إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الغصب [3]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • حفظت الشريعة الحق لكل صاحب حق، فلو بنى غاصب على أرض مغصوبة أو زرع فيها، فإن الشريعة تحفظ حق الجميع، ولا تعطي أحداً على حساب الآخر، أما بالنسبة للغاصب فإنه يضمن كل ما جنته يده على حسب ما فعله، وهذا ما فصله العلماء في أنواع الضمان.

    1.   

    مسألة البناء على الأرض المغصوبة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [وإن بنى في الأرض أو غرس لزمه القلع].

    (وإن بنى في الأرض أو غرس) فيه مسائل، ونبدأ -أولاً- بالبناء ثم بالغرس.

    من اغتصب أرضاً وأحدث فيها غرساً، فإنه يصدق عليه أنه غاصب، وهذا مذهب جمهور العلماء، أن الغصب يقع على الأراضي والعقار، وخالف في هذه المسألة الإمام أبو حنيفة والقاضي أبو يوسف عليهما رحمة الله، فقالا: لا غصب في العقارات؛ لأن الغصب عندهما يكون فيه شيء من الحيازة والنقل، والأرض لا تستطيع أن تنقلها من موضعها، ولذلك قالوا: إنه لا يتحقق فيها الغصب، وقد أجاب الجمهور عن ذلك بأدلة منها:

    أولاً: ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث البخاري وغيره: عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ظلم قيد شبر من الأرض)وفي رواية: (من غصب ..) وقوله: (من غصب قيد شبر من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين) قال: (من الأرض)، فجعل الأرض محلاً للغصب، فدل على أن الغصب يقع في العقارات كما يقع في المنقولات.

    كذلك أيضاً مما يدل على هذا: عموم الأدلة الواردة في رد ما أخذ، والمنع من الاعتداء على حق المسلم، فيكون ذلك غصباً واعتداء على أموال الناس.

    ثالثاً: أن الاستيلاء على الأرض ومنع مالكها منها ومن التصرف منها يعد غصباً كالمنقولات، وما وجدنا فرقاً بين العقار والمنقول، فالشخص حينما يغتصب أرضاً ويمنع مالكها من الانتفاع بها، ومن سكناها ومن تأجيرها، لا فرق بينه وبين من اغتصب طعاماً، ولا فرق بينه وبين من اغتصب دابة، وكون الصورة ليس فيها نقل لا يؤثر، المهم أنه حال بينه وبين الانتفاع بها بالاستيلاء والقهر، وتلك حقيقة الغصب.

    أقوال العلماء في مسألة البناء على الأرض المغصوبة

    نبدأ أول شيء بمسألة البناء، إذا أحدث في الأرض البناء وأردنا أن نرد العين المغصوبة إلى مالكها، وثبت عند القاضي أن هذا الشخص غاصب وأن البناء بني على أرض مغصوبة، فما الحكم؟

    اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال هي:

    أئمة الحنفية -رحمهم الله- يقولون: من اغتصب أرضاً وبنى عليها ففي ذلك تفصيل:

    فإما أن يكون البناء قيمته أكثر من قيمة الأرض، وإما أن يكون العكس، فتكون قيمة الأرض أكثر من قيمة البناء.

    مثال: لو أن شخصاً أخذ أرضاً قيمتها مليوناً، وأحدث بناء عليها بمليونين، فقيمة البناء أكثر من قيمة الأرض نفسها، والعكس: تكون قيمة الأرض مليونين والبناء قيمته مليوناً، فحينئذٍ تكون قيمة الأرض أكثر من قيمة البناء، قالوا: إذا كانت قيمة الأرض أكثر فحينئذٍ يكون الواجب على الذي غصب أن ينقل بناءه، أو يعاوضه المالك عما أحدثه في أرضه.

    فالمبلغ الذي بنى به البناء يجب أن يدفعه المالك ويسترد أرضه ويكون البناء ملكاً له.

    أما لو أنه أحدث بناءً أضعاف قيمة الأرض أو يزيد على قيمة الأرض فإننا نقول في هذه الحالة: ادفع لمالك الأرض قيمة أرضه ويبقى الغاصب في الأرض والبناء له.

    هذا مذهب الحنفية، يرون أنه ينظر في قيمة البناء الذي أحدثه الغاصب وقيمة الأرض، فإن كانت قيمة الأرض أغلى فيثبت المالك ويخرج الغاصب ويخرج قيمة البناء، وإن كانت قيمة البناء أغلى يثبت الغاصب ويخرج مالك الأرض، وهذا بنوه على القاعدة: إذا تعارضت مفسدتان روعي دفع أعظمهما بارتكاب أخفهما، فيقولون: يرتكب أخف الضررين وأهون الشرين.

    فلما كان ضرر المالك للأرض أعظم روعي حقه، والعكس بالعكس.

    المذهب الثاني: مذهب المالكية رحمهم الله، يقولون: إنه ينظر إلى حق المالك المغصوب منه، وننظر في البناء، فقالوا: نقدر البناء ونسقط من البناء الذي أحدثه الغاصب قيمة الهدم ونقل المهدوم، ثم يدفع له المالك ذلك الفضل، وإن شاء ألزم الغاصب أن يهدم وأن يخرج من أرضه، فيخير بين الأمرين.

    فقالوا: ننظر إلى حق المالك ونقول له: إن شئت أن تدفع لصاحب البناء قيمة البناء، وتنقص منها قيمة الهدم والنقل وأرش النقل، وإن شئت تقول له: اهدم بناءك واخرج عن أرضي ورد لي الأرض كما كانت، هذا مذهب المالكية.

    وبناءً على ذلك: يرون أن الأرض للمالك، فليس للغاصب أي طريقة على الأرض خلافاً للحنفية رحمهم الله، لكنهم قالوا: بالنسبة للشخص الذي غصب نقول له: ليس لك إلا قيمة البناء وننقص من قيمة البناء تكلفة الهدم.

    مثال: لو أن شخصاً غصب أرضاً، ثم بنى عليها بناء وثبت عند القاضي الغصب وأمر برد الأرض المغصوبة، فلما أمر برد الأرض المغصوبة قلنا للمالك: أنت بالخيار بين أمرين: تثمن البناء، فالبناء الموجود عظماً أو مفصلاً، قيمته يساوي مليوناً، وقال أهل الخبرة: هذا بناء يكلف مليوناً، نقول: لو هدم ونقل الأنقاض بعد الهدم، كم سيكلف؟ قالوا: مائتي ألف، فنقول له: إما أن تدفع له ثمانمائة ألف أو نلزم الغاصب بهدم البناء ورد الأرض كما كانت، فيخير المالك ولا يلزم بواحد منهما.

    وهذا مذهب لا شك أنه مما يردع الناس، وإن كان ما سيأتي من مذهب الشافعية والحنابلة ألزم للأصل.

    الشافعية والحنابلة رحمهم الله قالوا: ليس لعرق ظالم حق، وهذا منطوق الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: الغاصب معتدٍ، وحينئذ نقول له: انقل بناءك ورد الأرض كما كانت، وإن شاء في هذه الحالة أن يهدم بنفسه، وإن شاء أن يعطي كلفة هدم البناء للمغصوب منه فعليه أن يفعل ذلك.

    أما الأرض فإنها ترجع كما كانت، وليس له حق في هذه الأرض ولا يختلف الحكم عندهم لا ببناء ولا بغرس.

