إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب اللقيطللشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • هذه الشريعة السمحة جاءت بالرحمة والإحسان، تدعو الخلق إلى رحمة بعضهم بعضاً، والإحسان إلى بعضهم بعضاً، ومن ذلك ترغيبها في حفظ اللقيط والقيام بشئونه وما يحتاج إليه، وفي ذلك أحكام كثيرة، ومسائل متنوعة؛ بينها أهل العلم رحمهم الله.

    1.   

    تعريف اللقيط لغة وما يتعلق به من أحكام

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [باب اللقيط]:

    اللقيط هو: الشخص الذي يلتقطه الإنسان ولا يُعْرَف والداه، مأخوذ من الالتقاط، وأصل الالتقاط: رفع الشيء من الأرض، والمراد باللقيط: الطفل الذي لم يعرف أبواه، إما أن يكون منبوذاً بمعنى: أن والده أو والدته وضعاه تخلصاً من تبعته، كما يقع -والعياذ بالله!- من المرأة في حال زناها، أو يكون من الوالد والوالدة بتواطؤٍ منهما، كما يقع من بعض ضعاف النفوس في حال الفقر؛ أنهم ربما تخلوا عن أولادهم.

    واللقيط له أحكام، تكلم العلماء رحمهم الله عليها، ووردت عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جملة من القضايا في حكم التقاط اللقيط، وما يترتب على ذلك الالتقاط. ومناسبة ذكر اللقيط بعد باب اللقطة: أنه نوع خاص مما يلتقط، ويُرفع ويؤخذ، فاللقطة تقدم معنا أنها في الأموال، وأما اللقيط، فإنه في الإنسان خاصة، وسيأتي إن شاء الله تعريف اللقيط اصطلاحاً كما سيذكره المصنف رحمه الله، ونبين حقيقته، فهو نوع خاص من الالتقاط، وتكون المناسبة بين باب اللقيط وباب اللقطة: أنه شروع في الخاص بعد العام؛ لأن الكل متعلق بالضائع والمفقود والموجود للغير.

    وهذا الباب يبين العلماء رحمهم الله فيه أموراً:

    الأمر الأول: حقيقة الملتقط، وهو الشخص الذي يلتقط.

    الأمر الثاني: حقيقة الشخص الذي يحق له الالتقاط.

    الأمر الثالث: صفة الالتقاط. فيبينون الأحكام والمسائل المتعلقة بوجوب النفقة عليه، وهل تكون من الملتقط أو من بيت مال المسلمين، والآثار المترتبة على هذا الالتقاط من حيث ولائه وميراثه وتبنيه، وغير ذلك من المسائل والأحكام التي تترتب على أخذ اللقيط.

    ولا يزال هذا الأمر موجوداً في كل عصر، وفي كل زمان ومكان، ولا يختص وجود اللقيط بحال الخوف من الزنا أو الفقر، وإنما يقع في بعض الأحيان بسبب الضياع، كأن تفقد الأم صغيرها، أو يكون الولد مع والده، ثم يضيع عنه ويتيه، فكل هذا من أسباب وجود اللقيط.

    وقوله: (باب اللقيط). أي: في هذا الموضع سنذكر جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بأحكام التقاط الأطفال.

    1.   

    تعريف اللقيط اصطلاحاً وأسباب وجوده

    قال المصنف رحمه الله: [وهو طفل لا يعرف نسبه ولا رقه، نبذ أو ضل].

    قوله: (وهو طفل) خرج البالغ، فالبالغ لا يوصف بكونه لقيطاً، فمن بلغ لا نحكم بكونه لقيطاً. ولكن لو أن بالغاً وجده إنسان في مكان فيه أناس يخشى عليه منهم، وهو يستطيع حمايته ونصره وحفظه حتى يخرج من هذا البلاء، فإنه يجب عليه أن يحفظه، وأن يأخذه ويصونه وينصره؛ لأن من ولاية المسلم لأخيه المسلم أن ينصره ويحفظه وينصح له، وقد نص العلماء رحمهم الله: أنه لو جاء رجل غريب إلى موضع، وخشيت عليه أن يتعرض للضرر، أو غلب على ظنك أنه لو ترك وحده أوذي في ماله أو عرضه أو نفسه، فحينئذٍ وجب عليك نصرته؛ لأنه مسلم، والمسلم أخو المسلم لا يسلمه للضرر، ولا يخذله إذا استنصر به، وقد قال تعالى: وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ [الأنفال:72]، فالله سبحانه وتعالى أمر بنصرة المسلم، وقال تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، وقال صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً، أو مظلوماً)، فلا يجوز التخلي عن حفظ المسلم ورعايته، متى احتاج إلى حفظك بعد الله سبحانه وتعالى، وأمكنك أن تقوم بهذا الحفظ، ولم يوجد غيرك؛ وجب عليك ذلك، أما لو وجد غيرك وقام بهذا، فإنه فرض كفاية، فإذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين!

    والأطفال ينقسمون إلى قسمين:

    القسم الأول: من كان دون سن التمييز.

    القسم الثاني: من كان مميزاً. من كان دون التمييز، فهذا بالإجماع لقيط، فإذا قلنا: التمييز من سبع سنوات، ووجدنا طفلاً عمره سنة أو سنتين أو ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً أو ستاً، فهو دون التمييز، وبالإجماع أنه يكون لقيطاً.

    لكن إذا بلغ سن التمييز، ففيه قولان للعلماء: من أهل العلم من يقول: اللقيط من كان دون التمييز من الأطفال، أما من ميز وبلغ السابعة، أو العاشرة على قول، فليس لقيطاً، وبعضهم يقول: يربط التمييز بالصفة، فالصبي المميز هو: الذي يفهم الخطاب ويحسن الجواب، فمن كان كذلك فلا يعتبر لقيطاً، ويتركه وشأنه إذا كان قد استقل بنفسه؛ لأنه في السابعة يستطيع أن يصرف نفسه، والصحيح أنه من كان دون البلوغ سواءً كان مميزاً أو دون التمييز، فإنه لقيط اعتباراً للغالب، وهو أن الشخص لا يكون خارجاً عن هذا الوصف إذا وجد، إلا إذا كان بالغاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم-: الصبي حتى يحتلم)، فهو لا عقل عنده، ولا حلم عنده ولا يؤمن أن يدخل الضرر على نفسه، ولذلك احتاج إلى رعاية، وقد قرر العلماء: أن قوام الالتقاط وأساس الالتقاط وموجب الالتقاط إنما هو خوف الضرر؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يرعى نفسه في مثل هذه السن؛ وذلك لفقد العقل والإدراك وحسن التصرف في الأمور، فمن كان دون البلوغ فإنه ينطبق عليه ذلك.

    وقد يحسن تصرف بعض المميزين في بعض الأحوال وهذا نادر، والنادر لا حكم له.

    إذاً: اللقيط هو: من كان دون البلوغ على أصح أقوال العلماء رحمهم الله، سواء كان مميزاً أو كان دون التمييز.

    وقوله: (طفل) عام يشمل الذكر ويشمل الأنثى، وهذا الطفل له صفات ذكرها بقوله: (لا يعرف نسبه) فخرج الذي يعرف نسبه، فلو جاء جار لجاره، أو ابن عم لقريبه، وقال له: إن أولادي كثر، وهذا ابني فلان، أريد أن أدفعه إليك، تحفظه وترعاه وتقوم عليه، فليس هذا لقيطاً، وقد كان هذا من عادات الناس حتى في الجاهلية، فكان الأخ ربما يعين أخاه في رعاية أولاده، وهذا المنبغي على المسلم أنه إذا أحس أن أخاه بحاجة إلى إعانة؛ وذلك لكثرة ولده، وأحس أن هناك مشقة على أخيه وأهله؛ سعى في رعاية ولده مع ولده، وضم أولاده أو بعض أولاده إليه، تخفيفاً عن أخيه، وهذا من أفضل البر، ومن أعظمه ثواباً، وأحسنه عاقبة، وبالأخص إذا كان القريب يتيماً، كأن يموت أبوه، فيقول للأم: ضمي أولاد أخي إليَّ، أو اتركي أولاد أخي يأتون إليَّ، يطعمون من طعامي، أو يتولاهم بالرعاية والإحسان، فهذا لا يسمى: لقيطاً، فلا يأخذ حكم اللقيط من كان والده معروفاً ووالدته معروفة، أو والداه معروفين.

    فاللقيط هو مجهول الوالدين، فيوجد مثلاً في مضيعة، كقافلة نزلت في مكان ونسيت هذا الولد، أو يوجد في برية، كأن يوجد في البساتين، أو يوجد في مجامع الناس، أو في الحدائق ونحوها، أو يكون ضائعاً، كأن يوجد في الأسواق، أو في الأماكن التجارية التي ينتابها الناس، وهو يبكي لا يعرف والديه، أو يكون ممن لا يحسن الكلام, أو يكون طفلاً في مهده يصيح ولا يعرف له والد، فهذا كله يأخذ حكم اللقيط، ويوصف بكونه لقيطاً، لعموم قوله: (وهو طفل لا يعرف نسبه)، والنسب في اللغة الإضافة، يقال: نسب الشيء إلى الشيء، إذا أضافه إليه، والنسب في اصطلاح العلماء هو: القرابة، ووصف القريب بكونه نسيباً؛ لأنه يضاف إلى قريبه، فيقال: محمد بن عبد الله، فهذه الإضافة نسبه، وكذلك يقال: ابن عم فلان، والنسب سمي: نسباً؛ لوجود الإضافة فيه.

    قوله: (ولا رقه)، يعني: لا يعرف هل هو حر أو رقيق، فوجود الجهالة فيه مشترط للحكم بكونه لقيطاً.

    قوله: (نبذ)، أصل النبذ الطرح، وقد يطلق المنبوذ بمعنى المتروك من الناس، أي: الذي قد جفاه الناس وتركوه، فيطلق النبذ بمعنى: الجفاء كما قال تعالى: فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران:187]، أي: جفوا كتب الله عز وجل وشرع الله سبحانه وتعالى، وكأنهم ألقوها وراء ظهورهم -نسأل الله السلامة والعافية- إعراضاً عنها، وتركاً للعمل بها. ويطلق النبذ بمعنى: الطرح، ومنه سمي النبيذ: نبيذاً؛ لأنه ينبذ في الماء التمر أو نحوه، ثم يترك أياماً حتى يوصف بكونه نبيذاً، فالنبذ أصله الطرح، لكن هل اللقيط يكون منبوذاً؟

    اللقيط يترك في الحقيقة، وليس معناه أن أمه لا تريده، وليس معناه أن أباه لا يريده، ولكن المراد أن أمه أو أباه تجليا عنه لوجود ضرر كما في حالة -والعياذ بالله- زنا المرأة، فقد تزني المرأة بالغصب والقهر، وتستتر في حملها، وتختفي ولا تعلم أحداً بذلك، فإذا وضعت، أرادت أن تتخلص من تبعة هذا الضرر الذي دخل عليها، فتأخذ الولد إلى مكان وتتركه منبوذاً، أي: متروكاً.

