجواب: هذه من المسائل التي فيها خلاف بين الفقهاء, وانتهى الخلاف فيها إلى قولين، فهذه مسألة معروفة في كتب الأصوليين وقد بحثت بحثاً معروفاً, إحداث قول لقولين ثابتين هل يجوز ذلك أو لا يجوز, والمشهور فيها ثلاثة أقوال: منهم من جوز ذلك ومنهم من منعها, ومنهم من جوز ذلك إذا كان القول الثالث مأخوذ من أحد القولين, فهنا لا يرون فيه إشكالاً, فأما إذا كان ليس كذلك فيمنعونه, بل القول الثالث في المسألة بمعنى الإحداث لا شك أنه فيما يظهر والله تعالى أعلم أنه لا يكون صحيحاً؛ لأنه إذا انضبط المعنى عند المتقدمين على قولين فحسب؛ فعرف أن الحق لا يخرج عنهما؛ لأنك لو فرضت أن الحق يمكن أن يكون في الثالث للزم أن الأمة وأن المجتهدين قد ضلوا على هذا الحق زمناً من الزمان, أو قدراً من الزمان, وهذا مما عصم الله جل وعلا هذه الأمة منه, والله أعلم.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755942107