    وفي الحقيقة من حيث الأصول والأدلة فمذهب الحنابلة والشافعية أصح هذه المذاهب؛ وذلك لأن الغاصب معتدٍ على غيره، وبهذا الاعتداء بنى في غير ملكه، فلا يثبت للبناء حرمة؛ لأن الشرع لا يثبت الحرمة إلا لشيء مبني على أصل صحيح، وما بني على باطل فهو باطل، والفرع تابع لأصله، وهذا أصل حرام فكيف ينبني عليه استحقاق المعاوضة ونقول: من حقه أن يعاوض؟!

    أما ما ذكره أصحاب المذهب الأول من قولهم: يرتكب أخف الضررين وأهون الشرين، فنقول: يرتكب أخف الضررين فيما له حرمة، ويكون الضرران في شيئين لهما حرمة، وأما هذا فهو غاصب لا حرمة له، وتصرفه في مال غيره، وهذا مالك حقيقي ملك الأرض وهي أرضه وأفسدت عليه أرضه، وقد يكون أرادها لزرع فأصبحت لبناء، فليس لعرق ظالم حق، خاصة أنه صلى الله عليه وسلم نص على ذلك.

    ثانياً: نقول لهم: لو قلنا بمذهبكم لتلاعب الناس وأمكن للظلمة والأغنياء أن يتسلطوا على أموال الفقراء، فالأمر بسيط، يذهب إلى فقير ليس عنده مال، ويغصب أرضه ويحدث عليها بناء بالملايين، ثم يقول له: الذي أحدثته أغلى من أرضك، فخذ قيمة أرضك واخرج، وهذا لا شك أنه يفتح باب شر عظيم، ويؤدي إلى باطل لا تقره الشريعة، فأصبح المغصوب منه تؤخذ منه أرضه، ولربما لا يرضى ببيعه، وتؤخذ منه قهراً.

    وعلى هذا: الذي يصح هو مذهب من قال: إنه ليس لعرق ظالم حق، ونقول: على الغاصب أن يقلع البناء من الأرض، وأن يرد الأرض كما كانت، وهذا هو الذي اختاره المصنف رحمه الله، فقال رحمه الله: (وإن بنى في الأرض أو غرس لزمه القلع).

    لزمه قلع البناء بالهدم، ورفع أنقاض البناء، فجميع الآثار الباقية بعد البناء ينبغي إزالتها، وإذا بقيت آثار حفر أو نحوها تردم، فإن ردمت وتشوهت الأرض بعد الردم وأصبحت معيبة وجب عليه دفع النقص، بحيث لو كانت قبل الغصب قيمتها ثلاثمائة ألف، وبعد الغصب صارت قيمتها مائتي ألف، فعليه أن يرد الأرض ومعها مائة ألف ضماناً للنقص الذي حدث بسبب آثار الغصب التي وقعت.

    1.   

    حكم من اغتصب أرضاً وقام بزراعتها

    بقي السؤال: لو أن رجلاً اغتصب أرضاً ثم قام بزراعتها، فما الحكم؟

    الجواب: أنه إذا قام بغرس الأرض والزراعة فيها فلا يخلو:

    إما أن يكون الزرع مما تطول مدته ويمكن نقله كالنخيل وأشجار الفواكه ونحوها، وإما أن يكون الزرع مؤقتاً يمكن أن يصبر عليه الشهر والشهران ونحو ذلك كالحبوب.

    حكم اتفاق الغاصب والمغصوب منه على بقاء الزرع

    أما إذا اغتصب أرضاً وكان قد زرع فيها نخلاً أو نحوه، فإن الحكم الشرعي أنه يطالب بنقل هذا النخل وإخراج هذا الزرع، ويقال له: اقلع هذا النخل وعليك مؤونة القلع، إلا إذا اتفق مع رب الأرض على أن يعطيه قيمة النخل وينصرف عنه.

    مثال ذلك: لو اغتصب أرضاً وزرع فيها مائة شجرة من النخيل من نوع النخلة منه بألفين، فإذا كانت مائة نخلة وكل نخلة بألفين فمعنى ذلك أن قيمة النخل مائتي ألف، فلو قال له رب الأرض: خذ المائتي ألف واترك هذا النخل، وتراضيا واصطلحا، فحينئذٍ لا إشكال، وتنتقل المسألة من الغصب إلى الصلح، وتسري عليها أحكام الصلح المتقدمة وتصبح بيعاً، لكن إذا أعطاه مائتي ألف ريال فإنه يضمن الغاصب المدة التي مضت وقد وضع يده على الأرض غصباً، فلو أنه مكث فيها سنتين، وكل سنة لها عشرة آلاف فإنه يدفع له ما عدا أجرة هاتين السنتين، فعشرون ألفاً مستحقة لصاحب الأرض، والمائتي ألف مستحقة للغاصب، فيعطى مائة وثمانين ألفاً.

    وبناء على ذلك: إذا اتفقا على إبقاء النخل، أو إبقاء الزروع والأشجار واصطلحا على ذلك فلا إشكال، وتنتقل المسألة إلى البيع، ويضمن الغاصب لرب الأرض المدة التي أمضاها غصباً وتدفع أجرتها، فلو تنازل صاحب الأرض وقال: لا أريد العشرين ألفاً وهي لك وقد سامحتك في المدة فذلك لهما؛ لأنه صلح ولصاحب الحق أن يتنازل عن حقه كله أو بعضه، هذا بالنسبة في حال اصطلاحهما على إبقاء الزرع كما هو.

    الحكم إذا أصر الغاصب على نقل الزرع

    الحالة الثانية: أن يقول رب الأرض: أريد الزرع أن يبقى، ويقول الغاصب: أريد أن آخذ زرعي، فحينئذٍ يجبر رب الأرض على تمكين الغاصب من أخذ زرعه ونقله؛ لأن رب الأرض وصاحب الأرض يملك الأرض، والزرع ليس ملكاً له، فيترك صاحب الزرع ينقل زرعه.

    فإذا قال: أريد أن آخذ زرعي، وقال رب الأرض: بل تتركه وأعطيك قيمته، لم يفرض على الغاصب أن يتركه، وحينئذٍ يمكّن من نقل هذا الزرع، وتسري الأحكام التالية:

    أولاً: يطالب بضمان المدة التي أمضاها غاصباً، فيدفع أجرة الأرض طيلة مدة الغصب، فلو مكث سنتين وهو غاصب للأرض دفع أجرة السنتين.

    ثانياً: يطالب بقلع هذا الغرس في أقرب مدة، ولا يماطل ولا يتأخر، فكل تأخير وكل مماطلة إذا كانت بنوع من التلاعب فيستحق التعزير عليها، وإذا كانت بدون تلاعب خارجة عن إرادته ضمن أجرة مدتها -أي: إجارتها- لصاحب الأرض.

    ثالثاً: بعد قلع الغرس يطالب بتسوية الأرض، وإعادتها كما كانت.

    فإذاً: يطالب بالقلع، ثم يطالب بالأجرة، ثم يطالب بتسوية الأرض وإعادتها كما كانت، فيردم الحفر بعد نقل النخل، وكما هو معلوم في الزراعة أنه لا يمكن نقل النخلة لوحدها، بل تنقل بترابها حتى لا تفسد، ففي هذا يقول بعض العلماء: تضرب هذه الجذور ويقلع منها التراب، حتى إن بعض العلماء أو بعض القضاة من علماء المسلمين كان يأمر بوضع هذه الجذور حتى يستخلص منها التراب، وتخرج النخلة بجذرها فقط؛ لأن التراب ملك لصاحب الأرض، وهذا من أبلغ ما يكون في إحقاق الحق وإبطال الباطل.