    وقد يشق على والديه تبعة النفقة عليه، فيحمله والده أو تحمله والدته إلى مكان فيه أقوام أغنياء، فهي تحس أن الولد لو بقي عندها يتضرر، ولا تستطيع أن تأتيهم وتقول لهم: ربوا هذا الولد، فتتركه منبوذاً حتى يشفقوا عليه , وتعطف قلوبهم عليه، فيحملوه، وقد تفعل ذلك لأسباب أخرى، وهذا حال النبذ، أما حال الترك والنسيان كما لو جاءت أمه إلى موضع ثم نسيته فيه.

    قوله: (أو ضل) كالطفل الذي يمشي ومعه والدته، ثم فجأة يتيه في زحام الناس، ولا يُعرف أين ذهب، ويعجزها أن تجده، ففي هذه الحالة يكون ضائعاً، وفي الحالة الأولى تكون هناك أسباب ودوافع للضياع من المرأة، أو من والد الطفل أو منهما معاً، وفي الحالة الثانية: يكون ضياعه بسبب من الطفل نفسه لا من والديه.

    1.   

    حفظ اللقيط فرض كفاية على المسلمين

    قال المصنف رحمه الله: [وأخذه فرض كفاية].

    أي: وأخذ اللقيط فرض كفاية، والأصل في الالتقاط عمومات الشريعة وأصولها التي تدل على: أن المسلم مطالب برعاية أخيه المسلم ودفع الضرر عنه، وتحصيل الخير له ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فهذه نسمة بريئة، كما لو وضعت قصداً والذنب ذنب غيرها، كأن تكون بنت زنا والعياذ بالله! فلا تحمل إثم غيرها، ولا خطيئة غيرها. ففي هذه الحالة فإن الشريعة أوجبت على المسلم أن يرعى أخاه المسلم، وأن يسعى في حفظ النفس المحرمة، ولذلك قال تعالى: وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]، فالطفل الضائع لو لم يلتقطه أحد ربما أكله السبع، وربما داسته سيارة، أو نحو ذلك إذا كان في مكان خطر، فهو آيل إلى الهلاك إذا لم يُلتقط، والله أمرنا بحفظ الأنفس المحرمة، وبين أن من أحياها وسعى في إحيائها -بتعاطي الأسباب- فكأنما أحيا الناس جميعاً، قال بعض المفسرين: أي: في الأجر والثواب، فقوله: (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً) أي: أنه لو رحم هذه النفس، فإنه سيرحم كل الناس؛ لأن المعنى الموجود في هذه النفس موجود في غيرها.

    فلذلك أصول الشريعة العامة تدل على أن النفس المحرمة ينبغي السعي في استبقائها، ومن هنا قال العلماء: لو رأيت مسلماً يغرق، وغلب على ظنك أنه يمكنك إنقاذه بسباحة أو رمي وسيلة تكون سبباً في إنقاذه؛ فحينئذ يتعين عليك إنقاذه، ووجب عليك إنقاذه إذا لم يوجد غيرك يقوم بهذا.

    ومن هنا قالوا: التقاط اللقيط فرض؛ لأن حفظ الأنفس المحرمة والسعي في استبقائها واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وهذه نفس محرمة ضائعة، إذا لم نسع في نجاتها فإنها هالكة، وقد قال تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2]، فمن أبر البر أن يحفظ المسلم ولد غيره، فهذا من بره لأخيه المسلم، وقد جاء عن : عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما حكما بالتقاطه، فجاء عن سنين أبي جميلة أنه وجد لقيطاً، وقيل: إن أهله وجدوا لقيطاً، فذهب به إلى عمر فلم يجده، ثم جاءه في اليوم الثاني، فلما قدم على عمر ، غضب عمر رضي الله عنه، وقال كلمة ثقيلة في حق الرجل، وكان من عادة عمر أنه يجعل على كل قبيلة وجماعة عريفاً، فقال العريف -واسمه سنان-: يا أمير المؤمنين! إن الرجل معروف بالخير -يقصد أبو جميلة سنين- فقال عمر : أو ذاك؟ قال: نعم، قال: إذا كان كذلك، فهو حر -يعني اللقيط- ولك ولاؤه، وعلينا نفقته، وفي رواية: وعلينا رضاعه. فهذا يدل على مشروعية الالتقاط وضم اللقيط إلى ملتقطه، لقضاء عمر بذلك، ولا شك أن التقاط اللقيط من الأعمال الصالحة، والإجماع بين أهل العلم رحمهم الله منعقد على مشروعية الالتقاط في الجملة، وأنه يشرع على المسلم أن يلتقط اللقيط إذا وجده في ديار المسلمين.

    1.   

    الحكم بحرية اللقيط على الأصل

    قال المؤلف رحمه الله: [وهو حر].

    أي: أن اللقيط محكوم بحريته، قال العلماء: لأن الله جعل آدم وذريته من حيث الأصل أحراراً، والرق طارئ وعارض، فيصطحب الأصل بحريته، ولا نحكم بكونه رقيقاً حتى يدل الدليل على كونه رقيقاً، فيتبع من هو رقيق له، أما إذا لم يقم الدليل على ذلك بقينا على الأصل، فهو حر محكوم بحريته.

    والحر ضد الرقيق، والأصل في ذلك ما ذكرناه، وهو أن الأصل الحرية حتى يدل الدليل على الرق، وقد جاء عن عمر رضي الله عنه -في قضائه في القصة التي سبق الإشارة إليها- أنه قال: وهو حر، ولك ولاؤه، فأثبت له الحرية، ويترتب على هذا الحكم مسائل، منها: مسألة جنايته على غيره، ومسألة جناية غيره عليه، وهل يملك أو لا يملك، فكل هذه مسائل تتفرع على الحكم بحريته، فلو أن هذا اللقيط اعتدى عليه أحد بعد سنة أو سنتين، كأن داسه بسيارته فمات، أو قتله بجناية خطأ، فإنه يلزمه دية، وتكون هذه الدية لبيت مال المسلمين، ولو فرضنا أنه جاء رجل وأقام شاهدين على أنه ولده، فحينئذٍ يحكم بكونه وارثاً له، ويأخذ الدية ويستحقها.

    ولكن إذا حكم برقه فحينئذٍ يكون الأمر مختلفاً، فدية الحر غير دية الرقيق، فيختلف الحكم من حيث الدية، وما يتبع الدية من مسائل الأحكام، وكذلك لو أنه جنى على شيء فكسره، وأتلفه، فالحكم يختلف إذا حكمنا بحريته وتتفرع مسائل: منها: أن يكون ولاؤه لبيت مال المسلمين، بمعنى: أن بيت مال المسلمين يحمل عنه العاقلة في جنايته، كما أن بيت مال المسلمين يستحق الدية إذا اعتدي عليه.

    1.   

    حكم ما وجد مع اللقيط من المال الظاهر والمدفون والمتصل والقريب

    قال المصنف رحمه الله: [وما وجد معه أو تحته ظاهراً أو مدفوناً طرياً، أو متصلاً به كحيوان وغيره أو قريباً منه؛ فله]

    قوله: (وما وجد معه)، أي: إذا كان هذا اللقيط معه مال، حكمنا بملكيته للمال، وهذا ينبني على أن الصبي يملك، وقد اختلف الفقهاء: هل الصبي يملك أو لا يملك؟

    إذا قلت: إن الصبي يملك، ففي هذه الحالة له يد على جميع ما معه من النقود، أو من اللباس، أو من الأشياء التي يجلس عليها، كالفراش ونحوه، وقد يكون فراشاً ثميناً، أو يكون على دابة غالية الثمن، فجميع ما يتصل به من المال، يحكم بكونه مالكاً له؛ لأنك إذا قلت: إنه لا يملك، فهذا المال يضم إلى بيت مال المسلمين؛ لأن صاحبه غير معروف، لكن لو قلت: إنه يملكه اللقيط، فهذا المال ينفق عليه. فهناك فرق بين قولنا: إنه يملك، أو لا يملك، والحكم عند العلماء أنه يملك، وجرت العادة خاصة إذا كان اللقيط من الزنا نسأل الله العافية! وكانت أمه ثرية غنية، أنها تشفق عليه، وتضع مالاً كثيراً معه؛ لأنها تعلم أنه سينفق عليه سنوات، ومدة طويلة، فتضع المال بجانب الثوب الذي عليه، أو بين الثوب وبين صدره محمولاً معه، أو في محفظة مربوطة به، أو ملتصقة بثيابه، أو تضع النقود تحت الولد بينه وبين فراشه، بحيث لو جاء أحد يحمله رأى النقود، فجميع هذه الأشياء يحكم بكون اللقيط مالكاً لها، وإذا حكمت بكونه مالكاً لها، جاز الصرف منها مباشرة، وهل يفتقر إلى حكم القاضي أو لا يفتقر؟ إذا قلنا بالقول الأول: إنه يملك، فإنه يصح بيعها مباشرة إذا كانت أعياناً، ولم تكن نقوداً، ثم ينفق عليه منها، وإن قلنا: إنه لا يملك يرجع إلى القاضي، وينتظر حتى يحكم القاضي له، ويأذن له بالولاية عليه، ثم يأذن له بالتصرف فيما فيه مصلحته.

    وقوله: (أو تحته)، أي: تحت الصدر مثلاً أو بينه وبين فراشه، فهذه الأموال التي وجدت معه أو تحته، أو في جيبه، أو متصلة به؛ نحكم بكونها له، بدليل الظاهر، ونحن ذكرنا أن الدليل يكون أصلاً، ويكون ظاهراًً، فهذه من أدلة الظاهر، فإذا وجدنا لقيطاً ووجدنا تحته نقوداً، أو وجدنا في جيبه نقوداً، فالظاهر من الحال أن وليه قد وضع هذه النقود لمصلحة هذا الصبي، وللقيام على شئونه، فنعمل بهذا الظاهر. وأما المال المستتر الخفي: مثل النقود المدفونة تحته، فهذه فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، هل يحكم بكونها من ماله أو لا يحكم بكونها من ماله؟! وسيأتي بيان الحكم في هذه المسألة.

    وقوله:(ظاهراً) بحيث يوجد دليل على الظاهر، والشريعة تحكم بالظاهر، ولذلك لو أن اثنين اختصما في بعير، أحدهما يركب في المقدمة، والثاني يركب في المؤخرة، فنحكم بكونه للذي في المقدمة؛ لأن ظاهر الحال أنه هو القائد، والقائد هو الذي يملك الدابة، ويتصرف فيها، وهكذا في زماننا لو اختصم اثنان في سيارة، أحدهما في مقعد السائق، والثاني في المقعد الخلفي، فإننا نحكم بالذي يقود؛ لأن الظاهر أنه مالك لهذا الشيء، وهكذا لو اختصما في شيء محمول، أحدهما يحمله، والثاني لا يحمله، فالظاهر يدل على أنه ملك للذي يحمله، فالظاهر تحكم به الشريعة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: كما في الحديث الصحيح: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس)، وهذا يدل على أن الظاهر يُحْتَكَمُ إليه، فنحن إذا ظهر لنا أن مع الصبي نقوداً معلقة به، أو موضوعة في جيبه، أو موضوعة بجواره ملتصقة به، فإن هذا الظاهر يدلنا على أن هذه الأموال للذي وضعه، وقصد منها أن تكون لمصلحة اللقيط، فإذا قلت: إنها للقيط، فإنه يحكم بها له لما تقدم، أما لو لم تأخذ بهذا الظاهر، فإنه يصبح حكمه حكم اللقطة، فيصبح اللقيط له حكم، والمال الموجود معه له حكم آخر، والأول يعامل معاملة أحكام اللقيط والآدمي، والثاني -وهو المال الذي معه- يعامل معاملة اللقطة، والصحيح أنه ليس بلقطة، وإنما يؤخذ مع اللقيط ويكون ملكاً له.

