إسلام ويب

سهام الليلللشيخ : أنس بن سعيد مسفر

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الظلم عاقبته وخيمة، ولو اعتبر الناس بعاقبة الظلم وما حل بالظالمين من عقاب معجل في الدنيا قبل الآخرة، واتعظوا بذلك؛ لأحجموا عن الظلم وابتعدوا عنه. فهو ظلمات في القلب، وظلمات يوم القيامة؛ وهو أنواع عديدة، وله صور كثيرة تصل إلى أكبر كبيرة وأعظم ذنب وهو الشرك بالله. لكن!! مهما بلغت سطوة الظالم فإن سلاح الدعاء إذا انطلق من لسان ضعيف فإنه يوشك أن يستجاب له في الدنيا، على ما ينتظر الظالم من قصاص عادل في الآخرة.

    1.   

    قبح الظلم وشناعته عند الله وخلقه

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.

    أيها الإخوة الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    وأسأل الله عز وجل كما جمعنا في هذا المكان المبارك أن يجمعنا في الدنيا على الخير والطاعة، وأن يجمعنا في الآخرة إخواناً على سررٍ متقابلين.

    أيها الإخوة الكرام: إن مجالس الذكر والعلم مجالس يتقرب بها الإنسان إلى الله عز وجل، مجالس تحفها الملائكة، وتنزل على أهلها السكينة، وتغشاهم الرحمة، ووالله إذا وجد الإنسان من نفسه حباً لهذه المجالس وحباً لأهلها فإن ذلك علامة توفيق، فليسأل الله الثبات عليها؛ لأن الإنسان المؤمن لا يحب إلا ذكر الله ويطمئن له، فإذا وجدت من نفسك اطمئناناً لذكر الله عز وجل فهذا علامة إيمانك، يقول الله عز وجل: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].

    أيها الإخوة: عنوان هذا اللقاء: (سهام الليل) تلك التي تُرْفع إلى الله عز وجل بالدعوات لينتقم من الظالمين .. سهام الليل هي حيلة كل مؤمن .. سهام الليل هي ملجأ كل مُتَّقٍ مظلوم يرفع يده إلى الله عز وجل حتى ينصره ممن ظلمه .. هذه السهام -أيها الإخوة- نغفل عنها كثيراً وهي والله لها الأثر العظيم، إن الظالم وهو يظلم ويعتدي وينتهك الحقوق والأعراض ويأخذ الأراضي، إنه وهو يفعل ذلك ينسى أن هناك أيدياً ترتفع إلى السماء دعاءً إلى الله بأن يهلك الظالمين، وبأن يجعل الدائرة عليهم، وبأن ينصر عباده المظلومين.

    إن الظالم ينسى قوة العزيز وجبروته سبحانه وتعالى، وهو القوي العزيز، الجبار المنتقم، يظن الظالم أن الضعيف الذي لا يملك من الدنيا ولا من أسباب القوة شيئاً أنه ليس قوياً، بل هو قوي بالله عز وجل، منتصر به.

    الظلم -أيها الإخوة- ذاك الاسم الذي يجمع الرذائل ويدل على القبائح؛ هو اسم تبغض سماعَه الآذان، وتتأفف من النطق به الألسنة، ولا تجد عاقلاً يحب أن يوصف بهذا الخلق القبيح، بل حتى الظالم لا يرضى أن يقال له: يا ظالم! وتأمل في اسم الظلم ما أقبحه! وما أقبح دلالته ومعانيه! ولقبحه فإن الله تعالى لما خاطب الناس بتحريمه أخبرهم بأنه حرمه أولاً على نفسه سبحانه وتعالى، فعن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا) ، إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النساء:40] .

    الظلم طريق مهلك، ما سلكه أحد فنجا، فإياك أن تكون من سالكيه.

    والظلم: مجاوزةُ الحد، ومنعُ أهل الحقوق حقوقهم.

    1.   

    ظلم الناس بعضهم لبعض

    والظلم له عدة أنواع:

    قال ابن القيم رحمه الله: والظلم عند الله عز وجل يوم القيامة له دواوين ثلاثة:

    فديوان لا يغفر الله منه شيئاً: وهو الشرك: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] ، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] .

    وديوان لا يترك الله منه شيئاً: وهو ظلم العباد بعضِهم لبعض، فإن الله يستوفيه كله.

    وديوان لا يعبأ الله به: وهو ظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه، فإن هذا الديوان -أي الأخير- أخف الدواوين وأسرعها محواً، فإنه يُمحى بالتوبة والاستغفار، والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، بخلاف الشرك فلا بد من التوبة والتوحيد، وبخلاف المظالم فلا بد من ردها واستحلال أهلها حتى يأتي يوم القيامة وليس عليه من المظالم شيء، وإلا فإنه سيؤخذ منه.

    وكلامنا اليوم -أيها الإخوة- في النوع الثاني من أنواع الظلم: ظلم الناس بعضِهم لبعض .. أخذُ الحقوق، وانتهاك الأعراض، وأكل أموال الناس بالباطل، والسب والشتم، والضرب، ومنع الحقوق.

    نتكلم اليوم عن هذا وعاقبته .. نتكلم عن سلاحٍ ماضٍ، عن سلاحٍ هو سلاح المظلومين، سلاحٌ ما أمضاه! كم غيَّر من أحوال! وكم قلب من دول! وكم أذل من عزيز!

    الظلم ظلمات يوم القيامة

    الظلم له ظُلْمة، وظلمته أقبح الظلمات، وأشد من ظلمة سواد الليل؛ لأنها مربوطة بظلمة يوم الهول والنشور، وما أشد ظلمات ذلك اليوم! أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنْ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [مريم:38] .

    وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الظلم فقال: (اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة) رواه مسلم .

    قال ابن الجوزي رحمه الله: الظلم يشتمل على معصيتين:

    أخذ مال الغير بغير حق، هذه المعصية الأولى. ومبارزة الرب بالمخالفة.

    والمعصية الأولى أشد من غيرها؛ لأنها لا تقع غالباً إلا على الضعيف الذي لا يقدر على الانتصار.

    وإنما يُنْبئ الظلم عن ظلمة القلب، ولو استنار بنور الهدى لاعتبر، فإذا سعى المتقون بنورهم يوم القيامة اكتنفت الظُّلْمةُ الظالم حيث لا يغني عنه ظلمه شيئاً.

    وفي وصية لسلمان الفارسي رضي الله عنه يوصي بها جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: [يا جرير ! أتدري ما ظلمة النار؟ قال: لا، قال سلمان : فإنها ظلم الناس بعضهم لبعض في الأرض] .

    قال صلى الله عليه وسلم: (تعوذوا بالله من الفقر، والقلة، والذلة، وأن تُظْلَم أو تَظْلِم) رواه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي وابن ماجة ، وصححه الألباني .

    أخي المسلم! لا يفوتنك التعوذ من الظلم، عسى أن تكون من الناجين من مخازيه في الدنيا وفي الآخرة.

    أخي المسلم! نار الظلم نار لا ترحم، وعقاب الظالم إذا حلَّ عقابٌ لا يوصف، إن الظالم وهو يعيش يظن أنه ليس هالكاً، والظلم هالك للأفراد، وهو خراب للديار والدول، وإذا حلت نقمة الله على الظالم فيا ويله ما أشدها!

    الأدلة والآثار الواردة في ذم الظلم

    قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم] .

    حنانيك لا تظلم فإنك ميـتٌ     وبالبعث عما قد توليت تسألُ

    وتُوقَف للمظلوم يأخذ حقـه     فيأخذ يوم العرض ما كنت تعملُ

    وقال سفيان بن عيينة رحمه الله: [أول ما كُتِب بالزبور: ويلٌ للظَّلَمَة] .

    وقال شريح القاضي رحمه الله: [سيعلم الظالمون حق مَن انتقصوا، إن الظالم ينتظر العقاب، والمظلوم ينتظر النصر والثواب] .

    فيا من رَتَعْتَ في مراتع الظلم الوخيمة! ويا من غرَّك حِلْم الله وإمهالُه للظالمين! أفقْ فعمَّا قليل سينزل العقاب ممن لا يُهْمِل الظالمين فتصبح كأمسٍ الدابر: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45] قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]) أخرجه البخاري ومسلم .

