إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الشركة [4]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • عقد المضاربة من عقود الشركة التي كانت في الجاهلية وأقرها الإسلام وهذب أحكامها، فانتقل بها من المخاطرة إلى العدل والإنصاف، وقد دلت السنة والإجماع على مشروعية المضاربة، لما في هذا العقد من الحكم العظيمة والمقاصد الجليلة، فهو يعد من عقود الرفق؛ لما فيه من تكثير لمال المضارب من جهة، وتوفير عمل للمضارب من جهة أخرى، وقد فصل العلماء في هذه الأحكام وأعطوا كل ذي حق حقه.

    1.   

    النوع الثاني من الشركة: المضاربة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [الثاني: المضاربة]:

    أي: النوع الثاني من أنواع الشركات هو: المضاربة.

    تعريف المضاربة

    والمضاربة: مفاعلة، من الضرب في الأرض، وأصل المفاعلة في لغة العرب يستلزم وجود طرفين فأكثر، والمراد بهما في هذا النوع من العقود: المضارِب، وهو رب المال، والمضارَب، وهو العامل، ويسمى هذا النوع من عقود الشركات عند من يقول: إنه نوع شراكة يسمى: (بالمضاربة)، ويسمى (بالقراض).

    فأما تسميته بالمضاربة: فللعلماء فيها وجهان:

    قال بعض العلماء: المضاربة مأخوذة من الضرب في الأرض، ويقال: ضرب في الأرض إذا سافر من أجل التجارة، كما في قوله تعالى: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [المزمل:20] .

    فالمراد من قوله: (يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ) بمعنى: يسافرون فيها من أجل التجارة، وقوله: (يَبْتَغُونَ) أي: يطلبون (مِنْ فَضْلِ اللهِ) أي: من الرزق، كما في قوله تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة:10] أي: اطلبوا الرزق.

    وقال بعض العلماء: المضاربة مأخوذة من الضرب، بمعنى: أن كلاً من العامل ورب المال قد ضرب له بسهم من الربح، ولذلك يقال: اضرب لي بسهم، أي: اجعل لي قدراً في الربح، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الرُّقية والجُعْل فيها: (كلوا -وفي رواية-: خذوا، واضربوا لي معكم بسهم) فالضرب هنا المراد به: أن يقتطع جزءاً من المال لحسابه، والمراد من المال: الربح.

    فالمضاربة:

    - إما أن تكون مأخوذة من الضرب بمعنى السفر، فيقال: ضرب في الأرض إذا سافر.

    - وإما أن تكون مأخوذة من الضرب، بمعنى أن يضرب كل منهما للآخر جزءاً من الربح.

    وقال بعض العلماء: إن المضاربة تسمى بـ(القِراض) وهي لغة أهل المشرق.

    والقراض: قيل مأخوذ من القرض، كما يقال: قرض الفأر من الثوب إذا اقتطع من ذلك الثوب.

    قالوا: كأن رب المال والعامل اقتطع كل منهما جزءاً من الربح.

    وأياً ما كان فهذا النوع من العقود سواءً سمي بعقد المضاربة، أو عقد القراض فحقيقته واحدة، وهذا العقد كان موجوداً في الجاهلية، ثم جاء الإسلام فأقره؛ ولكن هذب أحكامه، وقد فصل العلماء رحمهم الله في هذه الأحكام، فأعطوا كل ذي حق حقه، فانتقل عقد القراض والمضاربة من المخاطرات إلى الإنصاف والعدل، ومعرفة كل من المتعاقدين لحقه، وهذا النوع من العقود كان موجوداً فأقر الإسلام التعامل به، وقد نص شيخ الإسلام رحمه الله في مجموع الفتاوى أن بعض الفقهاء يقولون: إن القراض شُرع بالإجماع، وضعَّف هذا القول؛ فقال: إن الأصل في مشروعية القراض السنة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بُعث كان أهل الجاهلية يتعاملون بهذا النوع، بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضارب بمال خديجة ، وكانت لقريش رحلة في الشتاء للجنوب ورحلة في الصيف للشمال فكانت هذه الرحلات على هذا النوع من التجارة، وكان أهل مكة يجمعون ما عندهم من الأرزاق التي يرغب فيها أهل الشام إذا سافرت إليهم العير، ويأخذون ما عندهم من المصالح والأُدم ونحوها، فيبعثون بها في تجارة.

    فهذا النوع من المعاملات كان موجوداً في الجاهلية، وأقر الإسلام التعامل به من حيث الجملة، وإن كان هناك خلاف بين المضاربة في الجاهلية والمضاربة في الإسلام.

    1.   

    الأدلة على مشروعية المضاربة

    وأما من حيث المشروعية فقد دلت السنة ودل الإجماع على مشروعية القراض.

    أما السنة فما قدمنا من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث بعث عليه الصلاة والسلام والناس يتعاملون بالمضاربة والقراض، فأقر ذلك ولم ينكره، وكان جده عبد المطلب يتعامل مع الناس بهذا النوع، كما روى عبد الله بن عباس عن العباس أنه كان يفعل ذلك كما كان يفعله والده عبد المطلب فكان يعطي المال لمن يتاجر به مضاربة.

    وكذلك قالوا: إن الإجماع دل على مشروعية القراض والمضاربة، وهذا الإجماع ينقسم إلى قسمين:

    - أولاً: إجماع الصحابة.

    - ثانياً: إجماع مَن بعدَهم.

    فأما إجماع الصحابة فقد وقع في قصة حدثت في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وحاصل هذه القصة أن عبد الله بن عمر وعبيد الله وهو أخوه كانا عند أبي موسى بالكوفة، وأرادا أن يسافرا إلى المدينة، فقال أبو موسى وكان أميراً على الكوفة لـعمر بن الخطاب رضي الله عن الجميع قال لهما: (ليس عندي شيء أعطيكما إياه؛ ولكن هذه إبل أو مال تاجرا فيها في الطريق ثم أديا رأس المال إلى أمير المؤمنين، وخذا الربح)، فأعطاهما مجموعة من الإبل وهي من إبل بيت المال، وأمرهما أن يتعاملا ويتاجرا بهذه الإبل في الطريق، فيكسبا ويربحا، فيؤديان رأس المال ويأخذان الربح، وهذا نوع من الإحسان من أبي موسى لابنَي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عن الجميع.

    فمضى عبد الله وعبيد الله ، وتاجرا في المال، وربحا، وغنما، فلما أتيا إلى المدينة أعطيا عمر رأس المال، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أكل المسلمين أعطاهم مثلما أعطاكما؟

    قالا: لا.

    قال: أم كنتما ابنَي أمير المؤمنين، أدِّيا المال كله إلى بيت المال فلما قال ذلك، كان عبد الله حيياً فسكت، وأما عبيد الله فإنه كان جريئاً وقال: يا أبتاه! لو أن هذا المال الذي تاجرنا به خسرناه ألست تغرِّمنا إياه؟

    قال: بلى).

    وهذا يستلزم أن الربح يكون لمن يضمن الخسارة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الخراج بالضمان) فاستدل عبيد الله بأصل صحيح ومتفق عليه، ودلت السنة على اعتباره، وهو أن الربح لمن يضمن الخسارة، فكأنه يقول له: كيف نضمن الخسارة، وتأخذ الربح كاملاً؟

    فلما قال ذلك رد عليه عمر وقال: (أديا المال إلى بيت المال).

    فرد عبيد الله بنفس الكلام، وكأنه يقول: أنصفنا فإن هذا المال نغرمه ولا نغنمه، وليس في الشريعة غُرْم بدون غُنْم، ولا غُنْم بدون غُرْم، والقاعدة (أن الغُنْم لمن يغرم)، ولذلك قرر العلماء الأصل المشهور: (الخراج بالضمان).

    فلما قال ذلك وأصر عليه، قال الصحابة رضوان الله عليهم: (يا أمير المؤمنين! اجعله قراضاً)، يعني: اجعل المسألة مسألة قراض، وهذا هو الصحيح، ووُفِّق الصحابة في ذلك، فجعلوه قراضاً، فلما جعلوه قراضاً قسموا الربح بين عبيد الله وعبد الله من وجه، وبين بيت مال المسلمين من وجه آخر. فلما قالوا: (اجعله قراضاً)، وأقره الخليفة الراشد عمر ، ولم ينكره أحد من الصحابة، دل على إجماع الصحابة واتفاقهم على مشروعية هذا النوع من التعامل بالأموال.

    وأجمع العلماء من بعد ذلك بإجماع الصحابة، وليس هناك خلاف في مشروعية القراض.

    المضاربة والقراض عقد شرعي جائز؛ لكن هذا العقد شرع في الإسلام لحكم عظيمة، ومقاصد جليلة كريمة، وإذا نظرت إلى حقيقة القراض والمضاربة فإنه يكون عندك مال، كمائة ألف وليس عندك الوقت لكي تستثمر هذا المال، أو ليس عندك خبرة في المتاجرة، ويكون هناك رجل عنده خبرة في التجارة، فبدل أن يجلس المال مجمداً ويؤخذ منه للزكاة ونحوها من المصارف والنفقات شرع الله لك أن تبحث عن رجل عنده خبرة، وتأمنه على مالك، وتفوض إليه أن ينمي هذا المال بخبرته ومعرفته دون أن تضيق عليه تضييقاً يعرض تجارته للخطر.