    ولا شك أن الأصول تدل على هذا، لكن بعض العلماء تسامح في هذا وقال: إنه قد يفسد النخل، ومادام أنه يمكن ردم هذه الحفر ببديل يضمن له مثل الأرض، فيقوم بدفن هذه الحفر، ثم بعد الانتهاء من دفع الأجرة وقلع النخل وتسوية الأرض ينظر في حال الأرض، فإن كانت الأرض قد تشوهت وأصبح حالها بعد قلع الغرس منها مشوهاً ينقص من قيمتها قيل له: اضمن النقص، فيؤتى بأهل الخبرة الذين لهم معرفة في الأراضي، ويقال: كم قيمة الأرض قبل أن تغتصب؟ يقال: قيمتها مائتا ألف، يقال: بعد أن سويت وبعد أن وضعت بهذا الشكل كم قيمتها؟ يقولون: صارت مائة وثمانين، فيضمن له العشرين ألفاً التي هي فرق ما بين القيمتين؛ لأن ذلك كان بسبب الغصب.

    هذا من حيث حكمه: وجوب القلع على الغاصب، ثانياً: تسوية الأرض وإعادتها على الحالة التي كانت عليها، ثالثاً: ضمان النقص، رابعاً: ضمان الأجرة.

    هذه الأحكام مبنية على أدلة شرعية، فنطالبه بقلع الغرس؛ لأن الأرض ليست بأرضه، وإنما هي أرض أخيه المسلم وليس لعرق ظالم حق، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ليس لعرق ظالم حق)، والعرق: قال بعض العلماء: عرق الشيء جذوره التي يقوم عليها، فإذا كان ليس له حق في هذا فمن باب أولى ما بني عليه، كأنه يقول: إذا انهدم الأصل انهدم ما بني عليه.

    وبعض العلماء يقول: العروق تنقسم إلى أربعة أقسام؛ قسمان منها باطن، وقسمان منها ظاهر، فالغاصب إما أن يكون له عرقان باطنان، وإما أن يكون له عرقان ظاهران.

    فالعرقان الظاهران: البناء والغرس، والعرقان الباطنان: الآبار والعيون، فالبناء والغرس: كأن يغتصب الأرض فيبني فيها أو يغرس فيها فليس له حق، كما صلى الله عليه وسلم: (ليس لعرق ظالم حق).

    وأما العرقان الباطنان: كأن يحفر بئراً أو يجري عيناً، ففي هذه الحالة يطالب بردم البئر وكذلك ردم العين وإعادة الأرض كما كانت؛ لأنه ليس له حق لا في الظاهر ولا في الباطن لنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا إذا كان قد زرع فيها زرعاً مما تطول مدته فيطالب بهذا.

    الحكم في الزروع إذا كانت مما تطول مدتها

    وفي هذه الحالة يبقى السؤال بالنسبة للزروع مثل: أشجار النخيل، وأشجار الفواكه التي تبقى مدة طويلة كاللميون والتفاح والموز والبرتقال، فهذه الأشجار تبقى مدة طويلة وليست كالزروع الأخر.

    ففي هذه الحالة لو أنه زرع نخلاً واتفق مع البائع على أن يعطيه النخل فيسري على ثمرة النخل التفصيل الذي ذكرناه في بيع الثمار التابعة للأصول، ويسري عليها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من باع نخلاً وقد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع).

    لكن اختلف العلماء -رحمهم الله- هل يكون للغاصب حق في قوله: (فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع)؟

    مادام أن الغصب لا حق فيه ولا استحقاق فيه فهل الثمرة أيضاً تسقط؟ وجهان للعلماء، وخصص بعض العلماء هذا بوجود الصلح بين الطرفين.

    الحكم في الزروع إذا كانت مما لا تطول مدتها

    أما من زرع في الأرض شيئاً مما لا تطول مدته، كزروع الحبوب، مثل: الشعير والذرة ونحو ذلك، ففي هذه الحالة يحتاج هذا الزرع إلى أن يبقى مدة، ثم بعد ذلك تعود الأرض كما كانت، فالسؤال: إذا قلنا للغاصب: اقلع هذا الزرع لم ينتفع به ولم ينتفع به صاحب الأرض، ففي هذه الحالة يسقط الزرع، حيث جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر وفق هذه المسألة.

    ففي حديث رافع بن خديج رضي الله عنه وأرضاه عند أبي داود والترمذي والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من زرع أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته) قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وفي رواية للنسائي : أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بهذه القضية وفصّل فيها أن الزارع وهو الغاصب ليس له في الزرع حق، ما يقول: آخذ هذا الزرع وأقلعه، ليس له في الزرع حق.

    وبناء على ذلك أسقط رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزرع استحقاق الغاصب وأثبت للغاصب استحقاق النفقة، فيقدر له تعبه، وأجرة التعب قيل: تقدر له قيمة البذر وتقدر له قيمة الحراثة والكلف والمؤونة التي تكلفها في إنبات هذا الزرع بإذن الله عز وجل.

    إذاً: مذهب الحنابلة رحمهم الله على أن من اغتصب أرضاً وزرعها، والزرع باقٍ ولم يحن حصاده، ولم يحصده الغاصب ففي هذه الحالة فإنه يقضى بأنه لصاحب الأرض، ويعطى الغاصب نفقة البذر ومؤونة الزراعة.

    مثال ذلك: لو أن زيداً اغتصب أرضاً، فزرعها وكان قد تكلف بذره خمسمائة ريال، ثم قام بالحراثة والزراعة ومؤونة الحرث تكلف ثلاثمائة ريال، فحقه ثمانمائة ريال، ثم يخلي بين صاحب الأرض وبين الزرع، هذا بالنسبة لقضاء النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.

    لكن لو قال المالك للأرض: لا أعطيه شيئاً وليس عندي شيء أعطيه، فما الحكم؟ هل نقول: يجب عليه قلع الزرع، والزرع يحتاج إلى شهر أو شهرين حتى يحصد، فيكون إتلافاً للمال وإفساداً للثمرة؟

    فقال فقهاء الحنابلة -رحمهم الله- في هذه الحالة: نقول لمالك الأرض: تمكن الغاصب من إبقاء الزرع إلى الحصاد ولك أجرة مثله.

    إذاً: هناك خياران لصاحب الأرض، الخيار الأول: نقول له: خذ الزرع وادفع قيمة البذر وكلفة المؤونة.

    والخيار الثاني: أن نقول له: اترك الغاصب حتى يحصد ولك أجرة الأرض حتى يكون الحصاد، ويكون له أيضاً أجرة المدة التي مضت، هذا بالنسبة لمذهب الحنابلة رحمهم الله.

    أما الشافعية فقالوا: إنه يؤاخذ بقلع الغرس ولا يضمن صاحب الأرض إلا إذا اتفقا وتراضيا فيما بينهما.

    وأما الحنفية فقالوا: إذا اغتصب أرضاً للزراعة، فإما أن تكون الأرض معدة للزراعة، وإما أن تكون الأرض معدة للإجارة، وإما أن تكون الأرض غير معدة لواحد من الأمرين، فإن كانت الأرض معدة للزراعة فينتقل العقد بين مالك الأرض وبين الغاصب عقد مزارعة، وينظر في العرف الموجود في ذلك البلد، كم يكون لصاحب الأرض؟ وكم يكون لصاحب الزرع؟ وتقسم الثمرة من الناتج بينهما على العرف، بناءً على القاعدة الشرعية التي تقول: العادة محكمة.