    قال مسعر بن كدَّامٍ رحمه الله: [أناةُ الله حيرت قلوب المظلومين، وحِلْمُ الله بسط آمال الظالمين].

    فيا غافلاً عن عقاب الله تعالى! إن الله لن يغفل عنك إذا ظلمت عباده وظننت أنك تنجو، كلا! إن لك يوماً سيُنْسِيك النعمة.

    قال بعض الحكماء: اذكر عند الظلم عدل الله فيك، وعند القدرة قدرة الله عليك، لا يعجبك رحب الذراعين من سفاك الدماء فإن له قاتلاً لا يموت.

    إنه ليس شيء أدعى إلى تغير نعمة أو تعجيل نقمة من إقامة ظالم على ظلمه.

    أخي المسلم! إن عقوبات الظالمين ليست قاصرة على الأفراد، بل إن الظلم إذا عمَّ أرضاً كان ذلك إيذاناً بهلاكها وخرابها، فكم من دول هلكت بسبب الظلم، وكم من ديار أصبحت خراباً بسبب الظلم: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً [الكهف:59] .

    عن سفيان بن عيينة رضي الله عنه ورحمه قال: قال كعب الأحبار : [إني أجد في كتاب الله المنزل -أي: في كتاب الله فيمن سبق-: إن الظلم يخرب الديار. قال ابن عباس : وأنا وجدتها في كتاب الله، قال الله تعالى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [النمل:52-53]] .

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة، ويروى: إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة.

    فالعدل صلاح للدول، وعمار للبلاد، وسعادة للخلق، وضده الظلم فإنه فساد للدول، وخراب للبلد، وشقاء ودمار.

    بعض الولاة لـعمر بن عبد العزيز كتب كتاباً إليه فقال: [أما بعد: فإن مدينتنا قد خربت، فإن رأى أمير المؤمنين أن يقطع لنا مالاً نرمِّمها به.

    فوقَّع في كتابه أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز وقال: أما بعد: فحصِّنها بالعدل -الله أكبر!- ونقِّ طرقها من الظلم، فإن ذلك مَرَمَّتها، والسلام].

    أخي المسلم! احذر من الظلم فإن عواقبه وخيمة، وعقابه نازل لا محالة، وإن شئت فاسأل عن الظالمين وما نزلت بهم من العقوبات، وما ذاقوه من المرارات التي أذاقوها الضعفاء..

    يا أيها الظالم في فعلهِ     الظلم مردودٌ على مَن ظلم

    إلى متى أنت وحتى متى     تسلو المصيبات وتنسى النقم

    سلاح المظلوم

    أتدري أخي الكريم! ماذا يملك المظلوم من سلاح؟!

    إنه يملك دعوة اسمها: دعوة المظلوم، تلك الدعوة التي تُفَتَّح لها أبواب السماء، وقد تكفَّل الله بنصرة صاحبها، دعاء المظلوم دعاء يخرج من قلب صادق في دعائه، مخلص في توجهه، موقن بالنصر، وإن كان صاحبه فاجراً.

    لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن قال له في وصاياه العظيمة: (واتقِ دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب) وفي ذلك إشارة واضحة إلى خطورة الظلم وعواقبه، فقدِّر كيف تكون دعوةً ليس بينها وبين الله حجاب؟! إنها تخترق الحجب فتصل إلى الله عز وجل.

    إن دعوة المظلوم إذا خرجت من قلبٍ قد اكتوى بنار الظلم، فكأنما تخرج ناراً مستعرة، قال صلى الله عليه وسلم: (اتقوا دعوة المظلوم! فإنها تصعد إلى السماء كأنها شررُ نار) رواه الحاكم والديلمي في المسند وصححه الألباني .

    فيا غافلاً عن دعاء المظلوم وقد فُتِّحت له أبواب السماء! احذر واعلم أن نصر الله لمن ظلمتَه سينزل قريباً، قال صلى الله عليه وسلم: (اتقوا دعوة المظلوم فإنها تُحْمل على الغمام، ويقول الله جل جلاله: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين) رواه الطبراني وغيره وصححه الألباني .

    فالمظلوم مستنصر بالله تعالى، ولن يضيع مستعيذ به تعالى، قال يزيد بن حاتم: ما هِبتُ شيئاً قط هيبتي من رجل ظلمته وأنا أعلم أنه لا ناصر له إلا الله، فيقول: حسبك الله، بيني وبينك الله، اتقِ ظلم من لا ناصر له إلا الله.

    وقال بلال بن مسعود : [اتقِ الله فيمن لا ناصر له إلا الله] .

    فيا ظالماً للضعيف! أتنام آمناً وهاهي الأكف التي ظلمتها ترفع أيديها بالدعاء عليك وأنت غافل لا تشعر؟!

    ليعلم الظالم أنه كم مِن أناس كانوا في قمة الرخاء والثراء والعافية والعز، فأصابتهم دعوة مظلوم؛ فتحولت النعمة وبقيت النقمة، وتبدل الرخاء شدة، والثراء فقراً، والعافية مرضاً، والعزة ذلة!

    ليعلم الظالم أنه ينام قرير العين، والمظلوم يرفع يديه بالليل والنهار إلى من لا تنام عينه فيستجيب دعاءه؛ فيصبح الظالم في شر حال!

    قال أبو الدرداء رضي الله عنه: [إياك ودمعة اليتيم، ودعوة المظلوم؛ فإنها تسري بالليل والناس نيام] .

    دعوةُ مظلومٍ ..

    تمر وراء الليل والليل ضـاربٌ     بجثمانه فيه سميرٌ وهاجعُ

    إذا وَفَدَت لم يرْددِ الله وفدهـا     على أهلها والله راءٍ وسامعُ

    فما أشد سواد الليل على الظالمين! فكم من دعاءٍ فيه مستجاب! وكم من ظالمٍ أُذِن في هلاكه عند الصباح!

    لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرا     فالظلم ترجع عقباه إلى الندمِ

    تنام عيناك والمظلوم منتبهٌ     يدعو عليك وعين الله لم تنمِ

    فيا غافلاً احذر سهام الليل، فكم من ظالمٍ أرْدَته! وكم من باغٍ مع الأموات أسكنته!

    أتهزأ بالدعاء وتزدريهِ     وما تدري بما صنع الدعاءُ

    سهام الليل لا تخطي ولكن     لها أجلٌ وللأجل انقضاءُ

    فيمسكها إذا ما شاء ربي     ويرسلها إذا نفذ القضاءُ

    فراجع نفسك أيها الظالم! وتب وأعطِ المظلوم حقه.

    وأنت أيها المظلوم! اطمئن وقرَّ عيناً فإن الله ناصرك ومؤيدك، ولو علم مظلوم أن مَلِكاً من ملوك الدنيا أقسم أنه ناصره لفرح، فكيف والله عز وجل ملك الدنيا والآخرة، والملك الجبار يقول: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين) اطمئن وثق بالنصر فإن الله ناصرك.

    اصبر على الظلم ولا تنتصـر     فالظلم مردود على الظالمِ

    وكِلْ إلى الله ظلوماً فما     ربِّي عن الظالم بالنائمِ

    أيها الإخوة: ونحن نرى الظلم اليوم قد تجاوز الحدود .. ظلمٌ في كل مكان .. ظلمٌ في بيوت المسلمين، وظلمٌ في مجتمعات المسلمين، وظلمٌ من الكافرين على المسلمين، وتعدٍ للحقوق، لنثق في نصرة الله عز وجل ورفعه للظلم، فإن الله لا يحب الظالمين.

    1.   

    لقد كان في قصصهم عبرة

    أيها الإخوة الكرام: لنستعرض قصص الأمة؛ ففي قصص الأمم فائدة وعبرة، عسى أن يعتبر الظالمون، والقصص كثيرة، بدايةً من أنبياء الله ورسله الذين رفعوا أكفَّ الضراعة إليه، كما قال الله عن نوح: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر:10] فأنزل الله عز وجل عذابه ورجسه على أعدائه، وختاماً بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي دعا على مَن خالفه واستكبر ولم يستجب للحق؛ فأهلكهم الله ورأى صلى الله عليه وسلم بعينه مصارعهم في بدر وغيرها، ثم بأولياء الله الصالحين الذين ظُلِموا فرفعوا أكفَّ الضراعة إلى الله؛ فانتصر الله لهم ممن ظلمهم.