    وعلى هذا أصبحت الشريعة فيها رفق في هذا النوع من العقود من وجوه:

    - الوجه الأول: أنها حققت مصلحة أرباب الأموال، فأصبحوا يجدون الربح في أموال قد تذهب عليهم بكثرة زكواتها وتبعاتها.

    - الوجه الثاني: أن هذا العامل وهو الذي سيأخذ المال منك وينميه، لو لم يجد هذا المال لتعطلت خبرته، وتعطلت معرفته، فعززت الشريعة من إنماء هذه الخبرة، وهذا يدل على سمو منهج الشريعة حتى في أمور الاقتصاد، وتعامل الناس بالمال، وأنها شريعة كاملة، جاءت لمصالح العباد في دينهم ودنياهم وآخرتهم، فأمرت مَن عنده السيولة والمال أن يدفعها لمن هو أهل لتنميتها واستثمارها. فرفقت برب المال من جهة، ورفقت بالعامل من جهة، ورفقت بالمجتمع؛ لأن المجتمع ينتفع من خبرة الخبير في إدارة التجارة، وينتفع المجتمع بتنمية هذه الأموال، ولو أن رءوس الأموال جُمدت لأضر ذلك بمصالح الناس.

    فأصبح في هذا النوع من العقود رفقٌ بكلا الطرفين: برب المال، وبالعامل، وبالناس جميعاً.

    1.   

    صور المضاربة

    والمضاربة حقيقتها: أن يدفع ربُّ المالِ للعاملِ المالَ على أن يتَّجر به، والربح بينهما على ما شرطا.

    ومعنى هذا: أن عندنا في عقد المضاربة رجلين:

    الرجل الأول: هو ربُّ المال.

    والثاني: العاملُ الذي يريد أن يقوم على المال فينميه ويستثمره حتى يحصل الربح والخير للطرفين.

    فأما بالنسبة لرب المال، فالمثال أن يكون عندك عشرة آلاف ريال، وأما العامل فهو شخص تأتمنه على مالك، وتثق بخبرته ومعرفته فتعطيه العشرة آلاف، وتقول: يا محمد! هذه عشرة آلاف اضرب بها في الأرض، أي: سافر فيها للتجارة، أو ابحث عن أي مجال بخبرتك ومعرفتك يكون الأصلح لتنمية هذه العشرة آلاف، فيأخذها منك فيذهب ويضعها في أي تجارة يرى أن من المصلحة وضع المال فيها، فلو كانت عنده خبرة في الطعام، فذهب واشترى طعاماً من بلد، وجلب الطعام للبلد الذي هو فيه، أو اشترى طعاماً من بلد فيه كثرة في الطعام والسعر رخيص، وجلبه إلى بلد يقل فيه الطعام، وباع بسعر أعلى، فربح وغَنِم، أو يتاجر في الأراضي، كأن تعطيه -مثلاً- نصف مليون، وتقول له: هذه النصف مليون تاجر بها، فهو عنده خبرة في الأراضي، فلو أخذ النصف مليون واشترى بها أرضاً بوراً أو أرضاً بيضاءَ لعلمه أن هذه الأرض بعد شهر أو شهرين أو ثلاثة لها سوق، وأنها تغنم، فاشتراها وباعها بأكثر، أو بدل أن يشتري العقار اشترى منافع العقار كأن تقول له: هذه خمسمائة ألف تاجر بها، فنظر أن المصلحة أن يستأجر بها عمائر لإسكان الحجاج -مثلاً- أو المعتمرين أو الزوار، فأخذ الخمسمائة ألف واستأجر بها عشر عمائر أو خمس عمائر واستغلها في إجارتها لمن يستأجرها، فهذا يعود عليه بالنفع، فبعد انتهائه من الإجارة أصبحت مليوناً.

    1.   

    أركان عقد المضاربة

    حقيقة المضاربة أن تعطيه المال وتطلق يده بالتصرف؛ لكن من حقك أن تشترط عليه شروطاً ترى أنها من مصلحة القراض، وقد تكون هذه الشروط من مقتضيات عقد القراض، أو تقصد من هذه الشروط دفع الضرر عن مال القراض، وبناءً على ذلك: قال العلماء: حقيقة القراض أن يدفع ربُّ المال للعامل المالَ، فأصبح عندنا أركان العقد كالتالي:

    الركن الأول: العاقدان: وهما:

    - رب المال.

    - والعامل.

    والركن الثاني: محل العقد:

    ومحل العقد هو: المال المدفوع، عشرة آلاف أو مائة ألف، أو خمسمائة ألف.. إلخ، وهذا المال يكون طبعاً من رب المال للعامل، ويكون محل العقد في تنمية المال واستثماره.

    وأما بالنسبة لما ينشأ عن المال من الربح فعلى ما تتفقان؛ سواء اتفقتما على أن يكون مناصفة لك النصف وله النصف الآخر، أو لك ثلثا الربح وله الثلث، أو العكس للعامل الثلثان ولك الثلث، على حسب ما يتفق عليه الطرفان.

    وأما بالنسبة للصيغة: فهي اللفظ:

    أن تقول له: خذ هذا المال واضرب به في الأرض، أو: تاجر به، أو هذا المال قراض بيني وبينك ربحه بالنصف، أو نحو ذلك.

    إذاً: أركان عقد المضاربة هي: العاقدان، ومحل العقد، والصيغة.

    1.   

    شروط في صحة عقد شركة المضاربة

    شروط الشريكين

    ويُشْتَرَط في رب المال أهليته للتصرف، فلا يصح أن يكون القراض من صبي، فلو أن صبياً أعطى عشرة آلاف لرجل وقال له: خذها وتاجر لي فيها، لم يصح؛ لأن الصبي ليس من حقه أن يتصرف في المال إلا إذا أُذِن له، وهذا أمر آخر، ولو كان الذي يملك المال مجنوناً فقال لرجل: خذ عشرة آلاف واضرب بها في الأرض، فإنه لا يصح ذلك، ولا يثبت القراض لعدم أهلية رب المال، ولو كان رب المال لا يملك المال، وليس له حق التصرف فيه، فأعطاه مالاً بعينه، وقال: هذه المائة ألف خذها واضرب بها، وهي ليست ملكاً له، فإنه لا يصح على هذا الوجه، وإنما يقارض بمال يملكه لا بمال غيره من مغصوبٍِ أو سرقةٍ.

    كذلك العامل يشترط فيه أن يكون أهلاً للوكالة؛ لأن العامل في حقيقة الأمر وكيل عن رب المال، فأنت إذا أعطيته مائة ألف وقلت له: اضرب بها، كأنك تقول له: وكلتك في هذه المائة ألف تستثمرها بالأصلح.

    إذاً: لا بد أن يكون أهلاً للوكالة، فلو كان مثله لا يوكل كالصبي والمجنون والمحجور عليه، وكذلك إذا مثله لا يوكل لوجود مانع يمنع من قيامه بالأمور المالية؛ فإنه لا يصح.

    هذا بالنسبة للعامل ورب المال.

    شروط المحل

    وبالنسبة للمحل فينبغي أن يكون المال الذي يُتاجر به من النقدين.

    فإذا دفع إليه المال يكون من الذهب أو من الفضة المضروبة، دراهم أو دنانير، أو ما يقوم مقام الدراهم والدنانير، كالفلوس على خلاف بين العلماء في النحاس، وفي زماننا الأوراق النقدية تُنَزَّل منزلة الذهب والفضة على التفصيل الذي بيناه في كتاب الزكاة، والصرف، وقررنا فيه أن كل عملة يلتفت فيها إلى رصيدها، إن كانت ذهباً فحكمها حكم الذهب، وإن كانت فضة فحكمها حكم الفضة.

    إذاً: لابد أن يكون المال من النقدين، فلو أنه دفع له عروضاً كأن يقول له: ضاربتك بسيارتي، على أن تذهب وتبيعها وتأخذ فلوسها وقيمتها وتضرب بها، ثم بعد ذلك تشتريها لي، أو تشتري لي مثلها، ثم نقتسم الربح، لا يجوز.

    والسبب في عدم جواز أن يقول له: خذ سيارتي، أو خذ هذه الأرض وبعها، وضارب، ثم بعد ذلك رد لي الأرض، ونقسم الربح بيننا؛ لأنه في هذه الحالة لو أعطاه الأرض وقيمتها مائة ألف، وذهب بالمائة ألف واستثمرها سنة، فبعد سنة لربما أصبحت قيمة الأرض مائة وخمسين، فإذا أراد أن يرد الأرض يردها بالمائة والخمسين، مع أنه ربح -مثلاً- مائتي ألف، وأصبح المال مائتي ألف، فحينئذ من ناحية شرعية دخل بمائة ألف، والمنبغي أن تقسم المائة الثانية على الطرفين: خمسين للعامل، وخمسين لرب المال، فلما أراد أن يرد الأرض، وإذا بالأرض قيمتها مائة وخمسون، فحينئذ دخل رب المال بخمسين ألفاً ظلماً على العامل؛ لأنها جزء من الربح، والمفروض أن تكون مقسومة على ثمن الربح المتفق عليه، والعكس، فلو أخذ الأرض وباعها بمائة ألف، ثم استثمر المائة ألف وأصبحت مائتين، ثم إذا بالأرض قد نزلت قيمتها فأصبحت قيمتها خمسين، فحينئذ سيكون هناك خمسون، هي فضل زائد في الأصل قيمة لعين الأرض التي دفعت، فيدخل العامل شريكاً بخمسة من خمسين ليس من حقه أن يشارك فيها، وإنما هي ملك لرب المال، ولذلك جماهير السلف والخلف -من حيث الأصل- على أنه لا يجوز أن يكون القراض في العروض، حتى ولو قال له: خذ دكاني هذا الذي فيه العطور واشتغل فيه، والربح بيني وبينك على أنه قراض لم يجز؛ لأن القراض ينبغي أن يُعلم؛ فإنك إذا دفعت مائة ألف للعامل لكي يتاجر بها، فإنه يتاجر ما شاء الله، ولو جلست المائة ألف عنده عشر سنين، وأنت ساكت وهو ساكت، والتجارة ماشية حتى بلغت الملايين، ثم بعد عشر سنين فجأة قلتَ له: أريد أن أفسخ القراض، فهذا حقك في أي وقت تشاء، فلو جئت تفسخ القراض ينبغي أن يرد رأس المال أولاً، وبعد رد رأس المال يُنظر في النفقات والحقوق التي تتعلق بالمال، فتُسدَّد، ثم يُنظر في الفضل والزائد وهو الربح ويُقسم على حسب الشرط والاتفاق.