    وأما إذا كانت الأرض معدة للكراء، كرجل كان يعد أرضه للإجارة -كأن يؤجرها للناس مستودعات أو نحو ذلك- فاغتصبها شخص وزرعها قالوا: تقدر أجرة مثلها، وتدفع الأجرة، فتنتقل إلى الإجارة ويبقى الزرع حتى يحصده غاصبه.

    وهذا المذهب في الحقيقة من حيث الأصول له وجهه، لكن من حيث السنة التي ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسمت الأمر فهي تدل دلالة واضحة على أنه يجب في هذه الحالة تخيير المالك للأرض بين هذين الخيارين، نقول له: خذ الزرع وادفع لصاحبه المؤونة وقيمة البذر، أو اتركه وزرعه حتى يحصد ولك أجرة المثل.

    فلم نظلم صاحب الأرض؛ لأنه أخذ أجرة مثله، ولم نظلم صاحب البذر لخوف الفساد أو الإتلاف والإهمال، وإلا فالأصل أنه لا حق له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس لعرق ظالم حق).

    كل هذا الكلام إذا كان الزرع في حال استوائه، لكن لو أنه كان قد استوى وحصده الغاصب حينئذٍ يضمن الغاصب أجرة الأرض، ويكون الزرع ملكاً له.

    مثال: لو أن رجلاً اغتصب أرضاً وزرعها وحصد الزرع ثم باعه وكانت قيمة الزرع خمسين ألف ريال فإننا في هذه الحالة نطالبه بأجرة الأرض، فقد تكون أجرة الأرض عشرة آلاف ريال، وعلى هذا لا نقول: إن صاحب الأرض يملك الزرع، إلا إذا كان الزرع قائماً موجوداً، أما إذا حصده الغاصب فليس لصاحب الأرض إلا أجرة المدة التي استغلها الغاصب في أرضه، وضمان ما يكون بعد تسوية الأرض وإصلاحها وردها على حالتها، وما يكون من النقص يضمنه.

    الخلاصة: إذا كانت الأرض قد اغتصبها وزرع فيها النخيل ففي هذه الحالة ذكرنا أنه إذا اتفق الطرفان على شراء النخل من مالك الأرض فإنه يلزم الغاصب بدفع الأجرة لما مضى، والعقد صحيح وينتقل إلى صلح بالبيع، وتسري عليه أحكام البيع التي تقدمت.

    ثانياً: إذا قال الغاصب: لا أبيع، نقول له: اقلع الغرس الذي هو الشجر، ثم بعد ذلك نسوي الأرض، ثم بعد ذلك ادفع أرش النقص بين القيمتين للأرض، وادفع أجرة الأرض للمدة التي مضت، هذا بالنسبة إذا كان قد اغتصب أرضاً وزرعها نخلاً.

    أما إذا زرع الزروع فقلنا: قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الزرع إذا كان قائماً فإننا نقول لمالك الأرض: خذ الزرع وادفع نفقته لمن زرع، ويدفع في هذه الحالة قيمة البذر وقيمة الكلفة.

    وأما إذا قال: لا أريد ذلك، فلا يكره عليه، ونقول له في هذه الحالة: اترك صاحب الزرع حتى يحصد زرعه؛ لأنه لا يمكن إتلاف هذا الزرع لأنه من باب الفساد في الأرض، والله لا يحب الفساد.

    بخلاف البناء، فإن البناء له شأن آخر وقد قدمنا التفصيل فيه.

    1.   

    أوجه الضمان في الغصب

    يمكن أن نفهم أن الغصب فيه الضمان من أحد ثلاثة أوجه.

    الوجه الأول: ما يسمى بضمان اليد.

    والوجه الثاني: ويسمى بضمان الجناية والتصرف.

    والوجه الثالث: يسمى بالضمان باليد والجناية.

    فالغاصب نضمنه إما من جهة اليد وهي يد الغصب التي يسميها العلماء: اليد العادية، وإما أن نضمنه من جهة الجناية، وإما أن نضمنه من الوجهين.

    ثم إذا ضمناه في اليد أو الجناية أو من الوجهين، إما أن نضمنه لمنفعة، أو نضمنه لعين، أو نضمنه للعين مع المنفعة، فأصبحت ثلاث صور.

    ضمان اليد

    ضمان اليد يكون الغاصب قد اغتصب الشيء ولم يتصرف فيه، فحينئذٍ نضمنه بيد الغصب وهي التي أخذت، أو حالت بين المالك وملكه.

    ويد الغصب تثبت على الشيء بضابط الغصب الذي تقدم معنا، وفي هذه الحالة الغاصب لا يتصرف في الشيء المغصوب، فيأخذ أرضاً ولا يتصرف فيها، أو يأخذ سيارة ولا يتصرف فيها ولا يحركها ولا ينقلها من مكانها، فإذا كان الغاصب قد اغتصب شيئاً ولم يتصرف فيه ولكن حال بينه وبين صاحبه، فقهره عليه وأخذه منه بالاستيلاء -وهذا ما تقدم معنا مما يسمى بالاستيلاء الحكمي- إذا لم يكن هناك نقل حيازة، فإنه في هذه الحالة يضمن المنفعة، ويضمن العين، ويضمن العين مع المنفعة.

    وتصوير ذلك: لو أن رجلاً اغتصب سيارة وأخذ مفاتيحها من مالكها، وقال له: إذا قربت السيارة أو أخذت السيارة أفعل بك وأفعل..؟! فهدده ومنعه من السيارة واستولى عليها حكماً أو استولى عليها قهراً، فالسيارة أصبحت منتقلة من يد الملكية من صاحبها إلى يد الغصب لمن اغتصب.

    فلما غصبها ما تصرف في السيارة، ما فتحها ولا ركبها ولا تصرف فيها بشيء، فالسيارة تلفت في موضعها، بقيت -مثلاً- عشر سنوات ثم تعطلت تماماً وتلفت، فلم يتلفها الغاصب ولم يتلفها أجنبي ولم يتلفها المالك، وإنما التلف وقع بطبيعة الحال، أو نزلت عليها صاعقة من السماء فأحرقتها، المهم أنها لم تتلف بيد الغاصب ولا بتصرفه، ولا بأجنبي ولا بمالك.

    في هذه الحالة نقول: اغتصابه يوجب ضمانه، وهذا ما يسمى بيد الغاصب، ويد الغاصب يقول بها جمهور العلماء، أنه بمجرد قهره لأخيه المسلم وأخذه لماله والاستيلاء عليه حقيقة أم حكماً، حقيقة: كأن يحوزه ويأخذ منه القلم فيجعله عنده في جيبه، أو يضعه في حقيبته، أو يضعه في درجه أو في دولابه، هذا النقل.

    أو حكماً: يكون المغصوب في مكانه ولا يستطيع صاحبه أن يصل إليه بسببب منع الغاصب.

    في هذه الأحوال كلها يضمن الغاصب، مع أنه لم يكن هو الذي أتلف، فيضمن المنفعة، ويضمن العين، ويضمن كذلك العين مع المنفعة.

    الصورة الأولى: يضمن المنفعة، مثال ذلك: لو أخذ داراً فأخذ مفاتيحها ومنع صاحبها من الدخول والاستفادة منها، ومضى على هذا الغصب سنة، لم يدخل الدار ولم يتصرف فيها، فهذه الدار منعت سنة كاملة وهي بكامل أجزائها وكامل منافعها، فلما كملت السنة ردت الدار لصاحبها كاملة، فالعين كاملة، لكن تعطلت منفعتها سنة كاملة، فالذي اغتصبها يضمن المنفعة، وهذا مذهب الجمهور: يدفع أجرة الدار سنة كاملة.

