إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الرهن [2]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من المسائل المتعلقة بباب الرهن: جواز رهن المكيل والموزون والمعدود بشرط أن يقبض، وما لا يشترط فيه القبض في بيعه، فلا يشترط القبض في رهنه، ومن تلك المسائل: عدم جواز رهن ما لا يجوز بيعه، فلا يرهن إلا ما يجوز بيعه، ومنها: عدم لزوم الرهن إلا بالقبض، ومنها: أنه لا يجوز للراهن ولا للمرتهن أن يتصرف في الرهن إلا بإذن صاحبه، ومنها: مسألة نماء الرهن وكسبه وأرش الجناية عليه ومئونته.

    1.   

    جواز رهن المكيل والموزون بشرط التقابض

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ويجوز رهن المبيع غير المكيل والموزون على ثمنه وغيره].

    تقدم معنا بيان مشروعية الرهن، وبيان الأركان التي يقوم عليها عقد الرهن، وبيّنا جملة من المسائل والأحكام التي صدّر بها المصنف رحمه الله باب الرهن، وشرع المصنِّف رحمه الله في هذه الجملة ببيان مسألة قبض الرهن، وعدم قبضه، فأول ما يقع بين المتعاقدين أن يقول الراهن: رهنتك كذا وكذا، فيُسمِّي الشيء الذي يريد رهنه، فإذا رضي من له الدين، قال: قبلت، فيقول -مثلاً-: رهنتك سيارتي، أو رهنتك داري، أو رهنتك أرضي، أو نحو ذلك مما يُقال بياناً للمرهون، فإذا بيّن لك الشيء الذي يريد أن يرهنه عندك حتى يُسدد الدين، فإن هذا الشيء ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون مما يُكال أو يُوزن أو يُذرع أو يُعد، وإما أن يكون من غير ذلك.

    فإن كان مما يُكال أو يُوزن أو يُعد أو يُذرع، فإن الرهن لا يتم ولا يكون إلا بالقبض، وبناءً على ذلك فلا بد أن يعطيك المكيل ويمكِّنك من قبضه، وهكذا الموزون، والمعدود، والمذروع قياساً، فإن كان المرهون مما لا يُكال، فإنه حينئذٍ يصح رهنه قبل قبضه، والأصل في اشتراط القبض أننا نوجب على من يريد أن يرتهن، أن يقبِض الرهن عنده، فإن الأصل في ذلك قوله تعالى: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283]، والأصل في هذه الأشياء التي تُجعل في الرهن، إنما جُعلت من أجل أن يبيعها، وعلى هذا فلا بد أن تُقبض إن كانت من جنس ما يُشترط له القبض، وأما إذا كانت من جنس ما لا يُشترط فيه القبض، فيصح أن يَرهَنها قبل قبضها، وعلى هذا فرّق العلماء رحمهم الله -على ضوء ما تقدم معنا-: بين ما يُشترط فيه القبض، وما لا يُشترط فيه القبض، فما اشتُرط فيه القبض في المبيعات، بحيث لا يصح بيعه منك إذا اشتريته حتى تقبضه كالطعام المكيل والموزون، فلا يصح أن ترهنه قبل القبض، والعكس بالعكس، فالشيء الذي لا يُشترط فيه القبض يصح أن ترهنه قبل قبضه.

    1.   

    جواز بيع المرهون عند العجز عن سداد الدين

    قوله: (على ثمنه)، فإن هذا المرهون حينما يوضع عند الشخص، إنما وُضِع من أجل أن يُسدَّد به الدين عند العجز، وتعذُّر السداد في الأجل، فلو استدان منك مائة ألف، وعجز عن سدادها، فإنه عن طريق هذا الرهن تقوم بأخذ حقك منه، وبناءً على ذلك يرهن على الثمن، ومن هنا فرّع العلماء مسائل الرهن على البيع؛ لأنه إذا عجز الشخص المدين عن سداد الدين، كان من حقك أن تأخذ حقّك من هذا الرهن؛ لأن المقصود من الرهن الوفاء وسداد الدين عند التعذُّر، أو الامتناع من السداد.

    1.   

    حكم رهن ما لا يجوز بيعه

    قال رحمه الله: [وما لا يجوز بيعه لا يصح رهنه].