    إذاً: إذا أثبت أن العامل يأخذ منك المائة ألف أولاً ويضرب بها في الأرض، وبعد أن يضرب بها في الأرض أردتَ أن توقف المضاربة، أو العامل نفسه جاء وقال لك: أريد أن تفسخ القراض الذي بيني وبينك، ونصفي حقوقنا، فليس من حقك أن تعترض في أي وقت إلا في حال وقوع الضرر، فلو أنك أعطيت رجلاً المائة ألف في رمضان وقلت: اذهب وتاجر بها، فذهب واشترى تموراً، أو اشترى غنماً، أو بقراً، أو سيارات، والسيارات في رمضان رخيصة السعر -مثلاً-؛ لكن إذا اقترب الموسم في شوال، أو في ذي القعدة يكون سعرها أغلى، والرغبة إليها أكثر، فلو أنك أعطيته المائة ألف في رمضان، ولما اشترى بها السيارات واشترى بها الغنم، أو اشترى بها التجارة التي يريد أن يدخل بها أصبح سعر التجارة رخيصاً، فالغنم سعره رخيص، أو السيارات التي اشتراها رخص سعرها في شوال، وهو ينتظر أن يأتي شهر ذي القعدة من أجل أن يبيع، فجئته في شوال، وقلت له: بِع الآن، فلو باع الآن فربما لا يبيع إلا برأس المال، أو بأقل من رأس المال، وهذا فيه ضرر، ومذهب طائفة من العلماء أنه ليس من حقك أن تلزمه بالإسراع في البيع إذا وجد الضرر، وكان الانتظار لا ضرر فيه عليك، وعلى ذلك تكون ملزماً بالانتظار، وهي الحالة التي تستثنى من جواز عقد القراض والمضاربة وعدم لزومه.

    إذا ثبت هذا فإنه لا يمكننا أن نقسم الربح بين الطرفين إلا بعد رد رأس المال، وإذا كان الربح لا يُرد إلا بعد رأس المال، فإن رأس المال إذا كان ذهباً وفضة فلا إشكال، وإنما الإشكال إذا كان من العروض، كالأقمشة والأطعمة والسيارات والعقارات، فإن أسعارها ترتفع وتنخفض، فلربما أعطاه العقار وقيمته غالية، ولما حضر وقت التقاضي وفصل شركة القراض أصبحت القيمة رخيصة، فيتضرر صاحب العقار، وبالعكس يتضرر العامل.

    وبناءً على ذلك: قال جماهير السلف والخلف، حتى حُكي الإجماع على ذلك: أنه لا يجوز أن يقارضه بتعيين العروض.

    هذا من جهة المحل، ومن جهة ما يُتاجر به أو يُدفع للعامل.

    شروط الصيغة

    أما الصيغة: يقول له: ضاربتك، أو خذ هذه المائة ألف قراضاً والربح بيني وبينك، أو يقول له: خذ هذه المائة ألف واتَّجر بها، وما ربحتَ فبيني وبينك، هذا بالنسبة للربح.

    لكن لو أن هذا العامل أخذ منك مائة ألف، وخرج يتاجر، فانكسر في التجارة وخسر ولم يرد لك إلا خمسين، فهل يضمن الخمسين الباقية؟

    الجواب: فيه تفصيل:

    فأصل المضاربة أن العامل يأخذ منك المال ويتاجر فيه بالمعروف، فإذا قام بالتجارة على الوجه المعروف عند أهل الخبرة ولم يفرط ولم يغرر؛ فلا ضمان عليه، وإنما يكون ضمان المال على رب المال.

    ومن هنا تنظر إلى عدل الشريعة الإسلامية، وكونها عدلت بين العامل ورب المال.

    فأنت حينما تعطي مائة ألف إلى العامل وتقول له: اضرب بها في الأرض، فإنك لا تقوم بأي عمل، بل العمل كله على العامل، فهو الذي يتحمل مشقة العمل، وبالمقابل فأنت تتحمل الخسارة، فخطورة العمل والخطر الذي ينتج عن العمل بحصول كساد في السوق أو انخفاض في الأموال أنت الذي تتحمله، والعامل يقوم بتنمية المال بالمعروف، فإن حصلت الخسارة كانت على رب المال، وإن حصل الربح كان للعامل حظه من الربح، فأعطت الشريعة كلا الطرفين حقه.

    وبناءً على ذلك: فإن رب المال يتحمل مسئولية المال إذا خسر، والعامل يتحمل تنمية المال والقيام على رعاية هذا المال وتنميته.

    والأصل في المضاربة: أن تكون على الثمن المعروف، فينبغي لكلا المتعاقدين أن يراعي المضاربة الشرعية، فلا يشترط على الآخر شروطاً تغرر به، فلو قال رب المال للعامل: هذه مائة ألف وأشترط عليك ألَّا تشتري إلا من فلان، وألَّا تبيع إلا إلى فلان، وألَّا تشتري إلا في شهر محرم، وألَّا تبيع إلا في صَفَر، فأخذ يقيده ويضيق عليه، لم يصح؛ لأن هذه الشروط تضر بمصلحة التجارة، وتكبل العامل، وتضيق عليه حدود العمل، وإن كان قد تسامح فيها بعض الفقهاء، وقالوا: من حقه، والصحيح مذهب من قال: ليس من حق رب المال أن يحجِّر على العامل ويضيِّق عليه في تجارته إلا إذا خاف الضرر، كأن يقول له: أنا أسمح لك أن تتاجر بالمال في مكة، ولا أسمح لك أن تنتقل إلى المدينة، أو إلى بلد آخر، لعلمه أن السوق في مكة أضمن وأربح، ولكن في غيره فيه مخاطرة، كذلك من حقه أن يقول له: أسمح لك أن تتاجر في ثلاثة أنواع أو أربعة أنواع أو خمسة أنواع، ويحددها؛ لعلمه أن كل نوع يجبر الآخر، لكن لو قال: لا أسمح إلا بتجارة الطيب، أو يقول له: لا أسمح لك بالمائة ألف إلا أن تتاجر في العود فقط، فإنه يحتمل أنه يدخل في تجارة العود وتنكسر؛ لكن حينما تقول له: هذه المائة ألف اضرب بها في الأرض، دخل في تجارة العود، فلم يكسب، فخرج منها إلى تجارة الورد، وكانت أربح -مثلاً-، أو خرج من تجارة الطيب كلية إلى تجارة الأرض، فجَبَرَ كَسْرَ تلك بنماء هذه، وجَبَرَ فسادَ تلك بصلاح هذه.

    ولذلك قال العلماء: ليس من حق رب المال أن يحجِّر على العامل، فالأصل في القراض أن يكون على السُّنن الشرعية.

    كذلك الأصل في القراض أن يكون الربح مشاعاً بين الطرفين، فلا يقول للعامل: أعطيك هذه المائة ألف، اذهب وتاجر بها، وسأعطيك ما يرضيك، فهذا مجهول، ولو قال له: الربح بيني وبينك، فللعلماء فيه وجهان:

    - بعض العلماء يقول: (بيني وبينك) هذا مجهول؛ لأن من أخذ ثلاثة أرباع وترك الربع، فهو (بيني وبينك)، ومن أخذ أي جزء من الربح فهو بينه وبين من اتفق معه.

    - وقال بعض العلماء: بيني وبينك أي: نصفين، فيجوز.

    والشبهة موجودة.

    وكذلك أيضاً: لو قال له: خذ المال واضرب به، وأعطيك كل شهر ألفاً، فهذا ليس بقراض، وإنما هو إجارة، وحينئذ يستحق العامل الألف، وليس له دخل في الربح، فهناك شروط ربما لو أنه أدخلها لأخرجت القراض عن طبيعته إلى عقد آخر، كعقد الإجارة، أو ربما صار فيها وكيلاً بالبيع أو نحو ذلك.

    1.   

    حكم التحايل والتلاعب بعقد المضاربة

    وأيا ما كان فهذا العقد ينبغي أن يتقيد فيه بما اتفق عليه العلماء، أو جرى العمل به عند السلف، ولا يجوز تلفيق القراض والتلاعب بشروطه، والتحايل على المعاملات المحرمة تحت اسم القراض، حتى يُحَل للناس ما حرم الله، باسم أنها مضاربة شرعية.