    الصورة الثانية: أن يضمن باليد العين، كأن يأخذ مثلاً سيارة لشخص ويقهره عليها فيغتصبها، ثم تتلف السيارة مباشرة بعد الغصب ولو بدقيقة، فبمجرد غصب الغاصب للعين تدخل إلى ذمته، سواء تلفت بتصرفه أو بتصرف غيره فيده ضامنة، وهذا ما يسمى بضمان اليد، فيضمن السيارة ولو تلفت بآفة سماوية.

    كما لو أخذ مزرعة واغتصبها ولم يتصرف في المزرعة أبداً، وجاء إعصار بعد الغصب ولو بثانية وأحرقها، ضمن المزرعة كاملة، وهذا ضمان العين.

    الصورة الثالثة: الضمان بالنسبة للعين مع المنفعة، مثل: أن يغتصب سيارة سنة، ثم تلفت هذه السيارة، ولم يتصرف فيها ولم يتلفها فقد ضمن بيد الغصب منفعة السيارة سنة، فيدفع أجرة استغلال السيارة سنة، ويدفع قيمة السيارة ضماناً للعين على التفصيل الذي تقدم في ضمان العين.

    إذاً: ضمان اليد يكون للمنفعة ويكون للعين، ويكون للعين والمنفعة معاً.

    ما الدليل على مسألة ضمان اليد؟!

    لماذا نضمن الغاصب ونلزمه بدفع أجرة الشيء أي: (منفعته) ونلزمه بدفع قيمة العين إذا تلفت، ونلزمه بدفع الاثنين إذا حصل الموجب للضمان بهما؟!!

    الدليل على ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) فدل على أن الغاصب بمجرد غصبه: (على اليد ما أخذت) بمجرد غصبه وقهره لأخيه المسلم واعتدائه على ماله فقد صار إلى ضمان حتى يؤديه.

    فمن اغتصب عيناً وفيها منفعة ألزمناه بدفع المنفعة، وذلك بدفع الأجرة، فألزمناه بضمان المنفعة بدفع أجرتها.

    ومن أخذ عيناً وتلفت بعد أخذه ألزمناه بردها؛ لأنه قد أخذها إما حقيقة أو حكماً.

    ومن أخذ العين وحبسها مدة فيها منفعة وعطّلها عن صاحبها ضمن الأمرين، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر برد الحق كاملاً، فمن ضيع المنفعة قلنا له: رد هذه المنفعة بأجرتها، ومن ضيع العين قلنا له: رد هذه العين بضمانها، ومن ضيع الأمرين وجب عليه ضمانهما معاً.

    ضمان اليد يقول به جمهور العلماء وينازع فيه الإمام أبو حنيفة رحمه الله وبعض أصحابه، والإمام أبو حنيفة عنده قاعدة، والحنفية رحمهم الله يقولون: ليس هناك في الغصب ضمان للمنفعة، ولا يرون ضمان المنافع.

    وسيأتي هذا معنا -إن شاء الله- ونبين شبهتهم ودليلهم والجواب عليه في المسألة التي سيذكرها المصنف بعد هذه المسألة.

    ضمان الجناية

    ضمان الجناية ضابطه: أن يجني الغاصب على المنفعة أو على العين أو على الاثنين معاً.

    يغتصب من أخيه المسلم شيئاً فيتصرف في منفعته ولا يتصرف في العين، أو يتصرف في العين ولا يتصرف في المنفعة، أو يتصرف في الاثنين، فيلزمه ضمان المنفعة في الصورة الأولى، وضمان العين في الثانية، وضمانهما معاً في الثالثة.

    مثال ذلك: لو أن شخصاً اغتصب سيارة، وقام بركوب هذه السيارة واستغلال ركوبها شهراً كاملاً، فيضمن منفعة السيارة، فقد يرد السيارة وهي تامة كاملة ليس فيها أي نقص، فالعين تامة، ولكن الذي فات باستغلاله واستهلاكه وتصرفه هو المنفعة، فيقال له: ادفع منفعة السيارة، أي: ادفع أجرة السيارة لمدة شهر، هذا بالنسبة لضمان المنفعة بالجناية والتصرف.

    وأما ضمان العين بالجناية والتصرف كرجل اغتصب الزجاجة ثم كسرها مباشرة، نقول له: يلزمك ضمان هذه الزجاجة، فهو يضمن عين الزجاجة بالمثلي إذا كان له مثلي أو بقيمته إذا لم يكن له مثلي، على التفصيل الذي سيأتي في ضابط الضمان، هذا بالنسبة للجناية على العين.

    ويضمن المنفعة والعين بالجناية مثل: شخص أخذ سيارة وانتفع بها شهراً، ثم بعد شهر ذهب ورماها في الوادي وأتلفها تماماً، فحينئذٍ يضمن أجرة الشهر ضماناً للمدة، ويضمن قيمة السيارة إذا لم يكن لها مثلي أو مثلها إذا كان لها مثلي؛ لأن يده أتلفت بالجناية، فحينئذٍ يضمن المنفعة ويضمن العين، هذا بالنسبة لضمان العين والمنفعة بالجناية.

    بالنسبة لضمان الجناية الأصل فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً، ومن أخذ عصا أخيه فليردها) فقوله: لا يأخذ أحدكم متاع أخيه جاداً ولا لاعباً، يقول بعض العلماء: أي: أنه يورث العداوة، فالشخص حينما يكون مع أخيه فيأخذ كتابه ويأخذ قلمه ويمنعه من القلم هذا يورث الشحناء ويورث البغضاء حتى ولو كان بالمزاح، وخاصة أن الشخص لا يمزح إلا إذا رأى أخاه بحاجة للكتاب، فهذا يورث نوعاً من الحقد ونوعاً من الضغينة؛ ولذلك أقفل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الباب ومنع منه فقال: (لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً، ومن أخذ عصا أخيه فليردها) فأوجب الرد، وأوجب الضمان في الأخذ والتصرف، فدل على أن من تصرف بالشيء فإنه يضمنه، قال الله عز وجل: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38]، (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) دل على أن ما فعله الإنسان واجترحه يضمنه، ويكون مرهوناً به فقوله: (رَهِينَةٌ) فعيلة بمعنى: مفعولة، أي: مرهونة.

    وبناء على ذلك: بينت الآية أن من اجترح أذية أخيه المسلم بإتلاف عين ماله أو تفويت منفعته أو مجموع الأمرين، فإنه يكون مرهوناً بذلك الشيء ويجب عليه ضمانه.

    الضمان باليد والجناية

    أما بالنسبة للحالة الثالثة: وهي الضمان باليد والجناية، فهذه صورتها أن يأخذ الشيء ويبقى عنده مدة لا يتصرف فيه، ثم يقدم على التصرف فيه، فالمدة التي لم يتصرف فيها في ذلك الشيء كما لو مضت سنة على سيارة محبوسة عند الغاصب، وبعد سنة أخذها وأتلفها، فإنه إذا حبسها ولم يستهلكها ولم يفعل بها شيء ضمن باليد، وضمن عين السيارة بالجناية، فهذا ضمان باليد وضمان بالجناية.