    وسوف نأخذ بعض القصص والعبر، والقصص كثيرة وكثيرة، ولن أستطيع أن أوفي ما جمعتُ في هذه المحاضرة، فعند كل واحدٍ منا قصة يعرفها عن الظلمة والظالمين.

    قصة أبي سعدة مع سعد بن أبي وقاص

    هذا سعد بن أبي وقاص خال النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، من فداه صلى الله عليه وسلم بأبويه فقال: (ارْمِ سعد فداك أبي وأمي) عليه الصلاة والسلام.

    كان لـسعد دعوة مستجابة لا ترد، ولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه على العراق وعلى الكوفة، وكان رجلاً قائماً بالعدل، متقياً لله عز وجل، لكن وإن كان أهل الخير عادلين قائمين بأوامر الله فإنهم لا يَسْلَمون من البهتان، فيأتي بعض الفسقة والظلمة فيبهتونهم، فأرسلوا إلى عمر برسالةٍ عاجلة: إن عاملك وواليك في العراق لا يعدل. وكان عمر شديداً على الولاة؛ خوفاً من الله عز وجل، فأرسل إليه مندوباً، وهو محمد بن مسلمة وقال: اذهب إلى كل مسجدٍ من مساجد الكوفة واسألهم عن سعد.

    فدخل في كل مسجدٍ من مساجد الكوفة يسألهم عن سعد وحاله، فكانوا جميعاً يثنون عليه، حتى دخل في مسجدٍ من مساجد بني عبس فسألهم، فلما سألهم ولم يجب أحد، قام رجل اسمه أسامة بن قتادة ويكنى أبا سعدة، فقال: أما وإذ نشدتنا فإن سعداً -قام رياءً وسمعة، وظلماً وبهتاناً، اسمعوا ماذا قال عن سعد - فقال: إن سعداً لا يسير في السرية -أي: لا يخرج في الجيش، وهو صاحب القادسية رضي الله عنه وأرضاه- ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، ولا يحسن الصلاة. الله أكبر ما أعظمه من بهتان!

    ألا يحسن الصلاة وهو خال الرسول صلى الله عليه وسلم؟!

    ألا يخرج في السرية وهو صاحب القادسية ؟!

    ألا يعدل في القضية وهو المبشر بالجنة؟!

    لكن ظلماً وبهتاناً بُهِتَ هذا الرجل الصالح.

    فما كان من سعد وقد رأى هذا البهتان الواضح إلا أن رفع أكفه إلى السماء داعياً فقال: [أما والله لأدعونَّ بثلاث -انظر إلى التحذير- اللهم إن كان عبدك كاذباً وقام رياءً وسمعة فأطل عمره، وأطل فقره، وعرِّضه للفتن] فكان ذلك الرجل بعد ذلك يدور في أسواق الكوفة فيغمز النساء، وقد جاوز المائة، فيقال له: أنت شيخ كبير كيف تغمز النساء وتتعرض للفتن؟! فيقول: شيخٌ كبير مفتون أصابته دعوة سعد.

    قال عبد الملك بن عمير : [فأنا رأيته بعد أن سقط حاجباه على عينيه من الكبر يتعرض للجواري في الطرق يغمزهن] والعياذ بالله! أخرجه البخاري ومسلم .

    فهكذا أيها المسلم المؤمن بالله! تكون نهاية الذين يؤذون الناس بغير ما اكتسبوا، فما بالك بهؤلاء الذين ينالون من الدعاة والعلماء والصالحين والأخيار، قوَّام الليل والنهار؟! ينالون منهم ابتغاء الفتنة .. ينالون منهم ويتقوَّلون عليهم ما لم يقولوا، ويقولون أنهم فعلوا ما لم يفعلوا! سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [الزخرف:19] وإني أحذرهم من دعوة صالح ترفع في ليل مظلم إلى الله عز وجل فينصره الله ويعاقب مَن ظلمه.

    قصة أروى بنت أويس مع سعيد بن زيد

    وأذكر قصة أخرى لعبدٍ صالح آخر أحد العشرة المبشرين بالجنة.. سعيد بن زيد رضي الله عنه وأرضاه هذا الرجل العظيم الذي كان من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد العشرة المبشرين بالجنة.

    كان رضي الله عنه في زمن بني أمية قد وقعت له حادثة عجيبة.. يروى أن بنت أويس زعمت أن سعيد بن زيد قد غصب شيئاً من أرضها وضمه إلى أرضه، وجعلت تلوك ذلك بين المسلمين وتقول: انظروا إلى سعيد ظلمني وأخذ أرضي. ثم رفعت أمرها إلى مروان بن الحكم والي المدينة ، فأرسل إليه مروان أناساً يكلمونه في ذلك، فصعب الأمر على صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يرونني أظلمها! كيف أظلمها وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: مَن ظلم شبراً من الأرض طوقه يوم القيامة في سبع أراضين؟! اللهم إنها قد زعمت أني ظلمتها، فإن كانت كاذبة فأعمِ بصرها، وألقها في بئرها التي تنازعني فيه، فأظهِر من حقي نوراً بين المسلمين يبين أني لم أظلمها) أخرجه مسلم .

    فلم يمضِ على ذلك قليل حتى سال وادي العقيب بسيل لم يسل بمثله قبل، فانكشف الحد الذي كانوا يختلفون فيه، وظهر للمسلمين أن سعيداً كان صادقاً، ولم تلبث المرأة بعد ذلك إلا أشهرَ حتى عميت، وبينما هي تطوف في أرضها تلك سقطت في بئرها. يقول ابن عمر : [فكان الناس يقولون: أعماك الله كما أعمى أروى ] إنها دعوة العبد الصالح المظلوم المتهم.

    أيها الإخوة: إن المظلوم وهو يرفع كفه إلى الله ليعلم أن الله ناصره، وكم من ظالمٍ تجبر وعتا وظن أنه لن يهلك، فإذا برب العزة والجلال يأخذه ويقطع دابره.

    قصة الحجاج مع سعيد بن جبير

    وهذا الحجاج بن يوسف الثقفي .. رجل من الظالمين، ووالٍ من الولاة المعتدين، قال عنه الذهبي رحمه الله: نسبُّه ولا نحبُّه، ونَكِل أمره إلى الله، فإنه كان من الظالمين.

    في يومٍ من الأيام خرج عليه سعيد بن جبير رضي الله عنه في قضيةٍ طويلة تسمى بقضية ابن الأشعث ، ثم خرج رضي الله عنه ورحمه إلى مكة يتخفى من الحجاج ، والحجاج يطلبه يريد الانتقام منه.

    وفي يوم من الأيام علم الحجاج وأتباعه أنه في مكة ، فأرسلوا له والي مكة يطلبه أن يحضر رضي الله عنه ورحمه، فأرسل والي مكة جنوده للبحث عنه حتى وجدوه، وألقوا القيد على يديه على مرأىً من أصحابه، ثم آذنوه بالرحيل إلى الحجاج، فتلقاهم رحمه الله هادئ النفس مطمئن القلب، ثم التفت إلى أصحابه وقال: [ما أراني إلا مقتولاً على يد ذلك الظالم، ولقد كنتُ أنا وصاحبان لي -اسمع- في ليلة عبادة، فاستشعرنا حلاوة الدعاء فدعونا الله بما دعوناه، وتضرعنا إليه بما شاء أن نتضرع، ثم سألنا ربنا عز وجل أن يكتب لنا الشهادة، وقد رزقها الله لصاحبيَّ كليهما، وبقيت أنا أنتظرها] .

    ثم ما إن انتهى من كلامه حتى طلعت عليه بنتٌ صغيرة من بناته، فلما رأته مقيداً والجند يسوقونه تشبثت به وجعلت تبكي وتنشج، فأبعدها برفق والعَبَرة في فؤاده رحمةً بها لا جزعاً من الموت، وقال لها: [يا بُنَيَّة! قولي لأمكِ: إني أرجو الله أن يجمعنا في الجنة، وإن افترقنا فإن موعدنا الجنة إن شاء الله] .