    أي: أن كل شيءٍ يجوز بيعه في الأصل؛ فإنه يجوز رهنه، وكل شيءٍ لا يجوز بيعه؛ فإنه لا يجوز رهنه.

    والسبب في كون العلماء يجعلون المرهون مبنياً على المبيع: أن المقصود من الرهن عند العجز أن تقوم ببيع الرهن وأخذ حقك منه، أو يقوم القاضي إذا اشتكيت إليه ببيع الرهن وسداد الدين منه، أو يقوم العدل الذي نُصِّب من الطرفين ببيع الرهن وسداد الدين منه.

    وبناءً على هذا لو كان الشيء الذي وضعه عندك رهناً لا يمكن بيعه؛ أو لا يجوز بيعه، فإنه لا يمكن أن تتحقق الحكمة التي من أجلها شُرع الرهن، حيث أنك إذا عجزت عن السداد لم يستطع صاحب الحق أن يصل إلى حقه؛ لأن هذا الشيء الذي وضعته عنده لا يمكن بيعه، فمعنى ذلك: أنك وضعت شيئاً وجوده وعدمه على حدٍ سواء.

    وعليه فلا بد أن يكون الشيء الذي تضعه رهناً قابلاً للبيع، بمعنى أنه يجوز بيعه، ويصح بيعه، فلا يجوز رهن ما يحرُم بيعه، وذلك كالأعيان المحرّمة، وهي التي وردت في حديث جابر بن عبد الله : (إنالله ورسوله حرّم بيع الميتة، والخمر والخنزير والأصنام) فلو أعطاه ميتة رهناً، كحيوان محنَّط من جنس ما لا يذكى، وقال له: إذا عجزت عن سداد دينك فبع هذا الحيوان وخذ حقك، فإن هذا الحيوان إذا كان ميتةً لا يجوز بيعه، فلا يصح أن يكون رهناً.

    وهكذا إذا كان من الأعيان المباحة، ولكن يحرِّم الشرع بيعها لوجود الاستحقاق، كحق الله عز وجل في الوقف، فلو كان الشيء الذي يريد رهنه وقفاً، لم يصح أن يُرهن؛ لأن الأوقاف لا يجوز بيعها من حيث الأصل.

    وعليه قالوا: يُشترط أن يكون المرهون من جنس ما يجوز بيعه، وما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه؛ لأنه يفوِّت المقصود من الرهن.

    وهكذا لو رهنه أم الولد -على القول بعدم جواز بيع أمهات الأولاد- وكذلك بالنسبة للخنزير، والأصنام، ونحوها مما لا يجوز بيعه، قال بعض العلماء: ولو رهنه مجهولاً، كما لو قال له: أرهن عندك ما في داخل هذا الكيس، والذي في داخل الكيس مجهول، فإنه لا يصح رهنه، لكن لو كان الذي بداخل الكيس معلوماً، جاز الرهن وصح، ولو قال له: أرهنك الكيس نفسه، كأن يكون الكيس من جلد وقيمته مثلاً مائة ريال، فقال له: أعطني سلفاً مائة، وأرهن عندك هذا الكيس، صحّ.

    إذاً: لا يصح رهن المجهولات، ولا يصح رهن محرَّمات الأعيان: كالميتة، والخمر، والخنزير، والأصنام، وكل ما حرُم بيعه لا يجوز رهنه.

    1.   

    جواز رهن الثمر قبل بدو صلاحه بدون شرط القطع

    قال رحمه الله: [إلا الثمرة والزرع الأخضر قبل بدو صلاحهما بدون شرط القطع].

    تقدّم معنا في باب بيع الأصول والثمار، وبيّنا هناك حكم بيع الثمرة قبل بدو الصلاح، وبعد بدو الصلاح، وقلنا: إن الثمرة إذا بِيعت قبل بدو الصلاح لا يخلو البيع من ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يكون بشرط القطع، والحالة الثانية: أن يكون بشرط البقاء، والحالة الثالثة: أن يكون بيعاً مطلقاً.

    فلو كان عندك بستان وفيه نخل، وهذا النخل فيه ثمرة، وأردت أن تبيع الثمرة كما يسميه الناس: الصيف، أردت أن تبيع الصيف، وهذا الصيف لم يبدُ صلاحه، فإن قلتَ: خذ الثمرة بمائة ألفٍ، واشترط عليك أن تبقيها له حتى يبدو الصلاح، لم يجُز، وقلنا: إن ذلك بالإجماع.