    أمثلة على التلاعب بعقد المضاربة

    ومن أمثلة ذلك: أن البعض من المتأخرين -وهذا من أغرب ما يكون- يقولون: اذهب واختر ما شئت من السلع، وأنا أشتريها لك، أو اذهب واستثمر فيما شئتَ من العمائر أو نحوها، وأنا أدخل معك بمليون أو نصف مليون، أو كذا من المال، على أن آخذ نسبة من ربحك، مثال ذلك - وهذا يقع-: لو أن شخصاً أراد أن يبني فندقاً للاستثمار، فيدخل معه المصرف ويقول له: نحن نشاركك في هذا الاستثمار باسم المضاربة الإسلامية، فيقول: ما صفة هذه المضاربة، يقول المصرف: نعطيك عشرين مليوناً -مثلاً- تكمل بها بناء هذا الفندق، ونستثمر هذا الفندق عشر سنوات، ثم بعد ذلك نرد لك الفندق، فأصبحوا في هذه الحالة يقولون: إن هذه المضاربة إسلامية؛ لأنهم أعطوه المال فاستثمره في بناء هذا العقار، كما لو أعطى العامل المال فاستثمره في أي عمل تجاري، وأصبح الربح والنماء منقسماً بين الطرفين، من جهة أن المصرف أخذ النماء ثلاث سنوات أو أربع سنوات، وسكت عن الملكية، أو عفا عن الملكية، فأصبحت أشبه بالهبة وبمحض التبرع، ولفقوا العقود على هذا الوجه.

    ولا شك أن حقيقة هذا العقد مبنية على اقتراض عشرين مليوناً بأرباح؛ لأن المصرف يقول: نأخذ رأس المال الذي دخلنا به، ولأن المضاربة يأخذ فيها رب المال رأس المال، فقال: نأخذ العشرين مليوناً أولاً، ثم بعد العشرين مليوناً نأخذ الأرباح سنتين أو ثلاث سنوات أو أربع، ونترك لك ملكية العقار، فهم يتذرعون بأن هذا نوع من المضاربة الشرعية، ولما سئلوا: كيف تحققت المضاربة؟

    قالوا: تحققت بأن المصرف دفع العشرين مليوناً، فنعتبرها رأس مال، فدخل صاحب الفندق بمثابة العامل، فاستثمر العشرين مليوناً في بناء الفندق، بعد ذلك نعتبر رد العشرين مليوناً كرد رأس مال المضاربة، ونعتبر فضل السنوات إذا كانت أربع سنوات أو خمس سنوات بمثابة الربح لرب المال.

    ولا يشك أحد -إذا تأمل هذا النوع من التعامل- أنه قرض مبني على المنافع والفوائد، فحقيقة الأمر أن العشرين مليوناً كانت بصورة القرض، وليست بمضاربة؛ لأن المضاربة يعطى للعامل مطلق التصرف فيها، أما هذه فمحدودة.

    والأغرب من هذا: أنه يُلزم برد العشرين مليوناً ويضمنها، فخرج عن ثمن المضاربة؛ لأن المضاربة لا يلتزم العامل فيها برد رأس المال إذا خسر، فهم يلزمونه برد العشرين مليوناً، ثم بعد ذلك يلزمونه بأخذ إيجار أو منافع أو مصلحة هذا العقار لمدة ثلاث سنوات أو أربع سنوات.

    ثم تعجب حينما تقول لبعض المعاصرين الذين يجتهدون في تحليل بعض المسائل التي لا يُشَك أنها من الحرام، تقول له: يا أخي! هذا عقد شرعي أجمع العلماء على أنه لابد أن يكون على الصفة المذكورة المعينة، وهي كذا وكذا.

    فيقول لك: أبداً! القراض عقد اجتهادي، والاجتهاد يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وهذه الشروط اجتهادية، فكما اجتهد الأوائل نجتهد من بعدهم.

    فالمقصود: أن هذا من التحايل على ما حرم الله، وقواعد الاجتهاد ليست محلاً في هذا؛ لأن الاجتهاد معروفةٌ ضوابطُه وشروطُه، ومعروفٌ محلُّه، فحينما تدفع أي جهة مبلغاً لشخص على أن يلتزم برده، فإذا التزم برده كان قرضاً، وليس من المضاربة في شيء؛ لأن المضاربة لا يلتزم فيها العامل لرب المال، فالعامل يعمل وإن خسر فعلى رب المال، وإن ربح فحينئذ على ما اتفقا في تقسيم الربح.

    فالمقصود: أن عقد المضاربة عقد شرعي، وينبغي أن تجري المضاربة الشرعية على وفق ما قرره العلماء وأجمع السلف عليه.

    1.   

    مسألة: هل القراض والمضاربة عقد أصلي أو فرعي؟

    ومن هنا ترد المسألة المشهورة: هل القراض والمضاربة عقد أصلي أو عقد فرعي مستثنىً على سبيل الرخصة؟

    هذه المسألة خلافية، ولها فوائد:

    فأنت إذا قلت: القراض عقد شرعي أصلي، فتقيس عليه غيره.

    وإن قلت: القراض عقد شرعي مستثنىً وهو فرع عن الإجارة، أي: أنه نوع من أنواع الإجارة بالمجهول؛ فهو مستثنىً ولا يجوز القياس عليه.

    توضيح ذلك: في القراض من يقول: هذا عقد شرعي مستقل، كفقهاء الحنابلة -رحمهم الله- ومن وافقهم، ويقولون كالتالي: إن رب المال دفع للعامل عشرة آلاف، والعامل قام بتنمية العشرة آلاف على ما جرى عليه العرف، فأصبح رب المال يُشارك العامل في الربح، والعامل يشارك رب المال في الربح أيضاً؛ لكن كل منهما شارك بشيء، فالعامل شارك بالعمل، ورب المال شارك بالمال، فأصبحت نوعاً من الشركات، وقالوا: الشركة إما أن يكون المال من الطرفين، ويشمل نوعين من الشركات:

    - العنان.

    - والمفاوضة.

    فالمال هنا من الطرفين، والعمل من الطرفين، وهو نوع من الشركات.

    ونوع آخر من الشركات: المال من الغير، والعمل من الطرفين، كشركة الوجوه، فإنه يكون العمل فيها من الطرفين، والمال من طرف آخر، فيضمنان بجاهيهما ما يأخذان من المال، والعمل من الطرفين، وإما أن يكون المال من طرف، والعمل من طرف آخر، مثل: المضاربة، فالمال من رب المال، والعمل من العامل، فأصبحت الشراكةُ مالاً لقاءَ عمل، فإذا قلت: إنها شراكة، فقِس عليها غيرَها، مثال ذلك: الشركة في المنافع، ففي زماننا الآن لو أن رجلاً عنده سيارة أجرة، وقال لرجل: خذ هذه السيارة واشتغل بها، وما ينتج من عملك بيني وبينك مناصفة، فحينئذ يقولون: السيارة مُنَزَّلة منزلة المال، والعمل بالسيارة لقاء اليوم أو الأسبوع أو الشهر مثل عمل العامل بالمال النقدي، والربح بينهما وهو نتاج السيارة وأجرتها، وهذا نوع من القياس، وهو مرجوح وضعيف؛ لأن الصحيح في القراض أنه إجارة بالمجهول، خرجت عن سنن الإجارة كالمساقاة والمزارعة فلا يُقاس غيرُها عليها، فإذا أراد أن يؤجر السيارة يقول له كالآتي: خذ السيارة واشتغل فيها شهراً، وأعطيك ألفاً، وتعطيني جميع ما ينتج، وربحها وخسارتها عليَّ، كما لو استأجرته في مزرعة ليقوم على مصالحها، فربحها وخسارتها عليك، وأما بالنسبة لأجرته فمضمونة.

    إذاً: لو أردت أن تؤجر على هذا الوجه فتقول له: خذ السيارة واشتغل فيها بالأسبوع، أو بالشهر، أو تقول له: أعطيك سيارتي بمائتين أسبوعاً، يعني: تشتغل فيها بالأسبوع، فتأخذ ما يحصل لك، على أن يكون لي مائتان -لكن لا تقولك من الأجرة- فيكون كما لو أخذ السيارة منك لمصلحته التي يقضيها، فحينئذ يكون استأجر السيارة منك.

    فالبديل عن هذا النوع من القياس المرجوح: أن يعطيه السيارة بأجرتها، أو العامل نفسه يشتغل فيها بأجرة من رب السيارة ومالكها.

    فهناك صورتان:

    - الصورة الأولى: تقول له: خذها، واشتغل فيها بالشهر، كل شهر لك ألف، وحينئذٍِ الذي تأخذه قليلاً كان أو كثيراً ملك لي. فحينئذ يلزمك نفقة السيارة، فالوقود عليك، وزيتها عليك، وإصلاحها عليك، ولا تلتزم إلا بأجرته، كما لو وضعت عاملاً في المزرعة، فوقودها وتكاليفها كلها عليك؛ ولكن أجرة ا لمصالح والقيام عليها تعطيها للعامل، هذا نوع من إجارة السيارات، إذا أردنا البديل المباشر.