    وقوله: (أو مدفوناً طرياً) وذلك كما لو حمل اللقيط، ثم نبش الأرض تحته فوجد مالاً، فهل نحكم بأن هذا المال المستتر الباطن حكمه حكم الظاهر؟!! من أهل العلم من قال: لا يحكم إلا بما مع اللقيط أو ملتصق به، كأن يكون بجواره، أو قريباً منه، وهذا لا إشكال فيه؛ لأن الإنسان إذا جلس وضع رحله بجواره، ووضع متاعه بجواره، فما وجد بجوار اللقيط أعطيناه حكمه، والقاعدة تقول: ما قارب الشيء أخذ حكمه، فنحن نحكم للقيط بما قاربه؛ لأنه في حكم ماله وتابع له، لكن إذا كان مدفوناً تحته فليس بملك له، ونعتبره لقطة، ويأخذ حكم اللقطة، سواءً كان الحفر طرياً، أو كان غير طري.

    ومن أهل العلم من فصَّل، وهو اختيار طائفة من العلماء، وممن اختاره القاضي ابن عقيل وغيره من فقهاء الحنابلة، فقالوا: إذا كانت الأرض التي تحت اللقيط هشة طرية، حديثة العهد بالنبش، وفيها مال؛ فإننا نعلم من دلالة الظاهر أنها موضوعة من أجل اللقيط، ويغلب الظن أنها للقيط، وحينئذ ينفق عليه منها، ويكون مالاً له، وأما إذا كانت يابسة غير طرية، فنبشت ووجد مال، فنحكم بكونه لقطة، وتأخذ حكم اللقطة.

    وقوله: (أو متصلاً به) أي: كحيوان متصل به، كأن يكون مربوطاً بجواره، أو وجد متاع بجواره، كحقيبة فيها مال أو فيها ثياب له، ونحو ذلك.

    وقوله: (أو قريباً منه) أي: أن القريب منه يأخذ حكم المتصل به كالسجاد التي يجلس عليها، والفراش التي ينام عليها والحافظة التي يوضع فيها، فكل هذا يكون متصلاً به.

    وقوله: (فله)، أي: للصغير، فاللام للتمليك، والضمير عائد لهذا الطفل اللقيط، ويحكم بكونه مالكاً له.

    1.   

    الإنفاق على اللقيط من بيت مال المسلمين إذا لم يكن معه مال

    قال المصنف رحمه الله: [وينفق عليه منه وإلا فمن بيت مال المسلمين]

    قوله: (وينفق عليه منه) أي: ينفق ملتقطه من ذلك المال عليه؛ لأن المال ماله، فينفق عليه من ذلك المال. واللقيط إذا التقطه الإنسان فإنه لا يخلو من حالين:

    الحالة الأولى: أن يتبرع ملتقطه بالنفقة عليه، فإذا تبرع ملتقطه بالنفقة عليه، حفظ المال الذي معه، وإذا بلغ قال له: هذا مالك.

    الحالة الثانية: ألا يتبرع، فيقول: ما عندي مال، وأريد أن أنفق عليه، فحينئذ يبيع الأشياء التي معه إذا كانت لها قيمة، ولم يكن هناك نقد وسيولة، ويصرف عليه منها، فإذا صرف عليه ولم تكف المصاريف؛ رجع إلى بيت مال المسلمين، وهذا لمن يريد النفقة ويطالب بها، أما إذا تبرع من عنده فلا إشكال، وأما إذا لم يتبرع وأراد أن ينفق عليه من ماله، سواء كان غنياً أو فقيراً فإنه من حقه، فمن حق الملتقط أن يقول: لا أريد أن أنفق عليه؛ لأن الله لم يوجب عليّ نفقته، إلا في حالة ما إذا لو لم أنفق عليه لهلك، وكان في موضع لا يستطيع أن يأخذ له من بيت مال المسلمين، فينفق ويحتسب، وبعد أن يرجع له أن يطالب بيت المال، ويصرف عليه منه، على خلاف عند العلماء.

    كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وشريح وغيرهما من أئمة السلف يقضون بأنه إذا أنفق عليه ناوياً الرجوع فلابد أن يقيمه الحاكم، وبعضهم يقول: يحلفه بالله أنه أنفق عليه وفي نيته أن يرجع، وقد تقدمت معنا مسألة من قام بمعروف لأحد دون أن يكون بينهما تعاقد، فإنه لا يستحق أجره، فمن غسل سيارتك دون أن تأذن له بغسلها، أو أصلح دارك دون أن تأذن له بإصلاحه، فإنه لا يستحق الأجرة، والإنفاق على اللقيط مثل هذا، فحينئذ لو أنفق على اللقيط بدون أن يكون هناك عقد، فالأصل يقتضي أنه ما يعطى، لكن مسألة اللقيط خارجة عن الأصل؛ لأنه يتعذر أن يخاطب القاضي، أما لو أمكنه أن يثبت فلا إشكال، لكن قد يكون في موضع لا يتيسر له الإشهاد، أما لو تيسر له أن يشهد الشهود، ويقول: أنا سأنفق عليه وأرجع بنفقته على بيت المال، فإذا أتى بالشهود وشهدوا بذلك استحق نفقته بعد بلوغه، أو إذا رجع إلى القاضي وطالب بالنفقة.

    وقوله: (وإلا) استثناء أن يكون له مال غير كاف، أو لم يجد معه مالاً، فمن بيت المال.

    1.   

    أقوال العلماء في الحكم بإسلام اللقيط

    قال المصنف رحمه الله: [وهو مسلم].

    أي: اللقيط محكوم بإسلامه. واللقيط إذا وجد له حالتان:

    الحالة الأولى: أن يوجد في بلاد المسلمين.

    الحالة الثانية: أن يوجد في غير بلاد المسلمين.

    ففي الحالة الأولى: إن وجدناه في بلاد هي من حيث الأصل بلاد إسلامية كالجزيرة مثلاً، فهذا لا إشكال أن الولد محكوم بإسلامه، وسنذكر الدليل على ذلك.

    الحالة الثانية: أن تكون بلاداً إسلامية مفتوحة، والحكم فيها للمسلمين على الغالب، وإذا كان الحكم على الغالب فلا يخلو من صورتين: الأولى:

    أن يكون من في هذه الأرض -المحكوم بكونها تابعةً لبلاد المسلمين- مسلمون، فلا إشكال، مثل البلدان التي فتحت وأسلم أهلها، فحكمها إلى حكم النوع الأول، محكوم بإسلامها، ومحكوم بإسلام أطفالها إذا وجدوا، ويعاملون معاملة أطفال المسلمين.

    الصورة الثانية من الحالة الثانية: أن تكون بلاد المسلمين بالغلبة وبينهم كفار، كما لو كانوا أهل ذمة، فتحت بلادهم وأصبحت بلاداً للمسلمين، لكن فيها أهل كتاب عوملوا معاملة أهل الذمة. ففي هذه الحالة إذا وجد بين المسلمين كفار من أهل الكتاب، فإذا وجد لقيط هل نقول: إنه للمسلمين أو نقول: إنه لأهل الذمة؟

    الأمر محتمل، لكن قالوا: يأخذ حكم المسلمين، ونقول: إنه مسلم؛ لأن الغالب وجود المسلمين والشعار للمسلمين، فإن كان أغلبهم من الكفار، والمسلمون فيهم قلة، فمذهب الجمهور أنه يحكم بإسلامه، حتى قال بعض العلماء: لو كان في هذا البلد الذي فتحه المسلمون وبقي فيه الكفار على دينهم وكفرهم، ووجد بينهم مسلم واحد، ويمكن أن ينجب وأن يكون اللقيط له؛ فإننا نحكم بأن هذا الولد مسلم، لاحتمال أن يكون الولد لهذا المسلم.

    وبناء على ذلك، يصبح كون الدار دار إسلام أمراً مهماً في الحكم، سواء كانت دار إسلام أصلية أو كانت دار إسلام مفتوحة، وصار لها حكم غلبة المسلمين عليها، فإن كانت مفتوحة والغالب فيها مسلمون فلا إشكال، وإن كانت مفتوحة والغالب فيها الكفار فلا إشكال أيضاً؛ لأننا نغلِّب حكم الإسلام، والشبهة قائمة لاحتمال أن يكون هذا الولد من المسلمين، وما دام هناك احتمال للمسلم على هذا الوجه، ووجود الغلبة للمسلم، فإننا نحكم بكونه مسلماً، لكن الإشكال إذا كانت بلاد كفر، فإن كانت بلاد كفر، وليس بينهم مسلم، فالولد كافر، ومحكوم بكفره، وسنذكر الدليل، وإن كانت بلاد كفر، وفيهم مسلمون، مثلما كان في القديم وإلى الآن تجار يسافرون إلى بلاد الكفر، أو طلاب يدرسون في بلاد الكفر دراسات دنيوية، فما دام أن بينهم مسلماً، فيرد السؤال: هل نحكم على ظاهر الدار ونقول: الولد كافر؛ لأن احتمال وجود المسلم فيه ضعيف أم نقول: الولد مسلم؛ لأن بينهم مسلماً؟ فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله.

    فإن حكمنا بكون الولد مسلماً، سواء في دار المسلمين المحضة، أو في دار المسلمين التي غالبها مسلمون، أو في دار فيها أهل ذمة وبينهم رجل مسلم، أو دار الكفار الذين بينهم مسلمون، ففي هذه الأحوال كلها نحكم لهذا الولد بالإسلام؛ لأن السنة دلت على أن الأصل في الإنسان الفطرة كما قال عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، فحكم عليه الصلاة والسلام بأن المولود مولد على الفطرة، والفطرة هي التوحيد والإخلاص، كما قال طائفة من شراح الحديث رحمة الله عليهم، فيصبح الأصل كونه مسلماً، ومن هنا قال بعض العلماء: لو ماتت النصرانية وفي بطنها جنين يُقَبَّلُ الجنين إلى القبلة، فيكون ظهرها إلى جهة القبلة ووجهها إلى غير القبلة؛ لأن الجنين الذي في بطنها إذا وجدت منه حركه ثم مات، يحكم بكونه في حكم المسلمين، وهذا مبني على أن الأصل في الإنسان أنه على الفطرة، وأن أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه.

    فإذا كان في بلاد المسلمين فالعمل على ظاهر الدار، وظاهر الدار يحتكم إليه، فإذا جئت في بلد إسلامية ومررت على شخص لا تدري أهو مسلم أو لا؟ فهل تسلم عليه أو لا؟ تسلم؛ لأن الدار دار إسلام، ولو وجدت ذبيحة فيها، وما تدري هل هي مذكاة شرعية أو لا؟ فتقول: الظاهر أنها من مسلم، وهذه المسألة يسمونها: العمل بحكم الظاهر، ويتفرع عليها ما لا يقل عن ثمانين مسألةمن المسائل الشرعية، فمسألة العمل على ظاهر الدار مسألة مشهورة عند العلماء رحمهم الله، فإذا كان البلد بلداً مسلماً حكمنا بالأصل.