    ولو قال له: بعني ثمرة بستانك هذه التي لم يبدُ صلاحها، ولكني سأقطعها، بمعنى أنني أريدها علفاً للدواب، فقلنا: يجوز في قول جماهير العلماء، خلافاً لبعض السلف، كما هو قول سفيان الثوري ، وابن أبي ليلى، كما تقدَّم معنا وبيّنا أن الراجح مذهب الجمهور، وهو أنه لو باعه الثمرة قبل بدو الصلاح بشرط القطع صحّ البيع؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حرّم بيع الثمرة قبل بدو الصلاح خوفاً من الآفة، لحديث أنس الذي في الصحيح: (أرأيت إن منع الله الثمرة فبم تستحل مال أخيك؟)، فإذا كان يريد أن يقطعها مباشرة، ويأخذها وهي خضراء علفاً للدواب، انتفت العلة.

    فهنا لو قال: أعطني مائة ألف ديناً، فقال له: أعطني رهناً كي أعطيك هذا القرض، فقال: أرهن عندك ثمرة بستاني إلى شهر -وثمرة البستان لم يبدُ صلاحها- وإذا انتهى الشهر ولم أسددك، فاقطع الثمرة وبعها، صحّ الرهن؛ لأنه يصح بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع.

    فإن اتفق معه على أن يقطع الثمرة، ورضي له بذلك، فلا إشكال، لكن يبقى الإشكال أن القاعدة: أن ما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه.

    فلو أنه قال له: أعطني مائة ألفٍ، وهذه الثمرة التي لم يبدُ صلاحها رهنٌ عندك، على أنني إذا لم أسدِّد انتظرت إلى صلاحها فبِعت وأخذت حقّك، فحينئذٍ لم يشترط القطع، فللعلماء قولان:

    قال بعض العلماء: لا يصح أن يرهن الثمرة قبل بدو الصلاح بغير شرط القطع، وهذا على الأصل الذي ذكرناه، وهو أنه إذا كانت الثمرة قبل بدو الصلاح وباعها بغير شرط القطع؛ لم يصح البيع إجماعاً، وهو البيع المطلق، وإذا كان لم يصح البيع فمعنى ذلك: أن الرهن غير صحيح.

    وقال بعض العلماء: يجوز أن يرهن الثمرة قبل بدو صلاحها بغير شرط القطع، كما درج عليه المصنِّف، وهو الوجه الثاني عند أصحاب الإمام أحمد رحمة الله على الجميع، وانتصر له غير واحد، وقالوا: إنه إذا لم يسدد المال فإنه يأخذ حقه من الثمرة، فإن فسدت الثمرة، فإنه لا ضرر على الإنسان؛ لأنه ليس البيع منصباً على الثمرة نفسها، فقالوا: إذا رضي صاحب الدين، وقال: إن يسَّر الله وصلحت الثمرة، فإنه حينئذٍ يكون حقي ببيعها، كان له ذلك، وهذا القول الذي درج عليه المصنِّف واختاره غير واحد؛ لأن العلة التي من أجلها مُنِع البيع ضعيفة في هذه الصورة، ولأن البيع لم يتم أثناء الدين، وأنت تعلم أنك إذا أخذت من صاحب المال مائة ألف، فإنه لا يستحق بيع بستانك إلا إذا عجَزت، وربما كان عجزُك بعد بدو الصلاح، ولذلك لا يُنظر إلى الحال، وإنما يُنظر إلى المآل. ثم لو أن هذه الثمرة تلفت، فإن حقّه لا يلغى؛ لأنه مُطَالِب بحقِّه كدينٍ، بخلاف ما إذا دفع النقد لقاء الثمرة، فالفرق بينهما واضح، وهذا القول الذي اختاره المصنِّف واختاره جمعٌ من العلماء، أوجه وأولى بالصواب إن شاء الله تعالى.

    1.   

    اشتراط القبض في لزوم الرهن

    قال رحمه الله: [ولا يلزم الرهن إلا بالقبض].

    العقد ينقسم إلى قسمين: عقدٌ لازم، وعقدٌ جائز.