    ويجتمع فيه مجموع الدليلين، فنوجب عليه ضمان اليد بدليل اليد، ونوجب عليه ضمان الجناية لوجود الجناية، هذا بالنسبة للأموال المغصوبة: تضمن باليد وتضمن بالجناية وتضمن بمجموع الأمرين اليد مع الجناية، سواء كان الضمان بالمنافع أو كان الضمان للأعيان أو كان الضمان لمجموع الأمرين.

    وفي هذا دليل على عظمة هذه الشريعة وكمالها وسمو منهجها، أنها ضمنت للناس حقوقهم، وخاصة في هذا الزمان الذي أصبحت فيه الحقوق حتى في الأدبيات والاعتبارات والمعاني والحكميات، فلا شك أن ضمان حقوق الناس وصيانتها على هذا الوجه -وخاصة على أرجح أقوال العلماء رحمهم الله بإثبات ضمان اليد- يردع الظالم عن ظلمه، ويوجب إحقاق الحق ورد الحقوق إلى أهلها.

    ولو تصورنا أن الرجل تغتصب منه عمارته أو مسكنه وتمضي عشرات السنين وهو قد حيل بينه وبين حقه، ثم يقال: لا يأخذ إلا العين فقط، ولا يأخذ إلا عمارته! فخلال هذه السنوات كلها قد يستفيد الغاصب وينتفع، ولذلك كان من إحقاق الحق وإبطال الباطل أن يقال: على الغاصب أن يتحمل المسئولية بضمان المنافع وضمان الأعيان وضمانهما معاً سواء كان ذلك بجنايته وتصرفه أو كان بمحض اغتصابه وحيلولته بين أصحاب الحقوق وحقوقهم، أو كان بمجموع الأمرين.

    المالكية في المنافع يفرقون بين كونه يستغل أو لا يستغل، ويقولون: إذا استغل الغاصب بنفسه أو بغيره، استغل بنفسه مثل أن يسكن العمارة أو يركب السيارة، واستغل بغيره: كأن يؤجر السيارة على غيره، أو يؤجر المسكن على غيره فيضمن، أما لو أخذ السيارة وحبسها فقط فلا يضمن، وهذا ضعيف، والحقيقة أن مذهب الشافعية والحنابلة في التضمين باليد مذهب قوي، ولا شك أنه يضمن للناس حقوقهم، وأما الحنفية فعندهم أصل، حيث إنهم لا يرون تضمين المنافع مطلقاً، حتى ولو أنه استغل وسكن وأجر، ولو أن الغاصب أجر الدار عشر سنين فإنه لا يملك صاحب الدار إلا أن ترد له داره فقط، وهذا سنبينه ونبين دليلهم في ذلك وجوابهم إن شاء الله.

    1.   

    حكم قلع المبني أو المزروع في الأرض المغصوبة

    قال رحمه الله: [وإن بنى في الأرض أو غرس لزمه القلع].

    (لزمه القلع) لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس لعرق ظالم حق).

    قال رحمه الله: [وأرش نقصها].

    ينظر في الأرض بعد القلع إن نقصت قيمتها، يقال: ادفع الأرش، وهو الفرق بين قيمتها كاملة وقيمتها ناقصة.

    قال رحمه الله: [وتسويتها].

    ويلزم بتسويتها، يعني: إعادتها على وضعها وردم الحفر وإعادتها؛ لأنه أخذها مستوية فيردها مستوية، ولا يترك الحفر فيها؛ لأن هذا يشوه الأرض ويضر بمصلحة المالك.

    1.   

    منافع الأعيان المغصوبة مضمونة

    قال رحمه الله: [والأجرة].

    ويلزمه دفع أجرة الأرض، وهذا مبني على الأصل الذي ذكرناه من أن منافع الأعيان المغصوبة مضمونة، وخالف في هذه المسألة الحنفية وأشد ما يكون خلافهم في العقارات، فالأرض عندهم أصل ما يثبت عليها غصب.

    يقولون: عندنا مالك وعندنا مملوك، فالأشياء إما أن تكون مالكة وإما أن تكون مملوكة، فالأرض التي غصبت مملوكة، فالشخص إذا جاء وأخذ الأرض قهراً فإنه لا يعتبر غاصباً لها؛ لأن هناك شيئاً يسمى التعدي بالتصرف، وهناك التعدي بدون تصرف، وهناك ما يجمع الأمرين، فإذا جاء الشخص وأخذ الشيء فقط ولم يتصرف فيه فإنه في هذه الحالة لا يكون غاصباً حقيقة؛ لأن الغصب عندهم يستقر بإزالة يد المالك عن الشيء، والعقار لا يمكن نقله ولا يمكن إزالة يد مالكه عنه؛ ولذلك لا يرون حقيقة الغصب تنطبق على العقارات في الأرض، سواء غرست أو بنيت، فلا يلزمون بدفع الأجرة؛ لأنهم لا يرون أن منافعه تضمن.

    وعندهم دليلان:

    الدليل الأول:

    يقولون: إن المنافع ليست بمال، وإنما تضمن الأموال وما في حكمها، والمنافع ليست بأموال عند الحنفية، ولكن عند الجمهور أنها أموال بدليل: أن الدار تؤجر وتسكن بمائة ألف -مثلاً- تدفع لقاء السكن، والدابة أو السيارة تركبها؛ فمنفعتها تدفع لقاءها مائة ريال أو خمسين ريالاً، إذاً: معنى ذلك: أن السكنى والركوب والمنافع لها قيمة، وتعتبر من جنس الأموال من هذا الوجه.

    الدليل الثاني: قالوا: عندما يأتي الشخص ويغتصب هذه العمارة ويأخذها، فإنه عند سكنى العمارة شهراً كاملاً -التي هي مدة الغصب- تكون جميع منافعها ومصالحها تحت ضمان الغاصب، والذي يتحمل مسئوليتها الغاصب، فمن حقه أن ينتفع، ومن حقه أن يغصب هذه المنافع، حتى زوائد المغصوب لا يدفعها ولا يضمنها، وهذا أصل عند الحنفية رحمهم الله، وهذا ضعيف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) فألزم بضمان الشيء الذي أخذ، وقد أخذ المنفعة فيلزمه رد قيمتها؛ لأنه يتعذر رد المنافع بمثلها، فيلزم بدفع قيمتها وضمانها بالقيمة، وكذلك أيضاً يتعذر رد المنافع بأعيانها؛ لأن سكنى الدار شهراً ذهبت ولا تستطيع أن تردها. فما هي كالعين ترد!

    ولذلك لا يمكن رد المنافع بأعيانها، ولا يمكن رد المنافع بمثلها؛ لأنه ليس هناك دار مثل هذه الدار من كل الوجوه، فمثلاً: لو أنه اغتصب داراً في وسط المدينة، فإنه إذا وجد الدار في وسط المدينة لا يمكن أن يجد داراً في نفس المكان وبنفس الصفات، ولابد أن تكون مثلية؛ لأن المثلية يشترط فيها المساواة من كل الوجوه.

    وبناء على ذلك: لا يصح أن يقال: إن المنافع تضمن بالمثل، فتعذر وجود المثلي وتعذر رد عين المنافع، وتعذر رد المثل فوجب ضمانها بالقيمة؛ ولذلك إذا عطّل عليه منافعه ومنعه من سكنى الدار سواء استغل أو لم يستغل فإنه يلزم بضمانها.

    1.   

    حكم من غصب جارحاً أو عبداً أو فرساً

    قال رحمه الله: [ولو غصب جارحاً أو عبداً أو فرساً فحصل بذلك صيداً فلمالكها].