    - أو يقول لك العامل نفسه: أنا آخذ السيارة منك وأعطيك كل يوم مائةً، أو أعطيك كل أسبوع مائتين، أو أعطيك كل شهر خمسمائة، فيكون قد استأجر السيارة منك مُياوَمَةً، أو مُسانَهَةً -مُياوَمَةً: يعني باليومية، مُسانَهَةً: بالسنة، أو مُشاهَرَةً: بالشهر- فيستأجرها على أي نوع من الإجارة، وسيأتي -إن شاء الله- في باب الإجارة. أما أن يقاس على هذا العقد الذي خرج عن سنن القياس فلا؛ لأن الرخص والمستثنيات من الأصول لا يُقاس عليها، ولذلك يقولون: ما خرج عن سَنن القياس فغيره عليه لا يقاس.

    1.   

    مسألة: هل القراض عقد جائز أم لازم؟!

    عقد القراض فيه مسألة مهمة، وهي مسألة اللزوم والجواز، لو سألك سائل وقال: قرأتَ باب القراض أو المضاربة، فهل لو اتفقتُ مع رجل على أن أضارب له في ماله، واتفقنا على أن يدفع لي مائة ألف لا تجز فيها، والربح مناصفة بيننا، وأخذتها منه، فإذا فارقته وتم العقد فهل يصبح لزاماً عليَّ أن أمضي في العقد وأن أتمه وأن أتاجر بالمال أو ليس بلازم، كأن يعطيك رجل مائة ألف، لتضرب بها في الأرض، وتتاجر بها، والربح بينك وبينه، فقام من عندك ورجع بعد ساعة، وقال: العقد الذي بيننا انفسخ، أو لا أستطيع، أو عندي ظرف، أو أراد فسخه بدون سبب، وقال لك: لا أريد، فهل يُلْزَم بإتمام العقد أو لا يُلْزَم؟

    الإجماع منعقد على أن عقد القراض عقد جائز، والعقد الجائز -كما قدمنا في مقدمات البيوع- هو: الذي يملك كل واحد من الطرفين فسخه بدون رضا الآخر.

    إذاً: عقد القراض ليس بعقد لازم، ومن حقك أن تأتي في أي وقت وتقول له: بِعْ التجارة ورُدَّ لي رأس المال وانظر لي الربح. ومن حق العامل في أي وقت أن يفسخ عقد المضاربة والقراض ولا يُلزم بإتمامه، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله.

    1.   

    الربح بين الشريكين على ما شرطا

    قال رحمه الله: [المضاربة لمتَّجر به ببعض ربحه]:

    (لمتَّجر(: أي مستثمر، (يتاجر به) الضمير عائد إلى المال، لمتَّجر بالمال.

    (ببعض ربحه): أي ببعض ربح المال المدفوع، فأصبح عندنا رأس مال، وعندنا متاجرة تثمر وتنتج الربح، فرأس المال يدفعه ربه، ومَن يتاجر هو العامل، والربح بينهما على ما شرطا.

    قال: [فإن قالا: والربح بيننا: فنصفان]

    إن قالا: الربح بيننا، فوجهان للعلماء:

    قال بعض العلماء: جهالة، لأن (الربح بيننا) يشمل المناصَفة والمرابَعة والمثالَثة، وغيرها، فأي قسط وأي حظ من المال فهو بينهما.

    وقال بعض العلماء: بل إن قوله: (بيننا) معروف أنها بالمناصفة، يعني: بيننا، أي: نقسم بالعدل، لك مثل ما لي، وهذا هو الذي مال إليه المصنف رحمه الله ورجَّحه.

    قال: [وإن قالا: لي أو لك ثلاثة أرباعه أو ثلثه، صح والباقي للآخر]:

    هنا مشلكة: إذا قال رب المال للعامل: خذ هذه المائة ألف واتَّجر بها، ولي من الربح نصفه. لما قال: (لي النصف)، اختلف العلماء:

    قال بعض العلماء: إذا قال للعامل: (لي النصف)، نفهم مباشرة أن العامل له النصف الآخر.

    وقال بعض العلماء: لا. بل إنه حينما قال: (لي النصف)، سكت عن حكم النصف الثاني، فيحتمل أن يكون يعطيه نصف النصف الذي هو الربع، والنصف الآخر الذي هو الربع الثاني يضعه في صدقة أو هبة.

    المهم أنه لما قال: (لي النصف) بيَّن نصيبه ولم يبيِّن نصيب الطرف الثاني، فلم يجز.

    وهذا يختاره بعض أصحاب الشافعي رحمه الله وفيه وجه عند الحنابلة، أنه لو قال له: (لي النصف) أو قال له: (لك النصف)، وسكت، لا بد أن يبين حق الطرف الثاني، ولا يصح إلا إذا بيَّن كم للعامل وكم لرب العمل، فيقول: (لك النصف، ولي النصف)، (لك الربع، ولي ثلاثة أرباع)، (لك الثلثان ولي الثلث)، فيحسم الأمر، ويدفع الشك، ويقطع الريب.

    وحينئذٍ قالوا: لابد أن يبيِّن.

    وهذا المذهب أحوط وأسلم، وإن كان المذهب الثاني له وجه من القوة أنه إذا قال: (لي النصف)، نفهم أن النصف الثاني للعامل، أو قال له: (لك الربع)، نفهم أن الثلاثة أرباع لرب المال.

    1.   

    صور الشروط في عقد المضاربة

    قال رحمه الله: [وإن اختلفا لمن الشروط: فلِعاملٍ، وكذا مساقاةٌ ومزارعةٌ]:

    الشروط تقع في عقد المضاربة على صور:

    الشروط المشروعة

    تارةً تكون من الشروط المشروعة:

    بِمعنى: أن الشرع يأذن بِها، ولا مانع من اعتبارها، كالشروط التي تواكِب وتحقق مقصود الشرع من المضاربة.

    فلو قال له: أشترط أن يكون الربح بيننا على شرط شرعي؛ لأن القراض يقوم على قسم الربح بين الطرفين.

    كذلك أيضاً لو قال له: أشترط أن تبيع نقداً ولا تبِع نسيئةً، فهذا يحقق المقصود من دفع الضرر؛ لأن الديون ربما يماطل أهلها في أدائها، وقال بعض العلماء: إن هذا شرطٌ شرعي عند من يجيز اشتراط النقد على العامل، كذلك لو قال له: أشترط عليك أن تعمل في بلد كذا وكذا، وخاف من بقية البلدان؛ لأنها منكسرة والتجارة فيها تشتمل على مخاطرة، فهذا شرط شرعي، ولو قال له: أشترط عليك أنك إذا سافرت بمالي لا تركب البحر؛ لأن البحر غير مأمون؛ لأنه ربما تغرق السفينة، ويستضر، أو قال: أشترط عليك أنك إذا أردت أن تسافر تتعامل مع فلان، والتعامل مع غيره غالباً مظنة الخسارة أو الانكسار أو الضرر.

    فمثل هذه الشروط التي يقصد منها رب المال مصلحة القراض أو تتفق مع مقصود القراض فلا إشكال فيها.

    وكذا العامل لو اشترط شروطاً تحقق مقصود الشرع في العقد كأن يقول: أشترط أن تحدد نسبتي من الربح، هذا في الأصل قائم عليه القراض، فقال له: نسبتك النصف، أو نسبتك الثلثان، فهذا ليس فيه إشكال بل من مقتضى العقد.

    كذلك لو قال له: أشترط أن أكون مطلق التصرف بالبيع وبالإجارة وبالاستثمار والرهن والقضاء، ونحو ذلك من أنواع الاستثمارات، كان من حقه ذلك؛ لأن من مصلحة القراض أن يكون مطلق اليد بالتصرف، حتى إذا انكسر في شيء يجبره بشيء آخر.

    فقالوا: مثل هذه الشروط شروطٌ شرعية، سواءً وقعت من المضارِب الذي هو رب المال، أو المضارَب وهو العامل.

    هذا بالنسبة للشروط الشرعية.

    الشروط الممنوعة

    وتارةً تكون الشروط ممنوعة وهي التي تضر بالقراض، أو تضر بالطرفين، وتخالف مقتضى العقد.

    يقول له: خذ المال، واضرب به في الأرض بشرط ألَّا يكون لك شيء من الربح، فهذا يخالف مقتضى العقد؛ لأن مقتضى العقد الاشتراك في الربح، وفيه ظلم للعامل، فلو قال له: خذ المال واضرب به في الأرض وأنت المسئول عن خسارته، فهذا ظلم؛ لأن العامل يتحمل العمل، ويتحمل أيضاً الخسارة، ورب المال لا يتحمل شيئاً فحينئذ خرج عن سنن القراض، ويعتبر شرطاً غير شرعي، ونص طائفة من العلماء على أنه يوجب فساد الشرط وفساد العقد؛ وأن هذا النوع من الشروط فاسد لنفسه ومفسد لغيره.

    ونحو ذلك من الشروط.

    فلو قال له: أشترط عليك ألَّا تتعامل بهذه المائة ألف إلا بنوع خاص من الطيب؛ ولا تشترِ إلا من فلان، ولا تبِع إلا من فلان، ولا تشترِ إلا في شهر كذا، ولا تبِع إلا في كذا، لم يجز؛ لأن هذا يغرر به، فلربما كان فلان الذي يتعامل معه المعاملة معه كاسدة، أو موجبة للخسارة، فهذا كله مما يخالف مقتضى عقد القراض، فلا يصح هذا النوع من الشروط.