    يرد سؤال عندما قال: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، كيف حكمنا أن أولاد النصارى في حكم النصارى، وأولاد المشركين في حكم المشركين، وأولاد المسلمين في حكم المسلمين؟

    الولد من حيث الأصل ليس بمسلم ولا بكافر، وهذا من حيث تصرفاته وإقراراته واعتقاداته؛ لأنه ما عنده عقل، ولا عنده إدراك حتى نقول: إنه مسلم أو كافر، وهذه المسألة مفرعة على قاعدة تكلم عليها الإمام العز بن عبد السلام كلاماً نفيساً في كتابه النفيس: قواعد الأحكام ومصالح الأنام، وهذه القاعدة تقول: (التقدير: تنزيل المعدوم منزلة الموجود، وتنزيل الموجود منزلة المعدوم)، وهذه تتفرع عليها مسائل كثيرة جداً في العبادات والمعاملات، وقولهم: (تنزيل المعدوم منزلة الموجود) يدخل فيها مسألة الطفل، فالطفل في المهد، لا ينطق بالشهادتين؛ لأنه في سن لا يتكلم فيه، حتى ولو كان في سن يتكلم فيه، فإنه لا يعقل ما يقول، فحينئذٍ نزلنا المعدوم وهو الإسلام منزلة الموجود، وهذا من جهة التقدير والحكم، ولهذا أصل، فإن الإجماع منعقد على سريان هذا الحكم بتنزيل المعدوم منزلة الموجود، مثال ذلك: لو قُتِلَ شخص وهو نائم، كأن داسته سيارة وهو نائم فمات، فهل نقول: قتل مسلماً أو كافراً، أو نقول: لا مسلماً ولا كافراً؟

    الإيمان حال النوم غير موجود، لكنه لما كان قبل نومه مؤمناً مسلماً، بقي على هذا الأصل، فنُزِلَ المعدوم حال النوم منزلة الموجود؛ لأن النوم من الموت كما قال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [الزمر:42]، فالشاهد أنه نوع من الموت، ولذلك لا يكلف صاحبه فيه، فنزل الإسلام المفقود منزلة الموجود، وحكمنا بكون المقتول مسلماً؛ لأنه قبل نومه كان مسلماً، فيبقى على هذا الأصل، وينزل المعدوم حال نومه منزلة الموجود ونقول: بكونه مسلماً، أما لو داس كافراً وهو نائم، فإننا نقول: داس كافراً؛ لأنه قبل نومه كان كافراً.

    وهذه القاعدة فيها مسائل كثيرة، ومنها مسألة أغرب من هذه، فقد ذكر الإمام العز بن عبد السلام في هذه القاعدة مسألة لو أطلق رمى على فريسة فقال: باسم الله، وقبل أن يصل السهم إلى الفريسة مات هذا الرامي، وبعده ماتت الفريسة، فهل نحكم بكونها مذكاة ذكاة شرعية أو لا؟ وهل تؤكل أو لا تؤكل؟ إذا قلت: إنه ينزل المعدوم منزلة الموجود، فهو لما أطلق السهم وهو ذاكر لله، وتوافرت شروط الذكاة الأصلية وحصل الإزهاق، فينزل المعدوم منزلة الموجود، ولها نظائر كثيرة منها: لو طرأ شيء يمنع الميراث كالقتل، وفيها مسائل كثيرة في العبادات والمعاملات، فينزل فيها المعدوم منزلة الموجود، ومنها مسألة: اللقيط، فينزل الإسلام المعدوم منزلة الموجود، ويحكم بكونه مسلماً، ويعامل معاملة المسلمين إذا حكمنا بكونه مسلماً، فيترتب على ذلك مسائل في الجنايات وغيرها من الأحكام التي يفرق فيها بين الكافر وبين المسلم.

    ومما يتفرع على حكمنا بإسلامه: أن هذا اللقيط لو كان في بلد فيه يهود أو نصارى، فلما بلغ اختار اليهودية أو النصرانية، إن قلنا: إنه أثناء صباه محكوم بكونه مسلماً، فلما بلغ كفر فتهود أو تنصر، وصار مرتداً، فحينئذ يستتاب فإن تاب وإلا قتل، أما إذا لم نحكم بكونه مسلماً وتهود أو تنصر بعد البلوغ؛ والدار فيها قوم من أهل الذمة فإنه يلحق بهم ونأخذ منه الجزية، ولا يكون حكمه حكم المرتد ولا يقتل، فهناك فرق بين حكمنا بإسلامه وعدم حكمنا بإسلامه.

    وهناك مسائل كثيرة في الاستحقاقات، منها: إذا حكمنا بكونه مسلماً، ثم تبين أن له أختاً ادعت أنه أخوها، وبينه وبينها صلة ميراث، ثم ماتت وهي يهودية أو نصرانية، فما الحكم؟ كل هذا يتفرع على مسألة الحكم بكونه مسلماً أو كافراً، إذا قلت: نحكم بكفره، ففي هذه الحالة لا يعطى من أموال بيت المسلمين، ولا يتحمل بيت مال المسلمين نفقته، وتلحق به أحكام الكفار، وإن حكمنا بكونه مسلماً فلا إشكال على ما ذكرناه من الحقوق، فيصرف عليه من بيت مال المسلمين، ويكون ولاؤه للمسلمين غنماً وغرماً.

    1.   

    حكم حضانة اللقيط وشرط الحاضن

    قال المصنف رحمه الله: [وحضانته لواجده الأمين]

    أي: أن حضانة اللقيط لواجده الأمين، وهذا شبه إجماع بين السلف رحمهم الله، فحضانته والقيام على أمره، وتعهد مصاريفه وتكاليفه والأمور المترتبة عليه يتولاها من وجده؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قضى بذلك، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة رضوان الله عليهم، وهي سنة راشدة؛ ولأن واجده سبق غيره، ومن سبق إلى ما لم يسبق به فهو أحق، فالحضانة تكون لواجده.

    وشرط أن يكون الملتقط أميناً، وبناءً على ذلك لو التقط اللقيط شخص معروف بالخيانة والعياذ بالله! أو ليست فيه أمانة، فقال بعض العلماء: ينزع منه اللقيط، ولا يبقى معه؛ لأنه ربما أخذه وباعه، وادعى أنه من مواليه، لذلك لا يؤمن عليه إذا كان فاسقاً أو معروفاً بالخيانة، ولأنه لو أعطي المال للنفقة عليه، ربما تركه وضيعه وأخذ المال وأكله، فلذلك لا تترك يده عليه، وقال بعض العلماء: الحضانة والكفالة تكون للواجد ولو كان خائناً، لكن يضم ولي الأمر عليه شخصاً ثانياً أميناً، فيكون معه يراقبه، وكل هذا إثبات ليد الوجدان، فما دام أنه وجده فإنه أحق به من غيره، فإن كانت فيه صفة الخيانة قالوا: يمكن أن تجبر هذه الصفة بوجود شخص آخر معه، يراقبه، ويحفظ حقوق اللقيط.

    1.   

    جواز الإنفاق على اللقيط بغير إذن الحاكم أو القاضي

    قال المصنف رحمه الله: [وينفق عليه بغير إذن حاكم].

    قوله: (وينفق عليه بغير إذن حاكم) اختلف الفقهاء لو وجد إنسان لقيطاً ووجد معه نقوداً، هل يفتقر الحكم بالتصرف في هذه النقود بالنفقة على اللقيط إلى إذن وحكم القاضي أم أنه ينفق عليه مباشرة؟

    الصحيح أنه لا يفتقر إلى قضاء القاضي، وإنما يقوم عليه من وجده ويتعاهده بالمعروف، ويتحمل المسئولية، ولا يحتاج إلى قضاء القاضي.

    1.   

    حكم ميراث اللقيط وديته

    قال المصنف رحمه الله: [وميراثه وديته لبيت المال].

    قوله: (وميراثه) أي: ميراث اللقيط. قوله: (وديته لبيت المال) أي: لو أن هذا اللقيط قتله شخص خطأً، فوجبت الدية، فإنها تصرف إلى بيت المال؛ وكذلك ميراثه إذا عرف والده، وليس له إلا والد، وثبت بشهادة الشهود أن هذا اللقيط ولد فلان، فورث من أبيه مثلاً مائة ألف، ثم توفي قبل أن يبلغ ويتزوج ويكون له ذرية، فحينئذ ماله يذهب إلى بيت المال.

    وهكذا لو وجد شخص لقيطاً، ووجد معه عشرة آلاف ريال، ثم بعد يوم أو يومين توفي هذا اللقيط، فماذا يصنع بالعشرة آلاف؟ تضم إلى بيت المال، ويرثه بيت المال، وهذا عين العدل؛ لأن بيت المال يتحمل خسارته، فله غنمه، وعليه غرمه، فبيت مال المسلمين هو الذي يقوم بالنفقة على اللقيط، والقيام بكل ما يحتاج إليه في نفقته، فإذا كان للقيط ميراث وتوفي فحينئذٍ استحقه بيت المال، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في حديث عائشة عند أبي داود، وهذا الحديث مجمع على العمل به-: (الخراج بالضمان) ومثله القاعدة المعروفة (الغنم بالغرم)، فلما غرم بيت مال المسلمين عليه، غنم ميراثه، وبعض العلماء يقولون: يؤخذ هذا الإرث، ويصرف على اللقطة، ويكون إرث اللقيط للقيط آخر بالمجانسة، يعني: يكون في بيت مال المسلمين ونصرفه للقيط ومن في حكمه.

    1.   

    حكم الولاية على اللقيط

    قال المصنف رحمه الله: [ووليه في العمد الإمام، يتخير بين القصاص والدية].

    إذا عرفنا أن بيت المال يتحمل نفقته وخسارته، ويتولى ماله الموروث، يبقى السؤال في استحقاقات أخرى، فلو أن هذا اللقيط جنى عليه شخص وقتله عمداً، فما الحكم؟ هو لا يعرف له قريب فمن الذي يتولى أمره؟ فهل أمره إلى عموم المسلمين أم إلى ولاة المسلمين؟

    إذا لم يكن له ولي يرث حق القود والقصاص، فإن ولي أمر المسلمين هو وليه، لقوله عليه الصلاة والسلام: (فالسلطان ولي من لا ولي له)، فحينئذ ولي الأمر هو الذي ينظر ويخير.

    وبعض العلماء يقول: ليس من حقه أن يطلب القصاص، ويسقط القصاص في هذه الحالة؛ لوجود الشبهة؛ لأن القصاص يكون للشخص الذي يملك، فلو أن أحداً قطع يداً لإنسان، فهذا الإنسان المجني عليه له أن يعفو أو يطلب القصاص، لكن إذا قتل ما نستطيع أن ننزل غيره منزلته؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، ونشك هل السلطان وليه من كل وجه أو من بعض الوجوه؟ فحينئذ لا نستطيع أن نستبيح دم القاتل بإذن السلطان من هذا الباب.