    قوله: (ولو غصب جارحاً) غصب الجارح يشمل: الكلب المعلم، والطيور الجوارح مثل: الصقر والباز والشواهين والباشق ونحوها من جوارح الطير.

    فالجوارح المعلمة سواء كانت من الطيور أو كانت من السباع العادية، إذا اغتصبه وأخذه وصاد به فللعلماء في ذلك وجهان:

    قال بعض العلماء: إذا أخذ الكلب وصاد به ملك الغاصب الصيد ورد الكلب.

    وقال بعض العلماء: بل إن الصيد يكون ملكاً لصاحب الكلب، وهذا هو الصحيح الذي اختاره المصنف رحمه الله، والحنابلة والشافعية على هذا، أنه إذا اغتصب جارحاً فإن صيده يكون للمالك؛ وذلك لأن الجارح هو الذي أخذ الصيد، وأخذه وهو ملك لصاحبه، والشرع أحل لصاحبه المنفعة وأن ينتفع بذلك الكلب ويرتفق به.

    لكن أصحاب القول الأول قالوا: إن الجارح من حيث الأصل لا يملك؛ فليست هناك يد وإنما له يد على المنفعة، فإذا اغتصبه حينئذٍ لا يكون هناك ملك لصاحب اليد الأصلية، فيبقى الانتفاع للغاصب وليس للمغصوب منه. والصحيح: أن الصيد يكون للمغصوب منه.

    وقوله: (أو عبداً).

    أو غصب عبداً، فصاد هذ العبد وحصلت منه المنفعة، فإنه يكون ملكاً للمغصوب منه وليس للغاصب.

    وقوله: (أو فرساً).

    وهكذا الفرس لو أنه ارتفق به وانتفع، فإنه يضمن، وهذه المسألة تعرف بمنافع المغصوب، ومنافع المغصوب يمثل لها بالحيوانات، ويمثل لها بالعقارات؛ لأن الحيوان إما أن يكون آدمياً أو غير آدمي، فمثل لغير الآدمي بالجارح، ومثل للآدمي بالعبد، ومثل لغير المنقول بالعقار وهو الدار، ومثل للحيوان بالفرس.

    فأصبح إما أن يكون حيواناً يملك منفعته، وإما أن يكون حيواناً يملك ذاته، وإما أن يكون آدمياً بالنسبة للمنافع، ومنافع الحيوانات إما أن تكون منفعة من حيوان لا تملك ذاته كالأسد والكلب، ولكن تملك منفعته: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ [المائدة:4] فإنه تملك منفعة الصيد به، ولذلك الكلب لا تملك عينه، وإذا أتلفه الغير فلا يضمن قيمة الكلب كما ذكرنا؛ لأن الشرع أسقط الثمن أو القيمة في الكلب، ففي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثمن الكلب سحت).

    فإذاً: غصب الحيوان يشمل الآدمي وغير الآدمي؛ فإن كان آدمياً مثل له بالعبد، وإن كان غير آدمي فإما أن يكون حيواناً تملك ذاته ومثل له بالفرس، فالمنفعة تابعة لملكية الذات، أو يكون حيواناً لا تملك ذاته ومثل له بالجارح، فهذا التمثيل المراد به التقسيم ببيان التنظير في أصل المسألة في ملكية المنافع.

    وقوله: (فحصل بذلك صيد فلمالكه).

    يعني: من الكلب أو العبد بأن صاد له، أو ركب الفرس وصاد عليه، ففي هذه الأحوال كلها المنافع تكون ملكاً للمالك الأصلي للمنفعة أو المالك للرقبة مع منافعها على التفصيل الذي ذكرناه.

    1.   

    الأسئلة

    حكم زراعة شخص في أرض شريكه دون إذن

    السؤال: من زرع دون إذن شريكه، هل له أحكام الغاصب وذلك في الشق الذي لشريكه؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

    فهذه المسألة أفتى فيها بعض أهل العلم رحمهم الله: أنه إذا زرع في نصيب شريكه مكن الشريك من الزراعة في نصيبه عوضاً، فيقال له: ازرع لمدة ثلاثة أشهر، ويقال لشريكه: إذا فرغ تأخذ أنت أيضاً أرضه وتزرع وتأخذ كما أخذ.

    وهذا إنما يتأتى في حال استواء الأرضين، كما لو كانت الأرض بينهما مناصفة، وكانت القسمة قسمة مهايأة بين الشريكين وكلا الأرضين بصفات واحدة حيث يكون هناك عدل بين الطرفين.

    وهناك وجه لبعض العلماء رحمهم الله أنه ينزل الشريك منزلة الغاصب ويعتبره في حكم الغاصب، فإذا زرع وحصد ضمن أجرة الأرض مدة زراعته.

    فعلى الوجه الأول يمكن المظلوم من أخذ حقه بالزراعة، وعلى الوجه الثاني يمكن من أخذ حقه عن طريق المعاوضة بالإجارة، والله تعالى أعلم.

    معنى النقص المستقر

    السؤال: قال الشارح رحمه الله في مسألة أرش النقص: (وكذا كل عين مغصوبة على الغاصب ضمان نقصها إذا كان نقصاً مستقراً) فما معنى قوله: مستقراً؟

    الجواب: النقص ينقسم إلى صور، في بعض الأحيان يبقى ويؤثر في المالية ويؤثر في القيمة، وبعض الأحيان لا يبقى، فمثلاً: لو أنه أخذ العبد فمرض العبد ونقصت قيمته، ثم لما رده رده وقد شفي.

    أخذ منه فرساً، والفرس صحيح سوي، فمكث عند الغاصب ثلاثة أشهر، في الشهر الأول مرض وهذا نقص، لكنه غير مستقر؛ لأنه لما دخل في الشهر الثاني شفي، فرجع إلى حالته، ففي هذه الحالة لا يكون مضموناً ولا يلزم بدفع النقص؛ لأنه عاد على حالته والنقص الذي حدث عارض، فالعوارض التي لا تستقر ولا تثبت وليست بمؤثرة لا بالضمان في الأعيان ولا بالضمان في المنافع، والله تعالى أعلم.

    قاعدة الغالب كالمحقق

    السؤال: لو منع الغاصب المالك أن يزرع أرضه، فكيف يكون ضمان الغاصب، إذ لا ندري لو زرع المالك هل ستخرج ثمرته أم تفسد؟

    الجواب: طبعاً هذا ليس بوارد من وجوه:

    أولاً: أنه إذا منعه من الزراعة فالقهر موجود، وصفة الغصب موجودة من جهة الاعتداء على أموال الناس، فيتحمل مسئولية هذا الاعتداء.

    ثانياً: قولك: نحن لا ندري هل يخرج الزرع أو لا، القاعدة في الشريعة أن الحكم للغالب، فالأرض أرض زراعية، والبذر موجود، والزمن زمن زراعة، فما هو الغالب؟! فالغالب أن يخرج الزرع.

    ولذلك تقول القاعدة -وهذه فائدة استخدام القواعد وتعملها-: إن الغالب كالمحقق، والحكم للغالب، والنادر لا حكم له، تقول: الغالب أن الأرض تخرج زرعها فيضمن له ذلك ولا عبرة بالنادر وكونه يحتمل أنها ما تخرج لا نعمل به، بل نعمل الغالب ونحكم بأنه ضامن لهذه الأرض هذه المدة، وعلى هذا يلزم بالضمان.

    الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله قرر في كتابه النفيس: قواعد الأحكام ومصالح الأنام مسألة الظنون الضعيفة، وقال: إن الشريعة تبني على الظن الراجح، وأكثر مسائل الشريعة على الظنون الراجحة، يعني: على غلبة الظن، والظنون الضعيفة -من حيث الأصل- والاحتمالات الضعيفة لا يلتفت إليها ألبتة.