    وهل يوجب الفساد أو لا يوجب؟ فيه تفصيل:

    إن أوجب نقض أصل من أصول القراض كما في الجهالة في الربح، كأن يقول له: خذ هذه المائة ألف واضرب بها في الأرض، والربح بيني وبينك، قال: قبلت؛ ولكن أشترط أن آخذ ألف ريال شهرياً، فنقول: لا يجوز هذا الشرط، ولا يصح أن يشترط هذا النوع من الشروط.

    فالمقصود: أن الشروط منها ما يوافق مقتضى العقد: كاشتراط البيع والاستئجار ونحو ذلك من مطلقات التصرف.

    ومنها ما يخالف مقتضى العقد: كأن يشترط عليه أن لا ربح له، أو يشترط عليه ربحاً مجهولاً، فالسنة في القراض أن يكون الربح معلوماً، وأجمع العلماء على أنه لو اشترط ربحاً مجهولاً، أو أدخل على الربح جهالةً لم يصح.

    ولذلك قالوا: هذا النوع من الشروط قد يوجب فساد عقد القراض كليةً.

    1.   

    مسألة: هل الشرط يوجب فساد القراض أو يفسد الشرط وحده

    ما الفائدة حينما نقول: الشرط يوجب فساد القراض، أو يفسد الشرط وحده؟

    مثال: لو أن شخصاً أعطاه مائة ألف، وقال له: اضرب بها في الأرض، فاشترى عشر سيارات بمائة ألف، وأصبحت قيمة السيارات مائتي ألف، فمعناه: أنها ربحت الضعف، فإذا كان قد اشترط في الربح شرطاً يوجب الجهالة، كأن يقول له: خذ المائة ألف واضرب بها في الأرض، والربح بيني وبينك على ما نتفق عليه فيما بعد، فحينئذ يصير الربح مجهولاً، فإذا صار الربح مجهولاً فسد القراض؛ لكن المشكلة أن الرجل اشترى العشر سيارات، وأتم الصفقة وأصبحت قيمة السيارات مائتي ألف، وبعد بيعها وأخْذِ المائتي ألف جاءوا يتصافون فاختلفوا، فلما اختلفوا ارتفعوا إلى القاضي، فالقاضي يحكم بفساد الشرط وفساد العقد، وحينئذ ننظر أجرة العامل، فنقول لأهل الخبرة: من اشترى عشر سيارات وباعها كم تعطونه؟

    فإذا قالوا: نعطيه عن كل سيارة ألفين، فحينئذ يكون استحقاق العامل عشرين ألف ريال، فيأخذ من المائتي ألف عشرين ألف ريال، وتكون مائةٌ وثمانون ألفاً ملكاً لرب المال؛ لأن عقد القراض يبطل، فترجع إلى الإجارة، ومن عدل الشريعة إذا بطل عقد القراض ينظر إلى تعب العامل ويقدر، ففي بعض الأحيان -مثلاً- يشتري عشر سيارات، وإذا بالعشر سيارات كسدت وأصبحت قيمتها خمسين ألفاً، فخسر النصف.

    فلما جاء العامل يريد أن يرد المال لرب المال قال رب المال: أبداً لا أرغب، فارتفعوا إلى القاضي، فقضى القاضي بفساد القراض، وإذا فسد القراض يقول لرب المال: ادفع أيضاً عشرين ألفاً أجرة للعامل، فيخرج رب المال بثلاثين ألفاً؛ لأنه غرر بنفسه، فلا يستحق إلا ثلاثين ألفاً، والعامل يأخذ عشرين ألفاً لقاء تعبه؛ لأنه استُخْدِم بعقد غير شرعي، فلا يستحق رب المال تعبه على هذا الوجه.

    وبناءً على هذا إذا قلنا: إن العقد يفسد؛ فيعطى العامل أجرة المثل.

    وإذا قلنا: العقد يبقى صحيحاً فيُقسم الربح بينهما على ما شرطا، ويُلغى الشرط الفاسد فقط.

    هذا الفرق بين قولهم: أنه إذا اشترط على وجه يوجب فساد العقد رجعنا إلى الإجارة.

    وإن اشترط على وجه يفسد فيه الشرط، ويبقى فيه العقد صحيحاً، قلنا: تبقى القسمة على ما اتفقا عليه من الربح ويلغى الشرط وحده فقط.

    1.   

    إذا اختلف الشريكان في المضاربة قدم قول العامل

    قال: [وإن اختلفا لمن الشروط: فلِعاملٍ، وكذا مساقاةٌ ومزارعةٌ]:

    قوله: (وإن اختلفا: لمن الشروط؟ فلِعاملٍ): يعني: القول قول العامل؛ لأنه مدعىً عليه، وقد قررنا هذه المسألة وقلنا: إنها من مسائل القضاء في الدعاوى: هل القولُ قولُ ربِّ المال؟ أو قولُ العامل؟

    يكون القول قول العامل، وفي بعض الأحيان يكون القول قول رب المال، وإن كان القول للعامل على الأغلب؛ لأنه يكون مدعىً عليه غالباً، فلو قال له: اشترطت عليك كذا، فقال: لم تشترط، فالأصل عدم الاشتراط.

    وبناءً على ذلك: يكون العاملُ المدعى عليه فيُطالَب رب المال بالبينة، فنقول له: أحضر شهوداً على أنك اشترطت.

    فإذا أحضر الشهود حكمنا بقول رب المال.

    وإذا لم يكن عنده شهود، قلنا للعامل: احلف اليمين، (ليس لك إلا يمينه) وهذا الأصل في القضاء -كما ذكرنا- أن المدعى عليه مطالب باليمين.

    والمدعى عليه باليمينِ في عجز مُدَّعٍ عن التبيين

    فإذا عجز المدعي عن إقامة البينة، فإن المدعى عليه يُطالب باليمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح: (ليس لك إلا يمينه. قال: يا رسول الله! الرجل فاجر يحلف ولا يبالي! قال عليه الصلاة والسلام: ليس لك إلا يمينه).

    قال: [وكذا مساقاةٌ ومزارعةٌ]:

    وكذا الحكم في المساقاة وستأتي، وكذا الحكم في المزارعة، أنه إذا اختلف رب الأرض مع عامل المُساقاة، واختلف مع من أخذ الأرض مُزارَعةً، فالقول قول العامل، وليس بقول رب المال، وسيأتي -إن شاء الله- بيان هذه المسائل في المساقاة والمزارعة.

    1.   

    الأسئلة

    الضمان في المضاربة

    السؤال: أَشْكلَ عليَّ في قصة عبد الله وعبيد الله ابني عمر رضي الله عنهم أجمعين، قولُ عبيد الله لـعمر ؛ أنهم لو خسروا لضمنوا، مع أن المضاربة إذا خسر فيها العامل ولم يفرط لم يضمن! نرجو التوضيح.

    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.

    أما بعد:

    فلله درك من سائل! ولا شك أنه إشكال في محله، ولذلك إذا نظرت أن عبيد الله وعبد الله كانا ضامنين للمال، والأصل يقتضي أن المضارب لا يضمن؛ لكن الصحابة قالوا: (اجعله يا أمير المؤمنين! قراضاً) من جهة الربح؛ لأن العقد في الأصل لم يقع على أنه عقد قراض.

    والمشكلة في هذه القضية: أن عمر رضي الله عنه رأى الشبهة في تخصيصهم بالمصلحة، فقال: (أنْ كنتما ابنَي أمير المؤمنين؟ أديا المال).

    إذاً: من حيث اعتراض عمر في الأصل له وجهه؛ لكن الإشكال في يد الضمان التي اعترض بها عبيد الله .

    والحل في المناصفة في الربح تأتي على وجهين، يعني: تنصيف عمر للربح على وجهين:

    إما أن تقول: إنه صلح، شُبِّه بالقراض من جهة دخول رب المال مع العامل بالمشاركة، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس، وبعض مشايخنا رحمة الله عليهم اختاروا هذا الجواب، لقول الصحابة: (اجعله قراضاً)؛ لأن الخلاف في الربح، هل كله يكون لبيت المال، أو كله يكون لـعبد الله وعبيد الله ؟

    فالأصل يقتضي أن كله يكون لـعبد الله وعبيد الله من جهة تحمل الخسارة؛ لكن من جهة تميزهم واختصاصهم بهذا الفضل يقتضي أن يكون لبيت مال المسلمين.

    وبناءً على ذلك: يكون عمل عبد الله وعبيد الله في مالٍ لا يُملك، يعني: أن أبا موسى ليس له الحق أن يمكلهما ويخولهما، فأصبحت يد عبيد الله وعبد الله على المال يد شبهة، وهي التي أدخلت عمر في الاعتراض، فحينئذ كأن قسم الربح بينهما أشبه بالصلح، والصلح يقع بغبن أحد الطرفين، ولذلك كأنهم لما قالوا: (اجعله قراضاً)، أي: اجعله على سَنن القراض فيما أُشْكِل، وهو الربح، لا تجعله قراضاً من حيث الأصل، وهذا فيه فرق، فكونك تجعله قراضاً من حيث الأصل وتجعله قراضاً من حيث الربح، فالخلاف في الربح. ولذلك فهذا هو الذي تطمئن إليه النفس.

    فهذا إشكال من أبدع ما يكون وما يفقه له إلا القليل، وأذكر مَن كان مِن بعض مشايخنا رحمة الله عليهم لما اعترض عليه بعض طلابه بهذا قال له: لله درك! وأعجب؛ لأن هذا نوع من الدقة.

    فالأصل يقتضي أن الربح يكون بين الطرفين بشرط أن يكون رب المال ضامناً للمال؛ لكن عبيد الله اعترض هنا. هذا وجه.