    والعقد اللازم: هو الذي ليس من حق أحد المتعاقدين أو أحد الطرفين أن يفسخه إلا برضا الآخر، فإذا حصل من الطرفين الإيجاب والقبول لزِمهُما الإيجاب والقبول، والأصل فيه قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، فأنت إذا بِعت بيتك، وقال المشتري: قبلت، وافترقتما؛ لزمه أن يدفع الثمن، ولزمك أن تمكِّنه من البيت.

    إذا ثبت هذا فإنه يرد السؤال: لو أن رجلاً قال لك: أعطني مائة ألف، وخذ داري رهناً عندك، أو اجعل عمارتي رهناً عندك، أو اجعل سيارتي هذه رهناً عندك، فإننا إذا نظرنا إلى هذا العقد، فننظر: فإن قلتَ: قبلت ورضيت، وخذ هذه المائة ألف، واترك السيارة رهناً عندي، فللعلماء قولان: من العلماء فمن قال: إذا قلت له: أعطني مائة ألف، وهذه السيارة رهنٌ عندك؛ فإنه يلزمك أن تمكِّنه من السيارة فوراً، بمجرد العقد، وهذا هو مذهب طائفة من العلماء، منهم المالكية، فهم يرون أن الرهن لازم بمجرّد الصيغة، وهي الإيجاب والقبول، فلو أنك مباشرةً بعد أن قلت له: خذ السيارة، وقال: قبلت، ثم قلت: لا، خذ -مثلاً- البيت بدل السيارة، أو خذ -مثلاً- الأرض الفلانية بدل السيارة، لم يكن من حقك ذلك على هذا القول.

    فأصحاب هذا القول يرون أنك ملزم بالرهن بمجرد الإيجاب والقبول، وليس من حقك أن ترجع عنه مادام أنكما اتفقتما على تلك العين، فإن أردت أن تبدِّل فليس من حقك، كما إذا أردت أن تسحب السيارة فليس من حقك، وتسري عليه أحكام الرهن بمجرد الإيجاب والقبول، هذا القول الأول.

    القول الثاني: لا يلزم الرهن إلا بالقبض، وبناءً على ذلك فإنك إذا قلت له: أرهنك هذه السيارة، وقال: قبلت. فالإيجاب والقبول لا يكفي حتى يَقبِض السيارة، فإن قَبَضَها فإنه حينئذٍ يصير الرهن لازماً، ولو أنك قبل القبض عَدَلت عن الرهن، أو جئت ببدلٍ عنه، كان من حقك ذلك، وبناءً على هذا القول -وهو مذهب جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة، كما اختاره المصنِّف ودرج عليه- فإن الرهن يكون بالقبض، ولذلك قال الله عز وجل: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283]، فدل على أن صفة القبض مؤثرة في الرهن، وأن الرهن لا يكفي وحده ما لم يكن مصحوباً بالقبض، فلزومه متوقفٌ على القبض.

    وهذا القول هو الصحيح إن شاء الله، في كون الرهن لا يلزم إلا بالقبض، فإذا قال لك: أعطني مائة ألفٍ وسيارتي رهنٌ عندك، أو هذه مائة صاع من الطعام رهنٌ عندك، أو هذا الكيس من الطعام رهنٌ عندك، فإنه من حقه أن يَعْدِل ويُبدِّل مادام أنك لم تقبض، فإن قبضت لزمه الرهن.

    إذاً: القبض شرط، ولا يمكن أن يتحقق اللزوم بالرهن إلا بالقبض، فهل يكون القبض منك أو من الراهن؟ قالوا: ينبغي أن تستأذن الراهن، فلو أن السيارة كانت موجودة، ولم يعطك مفتاحها، ولم يمكِّنك منها؛ فإنك لم تقبض، أما إذا أذن لك وقال: خذها، فحينئذٍ تم الرهن بقبضك لمفتاحها أو ركوبك فيها، أو نحو ذلك مما يتحقق به القبض.

    هذه صورة ومثال للقبض. مثال آخر: لو قال له: أعطني مائة ألف دَيْناً إلى نهاية السنة، فقال: أعطني رهناً، فقال: هذه عمارتي رهنٌ عندك، فالعمارة لا تكون رهناً لازماً إلا إذا قبض صاحب الدين العمارة، والقبض في العمائر يكون بالتخلية، فإذا خلَّى بينه وبينها وأعطاه مفاتيحها فقد قبض، فلو عَدَلَ قبل ذلك لم يقع اللُّزوم، ولا يلزم الرهن حينئذ.