    يقول رحمه الله: إذ لو ذهبنا نعمل مثل هذه الظنون الفاسدة لما استقامت الشريعة؛ لأننا إذا عملنا بهذه الظنون الفاسدة نقول: يحتمل أنها ما تخرج.. يحتمل تخرج!

    ولو أننا أعملنا بالاحتمال الضعيف ما بقي شيء، فأنت في أعظم الأشياء: الصلاة، التي هي ركن الإسلام وعموده، ويقف المسلم بين يدي ربه بالظنون؛ لأنه يستقبل القبلة بغالب الظن، فهو إن توجه إلى جهة القبلة هل هو قاطع 100% أنه على جهة القبلة؟! بل بغالب الظن.

    وإذا جاء وتوضأ هل هو يقطع 100% أنه على وضوئه؟ ربما دخله الشك أنه خرج منه شيء ولم يخرج، فالظنون الفاسدة لا يلتفت إليها.

    في الصيام لو جاء ورأى آثار مغيب الشمس هل يقطع 100% أنها غابت؟ لا يمكن، ففي بعض الأحيان لا يستطيع أن يقطع.

    وحينما تأتي لعالم وتسأله عن مسألة اجتهادية ويفيتك، فالغالب صوابه، وغلبة الظن حينما تراه إنساناً يوثق بدينه وعلمه وقد شهد له أهل العلم بأنه أهل لهذا العلم الذي يفتي فيه في العقيدة أو في الحديث أو في الفقه وفي المسائل والأحكام، وجئت تسأله في شيء بينك وبين الله عز وجل وتتعبد لله عز وجل، فقد يكون الشيخ مخطئاً، فيستحل الرجل وطء زوجته بغلبة الظن، ويقول له: لا، الطلاق ما وقع، فيحتمل أنه وقع، ويحتمل أن الشيخ أخطأ، لكن هذه الظنون كلها لا يلتفت إليها ولا يعتد بها، والحكم في الشرع لغالب الظن أنه مادام على علم وبصيرة والله وصف أمثال هؤلاء فقال: لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ [النساء:162] فوصفهم برسوخ العلم، وقال: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] ورد إليهم بغلبة الظن بصوابهم.

    ومن هنا كانت أحكام الشريعة والتعبد الله سبحانه وتعالى بغلبة الظن.

    فإذا جئنا للحقوق وفصل الحقوق ومقاطع الحقوق بين الخصمين نحكم فيها بغالب الظن إن لم نكن على يقين وقطع؛ لأن الله تعبدنا بهذا الغالب.

    وبهذا الغالب يمكننا أن نصل إلى حق كل ذي حق فنأمر من أخذ الحق برده، ونقول: إن هذه الأرض مادامت قد تهيأت للأسباب وهي صالحة للزرع فإنها تكون في حكم الأرض المزروعة، والله تعالى أعلم.

    انتقال العقد عند الحنفية من غصب إلى مزارعة

    السؤال: في قول الحنفية رحمهم الله: إذا كانت الأرض معدة للزراعة ينتقل العقد إلى عقد مزارعة بين المالك والغاصب، ما هي صورة عقد المزارعة بينهما؟

    الجواب: تنتقل المسألة من الغصب ومن صورة الاعتداء -لأنهم لا يرون الغصب في العقارات- إلى المزارعة، فنقول في هذه الأرض: هذا المكان إذا دفعت لشخص لكي يزرعها، كم يتفق أهل الأراضي في ذلك الموضع؟

    مثال: لو كانت الأرض قريبة من المدن وأعطيت لشخص لزراعتها، فيعطاها على أن له النصف ولصاحب الأرض نصفها، فتكون مشاطرة بين الطرفين، فيقال: فهذه الأرض -المغصوبة- تأخذ حكم الأراضي الموجودة حولها، فيكون نصف الزرع -مثلاً- للمالك، ونصف الزرع للذي غصبها، فالنتاج لصاحب الأرض وللغاصب، هذا إذا كانت الأرض يزارع عليها في مكانها ومحلها بهذا القدر.

    وبعض الأحيان يؤثر الشيء المزروع، فمثلاً: هناك مزارع يقع فيها عقد المزارعة؛ لأن عقد المزارعة يكون فيها العامل للبذر، فيبذر الأرض ويقوم عليها ويستصلحها ثم يشاركه صاحب الأرض في الإنتاج، فيكون صاحب الأرض قد قدم الأرض وقدم الماء الموجود فيها، ويكون العامل -الذي هو المزارع- قد دخل بالبذر وبالعمل، وهذا قدمناه وذكرناه حينما تعرضنا لمسألة المساقاة والمزارعة.

    فالشراكة الآن بين العامل وبين رب الأرض، وهنا الشراكة بين الغاصب وبين رب الأرض، وفي بعض الأحيان يكون التأثير بحسب الزرع المزروع، فالمنطقة التي فيها الأرض المغصوبة أو المأخوذة إذا زرع فيها -مثلاً- الشعير، جرى العرف عند أهلها أن تكون ثلاثة أرباع للمالك وربع للعامل.

    نقول: إذاً: للغاصب الربع ولمالك الأرض ثلاثة أرباع.

    ولو زرعت ذرة وجرى العرف في ذلك الموضع أن يأخذ العامل ثلثين، والثلث لرب الأرض، نقول: الثلثان للغاصب والثلث لرب الأرض، فيقاس على هذا، فيحددون المزارعة وقدرها على حسب العرف، لأن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، فهم يرون كأنهما اشترطا ودخلا العقد على هذا على حسب العرف بذلك، فننصف الطرفين ونعطي هذا حقه بالعرف، ونعطي مالك الأرض أيضاً قدره من المزارعة بالعرف، والله تعالى أعلم.

    حكم صلاة العيد في الأودية

    السؤال: يقول السائل: نحن نسكن في قرية تحيط بها الجبال، ولا يوجد مصلى للعيد إلا في وادي السيل، وقيل لنا: أن الصلاة لا تصح في الوادي، فهل هذا صحيح؟ وهل نترك الوادي ونصلي في الجامع، مع العلم أننا نخشى مداهمة السيل أو نحوه؟

    الجواب: أما في الحقيقة من حيث الأصل فالسنة الصلاة في البراري والصحراء، لكن لو صليتم في الوادي فالصلاة صحيحة، ولا أعرف أحداً من أهل العلم يقول: إن الصلاة داخل الوادي باطلة، والله يقول عن مكة: بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ [إبراهيم:37] يعني: مكة التي هي قبلة المسلمين كلها في وادي، ولا أحد يقول: إن الصلاة في الوادي باطلة.

    لكن هل نطلب السنة على وجه يعرض أرواح الناس للخطر، في الأزمنة التي يغلب على الظن فيها وجود المطر في المنطقة أو حول المنطقة التي هي مراوي الوادي، لأن مشكلة الوادي وهذا معروف بالاستقراء والتتبع وقول أهل الخبرة ربما تكون مراوي الوادي على بعد مائتين كيلو.

    فالذي يظهر أنه لا يجوز تعريض أرواح الناس لمثل هذا.

    وأما إذا كان في زمان يغلب على الظن عدم وجود السيل، ويغلب على الظن عدم وجود الضرر فالأمر فيه أخف إن شاء الله، أما الصلاة -إن شاء الله- صحيحة، والله تعالى أعلم.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756008155