    ووجه آخر: أن عبيد الله ضخم الأمر، فقال: (يا أمير المؤمنين! أرأيت لو خسرنا المال، أكنتَ تضمِّنَّا إياه؟)، من جهة تضخيم الأمر، يعني: أننا إذا فرطنا أو تساهلنا في المال فإنك تضمِّنَّا.

    وبناءً على ذلك: كأن عبيد الله يريد أن يقول له: ليس من حقك أن يكون الربح كله لك، ولنا نوع من المسئولية أو تحمل مسئولية الضمان، لا أنه ضامن لكل المال.

    وهذا الوجه الثاني -في الحقيقة- مرجوح، والوجه الأول أقوى؛ أنه صلح، والصلح دائماً يُظلم فيه أحد الطرفين -كما هو معلوم- كما لو اختصم رجلان في عين، فالغالب إذا حدث الصلح أن يكون صاحب المال الأصلي مستضراً بالصلح؛ لأن الصلح يكون فيه نوع من التنازل عن بعض الحق، وعلى هذا قالوا: جرى صلحاً، وأجري على سَنن القراض، لا أنه قراض من كل وجه. والله تعالى أعلم.

    اللهم لك الحمد، ما دام أن في طلاب العلم كهذا؛ لأن مسائل الفقه -في الحقيقة- لابد أن يوجد من طلاب العلم وأهل العلم مَن عنده نوع من الدقة فيها، فالفقه فلا يمكن لطالب العلم أن يتقن باب المعاملات إلا إذا ربط الفقه بعضه ببعض، ولن تستطيع أن تجد أهمية فقه المعاملات إلا حينما تنظر لأبواب المعاملات مرتبطةً بعضُها ببعض وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ [الأعراف:52]، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً [الأنعام:115]، من التمام أن الشريعة كالبناء المُحكم.

    فتجد أصول الشريعة وأصول العلماء في مسائل البيوع أصولاً مترابطة متناسقة تامة، وهذا الفرق بين فقه السلف وفقه الخلف، فقد تجد بعض المتأخرين يأتي وينظر لمسألة القراض، لا يبحث إلا في مسألة القراض؛ لكن هل قرأ الفقه على عالِم بحيث يعرف كيف تُرْبَط الأبواب بعضها ببعض؟

    هل قرأ الفقه على سبيل التأصيل المعروف عند الأولين حتى يعرف وجهة نظر العالم إذا قال بالحُرمة رعايةً لأصل عام في الشركات، أو رعايةً لأصل عام في شركة الأموال؟ هل قرأ هذه الأصول أو لم يقرأها؟

    فإذا لم يقرأها وجاءه قول يربط هذه الأصول بعضها ببعض ربما استخف بهذا القول، وظن أن هذا القول مرجوح، دون أن يفقه علته، ويعلم أصله، فإذا ضُبِطَت الأصول في الأبواب أصبح طالب العلم دقيقاً.

    الآن -مثلاً- نحن مرت علينا القصة، قالوا: يا أمير المؤمنين! اجعله قراضاً، فتجد طالب العلم يسأل: طيب! القراض ما حقيقته؟

    وهذا هو الذي نفتقر إليه اليوم، إذا جاءك أي شخص وقال لك: هذه المضاربة شرعية، أو مرابحة، أو مواضعة، أو تولية، تسأل: ما هي حقيقة المرابحة في الشرع؟

    والذي ضرنا اليوم: أننا نريد فقط اسم الإسلام لنعلق عليه كل معاملة؛ مضاربة شرعية، مرابحة إسلامية.

    اذهب واقرأ في كتب سلفك: ما هي حقيقة المرابحة الشرعية التي اتفق العلماء عليها؟ وانظر في هذا الجديد الذي أُلحِق بذلك القديم، هل فعلاً تنطبق الصفات والأركان والشروط الموجودة في العقد القديم على هذا الجديد، أم أنه حُمِّل كلام العلماء ما لم يحتمل؟ ويأتي الشخص يفهم الشيء على حسب فهمه، ويفهم الباب على حسب ذوقه هو، بل وجدتُ مِن المتأخرين مَن يقول: لو تعارض عندي أصل يحرم وأصل يبيح في البيوع والمعاملات فإنني أتبع من يحلل، وهذا أصله بالاجتهاد أنه يبحث عمن يحلل، ولا يختلف عالم أن هذا النوع من الاجتهاد هو عين تتبع الرخص، الذي قال عنه العلماء: (من تتبع الرخص فقد تزندق).

    الشريعة فيها أصول محكمة، وسلفنا الصالح رحمة الله عليهم ما جاءوا بهذه المسائل مهدرة هكذا، إنما جاءت موزونة وبأصول صحيحة، فحَتْمٌ على كل طالب علم إذا أراد أن يتكلم في باب أو مسألة أن يردها إلى أصلها، وأن يعرف الأصول، وكان الوالد رحمة الله عليه يقول لي: (لن تستطيع أن تعرف فقه العالم إلا في باب المعاملات؛ لأن العبادات الأدلة فيها كثيرة، لكن الإشكال في المعاملات، قال لي: وإشكالُها في ربط الأصول بعضها ببعض، ولذلك تجد العالم -مثلاً- يقول: أغلِّب هنا شبهة الربح، ويقول: إعمال العقد أولى من إهماله، وأبقي العقد صحيحاً، وأقسم الربح) مع أنه يأتي في موضع ثانٍ من المعاملات ويغلِّب شبهة التحريم، ويلغي العقد، ويوجب فساده، فيتناقض في أصله، ولذلك لابد من التأصيل، ولابد لطالب العلم إذا قيل له: هذا قراض أن يسأل: ما هي حقيقة القراض؟ وإذا قيل له: هذا مرابحة أن يسأل: ما هي حقيقة المرابحة؟ حتى يكون على بصيرة وبينة من أمره.

    ونسأل الله العظيم أن يرزقنا ذلك. والله تعالى أعلم.

    ضوابط وأصول عامة في العقود

    السؤال: ما الأمور التي ينبغي أن يتعاطاها من أراد الشراكة؟ وما صفات الشريك المسلم؟

    الجواب: هذا السؤال يتعلق بباب الشركة كله؛ لكن هناك ضوابط وأصول عامة ينبغي التنبيه عليها في العقود مطلقاً، فمن أراد أن يشارك، أو أراد أن يبيع، أو أراد أن يتعامل في الإجارات أو العقارات فينبغي أن يسأل، وعليه أمور يجب أن يتعلمها:

    أولاً: الرجوع إلى العلماء:

    فقد أجمع العلماء على أنه يجب عليه الرجوع إلى العلماء، وأنه لا يجوز لأحد يتعامل بالشركات أو بالبيوع أن يأتي ويدخل إلى السوق ويفعل ما عنَّ له دون أن يسأل: هل هو حرام أو لا؟ ولا يجوز له أن يقدم على أي عقد حتى يسأل أهل العلم، وإلى الله المشتكى، حينما أصبحت الأمور تُعْرَف بالعُرْف، فالشيء المعروف هو الحلال، وحينئذ قَلَّ أن تجد من يسأل العالم، وقَلَّ أن تجد من يستشير أهل العلم أو يرجع إلى أهل العلم.

    ووالله إن القلوب لتتقرح حينما تجد التاجر إذا أراد أن يقيم أي صفقة أو أي عمل فإنه يبحث: مَن هو الخبير؟ ومَن الذي عنده معرفة؟ ومَن هو الذي يستشار؟ فأخذ يقلب في المستشارين ومَن يسألهم، ولا يمكن أن يجول بخاطره أن يسأل عالماً، أو يبحث عن حكم هذا؛ أحَلَّهُ اللهُ أو حَرَّمَه؟ وهذا من غربة الإسلام: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ).

    وكان العلماء يُقَدَّرون من الناس، وكان الرجل -ووالله إني أعرف أناساً في المدينة من كبار السن وأهل الفضل- لا يمكن أن يتعامل بأي معاملة في دكانه أو محله حتى يسأل العلماء، حتى إنه بعد وفاة الوالد رحمة الله عليه كنت أجالس البعض فيقول: سألت الشيخ عن مسألة كذا، وتكون المسألة غريبة، فوالله إنا كنا نستفيدها من العوام الذين ليس لهم إلمام بدقائق المسائل؛ لكنه سأل عن هذه المسألة العالِمَ فأفتاه فيها، فانتفع طلاب العلم بفتواه.

    وكانوا لا يقدمون ولا يؤخرون إلا بسؤال العلماء؛ ولذلك وضع الله لهم البركة والخير والرزق، حتى إن الرجل تجده في تجارته منذ أربعين أو خمسين سنة ناعم البال، مطمئن النفس، ولا تجد عنده القلق ولا الهوس ولا التعب ولا الاكتئاب ولا المصائب؛ لأنه لم يعرض عن الله، وكانت خطواته في تجارته مدروسةً بحكمة، مقرونة بسئوال أهل العلم والبصيرة، فبارك الله عمله وماله، هذا غير ما يكون منه من الصدقات والإحسان.

    أما اليوم فقَلَّ أن تجد من يسأل عالماً، والبعض إذا أراد أن يسأل العلماء تَتَبَّعَ مَن يسأل، وعَرَف مَن الذي يرخِّص، ومَن الذي يشدِّد، ومَن الذي يكون بين بين.