    ثم مضى، وفي الطريق أظهر من عبادته وزهده وورعه ما أذهل بذلك الجند! حتى قالوا: [كيف يُقْتَل مثل هذا وليس له جناية ؟!] .

    ولما وصل سعيد إلى الحجاج أدخلوه عليه وهو في حقدٍ وغيضٍ شديد، فقال له الحجاج: ما اسمك؟

    قال: اسمي سعيد بن جبير .

    فقال له الحجاج : بل أنت شقي بن كسير.

    فقال: أمي أعلم بي إذ سمتني منك.

    فقال: ما تقول في محمد؟

    قال: ومن تعني بمحمد؟! هل تريد الرسول صلى الله عليه وسلم؟!

    قال: نعم.

    قال: هل يخفى عليك قولي فيه وهو سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام، النبي المصطفى؟! وليس مثلك يسأل مثلي؛ لأننا جميعاً نؤمن برسالته، ولا يُسأل إلا شاكٌ مرتاب، يربيه ويعلمه.

    قال: فما تقول في أبي بكر ؟

    قال: هو الصدِّيق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذهب حميداً وعاش سعيداً.

    ثم سأله عن عمر وعثمان وعلي، وهو يجيب بما اتُّصِف به كلُّ واحد من هؤلاء الكرام البررة، صفوة الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، الأئمة المهديين.

    ثم قال له الحجاج : أي خلفاء بني أمية أعجب إليك؟

    قال له: أرضاهم لخالقه.

    قال: فأيهم أرضى للخالق؟

    قال: علم ذلك عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى [طه:52] أي: لا أعلم أنا من هو أرضاهم.

    قال: فما تقول فيَّ؟

    قال: أنت أعلم بنفسك.

    قال: أريد علمك أنت.

    قال: إذاً يسوءُك ولا يسرك. وهو يرى النطع ويرى السيف؛ لكنه مؤمن بطل.

    قال: لا بد أن أسمع.

    قال: إني لأعلم أنك مخالف لكتاب الله، تُقْدِم على أمور تريد بها الهيبة وهي تقحمك في الهلكة وتدفعك إلى النار.

    قال له الحجاج وقد غَضِب: والله لأقتلنك.

    قال: إذاً تفسد عليَّ دنياي، وأفسد عليك آخرتك.

    قال الحجاج في عُتُو: اختر لنفسك أي قِتْلة شئت.

    قال سعيد: بل اخترها أنت لنفسك يا حجاج! فوالله ما تقتلني قتلة إلا قتلك الله بمثلها في الآخرة.

    قال له الحجاج: أتريد أن أعفو عنك.

    قال سعيد: إن كان عفوٌ فمن الله تعالى.

    فدعا الحجاج بالسيف والنطع، فتبسم سعيد، فقال له الحجاج: وما تبسمك؟

    قال: عجبت من جرأتك على الله، وحِلْمِ الله عليك.

    قال: اقتله يا غلام! اقتله يا غلام!

    فاستقبل سعيد القبلة وقال: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ ولأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:79].

    قال: احرفوه عن القبلة.

    قال سعيد: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115] .

    قال: كبوه على الأرض.

    قال سعيد : مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55] .

    فقال الحجاج : اذبحوا عدو الله، اذبحوا عدو الله، فما رأيت أحداً أََدْعَى للآيات منه.

    فرفع سعيد المظلوم كفيه البريئتين إلى الرب القدير، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19] ثم قال: اللهم لا تسلط الحجاج على أحدٍ بعدي.

    ثم قُتِل رضي الله عنه ورحمه.

    ولم يمضِ على مصرع سعيد خمسة عشر يوماً حتى أصيب الحجاج بحمىً شديدة، واشتدت عليه وطأة المرض، حتى كان يغفو ساعة ويفيق أخرى، فإذا أفاق استيقظ مذعوراً مهزوماً وهو يصيح ويقول: هذا سعيد بن جبير آخذٌ بخُنَّاقي يقول: فيمَ قتلتني؟! ثم يبكي ويقول: ما لي ولـسعيد بن جبير ؟! ما لي ولـسعيد بن جبير ؟! أبعدوا عني سعيد بن جبير. وما بقي إلا أياماً وهو في عذاب شديد حتى قصم الله ظهره، وأزال ذكره، وأحصى بطشه، وجعله عبرةً للمعتبرين .. فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45] .

    وقد روي أنه لما مات رآه بعض الناس فقالوا له: ما فعل الله بك؟ قال: قتلني الله تعالى بكل امرئ قتلته مرة، إلا سعيد بن جبير قتلني الله به سبعين مرة.

    ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [يونس:52] .

    مضى الحجاج بإثمه ووزره، ومرده إلى ربه: الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [غافر:17] .

    نعم أيها الإخوة! هذه قصة لبعض الصالحين الذين ذهبوا في بطش ظالم، لكن الله انتقم ممن ظلمهم.

    أيها الظالم انتبه! فإن الظلم مرده وخيم، وعاقبته عاقبة والله لا تَسُر.

    قصة الملك المتجبر مع العجوز وكوخها

    يروى عن وهب بن منبه اليماني قال: إن جباراً بنى قصراً وشيده وزخرفه، وأنفق عليه أموالاً كثيرة وجواهر نفيسة، وأراد أن يجعله قرة عين، ظاناً أنه لن يخرج منه، وأنه لن يزول ملكه.

    وفي يوم من الأيام أخذ يطوف بالقصر في كِبْر وعُجْب وزُهُو وخُيَلاء، فرأى قريباً من القصر في جانبٍ منه كوخاً صغيراً من القش وعسبٍ النخل وأوراق الشجر، فقال: لمن هذا الكوخ؟

    قالوا: لامرأة عجوز بنته لتسكن فيه، وهي امرأة منقطعة ليس لها ولد ولا قرابة، وأرادت القرب من الملك لعلها أن تنال من عطائه.

    فقال في ظلم وعتو: اذهبوا واهدموه وأزيلوه من مكانه، فلا ينبغي أن يكون بجانب قصري حتى لا يشوه منظره، ولا ينتننا برائحته.

    فذهب الجنود إلى كوخ المرأة فهدموه، ولم يتعبوا في هدمه؛ فلم يكن إلا بيتاً صغيراً من الخشب، ثم أصبح أثراً بعد عين، ورجعت العجوز آخر النهار تريد أن ترتاح بعد أن طلبت العيش، وقد تجد العيش وقد لا تجده.

    وفي الطريق لم تجد هذا البيت، فظنت أنها ضلت الطريق إلى بيتها، بحثت عنه فلم تجده، ثم سألت أحد الناس وقالت: هل تعلم أين الكوخ الذي كان في هذه الأماكن؟

    قال: نعم.

    قالت: أين هو؟

    قال: أمر الملك بإزالته من مكانه.

    فنظرت إلى السماء واستنجدت بملك الملوك سبحانه، ورفعت أكفها إلى الله وقالت: اللهم يا رب المستضعفين! ويا مغيث المستغيثين! ويا أرحم الراحمين! لا يعجزك شيء في الأرض ولا في السماء، يا جبار السموات والأرض! يا من يقول للشيء: كُنْ فَيَكُونُ [البقرة:117] اللهم إني غبت عن كوخي وذهبت لحاجتي، وقد استودعتك ذلك الكوخ واعتدى عليه هذا الظالم، اللهم فاقلب قصره عليه، وخذه أخذ عزيز منتصر لعبدك الضعيف من الجبار العنيف.

    فأمر الله جبريل أن يقلب القصر على الملك ومن فيه، فقلبه حتى سوى به الأرض، وخرب القصر ومن فيه.

    وهكذا تكون عاقبة الجبارين والمفسدين، نسأل الله العافية.

    إن عاقبة الظلم عاقبة وخيمة، ولو وجد الظالم فرحةً بظلمه وإمهالاً لكنه والله سيأتي عليه يوم يندم فيه.