    والصحيح أن السلطان وليه، وأن من حق السلطان -إذا رأى المصلحة- أن يأمر بقتل قاتله، وإن رأى المصلحة أن يأخذ الدية أخذها منه، فينظر للأصلح فيقضي به ويُحكم به.

    1.   

    بيان مسألة ادعاء اللقيط

    قال المصنف رحمه الله: [وإن أقر رجل أو امرأة ذات زوج مسلم أو كافر أنه ولده؛ لحق به ولو بعد موت اللقيط]

    هذه مسألة ادعاء اللقيط، إذا ادعى اللقيطَ شخصٌ، وقال: هذا ولدي، فإن كان مسلماً، فإننا نحكم بإقراره، ويضم هذا الولد إليه ويحكم به ما دام أنه ليس له منازع، لكن بشرط أن يكون هذا الشخص يتأتى من مثله أن يولد له هذا اللقيط، وإذا كان لا يتأتى من مثله أن يولد له، فقد قام الحس على تكذيب دعواه، والدعوى إذا كذبها الحس الصادق، فإننا نحكم بسقوطها، فلو أن رجلاً في الثلاثين من عمره ادعى أنه والد اللقيط الذي لا يعرف والده، وقد بلغ اللقيط خمساً وعشرين سنة، فهذا دعاء كاذب؛ لأنه لا يمكن للشخص أن يولد له وعمره خمس سنوات، فالحس يكذب هذه الدعوى فتسقط.

    إذاً: يشترط إذا كان مسلماً أن يتأتى من مثله أن يولد له هذا اللقيط، فإذا لم يتأت من مثله أن يولد له، فحينئذ لا يحكم بكونه ولداً له.

    وقوله: (أو امرأة ذات زوج مسلم) أي: فيصبح في هذه الحالة أبواه مسلمين، فلو ادعت وقالت: هذا الولد ولده، فإننا نصدق المرأة؛ لأنه ربما هي التي فرطت في الولد، أو ضاع منها الولد، ونصدق الرجل؛ لأنه إذا أقر على نفسه، فمعناه: أنه سيقر على نفسه بهذا الولد، ويتحمل تبعة نسبته إليه، وفي الأصل أننا نصدق إقراره حتى يدل الدليل على كذبه في الإقرار، فما عندنا دليل على كذب الرجل ولا كذب المرأة، فنحكم بكونه ولداً لهذا الرجل وولداً لهذه المرأة.

    وقوله: (أو كافر أنه ولده)، أي: تقول المرأة: هذا ولدي من فلان النصراني حينما كنت على النصرانية، فهي كانت ذات زوج كافر، ثم أسلمت وادعت هذا اللقيط، فحينئذ يضم اللقيط إليها.

    وقوله: (لحق به) كما ذكرنا.

    وقوله: (ولو بعد موت اللقيط)، فيه خلاف، فبعض العلماء يرى: أن الدعوى تصح ما دام حياً، لكن بعد موته لا يحكم بهذه الدعوى، وأشار المصنف رحمه الله إلى ذلك بقوله: (ولو بعد موته)، والصحيح أنه يقبل إقرار كل منهما، في حال حياة اللقيط، وبعد موته، لكن إذا ادعى بعد الموت أنه ولده، فهناك تهمة هي أنه سيأخذ الميراث، وخاصة إذا كان له ابن، فحينئذ يكون الإقرار فيه شبهة جر المنفعة، والإقرار إذا دخلته التهمة يكون ضعيفاً؛ لأن التهمة تسقط الشهادة وتسقط الإقرار، فالإقرار بليغ وحجة لكن وجود التهمة فيه توجب ضعف العمل به، وبعض العلماء طعن في الإقرار بعد الموت؛ لأن كونه يسكت في حياته كلها، ثم بعد موته عندما أصبح لا عبء فيه ولا كلفة ولا عناء فيه، بل سيرثه، يأتي يدعي أنهولده، فيصبح هذا الأمر موجباً للتهمة في صدقه.

    حكم ادعاء الكافر للقيط

    قال المصنف رحمه الله: [ولا يتبع الكافر في دينه، إلا ببينة تشهد أنه ولد على فراشه]

    المراد بهذا هو الاحتياط لحق اللقيط، لا نقول بكونه كافراً ويأخذ حكم أولاد الكفار إلا إذا قامت البينة، بينما إذا أقر الرجل أو أقرت المرأة نقبل ذلك، ولكن نرفع عنه حكم الإسلام، بل يحكم بكونه مسلماً، فالإقرار من الكافر محدود ولا يتعدى للقيط، فنقبل الإقرار على نفسه، ونضمه إليه، ونحكم بكونه ولده، ولكن لا نحكم بكونه منتقلاً عن الإسلام إلا ببينة تشهد أنه وُلِدَ على فراشه، فأولاد الكفار من حيث الأصل يتبعون آباءهم وأمهاتهم، فيحكم بكفرهم من حيث الأصل العام، وبذلك يعاملون في الظاهر، كما أن أولاد المسلمين يعاملون في الظاهر بحكم المسلمين، فهذا من حيث التبعية، فهناك حكم من حيث الأصل، وهناك حكم من حيث التبعية.

    قد يسأل سائل ويقول: قد يتعارض هذا مع حديث: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، لكن لا يوجد إشكال ففي الغالب أنه سيتبع والديه، وهذا من جهة التبعية، والحكم بالكفر يكون بالتبعية، كما أن أبوي المسلم سيبقيانه على الفطرة.

    وقوله: (ببينة)، تقدم معنا: أن البينة مأخوذة من البيان، وهي ما يظهر الحق ويكشف وجه الصواب، فالبينة سميت بذلك؛ لأنها تكشف الحق، وتظهر وجه الصواب، فلا يلتبس الأمر بها، وجعل الله عز وجل البينة شهادة الشاهدَيْنِ، إلا ما اشترط أكثر من شاهدين كشهادة الزنا، فهذه البينة إذا ثبتت حكم بها، وهي الشاهدان العدلان.

    وقوله: (أنه ولد على فراشه). أي: أنه ولد على فراش الكافر لقوله صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش)، فراش الكافر زوجته، فيقال: ولد اللقيط على فراشه، فحينئذٍ نلحقه بهذا الكافر؛ لأن الولد للفراش، والفراش هي المرأة، فإن كان زوجها مسلماً فمسلم، وإن كان كافراً فكافر.

    حكم اعتراف اللقيط بالرق أو الكفر

    قال المصنف رحمه الله: [وإن اعترف بالرق مع سبق مناف، أو قال: إنه كافر لم يقبل منه].

    تقدمت معنا هذه المسألة في الوديعة، وذكرنا: أن الاعتراف بالشيء مع السبق المنافي يوجب التهمة في الاعتراف، والصفة في ذلك أنه يكذِّب نفسه، وما نلمس العذر على وجود الاختلاف في الحالين، فإذا وجد العذر قُبل منه، وقد فصلنا هذه المسألة في الوديعة.

    وقوله: (أو قال: إنه كافر لم يقبل منه)؛ لأنه خلاف الأصل.

    1.   

    بيان مسألة ادعاء جماعة للقيط، وحجية القيافة

    قال المصنف رحمه الله: [وإن ادعاه جماعة قدم ذو البينة، وإلا فمن ألحقته القافة به]

    أي: إن ادعى اللقيط جماعة أكثر من واحد، ففي هذه المسألة تفصيل: أن يدعيه اثنان، ويتنازل أحدهما للآخر، أو تدعيه جماعة، ويتنازل بعضهم لبعض، فيرجع بعضهم عن دعواه، فحينئذٍ لا إشكال، فالولد للمدعي الذي رجع غيره عن معارضته.

    أما أن يدعيه اثنان وكل منهما يصر على قوله بأن هذا الولد ولده، فهل نحكم بقول هذا أو بقول هذا؟

    نحن ذكرنا: أنه إذا أقر شخص أنه ولده حكم له، فلو أن اثنين كل واحد منهما يقول: هذا ولدي، ففي هذه الحالة إما أن يقيما بينة، أو يقيم أحدهما بينة ويعجز الثاني، فإذا أقام أحدهما بينة وعجز الثاني حكمنا للذي أقام البينة، أما لو أقام كل منهما بينة، فالعلماء مختلفون في هذه المسألة، قيل: تسقط البينتان ثم نرجع إلى المرجح وهو القائف، والقائف هو: الذي يعرف الولد عن طريق الأثر، فينظر إلى الصبي، وينظر إلى الرجلين، ويلحقه بأقواهما شبهاً، فنرجع إلى القائف لترجيح أحد القولين.

    والقيافة دل الدليل على العمل بها، وأنها حجة مقبولة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عمل بها، وبنى عليها أموراً، ففي الحديث الصحيح: (أنه دخل على عائشة رضي الله عنها، تبرق أسارير وجهه من السرور والفرح، وقال لها: ألم تري إلى مجزز المدلجي نظر آنفاً إلى أسامة وزيد، وقد التحفا وبدت أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض)، وقد كان لون أسامة ووالده زيد مختلفين، وهو حب الرسول صلى الله عليه وسلم وابن حبه، فكان يطعن فيهما أناس من أهل الجاهلية، ويقولون: كيف أن هذا ولد هذا؟! فمر هذا المدلجي، وكان بنو مدلج معروفين بالقيافة، ومعرفة الأثر، فلما نظر إليهما وهما ملتحفان، وأقدامهما بادية ظاهرة، وكانا مستترين، ولم ينظر إلى وجهيهما ولا يعرفهما، فلما نظر إلى الأقدام قال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فكذَّب من يطعن في نسبيهما، والقيافة تُعْرَفُ بالقدم، وتعرف بالساق، وتعرف بالوجه، وتعرف باليد، وتعرف بغير ذلك مثل المشي، فلو مشى الولد ممكن أن يشابه والده أو عمه أو قريبه.

    فالقيافة تقوم على هذه الصفات، ففيها دلائل ترجح إحدى البينتين، إما أن ترجح قول هذا أو قول هذا.

    ومما يدل على حجية القيافة أيضاً: أنه لما لاعن عويمر العجلاني رضي الله عنه امرأته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحلف الأيمان، وحلفت الأيمان، فقال عليه الصلاة والسلام: (حسابكما على الله، الله يعلم أن أحدكما كاذب)، يعني: إما أنها كاذبة أو هو كاذب، فلا يمكن أن يكونا صادقَيْنِ، هذا يقول: إنها زنت، وهي تقول: إنها لم تزن، وحلف كل منهما الأيمان، فقال: حسابكما على الله، يعني: لما تعارضت الأدلة انتقلت المسألة من حكومة الدنيا إلى حكومة الآخرة؛ لأنه لا يوجد دليل نستطيع أن نحكم به، فارتفعت هذه المسألة عن قضاء الدنيا، ولذلك قال لها: (عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وفضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة ) وذكّرها بالله عز وجل لما أرادت أن تحلف يمينها الأخيرة، فلما حلفت وأصبح الأمر متعارضاً قال عليه الصلاة والسلام: (انظروا إليه، فإن جاءت به على صفة كذا وكذا، فقد صدق وهي كاذبة، وإن جاءت به على صفة كذا وكذا، فقد كذب وهي صادقة والولد ولده)، فجاءت به يشبه من اتهمت بالزنا به، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لولا الأيمان، لكان لي معها شأن)، فهذا يدل على أنها كانت كاذبة، وهو قال : (انظروا فإن جاءت به، خدلج الساقين، محمراً محدودباً..)، وذكر صفاتٍ في الخلقة، وهذا يدل على أن القيافة لها حجية، وخالف في هذا الإمام أبو حنيفة رحمه الله، والجمهور على أنه يحتكم إليها من حيث الجملة، وأنها ترجح الأدلة من حيث الجملة.