    وبناءً على ما سبق هناك فوائد:

    الفائدة الأولى: أن الرهن لا يكون لازماً إلا بالقبض، ومن حق الراهن الرجوع والتبديل، ومن حقه أن يرجع ويُبدِّل مادام أنه لم يَلزمه الرهن.

    الفائدة الثانية: أن هذا القبض إذا كان لازماً، يتوقف عليه لزوم الرهن على ظاهر القرآن: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283]؛ فإنه يُشترط أن يمكِّنَك أو يأذن لك صاحب الرهن بأخذه وقبضه.

    قالوا: فلو أنك أنت من عند نفسك أخذت الرهن بالقوة أو بالحيلة أو بالغفلة، دون إذنٍ منه، لم يَلزمه ذلك.

    إذاً: لا بد أن يكون القبض بتمكينٍ وإذنٍ من صاحب الرهن، فلو أنك من نفسك جئت وأخذت الرهن، كان وجود الأخذ وعدمه على حدٍ سواء؛ لأن الرهن عقد رفق، وعقود الرِّفق لا تلزم إلا بالقبض كالقرض ونحوه، وقد بيّنا أن هناك عقوداً يُقصد منها الغبن المحض، وعقوداً يُقصد منها الرِّفق المحض، وعقوداً يُقصد منها مجموع الأمرين.

    فالرهن من العقود التي يقصد بها الرِّفق؛ لأن المدين رفق بك فأعطاك الرهن لكي تستوثق من حقك، فليس من حقك أن تعتدي على ماله بأخذه دون إذنه، فهو من عنده أعطاك إياه رهناً، وإلا فالأصل أن تطالبه عند حلول الأجل بدفع المال، لكن هذا المال غير المال الذي أخذه منك.

    ومن المعلوم أنه إذا استدنتُ منه مائة ألف فإن الذي له عليَّ مائة ألف، وليس سيارتي ولا داري ولا مزرعتي ولا أرضي، وبناءً على ذلك يقول العلماء: ليس من حقه أن يعتدي على هذه الأملاك إلا بإذن من صاحبها، وعليه فإن لم يمكنك من القبض، كان قبضك لها بالاعتداء وجوده وعدمه على حدٍ سواء.

    إذاً: الفائدة الأولى: أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض لظاهر القرآن، والفائدة الثانية: أن القبض يُشترط فيه إذن المدين، أي: الذي عليه الدين.

    كيفية قبض الرهن

    وهنا مسائل:

    المسألة الأولى: لو قال لك: اقبض، وذهبت لتقبض، وقبل أن تقبض رجع عن إذنه، فإنه لا يصح قبضك، كما لو اعتديت مباشرة؛ لأن الإذن قبل تحقق الفعل والرجوع عنه يوجب بطلانه.

    المسألة الثانية: إذا ثبت أن القبض معتبر فكيف يتحقق القبض؟

    سبق أن بيّنا هذه المسألة، وقلنا: إن المبيعات منها ما يتحقق فيها القبض بالكيل إن كانت مكيلة، وبالوزن إن كانت موزونة، وبالعد إن كانت معدودة، وبالذرع إن كانت مذروعة، وبالمناولة إن كانت مما يُتناول، فلو قال لك: أعطني عشرة آلاف ريال ديناً، فقلت له: أعطني رهناً، فقال: أُعطيك هذه الجواهر؛ فإن هذه الجواهر التي هي رهن يكون قبضها بالمناولة، أي: تُناوَل باليد، فإذا ناوَلك إياها، ووقعت في يدك تم قبضها، ولو كانت في كيسها ووعائها فأعطاها لك تم قبضها، لكن المكيل لا يكون إلا بكيله، والمعدود بعدِّه، والمذروع بذرعه، على التفصيل الذي ذكرنا.

    وبناءً على ذلك يفرَّق في الأشياء بين ما كان من جنس المكيلات والموزونات، والمعدودات والمذروعات، وما يُتناول بالطريقة التي ذكرنا.