    روي أن الحجاج حبـس رجلاً في حبـسه أياماً، فكتب ذلك الرجل إلى الظالم الحجاج وقال -اسمعوا ماذا قال-: [يا حجاج! قد مضى من بؤسنا أيام -يقول: نعم. نحن ابتأسنا وتأثرنا أياماً- ومن نعيمك أيام، والموعد القيامة، والسجن جهنم، والحاكم لا يحتاج إلى بينة. ثم كتب في آخرها:

    ستعلم يا ظلوم إذا التقينا     غداً عند الإله مَن الملومُ

    أما والله إن الظلم لؤمٌ     وما زال الظلوم هو الملومُ

    سينقطع التلذذ عن أناسٍ     أداموه وينقطع النعيمُ

    إلى الديان يوم الدين نمضـي     وعند الله تجتمع الخصومُ
    ]

    هناك والله في ذلك اليوم يرى الظالم عقوبة ظلمه، ويرى نهايته، ويرى أنه ما استفاد من إسرافه وتجبره.

    قصة لظالم من واقعنا المعاصر

    قصة أخرى من عالم الواقع: في يوم من الأيام آذنت الشمس بالمغيب، فكان إيذاناً بانتهاء ذلك اليوم من أيام رمضان، وفي تلك اللحظة كان في زاوية من زوايا المدينة بيت ضعيف لأناس فقراء، يجلسون على الطعام الجاف القاسي الذي استقر أمام تلك الأسرة، وأنت لو رأيته لرثيت لحالهم، وقد كان ذلك الرجل الفقير لا يملك من أمر الدنيا شيئاً، وقد كان ربُّ الأسرة بائساً شاردَ الفكر، يستعيد في قلبه الحديث الذي دار بينه وبين ذلك الطاغية الجبار، وقد تهدده وتوعده إن لم يُعِد له المبلغ الذي اقترضه منه اليوم قبل غدٍ ليعذبنه عذاباً شديداً.. ومن أين لهذا المسكين أن يعيد هذا المبلغ وهو لا يجد لقمة العيش؟!

    لكن ماذا يفعل وهو لا يستطيع أن ينتصر لنفسه؟! كيف يواجه ذلك الطاغية الذي أوتي بسطة من الجسم وقلةً في العلم، رافقتها قسوة في القلب، وفظاظة في القول.

    فأفاق من خيالاته وتأملاته على صوت مزعج خارج المنزل يرغي ويزبد، اضطرب الصوت وفتح الباب بعنف من دون استئذان ثم دخل، فنظر المسكين وإذا بالشقي الجبار يقف كالمارد أمام الأب المسكين الذي تحيط به أسرته البائسة، ومن غير كلام ولا مقدمات تناول الطاغية ذلك المسكين وأخذ يضربه بيده ويركله برجله، ويسبه ويشتمه، وارتفعت أصوات أسرة المسكين تبكي وتنوح وتقول: حسبنا الله ونعم الوكيل!

    وبعد ألمٍ شديد ألحقه الجبار العنيد بالمسكين خرج متكبراً متبختراً، تاركاً أب الأسرة الفقيرة كالميت على فراشه، وانطلق صوت المؤذن لصلاة المغرب وهو يقول: الله أكبر. في يوم رمضان وعند وقت إجابة الدعاء؛ لأن إجابة الدعاء عند المغرب لها وقتان:

    أحدهما: عند الإفطار.

    وثانيهما: بعد الأذان.

    فنظر المظلوم إلى الظالم في هذين الوقتين، ورفع يديه إلى السماء ثم قال: الله ينتقم منك! الله ينتقم منك! وما هي إلا عشرة أيام فقط وإذا بذلك الظالم يشكو من ألم في ساقه، فيُنقل إلى المستشفى، ثم بعد الأشعة والتحليل يقول الأطباء: لا بد من نقله إلى مستشفى أكبر وأكثر عناية، ثم ما إن وصل المستشفى الكبير حتى قرر الأطباء أنه مصاب بمرض السرطان، وأنه لا بد أن تبتر قدمه وتقطع رجله وإلا انتشر السرطان في رجله، فقال: تقطعون قدمي؟!

    قالوا: نعم.

    قال: اقطعوها لأنام وأستريح.

    وخرج من المستشفى بعد عشرة أيام بقدمٍ واحدة لا يستطيع المشي عليها وقد دخل بقدمين، إن المقطوعة هي القدم التي رفست وضربت المظلوم، إنها دعوة المظلوم قطع الله بها تلك القدم الآثمة التي ضرب بها المظلوم.

    أيها الإخوة الكرام: الظلم في الواقع كثير، ونحن نرى اليوم تسلط أعدائنا علينا .. تسلط اليهود بالظلم على إخواننا المسلمين في فلسطين، ظلم ليس بعده ظلم، لكن أبشر يا أخي! بنصر الله، فإن الله ينصر المظلومين، ولنصْبِرْ ولنَثْبُتْ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128] .

    1.   

    عقوق الوالدين

    والظلم في الواقع له صور عدة: فمن أعظم الظلم في واقع الناس اليوم ما نراه من العقوق، ومن ظلم الأبناء للآباء والأمهات، فكم من أبٍ وأم ناما وهما يبكيان من عقوق ولدهما! وكم من أكفٍ رفعت إلى السماء من آباء وأمهات مكلومين تعبوا وربوا واجتهدوا وسهروا من أجل هذا الولد أو تلك البنت، فإذا بهما عاقان ظالمان لهم! بل تعدى الأمر إلى أن تُمْنَع الحقوق .. وإلى الضرب .. بل إلى القتل والعياذ بالله!

    ما أبشع هذا الظلم أن يظلم الإنسان أقرب الناس إليه!

    وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً     على القلب من وقع الحسام المهندِ

    فهذا يقتل أمه التي ربته! بل وقد ثبت بالتحقيق أنها ما منعت منه شيئاً؛ فقد اشترت له السيارة، وأعطته المال، ثم يدخل وهو ظالم لنفسه، فيتناول أمه ويقطع رأسها بالفأس الذي تقطع به الأشجار وتقلَّم! هل هناك ظلم أعظم من هذا الظلم؟!

    قصة رجل عق أمه فكانت نهايته وخيمة

    اسمعوا -أيها الإخوة- إلى هذه القصة العجيبة: إن هذا الابن يعامل أمه بقسوة، فيصرخ في وجهها، بل ويسبها ويشتمها، ولقد أعطاه الله قوةً في الجسم؛ لكنه صرفها في الظلم والاستبداد بالرأي، كانت أمه العجوز كثيراً ما تتوسل إليه أن يخفف من حدته وجفوته وطغيانه، فالكل مِن حوله نفر منه، حتى زوجته تركته بلا عودة، بسبب قسوته وشدته، فكان يجعل أمه العجوز تخدمه وتقوم على شئونه، وهي التي تحتاج إلى الرعاية والخدمة، فما أكثر ما أسال دمعها على خدها وهي تدعو الله أن يصلح لها فلذة كبدها ويهدي قلبه! كيف لا وهو وحيدها؟!

    وفي يومٍ من الأيام دخل عليها ذات يوم والشر يتطاير من عينيه، فصرخ في وجهها: ألم تعدي الغداء؟!

    فقامت العجوز بيدين ترتعشان، وجسدٍ واهٍ أثقلته السنون والأمراض والهموم لِتُعِد الغداء لقرة عينها، فلما رأى الطعام لم يعجبه ألقاه على الأرض، وأخذ يتبرم ويتسخط ويقول لأمه: أعلم أنكِ لا تصلحين لشيء، لقد بُلِيت بعجوز شمطاء لا أدري متى أتخلص منها، فتبكي الأم وتقول: يا ولدي! اتقِ الله! ألا تخاف النار؟! ألا تخاف سخط الله وغضبه؟! ألا تعلم أن الله حرم العقوق؟! ألا تخشى أن أدعو عليك؟

    فاستشاط غيظاً من كلماتها وزاد جنونه، فأمسكها بتلابيب ثيابها وأخذ يهزها بقوة ويقول: اسمعي! أنا لا أريد نصائح، لست أنا من يقال له: اتق الله. ثم يلقي بها بعيداً، فتسقط الأم على وجهها، فيختلط بكاؤها بضحكاته الاستهتارية وهو يقول: ستدعين عليَّ؟! أتظنين أن الله يستجيب لكِ؟!

    ثم يخرج من عندها وهو يستهزئ بها ويسخر من كلامها؛ لقد تحجر قلبه، والأم تذرف الدموع الحارة، تبكي ليالي وأياماً كابدت فيها المشقة والعناء، تبكي على شبابها الذي أفنته في تربية ابنٍ عاق.