    فلو أن اثنين ادعيا الولد، فنأتي بقائف، وهذا القائف ينبغي أن تتوافر فيه شروط من أهمها: العلم بالقيافة، ونعرف أنه قائف بالسماع، وهذا يسمى: شهادة السماع، يعني: أن نسمع الناس يقولون: إن فلاناً يجيد علم القيافة، أو خبير بالقيافة، وأنه من أهل القيافة، فإذا سمعنا هذا واستفاض بين الناس، فشهادة السماع والاستفاضة محكوم بها ومعمول بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل شهادة الناس حجة، فقال عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: (سل جيرانك، فإن قالوا: أحسنت فقد أحسنت، وإن قالوا: أسأت فقد أسأت)، فهذا في أمر الشرع وهو أعظم، فالناس يحتكم إليهم وإلى شهاداتهم، وبناءً على هذا إذا اشتهر بينهم أنه قائف حكمنا بذلك، ويمكن أن نختبره بأن نأتي بولد لرجل معروف، وندخل هذا الرجل بين أربعة أو خمسة رجال، ونقول: انظر هذا الولد أخرج والده من بين هؤلاء الرجال، فإن استطاع أن يخرجه، وعرفنا منه الدقة والإصابة مرتين وثلاثاً، فحينئذٍ نعرف أنه من أهل القيافة، ونحكم بقوله، فيجمع هؤلاء الذين ادعوا الولد ويؤتى بالولد، ويقال للقائف: ألحقه بأقواهما شبهاً، أو ألحقه بأبيه، فإذا نظر وحدد أحدهم، فحينئذ لا إشكال، فنحكم بكونه ولداً للذي حدد، لكن لو أن القائف قال: فيه شبه من الكل، وهذا قد يقع بعض الأحيان، فيقول القائف: إنه يشبه الكل، كما يقع بين أولاد العم أو بين أخوين يتنازعان ولداً لقيطاً، فهذا يقول: هذا ولدي، ويقول الآخر: بل هو ولدي، وهذا يمكن أن يقع؛ كأن يسافر ولدان في سفرة واحدة، وأحدهما مات، والثاني فُقِدَ، فقال أحد الأبوين: ولدي الذي فقد، أصبحا يتنازعان، والشبه في الإخوة وأولاد العمومة أقوى من أي إنسان آخر، فحينئذ يكون الأمر أشد، وتكون المهمة على القائف أشد، وقد يقول القائف: الشبه فيهما، يعني: ما أستطيع أن أرجح هل هو لهذا أو هو لهذا؟! فإذا تحير القائف أو قال: الشبه فيهما، فذهب طائفة من العلماء إلى أنه يخير الولد بينهما، وجاء عن عمر رضي الله عنه وأرضاه: أنه ادعى والدان الولد اللقيط، فقال له: عمر اختر أيهما شئت، وفي رواية: والي من شئت منهما، يعني: الذي تختاره منهما هو والدك، والنفس تحن، ففي بعض الأحيان تجد الإنسان يحن إلى شخص أكثر من الآخر، ويقع هذا بين الأبناء، فهذا يعقوب عليه السلام يقول كما حكى عنه عز وجل: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ [يوسف:94]، وكان منه على بعد مئات (الكيلومترات)، فيقولون: يقع هذا في بعض الأحيان، وذكروا عن هلال بن أمية : أنه لما خرج ابنه أمية بن هلال إلى الجهاد، وكان من أبر الناس وأرضاهم لوالده، حتى ضرب به المثل في البر، فلما خرج إلى الجهاد، تعب أبوه وذهب بصره، واشتد عليه الأمر، حتى قال فيه الأشعار، فبلغ عمر أمره، فكتب إلى أبي عبيدة: إذا جاءك كتابي هذا، فلا تلبث حتى تبعث إليّ بـأمية بن هلال، وكان الأمر سراً، وقال: لا تخبر أحداً، فجاء أمية ولم يشعر عمر إلا وأمية على رأسه، وقال: أنا أمية بن هلال، فقال: اجلس، ما بلغ بك من برك بأبيك؟ فذكر أموراً من البر حتى بكى عمر رضي الله عنه، فقال له: احلب الناقة، ثم أمر بـهلال فأُتي به، فلما جاء هلال ، قال: ما بلغ من بر ولدك بك؟ قال: كان يفعل وكان يفعل، فأجهش عمر بالبكاء مما ذكر من إحسان ولده له، وقال: يا هلال! أمّل خيراً، ثم أعطاه اللبن، فلما شرب، قال: والله! يا أمير المؤمنين! إني لأجد ريح أمية في اللبن! فهذا حنان الوالدين، ونزعة الولد لوالديه، والوالدين للولد واضحة، وفي قصة سليمان مع المرأتين حين قال: ائتوني بسكين أذبحه بينهما، فقالت إحداهما: لا تفعل -يا نبي الله- هو ولدها، فالأم الحنون تنازلت عنه حتى لا يقتل. فهناك أمارات واضحة تدل على صدق المدعي، فـعمر رضي الله عنه عمل بهذا، وقال للقيط: والي من شئت منهما. وأُثر عن علي رضي الله عنه: أنه رد الأمر إلى الصبي، وقال له: والي من شئت منهما، يعني: إن شئت أن توالي هذا الأب أو هذا الأب، فكل منهما له دليله الذي يدل على أنك ولده، فيخيره بين الوالدين.

    وهذه المسألة واقعة في اللقيط وواقعة في مسألة الوطء بشبهة، فقد توطأ المرأة في طهر من رجلين شبهة، وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قضى في مسألة وطء المرأة من رجلين في طهر واحد، وحصل الاختلاف في الولد، ونزع الولد للاثنين؛ لأنه فيه شبه من هذا، وفيه شبه من هذا، فقال: والي من شئت، وعن علي أنه قضى بهذا أيضاً.

    وبعض العلماء في مثل هذه المسائل يقول: إذا وجد الدليل من الطرفين فحينئذٍ تجرى القرعة، ومن خرجت له القرعة حكم له بالولد، ومن أهل العلم من لا يجري القرعة في هذا، والإمام ابن قدامة رحمه الله ذكر في المغني وفي العمدة مسائل الحكومة بالقرعة، وذكر أن القرعة تفصل في حال ادعاء المرأتين للولد، وفي حال ادعاء الرجلين للولد. وبناء على هذا الأصل: لو تعارض القائف مع قائف آخر، وصعب الترجيح، فإنه يحكم بالقرعة، ويرجح بين هذه الأقوال بها.

    ومن أهل العلم، من قال: اختلاف الثلاثة فأكثر في الولد اللقيط حكمه حكم الاثنين، وجعلوا قضاء علي وعمر رضي الله عنهما أصلاً يقاس غيره عليه، ويرون أنه في هذه الحالة يمكن أن يترك الولد لخياره، ويختار من شاء من هؤلاء الذين ادعوه ولداً لهم.

    والخلاصة: أن الذي عنده بينة يحكم له ببينته، منفرداً كان أو مجتمعاً مع غيره، سواءً كانوا اثنين أو أكثر، فالذي عنده بينة لا منازع له في بينته فاللقيط له؛ لأن المدعي مطالب بالبينة، فإذا أثبت البينة التي تدل على صدق قوله ودعواه حكمنا له بها، وأما إذا تعارض مع غيره، فكان عند غيره بينة، وتعارضت البينات، فالحكم ما ذكرناه.

    1.   

    الأسئلة

    هل المجنون البالغ يكون لقيطاً؟

    السؤال: قول المصنف: (طفل)، هل يدخل المجنون البالغ في ذلك؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آلة وصحبه ومن والاه.

    البالغ بالإجماع لا يعد لقيطاً، وإذا جن اللقيط بعد بلوغه فإنه يستصحب حكم الأصل، وهذا مثلما ذكرنا من المسائل المفرعة على الحكم بإسلامه، أنه إذا جن استصحبنا حكم الأصل، أما لو وجد مجنوناً، فإننا في هذه الحالة نحث من وجده أن يقوم على رعايته إذا أمكنه ذلك، وإلا رفعه إلى السلطان أو الوالي ليتولى أمره، والله أعلم.

    حكم إلحاق اللقيط بنسب الملتقط ومحرمية أهل الملتقط

    السؤال: ما حكم اللقيط من حيث نسبه، ومن حيث محرميته في أقارب الملتقط؟

    الجواب: أما من حيث النسب، فلا يجوز أن ينسب اللقيط إليه؛ لأنه ليس بوالده، وقد لعن الله عز وجل من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه، وهذا أمره عظيم، فإذا كان ملتقطاً له فإنه ينبغي عليه أن يحتاط، وألا ينسب اللقيط إليه؛ لأنه إذا نسبه إليه فقد ادعاه، والله يقول: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب:5]، فلا يجوز أن يدعي نسبة الولد إليه وهو ليس بولده، ثم يدخله على أهله وبناته، فينظر إلى عورات لا يحل له النظر إليها، ويصافحهن ويرث، وتقع المحاذير الشرعية، ويترتب على هذا مسائل شرعية صعبة، لكن الحل في مثل هذا إذا خشي من الفتنة أن يجعل اللقيط يرتضع من زوجته، حتى يصير بمثابة الابن في مسائل المحرمية، والتكشف ونحوها، ويحتاط إذا خشي أن ينسب اللقيط إليه، وذلك بأن يشهد شهوداً على أن هذا لقيط وليس بولده، حتى يحفظ حقوق أولاده ولا يضيعها، والله تعالى أعلم.

    حكم زواج اللقيط وموضع زواجه

    السؤال: إذا كَبُرَ هذا اللقيط فخطب، فمن يكون وليه في هذه الحالة؟

    الجواب: إذا كان رجلاً، فإنه يخطب لنفسه، ويتزوج من يريد، ولا يشترط الولي للزوج؛ لأن الرجل يجوز له أن يزوج نفسه، لكن هذه المسألة عند بعض العلماء من المشتبهات، وتدخل في مسألة التورع؛ لأنه يُخشى أن يخطب أخته، أو يخطب بنت أخته، أو يخطب قريبته، فمسألة النكاح فيها إشكال كبير من جهة إذا غلب على ظنه وجود والديه في بلده، أو تكون هناك شبهة بالزنا -والعياذ بالله!- أو يكون من غير زنا، فيخشى أن يتزوج قريبته.