    والمعدودات: مثل الإبل، كأن يقول: أعطيك عشرة من الإبل رهناً، أو هذه الناقة رهنٌ عندك، فإنه حينئذٍ يُمَكَِّنك من قبضها، فإذا قبضتها أو قبضها وكيلك فحينئذٍ لزم الرهن.

    ولو كانت عمارة، فَقَبْضُ العمارةِ يكون بالتخلية، بأن يخلِّي بينك وبينها بإعطاء المفاتيح، فإذا أعطاك مفتاحها، أو خلَّى بينك وبينها للدخول والاستيثاق منها، كان هذا بمثابة القبض لها.

    وقس على هذا بقية الأمور، وهناك أشياء يكون قبضها بالعرف، فنرجِع إلى أعراف التجار في كيفية قبضها، وقد سبقت الإشارة إلى هذه المسألة في مسألة القبض في أوائل كتاب البيع.

    استدامة قبض الرهن شرط في لزومه

    قال رحمه الله: [واستدامته شرط].

    استدامة القبض شرط، أي: أن يبقى الرهن عندك، ويكون تحت يدك وفي حوزتك، فلو أنه أعطاك السيارة ثم جاء في يوم من الأيام وأخذ مفتاحها وقادها من بيتك أو من مزرعتك، وأخرجها من المكان الذي وضعتها فيه، فحينئذٍ يزول لزوم الرهن، فإن ردّها بعد ذلك رجعت لازمة بعد الرجوع.

    إذاً: استدامة القبض شرط في لزوم الرهن؛ لأن الله قال: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283]، وهذا الوصف لازم وباقي؛ لأن الرهن ليس بيعاً بحيث نقول: ننظر إلى ابتدائه؛ لأن بعض العقود ننظر إلى ابتدائها، وبعض العقود ننظر إلى مآلها، فالرهن ننظر إلى مآله؛ لأن الرهن لا يُراد لذاته، أنت حينما تعطي العمارة رهناً لقاء (مليون)؛ فإنك لم تقصد بيع العمارة (بالمليون)، وإنما قلتَ له: إن عجزت عن سداد (المليون) كان من حقك بيعها، ثم بعد ذلك تأخذ حقك، وعلى هذا فالعمارة في الأصل ملك للمدين، وعليه فليست في حكم المبيع من كل وجه، إنما هي بمثابة الاستيثاق، فلا بد أن تبقى تحت يد المرتهن؛ لقول الله عز وجل: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283]، فإن خرجت عنه خرجت عن وصف الرهن؛ لأنها لم تصل إلى المآل، بحيث بِيعت أو تُصُرِّف بها، وإنما هي باقيةٌ وأمانةٌ، وإذا سُحِبت منه زال اللزوم؛ لأن وصف القبض المستصحب في الرهن قد زال.

    خروج الرهن بالاختيار يزيل لزومه فإن رد عاد لزومه

    قال رحمه الله: [فإن أخرجه إلى الراهن باختياره زال لزومه، فإن رده إليه عاد لزومه إليه].

    قوله: (فإن أخرجه) أي: المرتهن صاحب الدين، أي: أخرج الرهن، فمثلاً: عندك سيارة، وجئت إلى رجل وقلت له: أقرضني عشرة آلاف ريال، فقال: أعطني سيارتك رهناً، فقلت له: هذه السيارة وهذه مفاتيحها رهن عندك وأعطني العشرة آلاف، فأعطاك العشرة آلاف. ثم بعد ذلك جِئتَ في يوم من الأيام فقلت له: يا فلان! عندي ظرف، وأريد أن أسافر إلى المدينة بأهلي، فهل تأذن لي أن آخذ السيارة؟ فقلت: خذها، فإذا أخرجتها فقد أخرجتها باختيارٍ منك ورضا منك، فيزول اللزوم، وأنت مأجور ومثاب على هذا الفعل، حيث قدرت ظرفه وأعطيته.