    أما هو فقد ركب سيارته وكان مبتهجاً سعيداً، وهو يسمع تلك الأغنية، ويرفع صوت المسجل عالياً، لقد نسي ما فعل بأمه التي خلَّفها حزينة وحيدة يعتصر الألم قلبها، ويحترق فؤادها كمداً وحزناً على تصرفه الطائش.

    لم تدعُ عليه بل اكتفت بقولها: حسبي الله ونعم الوكيل!

    كان الابن لديه رحلة إلى منطقة مجاورة، وأثناء سيره في الطريق بسرعة جنونية إذا بجملٍ يسلطه الله عليه فيظهر له في وسط الطريق، فتضطرب سيارته فلا يستطيع أن يمسك مقودها، ثم إذا به يصطدم بهذا الجمل فيتقطع أشلاءً، ودخلت قطعة من الحديد في أحشائه .. لم يمت، بل أمهله الله، لم يستطع الحَراك ولا حتى الكلام، بقي هكذا ليكون عظة وعبرة لكل من يعتبر، أصيب بشلل رباعي لا يحرك إلا رأسه، ثم مات. وانتهت قصة ذلك الرجل الطاغية، وذاك الشاب العاق.

    نعم. إن العقوق شؤم.

    قصة شاب عق والده فشُل جسمه

    اسمعوا معي إلى قصة ذاك الشاب الذي كان والده ينصحه، وقد كان مصراً على الذنوب والمعاصي، فكان يقول له والده: يا بني! احذر هفوات الشباب وعثراته، فإن لله سطوات ونقمات ما هي من الظالمين ببعيد.

    وكان إذا ألَحَّ عليه بالموعظة يقول: لا تلح عليَّ ولا تعظني، ثم يقوم فيضربه.

    فلما كان يومٌ من الأيام ألَحَّ الوالد بالموعظة عليه، فمد الولد يده على أبيه، فقال الوالد وحلف بالله ليأتين بيت الله الحرام، فيتعلق بأستار الكعبة ويدعو على ذلك الولد العاق.

    فخرج حتى انتهى إلى البيت فتعلق بأستار الكعبة وأنشأ يقول:

    يا من إليه الحجاج قد قطعـوا     عرض المفازة مِن قربٍ ومِن بعدِ

    إني أتيتك يا من لا يخيب ظني     أدعوه مبتهلاً بالواحد الصمدِ

    هذا منازل لا يرتد مِن عققـي     فخذ بحقي يا رحمن من ولدي

    وشلَّ منه بحولٍ منك جانبه     يا من تقدس يا فرد يا صمد

    قيل: إنه ما استتمَّ كلامه حتى يبس شق ولده الأيمن، فهو يابس مشلول لا يحركه، إنها دعوة الوالد على ولده، والد ومظلوم، الله أكبر! ما أعظمها من دعوة!

    ولقد روت القصص والأخبار في الجرائد والمجلات عن رجلٍ تعدى على أمه فضربها في ظهرها بحذائه -أكرمكم الله- وهي تهرب منه، فما كان من هذه الأم إلا أن رفعت يدها إلى الله عز وجل تبكي حظها في هذا الولد العاق، ودعت عليه، فلما ذهب لينام ما استيقظ هذا الشاب إلا بعد أن اكتشف أنه لا يستطيع أن يحرك يده اليمنى، تلك اليد التي قذف بها حذاءه في ظهر تلك الأم المسكينة.

    أيها الإخوة: إن العقوق إذا اجتمع مع الظلم فإن عاقبته وخيمة، وهو منذر بشؤم، والله سينزل العقاب بصاحبه إما قريباً وإما بعيداً.

    1.   

    ظلم الضعفاء والمساكين

    أيها الإخوة الكرام: والظلم له صور كثيرة وعديدة:

    منها: ظلم الرجل لزوجته بمنعها حقوقها والنفقة عليها، وإن كان عنده أكثر من زوجة فإنه مطالب بالعدل، وإن لم يعدل فإنه يأتي يوم القيامة وشقه مائل.

    ومن الظلم كذلك: (ما من رجلٍ يسترعيه الله رعية فيموت يوم يموت وهو غاش لرعيته؛ إلا لم يجد رائحة الجنة) وإن من غش الرعية: إدخال آلات اللهو والمنكرات عليهم.

    وظلم الزوجة لزوجها بمنعه الحقوق، وعدم إعطائه ما فرضه الله عز وجل له.

    والظلم كثير وكثير، لكني أقف عند ظلمٍ واحد: ظلم الضعفاء، والمساكين، والعمال، والمستخدَمين، والخدم، فإن ظلمهم في مجتمعنا كبير.

    والله إن الإنسان وهو ينظر إلى الظلم الذي يقع على العمال والمستخدمين ليرتجف قلبه؛ لأن الله يقول: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:25] .

    وكم من عامل ومستخدَم لا ناصر له إلا الله، يستنصر بالليل والنهار على من ظلمه، فتنزل العقوبة ولا شك!

    فكثير من الناس الذين عندهم مستخدمون أو عمال لا يعطونهم حقوقهم، هؤلاء والله خصمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: ... ورجل استأجر أجيراً فأخذ ما عليه ولم يؤده أجره) أخرجه البخاري وغيره.

    نعم أيها الإخوة! إن الظلم واضح في حال المستخدَمين والعمال، نحن بسط الله لنا في الرزق وأعطانا من المال، ووالله إن لم نعدل وإن لم نؤد الحقوق؛ فإن الله سيغير ما بنا، فإنه لا تدوم نعمة مع مَظْلَمة.

    قصة عامل هندي لم يُعط أجرته

    أخي الكريم! الظلم عاقبته وخيمة! ففي يوم من الأيام قابلتُ أحد العمال، وقد كان عاملاً مسكيناً ضعيفاً، رأيت على وجهه الهم والغم، فسألته: ما بك يا أخي؟! لم هذا الهم والغم؟!

    قال: لي عشرون شهراً أتيت إلى هذه البلاد ما استلمت ريالاً واحداً.

    فقلت له: وكيف هذا؟

    قال: كان الكفيل صاحب العمل يجعلنا نعمل ولا يعطينا مالاً، وفي يوم من الأيام وبعد عشرين شهراً ذهبت إلى الشرطة، فأتوا به وأخذوا عليه تعهداً بأن يؤدي الحق، ثم كانت له وساطات فأخرجوه، ثم ذهبت إلى بيتي وظننت أنه سيفي بهذا التعهد، وإذا به يأخذني في غرفة مظلمة ثم يضربني ضرباً مبرحاً، ويقفل عليَّ الباب، ويتركني ليلتين بغير طعام ولا شراب حتى كدت أن أموت، فناداني بعد يومين: ستموت في هذا المكان إن لم تجب طلباتي.

    فقلت: وما طلبك؟

    فقال: لديَّ ورقة توقع عليها أنك استلمت حقوقك كلها.

    قال: فإما أن أموت، وإما أن أخرج وأتنازل عن حقي، فخرجت وتنازلت عن حقي حتى لا أموت، ونقلتُ كفالتي وجئت إلى هذه البلاد.

    قلت له: لم لا تشتكي؟ لم لا ترفع مظلمتك إلى من ينصرك -إن شاء الله- في هذه الدولة المباركة؟

    فقال الرجل وهو من الإخوة الهنود: يا أخي! مَا فيه مُشْكِلَة، هناك رب العالمين. ثم نزلت دمعتان حارتان من عينيه. إي والله! إن هناك رب العالمين، هناك من ينتقم من الظالمين سبحانه وتعالى.

    حنانيك لا تظلم فإنك ميـتٌ     وبالبعث عما قد توليت تسألُ

    وتوقف للمظلوم يأخذ حقـه     فيأخذ يوم العرض ما كنت تعملُ

    ويأخذ من وزر لمن قد ظلمته     فيوضع فوق الظهر منك ويجعلُ

    فيأخذ منك الله مظلمة الـذي     ظلمت سريعاً عاجلاً لا يؤجلُ

    تفر من الخصم الذي قد ظلمته     وأنت مَخُوفٌ مُوجِف القلب مُوجلُ

    قصة تاجر غني ظلم أحد عماله

    قصة أخرى، وهي قصة أرويها عمن رأى ذاك الموقف وسمع وهو ثقة، يقول:

    كان هناك رجل غني وتاجر من أكبر التجار يبيع ويشتري في أعماله التجارية، فبنى قصراً عظيماً له ليسكنه، وكان هناك أحد العمال لديه، له ما يقارب من ثمانية أشهر لم يعطه حقه. أي: ما يزيد عن خمسة أو ستة آلاف.