    وبالنسبة لشبهة كونه ابن زنا يعرف ذلك بالأحوال والدلائل، فإذا وجد في مكان التقاطه نقود على صفةٍ تبين تخلي والديه عنه، فالشبهة قائمة على أنه ابن زنا والعياذ بالله! وفي حالة ما إذا كان ابن زنا، فتفصل المسألة على خلاف العلماء، هل الزنا يؤثر في المحرمية أو لا يؤثر؟

    فذهبت طائفة من العلماء إلى أن الزنا لا يؤثر كالشافعية ومن وافقهم، وذهبت طائفة أخرى من العلماء إلى أن الزنا يؤثر، فتحرم الأخت من الزنا، والعمة من الزنا، ويثبت الزنا المحرمية، كما تثبت في النسب، والقول بأن الزنا لا يؤثر ورد عن بعض الصحابة، مثل : عبد الله بن مسعود حيث قال: إن الحرام لا يحرم الحلال، فعلى هذا يمكن له أن يتزوج من الموضع؛ لأن الزنا لا يؤثر، ومذهب الجمهور إنه يؤثر؛ لأن العبرة بالمعاني لا بالأسماء، وقد ذكرنا هذا في مسألة المحارم، وهي: هل البنت من الزنا مَحْرَمٌ؟ وهل الأخت من الزنا محرم؟ وهل يجوز نكاحها؟ وقلنا: إن هذا من المشتبه الذي لا يفتى بحله ولا بحرمته، فيكون القول الذي اخترناه، قريب من مذهب الجمهور، ففي هذه الحالة إذا كان اللقيط في موضع على صفةٍ يغلب على الظن أن فيه شبهة الزنا، فإنه يبتعد عن البلد الذي وجد فيه، ويتعاطى أسباباً تبعده، حتى قال بعضهم: أحب أن يتزوج من موضع غير الموضع الذي وجد فيه، يعني: يتزوج من مكان آخر، حتى يبتعد عن الشبهة في هذا، وهذا مذهب بعض العلماء.

    إذاً: لا بد أن تعرف أولاً: هل هذا اللقيط من جنس الزنا أو من غيره؟!

    مثال من كان من جنس غير الزنا: الطفل الذي يكون ضائعاً في مجامع الناس، فالغالب ألا يكون هذا ابن زنا؛ لأنه لا يصل بالأم أن تتهرب من الولد وعمره أربع سنوات أو خمس سنوات أو ست سنوات، وهذا لا يخفى، ولا يمكن أن تتهرب دون أن تضع في جيبه ما يقوم به، فالزنا له دلائل، وهناك دلائل تغلب على الظن وجود تهمة الزنا، وهناك دلائل تغلب على الظن أنه ليس بابن زنا، فإذا وجدت الدلائل التي يحكم بكونه ليس ابن زنا، فالأمر أشد وأعظم؛ لأنه في هذه الحالة يحتمل أن كل واحدة في هذه القرية، أو في هذه المدينة بينه وبينها صلة توجب المحرمية، فالأمر صعب جداً، ولذلك يكون الأمر فيه أشد مما لو كان من الزنا، فالمسألة ليست سهلة، فإن وقعت يفتى فيها، فالإنسان يتورع من مثل هذه المسائل، لكونها تحتاج إلى نظر، وقد تكلم العلماء رحمهم الله عن هذه المسألة في باب النكاح، وأشار إليها الإمام النووي رحمه الله، والإمام الماوردي ، في الحاوي، والإمام ابن قدامة ، وأشار إلى جملة من مسائلها المتفرقة في النكاح، فهي مسألة مشهورة عند العلماء، وفيها إشكال، إلا أنه إذا تعاطى الأسباب، وعمل على غالب الظن بالسلامة، فإن شاء الله لا بأس في نكاحه وزواجه، والله تعالى أعلم.

    الفرق بين اللقيط واليتيم وحكم كل منهما

    السؤال: هل يأخذ اللقيط حكم اليتيم من كل وجه؟

    الجواب: اللقيط ليس بيتيم، ولا يجوز أن نحكم بأنه يتيم، أو يأخذ حكم اليتيم؛ لأن اليتيم هو من فقد أباه وهو دون البلوغ فهذا من جهة الآدمي، وأما من جهة الحيوان، فقالوا: اليتيم من فقد أمه. فليس هناك دليل على أن اللقيط يتيم، أو أن والده موجود أو غير موجود، فلذلك لا يأخذ اللقيط حكم اليتيم، لكن الشفقة عليه والإحسان إليه والبر به، وتفقده ونحو ذلك، لا شك أنه من أجلِّ الأعمال وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين)، وهذا بسبب الرحمة، فإن كافل اليتيم إنما نزل هذه المنزلة وتبوأ هذه الدرجة العظيمة بسبب الإحسان إليه، وجعل الله لمن كفله هذا الثواب العظيم، حتى قال صلى الله عليه وسلم: (خير البيوت بيتٌ فيه يتيم يُحسن إليه)، فإذا دخل البيت كان بركة على أهله، وخيراً على أهله، وكان العلماء يستحبون أن يضم الإنسان إليه يتيماً إذا أمكنه ذلك، كأن يذهب إلى دور الأيتام ويأخذ يتيماً فيضمه إليه؛ حتى يضع الله الخير والبركة في بيته، فتبوأ كافل اليتيم لهذا كله من جهة الرحمة، وقد يكون اللقيط أشد من اليتيم؛ لأن اليتيم عرف أبويه، وعرف نسبه، ولكن اللقيط لم يعرف، واليتيم يتعذب دون البلوغ، فإذا بلغ واستوى على أشده كافح وانتفى عنه الضرر الذي كان موجوداً عليه في حال يُتْمِه، ولكن اللقيط لا يزال في حيرة من أمره، وعناء في نفسه، وانكسار في قلبه، حتى يواريه الثرى، فلا ينفك عنه هذا البلاء، كلما نظر إلى رجل ظنه أباً له، وكلما نظر إلى أم ظنها أماً له، وتارة تنتزع الخواطر وإحسان الظن بوالديه إلى أنهما كانا فقيرين أو ضعيفين، وتارة تنتزعه الخواطر إلى إساءة الظن بأمه وأنها كانت زانية، فهو في شيء من العناء لا يخطر على بال، ولذلك فالتقاط اللقيط ليس كاليتيم؛ لأن اللقيط يؤذى ويضر، والناس تسأله: من أنت؟ ومن أمك؟ ومن أبوك؟ ومن أين جئت؟ فالأمر في حقه أشد وأعظم من جهة المشاعر، والرحمة في حقه قد تفوق اليتيم، إلا أن اليتيم إن تعلق بوالده كانت الرحمة به في بعض الأحيان أشد؛ لأنه قد يفقد والده بعد أن يكون مميزاً، كأن يكون مثلاً ابن سبع سنين، وأدرك والده يحمله ويأخذه ويذهب به ويجيء، وإذا به بعد فقد والده لا يُحمل ولا يذهب به، وكلما رأى صبياً مع والده تقطع قلبه، وكلما رأى صبياً يكرم من والديه أصابته الحسرة، فالمشاعر الموجودة في اليتيم قد تفوقها مشاعر اللقيط، والله عز وجل يرحم الرحماء، فإن وقعت الرحمة إلى محتاج إليها، كان ثوابها من الله أعظم، وجزاؤها من الله أكبر، ويتولى أرحم الراحمين الرحمة بأضعاف ما رحم به المخلوق، ولذلك قال الله تعالى: (تجاوزوا عن عبدي فنحن أحق بالتجاوز منه) فصفح عن عبده في عرصات يوم القيامة؛ لأنه كان يرحم الناس، ويتجاوز عن المديونين، فكيف إذا رحم الضعيف الذي لا حول له ولا قوة؟ والرحمة كلما عظمت من المخلوق للمخلوق، ووقعت في موقعها، عظمت رحمة الله به، ولذلك قَلَّ أن تجد إنساناً معروفاً بالرحمة وتسوء خاتمته، بل غالباً أن الذي يرحم الناس ويحسن إليهم يتولاه الله عز وجل بإحسانه وبره، وما ينتظره في الآخرة أعظم وأجل من ذلك، وما سكنت الرحمة في قلب إنسان إلا كان من السعداء، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما مر عليه الأقرع بن حابس وهو يقبل ولده، فقال: (إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم، قال: أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك)، فالرحمة لا تدخل إلا في قلب سعيد، وما قام هذا الدين إلا على الرحمة، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم إمام الرحماء وإمام الكرماء عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام رحيماً بالناس، فالذي يرحم اللقيط ويحسن إليه ويتفقد مشاعره أجره عظيم.

    ولذلك قال بعض أهل العلم ممن أدركناه من مشايخنا: إن أمر اللقيط صعب؛ لأنك تحتاج أول شيء أن تقوم بحقوقه، وتتحفظ من أذيته، ويكون له داخل البيت وضع خاص؛ خاصة إذا لقط وهو صغير لم يميز الأمور، ولما يميز قد يبدأ يسأل: من أبوه؟ من أمه؟ ويكون الأمر في حقه صعباً ومحرجاً، ولذلك أمر اللقيط فيه ثواب عظيم، وقد يفوق الإحسان إلى اليتيم، إذا اتقى لاقطه الله عز وجل، وبالغ في إكرامه والإحسان إليه، وقد قال تعالى: إنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف:30].

    حكم إعطاء اليتيم من الزكاة للإنفاق عليه

    السؤال: ما حكم إعطاء اليتيم من الزكاة للإنفاق عليه؟

    الجواب: اليتيم -من حيث الأصل- مرده إلى بيت مال المسلمين، ولذلك يصرف عليه من بيت مال المسلمين، وأما الزكاة فلا يعطى منها -من حيث الأصل- إذا كان ولي الأمر يتولى أمره، والأيتام الآن وجدت لهم دور أيتام، تقوم عليهم، ويصرف عليهم من بيت مال المسلمين، فحينئذٍ لا يستحقون من الزكاة؛ لأنه أَسند أمرهم ولي الأمر إلى من يتفقدهم، فإن وجدت حاجة وعوز فحينئذٍ يمكن أن يصرف لهم من الزكاة، لكن هذا عند الضرورة، أما إذا صرف عليهم من بيت مال المسلمين، فإنهم يستَكْفُوْن به، والله تعالى أعلم.

    حكم إعطاء اللقيط من الزكاة للإنفاق عليه

    السؤال: هل يعطى اللقيط من الزكاة للإنفاق عليه؟

    الجواب: اللقيط إذا كان له مصرف من بيت مال المسلمين، فإنه لا يعتبر محتاجاً، ما دام أن بيت مال المسلمين يتكفل به، ففي هذه الحالة ما يعطى من الزكاة، والزكاة إنما تعطى للفقير والمسكين، ومن سمى الله عز وجل من أهلها، والله تعالى أعلم.