    لكن لو جاءك وقال: أريد السيارة لأسافر بها أو أذهب بها، فقلت له: لا أُعطيك؛ كأن تعرف أنه مماطل، أو رجل مخادع، ولم تأمن، فقلت له: لا أعطيك، فذهب، ولما نمت جاء إلى مكانها وأخذ المفتاح الذي عنده فقاد السيارة واستخرجها، فهل نقول: قد زال اللزوم؟ هنا خرجت بغير اختيارك، وفي هذه الحالة يكون قبضه لها غير لاغٍ لصفة القبض الأصلية، ويبقى الرهن كما هو؛ لأن الإخراج من اليد كان على سبيل القهر، والختل، والخلسة، وهكذا لو هددك فأخذها بالقوة والقهر، فإنه لا يزول وصف القبض، ولا تزول الأحكام، بل تبقى؛ لأن خروجه بغير اختيارك، والشرط أن يكون الخروج بالاختيار لا بالاضطرار.

    فإن كان الخروج بالإكراه أو بالغصب أو بالخلسة والخديعة، فوجوده وعدمه على حدٍ سواء.

    فقد اشترط رحمه الله وجود الاختيار الذي ينبني عليه اعتبار الإخراج، وعدم لزوم الرهن.

    وقوله: (فإن ردَّه إليه عاد لزومه إليه، أي: إن رد الرهن -كالسيارة- بعد أن قضى منه حاجته؛ رجع اللزوم إليه، أي: رجع الرهن إلى حكم اللزوم.

    1.   

    عدم نفاذ التصرف في الرهن من أحد الطرفين من غير إذن الآخر

    قال رحمه الله: [ولا ينفذ تصرف واحدٍ منهما فيه بغير إذن الآخر].

    قوله: (ولا ينفذ) النفاذ: السَّرَيَان، وهناك شيء يسميه العلماء: النفاذ والوقف، أي: هناك عقد نافذ، وعقد موقوف، والعقد النافذ: هو الذي تتوفر فيه الأركان والشروط المعتبرة، فيُحكَم بنفاذه وسَرَيانه، والعقد الموقوف: هو الذي تعترضه عوارض تمنع من سريانه، كما ذكرنا في بيع وشراء الفضولي، على القول بصحته، لكنه يبقى موقوفاً على إجازة المالك الحقيقي.

    ومعنى كلامه رحمه الله: أنه لا ينفذ تصرُّف أحدهما في الرهن، فلو أنك أخذت الرهن وقبضته، ودفعت للرجل عشرة آلاف ريال، ثم إن الراهن أخذ وثيقة الرهن -كصك البيت مثلاً- وباعه، أو أخذ استمارة السيارة وباعها، فإن هذا التصرُّفُ من الراهن في الرهن وعليه يد القبض تصرُّفٌ لاغٍ؛ لأن الرهن الآن لازمٌ وثابتٌ ومحتكرٌ لحق الأول، وهو صاحب الدين، فإذا تصرَّف صاحب الرهن في الرهن بالبيع مثلاً، فإنه حينئذٍ قد عَطَّل هذا العقد الشرعي، ولو كان بيع الرهن يصح، وهو مقبوض عند المرتهن؛ لانعدمت المصلحة من الرهن، ولأمكن لكل شخصٍ أن يحتال على غيره، فتراه يرهن أرضه، وسيارته، وعمارته، ثم يبيعها ولا يبالي.

    إذاً: لا ينفُذ التصرف في الرهن، فلو أن شخصاً أعطاك بيته أو عمارته أو مزرعته أو أرضه رهناً، وتم القبض المعتبر شرعاً؛ فَلَزِم الرهن، وفوجئت بعد شهر وقبل السداد وإذا بالراهن قد باع هذه العمارة، أو الأرض، أو المزرعة، فترفع قضيتك إلى القاضي، فتُقيم الشاهدين العدلين على أنها مرهونة، فينقض القاضي بيعه ويُلغيه، وحينئذٍ يُبقي العين مرهونة إلى تمام ما بين الراهن والمرتهن، فإن تمت مدة الدين وسدّد فالحمد لله، وحينئذٍ إن شاء باع وأتم صفقة البيع فلا إشكال، فالمال ماله، وأما إذا لم يسدد كان من حق القاضي أن يبيع العين سداداً للدين، كما ذكرنا.

    وعلى هذا فلو تصرَّف بالبيع، أو تصرَّف مثلاً في المنافع؛ فإنها تُحبَس، كما سيأتي، فلو أجَّر العمارة، أو أجّر المزرعة، فكل هذه المكاسب تُحبس في الرهن حتى يُسدَّد الدين؛ لأنه موقوف ومرهونٌ لحق، ومستوثق لدين، فلا يمكن أن يُتصرَّف فيه إلا بعد تمامه، هذا كله إذا تصرَّف الشخص المدين الذي هو الراهن.