    فإذا اشتهى أمراً مخفَّفاً سأل عمَن يخفف له، حتى يجعله بينه وبين ربه، ليحمل -واليعاذ بالله- وزره يوم لقاء الله، والله لا يخطئ، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما للسائل لما سأله: (إن الله لا يخادع). فالله مطلع على الضمائر والسرائر.

    فتجده لا يحسن اختيار العالِمَ الذي يسأله، أما إذا أراد أن يبحث عن مستشار في ذوي الخبرة يستشيره في أمور المال أخذ يقلب في سيرته حتى يعرف أنه أهل للسؤال، لكن يتهاون في سؤال العلماء، فقد يأخذ الفتوى من كاتب عنده في تجارته؛ لأن الدين عنده رخيص.

    والشخص إذا لم يكن عنده خوف من الله سبحانه وتعالى ومراقبة واستشعار أن هذا المال سيُسأل عنه قليله وكثيره، وأنه لن تزول قدماه بين يدي الله -عزَّ وجلَّ- حتى يُسأل: هل أحل الله له هذا المال الذي أخذ، أو حرمه عليه؟ فإذا أصبح يستشعر أنه مسئول بين يدي الله، لربما وجدت العالم يفتيه بالرخصة فلا يقبلها خوفاً من الله سبحانه وتعالى.

    والعكس بالعكس، فتجده إذا أراد السؤال عن الأمور الدنيوية لا يسأل أحداً من أهل العلم، لا يسأل إلا أهل الثقة، ولا يستشير إلا من يؤتمن، ويتعب في السؤال، ولربما يسافر إلى أماكن بعيدة، كل ذلك من أجل أن يكون على بينة في تجارته، هذا لحظ الدنيا، بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:16-17] وإذا جاء ليسأل ربما دعا العالِمَ أن يأتيه، وهذه من العزة التي أصبح يعتز بها الناس على العلماء، وقَلَّ أن تجد إنساناً كبيراً أو عظيماً يرضى لنفسه أن يقف على باب العالِم أو يسأله، وأغرب من هذا أنه يطلبه أن يأتيه مع أنه هو صاحب الحاجة، ولا يجد من نفسه أن يذهب ويسأل، وإذا أراد أن يسأل عالماً بعث من يسأل، وقال لعامل من عماله، أو عامل في مكتبه، ولربما يكون من أبسط الناس: اذهب واسأل لي فلاناً، ولا تقل له أني أرسلتك، فكل ذلك اعتزاز على العالم.

    وهذا هو الواقع المر الذي نعيشه، ولما حُرِم الناسُ تقدير العلماء نزع الله البركة من حياتهم، فأصبحوا في الهم والقلق والاكتئاب، والمصائب والحوادث، والنكسات والفجائع، لما أعرضوا عن الله، فليس بين الناس وبين الله حسب ولا نسب، وإنما بينهم هذا الدين، وصفوة الله من خلقه لهذا الدين العلماءُ.

    فإذا أردت أن ترى عزة الإنسان فانظر إليه مع أهل العلم، فإذا نظر إلى أهل العلم أنهم مؤتَمَنون على دين الله فقدَّرهم وأجلَّهم رفع الله شأنه، حتى قيل في صلاح الدين الأيوبي ، وكم من أناس كانوا لهم فضل من قواد المسلمين ممن كان لهم عظيم البلاء؛ لكن هذا القائد جعل الله له من المحبة والقبول ما الله به عليم، فلو قرأت في سيرته لوجدت أن مجلسه لا يكون إلا بالعلماء، وكان لا يجلس المجلس ولا يبرم الأمر حتى يكون في مجلسه ما لا يقل عن عشرين عالماً يسأله.

    ومن عرف فضلهم فإن الله عزَّ وجلَّ يتأذن له بالمحبة والقبول، واقرأ في سير الناس فلن تجد تاجراً وضع تجارته بين يدي العلماء، فأصبح يتقدم إذا قيل له: تقدم، ويتأخر إذا قيل له: أحجم وتأخر، إلا بارك الله في رزقة، وبارك له في تجارته، ووضع الله له من المحبة بين الناس والتقدير على قدر ما جعل الله في قلبه من المحبة لأهل العلم.

    وهذه سنة من الله، من عرفها فقد عرفها، ومن لم يعرفها فسيعرفها.

    والعجب: أن بعضهم إذا ذهب إلى العالم ليسأله، أو إذا جلس في مجلس العالم يسأل تجده يعتز بنفسه أن يُشْعِر العالم أنه محتاج لعلمه، وهذا مَرَّ ورأيناه، وإن كان الواجب عليك كطالب علم لَمَّا ترى مثل هذه النوعية تزجره وتُشْعِره أنه يسأل ليعلم وليس أهلاً لأن يناقِش أو يعترض، فتجد البعض ممن يسأل -وهذا مَرَّ بنا كثيراً- يقول لك: عندي مسألة قد سمعتُ من يحرمها؛ ولكن في رأيي ليس فيها شيء ويعطيك الجواب قبل أن يسأل، ويعطيك الخلاصة قبل أن يستشكل ويستفتي، ولم يعد هناك تقدير لأهل العلم، ولا شعور بالحاجة إلى أهل العلم.

    وموسى عليه السلام يقول: قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف:66]، هل أتبعك؟ العلم لا يؤتى بالتكبر، وأهل العلم إذا تعالينا عليهم تعاظمنا على الدين؛ لأن العالم صاحب رسالة وأمانة، يحمل في قلبه كتاب الله وفي صدره سنة النبي صلى الله عليه وسلم ويحمل هذا النور والعلم، وكم من إنسان يكون من أذكى خلق الله ولا يستطيع أن يحفظ آية، ويقول: أتمنى حفظ القرآن ولا يُبَلَّغ، فمَن الذي وفق ذاك للحفظ وفتح عليه، وجعل صدره آيات بينات من العلم، وصرفه عن هذا مع أنه أذكى من ذاك العالِم؟ وإن الله يختار من يشاء.

    فمثل هؤلاء إذا أصبحنا نتعاظم ونتعالى عليهم حرمنا البركة، وإذا جاء الغني والتاجر وصاحب الشركة يسأل وكأنه يريد أن يفرض رأيه، ويريد أن يفرض ما يريد من التحليل، فحينئذ تذهب كرامة العلماء، ويصبح العلم أشبه بأنه آراء.

    ولذلك أصبح العلم في زماننا في كثير من الأحوال -إلا من رحم الله- إذا عرض للعامة يُعرض كرأي من الآراء، ولربما تُطرح القضية الدينية التي -والله- لو عُرضت على عالم من علماء السلف لجثا على ركبتيه خوفاً من الله أن يتكلم فيها، تُطرح للعامة، وكل يُدلي برأيه، فلربما تأتي مسألة موت الدماغ؛ هل هو موت أو لا؟ فيُستفتَى فيها كل أحد، ولربما تُنشر لكل أحد، ويؤخذ فيها رأي كل أحد؛ ولكن بين يدي الله عزَّ وجلَّ سيكون الموعد، ويعرف الناس فضل أهل العلم، وما أوجب الله عليهم من الرجوع إلى العلماء، وعندها يعرف الإنسان قيمة نفسه وقيمة غيره.

    فينبغي الرجوع إلى العلماء، وإشعار العلماء عند السؤال أنهم علماء وأنهم أمناء على دين الله، نسألهم بكل ذلة، وليست لهم بذاتهم وإنما لله، ونقول: أجبني! فإنه قد أشكل عليَّ الأمر، بصِّرني! جزاك الله خيراً، ونحو ذلك، فالعلماء لا يريدون بذلك إلا النفع والحق.

    فينبغي على المسلم الرجوع إلى العلماء وسؤالهم، واستفتائهم بالصورة التي تليق بحرمة العلماء، وتليق بمن يبحث عن الحق.

    ثانياً: التسليم:

    فلا ينبغي لأحد يقول له أحدٌ: قال الله، قال رسوله، إلا أن يقول: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285]، فلا يقول: رأيي، وفي نظري، وفي اجتهادي، وعلى طلاب العلم أن يزجروا أمثال هؤلاء السفهاء، وأن يقولوا لهم: دين الله ليس فيه مجال للرأي، وشريعة الله عزَّ وجلَّ ليس لكل أحد أن يقول فيها برأيه، ولذلك قال أبو الدرداء : (عذيري من رجل أقول له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول لي: ما أرى بهذا بأساً، والله لا أصحبك ليلة واحدة)، وترك معاوية رضي الله عنه بالشام حينما قال له حديثاً من رسول الله، فقال معاوية رضي الله عنه: (ما أرى بهذا بأساً، فقال له: والله لا أصحبك ليلة واحدة، ورجع إلى عمر وقال له المقالة، فقال له: ارجع إلى ثغرك فوالله لا خير في قوم لا تكون فيهم). كانت عنده الغَيرة على الكتاب والسنة.

    فينبغي علينا التسليم بعد الحكم.

    ثالثاً: الاستيثاق:

    فإذا جئنا نطرح المسألة للعلماء نطرحها بأمانة، فلا يطرح السائل المسألة وقد خفيت جوانب منها، ولا يحاول أن يحوِّر المسألة بطريقة ذكية تجعل العالِم يقتنع بجوازها، وبالتفصيل فيها، فعليه أن يتقي الله، وأن يطرح الأمر بكل أمانة، فإنه إن فعل ذلك وفق للرشد، وألهم الصواب.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755913479