    قال: فجاءه ذاك الرجل وطلب منه حقه وقال: أريد أن أرسل إلى أولادي مالاً، أولادي جياع، وعليهم حقوق والتزامات. فأكثَرَ الكلام عليه، فأخذه ذلك التاجر، وكان له زوج بنتٍ وأخٌ قريب في الدوائر الحكومية، فاستخلص له شهادة خروج ومغادرة، وأخذه في ليلة وسفَّره في آخر الليل دون أن يؤدي إليه حقه.

    جريء على أكل الحرام ويدعي     بأن له في حلِّ ذلك محملُ

    فيا آكل المال الحرام أبِنْ لنـا     بأي كتابٍ حِلُّ ما أنت تأكلُ

    ألم تدر أن الله يدري بما جرى     وبين البرايا في القيامة يفصلُ

    فسفرَّه في آخر الليل وهو لم يؤد إليه حقه ولم يعطه، وكان هذا الرجل الظالم يسكن في مكة ، فذهب العامل إلى بلاده وبعد سنة عاد ذاك المسكين إلى مكة واتجه إلى ذلك القصر العظيم وهو يُبْنَى، وسأل حارسه: كيف حالكم؟ هل يعطيكم التاجر حقوقكم؟

    وما هي إلا لحظات حتى جاء الرجل صاحب البيت، فغضب عليه ونفخ وقال: ما أتى بك؟ والله لأسجننك، والله لأطردنك.

    فقال له ذاك المسكين: لا يا عمي! أنا ما أتيت لآخذ مالي، أنا أتيت لأسلم على هذا الحارس؛ لأنه صديقٌ لي، أما أنت فلم آتِ إليك، إنما أتيت إلى رب العالمين حتى أدعوه عليك. فضحك منه التاجر.

    وما هي إلا أيام حتى شب حريقٌ كبير في منطقة معروفة كانت مهيأة للحريق، وقد كان التاجر يعمل ويشتغل ويتعهد هذا المكان، وفي لحظة جاء التاجر والحريق يشب، وكان لديه مبلغ من المال في هذا المكان المحترق، لكن الحريق لم يصل إلى هذا المكان بعد، فأراد أن يدخل ليأخذ ماله، وهي ثلاثون ألفاً؛ لأنه يحب المال، فحب المال قد طغى على قلبه، فمنعه رجال الدفاع المدني من الدخول، فرفض وتفلَّت منهم وقال: الحريق ما زال بعيداً ودخل، وما إن وصل ليأخذ ماله حتى سقط عليه القناع الذي هو فيه، وشب فيه الحريق فاحترق وأصبح كالفحم والنقود بجانبه لم تحترق؛ انتقاماً من الله عليه.

    فلما سئل الحارس: ما الذي دعا به ذاك العامل عليه؟ قال: حينما خرج ذاك التاجر وقَهْقَهَ، قال هذا العامل وهو ينظر إلى القصر: اللهم إني أسألك ألا تهنيَه بهذا القصر وألا يدخلَه، وفعلاً لم يدخله ولم يهنِّه به، بل مات، وأخذه الورثة منه وتقاسموه. تلك والله عاقبة الظالمين.

    قصة رجل اقتطع أرضاً بشهادة زور

    أيها الإخوة الكرام: إن اقتطاع الأراضي وأخذ الحقوق من الأمور الموجبة لسخط الجبار عز وجل، وإن (من اقتطع أرضاً بغير حق فإنما يقتطع أرضاً من جهنم) .

    فبعض الناس يتعدى على الحقوق ويأخذ الأراضي، فمن لا يستطيع المجادلة ولا يستطيع المناقشة، وليس له ناصر في القرية أو المدينة؛ يُعتَدى عليه فيؤخذ ماله: (ومن أخذ شبراً من الأرض طوقه يوم القيامة بسبع أرضين).

    وهذه قصة واقعية أعرفها:

    كان أحدهم يبحث له عن أرضٍ ليختطفها، فبحث في القرية فوجد رجلاً ضعيفاً لا يملك قدرة على المحاجة وليس له ناصر من أقاربه، وله أرض، فأراد أن يعتدي عليها، فذهب إلى المحكمة ليستخلص عليها حجة، فقام هذا وقال: هي أرضي والناس كلهم يعلمون.

    وذهبا إلى القاضي، فطلب القاضي البينة، وذلك المجرم الظالم قد أعدَّ البينة، فأتى بشاهدين أغراهما بالمال والهدية والعطية ليشهدا زوراً، فلما طلب القاضي البينة قام الشاهدان، وشهد كل واحد منهما بالله العظيم شهادة زور أن الأرض لهذا الرجل أباً عن جد. وهي والله ليست له.

    ثم طلب من الآخر بينة فلم يستطع أن يوجد بينة، إذْ ليس له بينة.

    فحكم القاضي بما يعلم، وليس على القاضي مؤاخذة؛ لأنه لا يحكم إلا بالبينة والشهود، حكم لهذا المدعي ظلماً وعدواناً بالأرض، وصدر له الصك.

    وخرج ذاك الشاب الظالم فرحاً مسروراً منتصراً بأنه حقق كسباً، وكانت سيارته تقف على الجانب الآخر من الشارع، فلما خرج مزهواً وودَّع هذين الشاهدين وهو يغمز بعينه يعدهم بالعطية والهدية، وفي الطريق وهو مسرور يحمل الصك في يده، إذا به يقطع الطريق الأول فيسلط الله عليه سيارة -جندياً من جنده سبحانه وتعالى- فتصدمه فيطير أمام الناس إلى السماء، ثم يقع على وجهه في الأرض ميتاً ويطير الصك من يده، فلما رأى الشهود ما حلَّ به من العقاب العاجل من الله عز وجل عندما أخذ الحقوق وظلم؛ رجعوا إلى القاضي وقالوا: نشهد بالله أننا شهدنا زوراً، وأن هذا الرجل لا يملك هذه الأرض؛ لكنه أغرانا ونحن شهدنا بالزور، خافوا أن يقطعوا الشارع فيصيبهم ما أصاب الذين ظلموا.. فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [النمل:52-53] .

    أيها الإخوة الكرام: لننتبه من الظلم! ولنعلم أن كثيراً من الأمور التي تحصل في واقع الأمة، من تغير في الأحوال، وتصلُّف من الأعداء، وضيق في ذات اليد، ومرض في الأولاد والأجساد؛ كل ذلك بسبب دعوة مظلوم.

    نهاية الصاحب بن عباد

    يروى عن الصاحب بن عباد أنه كان ملكاً من ملوك الأندلس متغطرساً جباراً صاحب مُلك عظيم، لدرجة أن زوجته يوماً من الأيام عندما فتحت النافذة نظرت وطالعت فنظرت إلى نساء وهن يزرعن، فيخُضْن في الماء والطين، فقالت: يا ليتني أخوض معهن في الماء والطين.

    فأراد الملك أن يعطيها ما يعجبها، فجاء بماء الورد وخلطه بتراب المسك -اسمع إلى القوة والمال- ثم جاء بها وبناتها وجواريها حتى يسرِنَ في هذا الماء فرحاً وسروراً.

    وما إن مرت الأيام والليالي حتى أصيب بدعوة مظلوم، وإذا به يصبح سجيناً في جزيرة من الجزر البعيدة في البحر، وإذا ببناته أصبحن يتكففن الناس على الأبواب يطلبن اللقمة واللقمتين، وإذا بزوجته تلك التي خاضت في ماء الورد وتراب المسك أصبحت تخيط الملابس للناس من الجوع، ومن ضيق ذات اليد، فقال الملك لوالده ذات ليلة وهو مسجون معه في البحر: يا أبتي! أما ترى ما حلَّ بنا؟ بأي سببٍ هذا الذي حلَّ بنا؟!