    حكم التعريف باللقيط عند وجدانه

    السؤال: هل يجب التعريف باللقيط عند وجدانه والبحث عن والداه؟

    الجواب: نعم، في حالة وجدانه يعرف به إذا غلب على الظن الضياع، وتوضيح ذلك أنه إذا وجد صبياً أو صبية، وغلب على الظن أنه مفقود من والديه، فعليه أن يعلم أن هناك ضرراً مترتباً على عدم رده لوالديه؛ لأن الأم تتضرر بفقدان ابنها أو بنتها، وتصيبها الوساوس، وربما فقدت عقلها، فهذا نبي الله يعقوب عليه السلام فقد بصره، وهو من أهل الصبر، وهو يعلم أن ولده سيعود إليه، فما ظنك بمن فقد ولده بدون عودة؟! ومن هنا لم يحل للمسلم أن يخرج إلى الجهاد حتى يستأذن والديه؛ لأنها مسألة فقد، فيعمل الوسيلة التي يكون بها رجوع الولد إلى والده، كأن تكون هذه الوسيلة عن طريق الإعلام، أو عن طريق نشر صورته، وغيرها من الوسائل التي يمكن أن يستدل بها عليه، فعلى لاقطه أن يستخدمها حتى يصل الولد إلى والديه، حتى وإن اضطر إلى تصويره، فإنه يفعل ذلك؛ لأن في ذلك رحمة بأمه وبأبيه، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أراد أن يبين للصحابة عظيم رحمة الله بخلقه، فإنه بين لهم عظيم ذلك حينما ضرب لهم المثل، ولله المثل الأتم الأكمل، وذلك أن امرأة جاءت تسعى سعياً حثيثاً حين رأت ولدها، فأخذته فضمته إلى صدرها، فقال صلى الله عليه وسلم (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا، يا رسول الله! قال: والذي نفسي بيده! لله أرحم بعباده من هذه بولدها)، فالشاهد من هذا: أنه لما أراد أن يضرب المثل بعظيم رحمة الله اختار رحمة الأم بالولد، وجعل ذلك عند الفقد، فرجوع الابن لأمه والبنت لأمها له شأن عظيم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من فرق بين والدة وولدها، فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة)، فالأمر عظيم، وما دام أنه يمكن الاتصال به، ويمكن السؤال والتحري والتعريف؛ فإنه يجب علينا أن نتعاطى ذلك؛ لأن السكوت عن ذلك فيه ضرر، وضياع لحقوق الولد، وإدخال للضرر على الولد مستقبلاً، وإدخال الضرر على والديه، ولا يجوز إدخال الضرر على المسلم، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن: (لا ضرر ولا ضرار)، والله تعالى أعلم.

    عدم جواز الخروج من المسجد بعد الأذان للمؤذنين وغيرهم

    السؤال: مؤذن يؤذن ثم يذهب إلى بيته، ويؤدي راتبة الظهر القبلية فيه، ثم يأتي ويقيم الصلاة، ويقول: إن الصلاة الراتبة في المنزل أفضل، فهل هذا العمل صحيح ؟

    الجواب: حتى المؤذنين صاروا مجتهدين! يا إخوان! الاجتهاد في الأدلة والمسائل والأحكام ليس لكل أحد، كان العلماء رحمة الله عليهم الواحد منهم يجثو على ركبتيه، ولا يريد أن يفتي في المسألة، ولا يريد أن يجتهد، والأدلة أمامه، خوفاً من الله سبحانه وتعالى وتورعاً.

    ثم نقول: هذا اجتهاد خاطئ وفعل خاطئ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخروج من المسجد بعد الأذان، فلا يجوز الخروج بعد الأذان من المسجد إلا من عذر، وفعل الفضائل ليست بعذر، ولا يجوز طلب السنة بارتكاب النهي، وأداؤه السنة الراتبة في المسجد أفضل من أدائها في البيت، يقول أبو هريرة رضي الله عنه -لما رأى رجلاً خرج من المسجد بعد الأذان-: (أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم)، ومن عصى الرسول صلى الله عليه وسلم فقد عصى الله، فما يمكن أن نقول: اطلب سنة بمعصية الله، ولو أن رجلاً يريد أن يقبل الحجر، وعلى الحجر الطيب، وقد نهي عن الطبيب للمحرم، فعليه أن يترك سنة التقبيل؛ لأنه إذا تعارض المسنون مع النهي وجب تقديم النهي، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا فقال: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عنه فانتهوا)، فجعل مسألة النهي أعظم وقال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ [النور:63]، فلذلك ينبغي على هذا المؤذن أن يتقي الله، وأن يبقى في المسجد، ولا يجوز له الخروج.

    وننبه أن الأئمة والمؤذنين وطلاب العلم والخطباء هم قدوةٌ للناس، فلا ينبغي للمؤذن أن يؤذن ويخرج من المسجد، أو يخرج ويجلس خارج المسجد، أو في غرفته التي بالمسجد ثم يأتي عند الإقامة، ولماذا نتعالى على الناس؟ ولماذا نتميز على الناس؟ ولذلك ينبغي ترك الأماكن الخاصة التي لا يدخل منها إلا الخاصة، ولا يخرج الإنسان من المسجد بعد الأذان إلا من عذر، ويكون هناك نوع من التحفظ والصيانة، وإذا كلف الإنسان ولاية من الولايات الشرعية، كالأذان والإمامة والفتيا والتعليم والتدريس، فينبغي أن ينتبه لمسألة القدوة، ويجب عليه أن يحفظ حق إمامته وأذانه، فهذا الذي يخرج من المسجد، هل نعلم أنه سيصلي السنة الراتبة في البيت؟! وهل كل الناس سيحسن به الظن؟!

    والناس إذا رأوا بأم أعينهم أن المؤذن دخل المسجد عند الإقامة، فمعنى ذلك أن يتأخذوا ولا يدخلوا إلا عند الإقامة؛ لأن المؤذن لم يدخل إلا عند الإقامة، فلذلك ينبغي أن نكون بعيدي النظر، وأن ننتبه لهذا، والواجب على المؤذنين أن يتحفظوا ما أمكن. وانظر إلى مسجد فيه مؤذن يؤذن، ثم يبقى فيه يقرأ كتاب الله عز وجل، أو يصلي، فوالله! إنه يعظم في عينك، ووالله! إن من الناس من يجل المؤذن أكثر مما يجل الإمام، مما يرى من حرص المؤذن على السنة، وحرصه على الخير، ولما فيه من بشائر الخير التي تدل على أنه أهل للأذان، فعلينا أن نشكر نعمة الله سبحانه تعالى، فإذا جعلت إماماً، أو جعلت مؤذناً، فلتعلم أنك ما جعلت بحولك ولا بقوتك، وإنما بتفضيل الله لك، وتفضيل الله لك نابع من هذا الشرع والدين، فاحرص على أن تحبب الناس في هذا الدين، واحرص على أن ينظر الناس لهذا الدين نظرة الهيبة لا نظرة الاستخفاف، فإذا خرج المؤذن من المسجد بعد أذانه استخف الناس بالجلوس في المسجد، ولربما يطرأ أمر في المسجد يحتاج إليه، وربما يطرأ أمر مكروه لا قدر الله، فوجود المؤذن أمر مهم جداً، ولا ينبغي في الحقيقة الخروج، بل ولا ينبغي التميز نهائياً؛ لأن الدخول عند الإقامة من هدي الأئمة، ولذلك لا ينبغي أن يشابههم غيرهم من الناس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل عند إقامة الصلاة، وكان بلال -كما في الصحيح- إذا سمع الخشخشة من وراء الستر أقام الصلاة، حتى قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقوموا حتى تروني)، فهذه الأمور يتميز بها الأئمة ولا يشاركهم فيها غيرهم، ولا ينبغي أن نتفضل على الناس ونتقدم على الناس إلا بتقديم الشرع، وكان المشايخ رحمة الله عليهم يشددون في هذا، حتى والله! إنهم كانوا إذا جلسوا في مجالس مميزة، وأراد من هو قريب منهم من طلاب العلم أن يجلس بجوارهم، فإنهم ينهرونه، وإذا جلس طالب العلم في مجلسهم قبل مجيئهم، شدوا عليه وأغلظوا عليه، فلا ينبغي الدخول من الأماكن الخاصة، أو التنفل في موضع الإمام، فهذا يترك للإمام، ونحن عندما نتقدم على الناس، ونتصدر على الناس، فهناك شيء من الآداب علينا أن نتحلى بها، فلا بد لطالب العلم والمؤذن ومن ينتسب للشرع أن يكون متحلياً بالأكمل، وأن يكون عنده تحفظ، ويعلم ما الذي يترتب على فعله هذا، فكل شيء فيه تميز على الناس، وتصدر على الناس، سواء في الخروج أو الدخول، أو صفة الخروج أو صفة الدخول؛ فلا ينبغي أن تكون إلَّا لمن خص بهذا الحق، فالناس لهم حق، ولا يجوز أن يعلو عليهم أحد إلا بحق، فلو كان هناك مدخل خاص بالإمام، فلا يجوز أن يدخل كل أحد منه، فالإمام له فضل على جميع من في المسجد، فإذا جاء أي واحد ودخل مع الشيخ من مدخله مثلاً، أو مع الإمام من مدخله؛ كان هذا نوعاً من التميز، ولربما قد يقصد به التزكية لنفسه بأنه مع الشيخ، وتكون فتنة للتابع وفتنة للمتبوع، فطالب العلم التابع لمشايخه ينبغي عليه أن يحفظ حقوق الناس، ولا يتعالى على أحد من الناس، ولا يتميز في صفة ولا سمت إلا إذا فضله الله عز وجل بذلك. ولذلك كان بعض العلماء يكره إذا انتهت الصلاة أن يتقدم الشخص على الصف، إذا كان في الصف الأول، إلا إذا كان من ضرورة كمرض أو نحوه، وكانوا يستحبون أن يتأخر عن الصف؛ لأنه لما يتقدم على الصف فهذا تميز، وكذلك أداء السنة في مكان الإمام فيه تميز، ومن هنا نص بعض العلماء على أنه إذا صلى الإمام وانتهى من الأذكار، فإنه لا يبقى في مصلاه؛ لأنه جاز له التقدم لضرورة وحاجة وهي الإمامة، فإذا انتهى منها فلينتقل إلى مكان آخر. وكنا نرى بعض المشايخ الكبار، كان لهم موضع يجلسون فيه للفتوى، وما يجلس أحدهم في نفس المصلى، وكانوا يتكئون على سارية، أو مكان مخصوص يجلسون فيه بعد الجمعة أو بعد الصلاة، فينتقل الشيخ إلى هذا المكان ويجلس فيه، فالسائل يأتيه فيه، ولا يتميز على الناس، وهذا من التورع، والناس لهم حقوق ولا ينبغي التعالي عليهم، إلا باستحقاق شرعي.

    فالواجب على المؤذن: ألا يجتهد في فهم النصوص بغير علم، ومن قال في الدين برأيه فقد أخطأ ولو أصاب، وفي ذلك حديث، والحديث تكلم في سنده، لكن العمل عليه عند أهل العلم، ومعنى ذلك: أنه أخطأ بالجرأة على الاجتهاد، وهو ليس من أهل الاجتهاد، ولو أصاب الحق، فهذه الإصابة شيء آخر، ولكننا نتكلم عن كونه اجتهد وهو ليس بأهلٍ للاجتهاد، كمن يتعاطى أسباب الضرر، وهو يعلم أنه لا يتحفظ منها.

    فعلى الإنسان أن يتقي الله عز وجل، فلا يجتهد من عنده، حتى لا يكون ضالاً في نفسه، وقد يجعله الله مضلاً لغيره والعياذ بالله! إذا لم يتحفظ.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يقينا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756177634