    فقال الوالد: يا بُنَيَّ! دعوة مظلوم سرت في الليل ونحن نيام.. (وعزتي وجلالي لأنصرك ولو بعد حين) .

    فأصبح لا مال ولا جاه يرتجى     ولا حسنات قيدت في كتابهِ

    وجُوزيَ بالأمر الذي كان فاعلاً     وصَبَّ عليه الله سوطَ عذابهِ

    ظلم النساء للخادمات

    وهذه رسالة أبعثها إلى النساء اللاتي عندهن خدم وخادمات: إن الظلم يقع على الخادمات كثيراً وقد لا تشعر المرأة، فالمرأة وهي تتعامل مع الخادمة في كثير من الأحيان -إلا من رحم الله- تظن أنها ليست ببشر بل ماكينة، تريدها أن تعمل بالليل والنهار، وتعاقبها على كل شيء، وتخصم من راتبها وتهددها، وهي مسكينة تركت أهلها وجاءت إلى هذا البلد تطلب الرزق، فيجب أن تؤدي لها الحقوق.

    وكم والله رأينا وسمعنا من قصصٍ عجيبة لأولئك النساء اللاتي وصل بهن الحد إلى درجة القتل والعياذ بالله!

    ففي يومٍ من الأيام رأيت خادمة وهي في المطار تريد أن تسافر، ويدها مكسورة، ووجهها -إي والله- عليه أثر الضرب، كانت مضروبة بعصاً غليظة في وجهها والعياذ بالله! أهذا يمكن أن يكون من مسلم؟!!

    وهناك خادمة قتلتها امرأة، يقول ولدها وهو مسجون: دخلت على والدتي وهي تضربها فضربتها معها ضرباً شديداً على رأسها، ثم سحبتها برجلها في الدرج ورأسُها يضرب في سُلَّم الدرج حتى صعدتُ بها إلى الملحق في الدور الثالث، ثم أقفلت عليها باب الملحق، فجلست المرأة الخادمة المسكينة من الصباح إلى صباح اليوم الثاني عقاباً لها، ثم قالت أمي لإحدى البنات: افتحي الباب عليها. فلما دخلت البنت وفتحت الباب إذا بها ترى دماً غزيراً في الأرض، فرجعت إلى أمها وقالت: هناك دم غزير.

    قالت: إنها تمثل عليكم، إنه دم عادي. فصعدت أمي إليها، فإذا بها ميتة قد ماتت من فترة طويلة، لقد نزف الدم من رأسها حتى ماتت.

    قال الولد وقد رأيته في السجن: فلما جاء التحقيق قلت: أنا الذي قتلتها، وهأنا مسجون حتى أنَجِّي أمي من القتل، وإن نجت من العقاب في الدنيا فلن تفلت يوم القيامة: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ [البقرة:165].

    1.   

    نصوص شرعية في التحذير من الظلم

    أخرج الترمذي و أحمد عن عائشة رضي الله عنها: (أن رجلاً قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن لي مملوكِين يكذبونني ويخونونني ويعصونني، وأشتمهم وأضربهم -يعني: من كلا الحالين، ومن كلا الطرفين هناك تقصير- فقال صلى الله عليه وسلم: بحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك عقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلاً لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتصَّ لهم منك. فتنحى الرجل يبكي، فقال صلى الله عليه وسلم: أما تقرأ: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47] فقال الرجل: والله لا أجد لي ولهؤلاء خيراً من مفارقتهم، أشهدك يا رسول الله! أنهم كلهم أحرار) حتى يتخلص من عقاب يوم القيامة.

    إن الظالم وإن أفلت من العقوبة في الدنيا فإنه والله لن يفلت يوم القيامة، يا ويل الظالمين في ذلك اليوم الذي يشيب من هوله الوليد، يومَ الشدائد والأهوال، يومَ تدنو فيه الشمس من رءوس الخلائق! أيظنون أنهم مُفْلَتون؟! وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ [إبراهيم:42] .

    يا ويل الظالمين! والله لَيُقْتَصَّنَّ من هذا الظالم يوم القيامة في يوم القصاص، فيا ويل الظالم من حساب ذلك اليوم! إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:51-52] .

    قال صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الظلم ما استطعتم، فإن العبد يجيء بالحسنات يوم القيامة يرى أنها ستنجيه، فما زال عبد يقوم ويقول: يا ربِّ! ظلمني عبدك مظلمة، فيقول: امحُ من حسناته، وما يزال كذلك حتى ما تبقى له حسنة من الذنوب) رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.

    نعم. إن ذلك هو المفلس، الذي وإن فلت من يد العدالة في الدنيا فلن يفلت من العقاب في الآخرة.

    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (من كانت له مظلمة لأخيه مِن عرضِه أو شيءٍ فليتحلل منه اليوم، قبل ألا يكون درهماً ولا ديناراً، إن كان له عمل صالح أُخِذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أُخِذ من سيئات صاحبه فحُمِلَت عليه) أخرجه البخاري ومسلم بمعناه.

    إن المظلوم يوم القيامة يأخذ ممن ظلمه.

    روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف : (يا أبا سلمة! اتقِ الأرض، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ظلم قيد شبر من الأرض طُوِّقَه يوم القيامة بسبع أرضين) أخرجه البخاري و مسلم .

    وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرمه الله على الجنة، قالوا له: يا رسول الله! وإن كان شيئاً يسيراً؟ قال: وإن كان شيئاً يسيراً حقيراً، وإن كان قضيباً من أراك) أخرجه مسلم.

    يا ويل الظالم يوم القيامة! يوم أن يحشر وهو مفلس، يرى أعماله الصالحة تنقل من ميزان حسناته إلى ميزان حسنات الغير، ويرى سيئات مَن ظلمهم تنقل من ميزان سيئاتهم فتوضع على ميزان سيئاته، ثم يكب على وجهه في النار والعياذ بالله! وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47] .

    تلك عاقبة الظلم! وتلك نهاية الظالمين! خزيٌ وعارٌ ودمارٌ، وتغيُّرٌ للأحوال، وانتقامٌ من الله في الدنيا، والويل لهم يوم القيامة، يوم القصاص: يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:52]!

    أيها الأخ الكريم! اتقِ الظلم ما استطعت، ويا أيتها الأخت الكريمة! اتقي الظلم ما استطعتِ، وكل ليلة تنام فيها وأنت لم تظلم فيها أحداً، فاعلم أنك والله سعيد في تلك الليلة، لأنك لم تظلم.

    إن مع كثرة اشتغال الناس بالدنيا، وتغيُّر الأحوال، وقلة الدين -والعياذ بالله- إلا من رحم الله؛ ظَلَم الناسُ بعضُهم بعضاً .. ظَلَموا في الأعراض، والأموال، وبالسب والشتم، والضرب، وبأكل مال اليتيم، وما أدراك ما مال اليتيم وحقه؟!

    أيها الأخ الكريم! تخلص من المظالم اليوم قبل ألا يكون درهماً ولا ديناراً، وذلك والله خير لك.

    ثم أيها الأخ الكريم! إننا نتوجه إلى الله بالدعاء أن ينصر كل مظلوم على من ظلمه، وألا يملي للظالم، وأن يعجل بعقوبته.

    اللهم صبَّ على الظالمين عذابك صباً.

    اللهم إن إخواننا المسلمين قد ظُلِموا، وانتهكت حقوقهم، وأخذت أموالهم وأراضيهم واغتصبت، اللهم فانتصر لهم ممن ظلمهم.

    اللهم إننا مغلوبون فانتصر لنا.

    اللهم صبَّ عذابك على اليهود الظالمين، اللهم شتت شملهم، اللهم اجعلهم لمن خلفهم آية، ولا ترفع لهم راية، اللهم أنزل عليهم غضبك وعذابك إله الحق! فإنهم لا يعجزونك.

    اللهم وانصر إخواننا المسلمين المستضعفين المجاهدين، اللهم انصرهم نصراً مؤزراً، اللهم فك أسرَ أسيرهم، اللهم واحمل حافيهم، اللهم واكسُ عاريهم، اللهم وأطعم جائعهم، اللهم إنا نسألك لمرضاهم الشفاء، وللمجاهدين الثبات على دينك والنصر لأوليائك، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.

    وصلِّ اللهم وسلِّم على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756578485