    أما لو تصرَّف صاحب الدين، كما أعطيته سيارتك في عشرة آلاف ديناً، وفوجئت أنه قد باع هذه السيارة، ادعى أنها له وباعها، فإنه لا يصح البيع، وليس من حقه أن يُقدم على بيع الرهن إلا إذا تمت المدة ولم تسدد، فحينها من حقه أن يقوم بالبيع إن أذنت له، وإلا رفع إلى القاضي وباع.

    وقوله: (بغير إذن الآخر)، أي: إذا أذن الآخر له أن يبيع، كأن جاءه وقال: يا فلان! قد رهنت عندك سيارتي أو أرضي أو عمارتي أو مزرعتي، وأنا محتاج لهذه الأرض أن أبيعها وأتصرف فيها، وقال له: بعها، فحينئذٍ يكون برضا الطرف الآخر، ويصح البيع، ويزول الرهن؛ لأن البيع يفوِّتها من ملكية الراهن.

    وفي بعض الأحيان يبقى الرهن في جزئها، كأن يقول: يا فلان! لك عليّ مائة ألف، والعمارة التي رهنتها عندك قيمتها مائتا ألف، سأبيع نصفها وأبقي نصفها رهناً عندك، فقال: قبلت، فحينئذٍ يلتغي النصف المباع، ويبقى النصف غير المباع على الرهن، وقس على هذا من المسائل في المشاعات، كما تقدم معنا في رهن المشاع.

    حكم عتق الراهن للرهن

    قال رحمه الله: [إلا عتق الراهن فإنه يصح مع الإثم وتؤخذ قيمته رهناً مكانه].

    قوله: (إلا عتق الراهن) أي: يصح عتق الراهن مع الإثم؛ لأن العتق لا يُمكن تداركه، ولذلك عظَّم الله عز وجل أمر العِتاق والنذر والطلاق والنكاح، ومن هنا قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاث جدُّهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والعتاق -وفي رواية-: النذر)، فمن قال -وهو يمزح- لعبده: أنت حر، فإنه يُلزم ويُصبح حراً لوجه الله شاء أو أبى، ولو قال: كنت أمزح، فنقول: جِدُّه جِد وهزله جِد، ولو قال لرجل: زوّجتك بنتي، وهو يمزح، وقال الآخر: قبلت، فإنه يصير ملزماً بالنكاح؛ لأن جد النكاح جد، وهزله جد.

    وهكذا لو قال لامرأته -يمزح معها-: أنتِ طالق، فإنها تطلُق عليه؛ لأن جد الطلاق جد، وهزله جد، وهكذا لو نذر وقال -على سبيل المزاح-: لله علي أن أصوم غداً، أو أصوم شهراً، لزِمه، ولو قال: كنتُ أمزح، فنقول: جِدُّه جِد، وهزله جِد.

    قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أربع جائزات إذا تُكلِّم بهن: النكاح، والطلاق، والعتاق، والنذر).

    وعلى هذا فلو أنه تَلفّظ بالعتق فأعتق العبد المرهون، فإنه لا يمكنه أن يتدارك العِتق، ويأثم؛ لأنه تصرَّف على وجهٍ محرّم، ولأن هذا ليس من النصيحة للمسلم، وقد غشّ أخاه المسلم حينما جعل العبد رهناً عنده ثم فوّت عليه ذلك.

    وقوله: (ونؤخذ قيمته رهناً مكانه).

    فإذا اشتكى صاحب الدين إلى القاضي، وقال: فلان رهنني عبده، ثم أعتقه، قلنا: يسري العِتق، وإذا سرى العِتق بطل الرهن وفات، فماذا يفعل القاضي؟ هل يلغي العِتق؟ نقول: العِتق لا يُلغى، بل يقوم القاضي بإلزام المدين بوضع رهنٍ بديلاً عن الرهن، فمن العلماء من يقول: يكون ثمن العبد رهناً، ومنهم من يقول: يُنظر إلى الذي هو مثله، فيقوم مقامه، والأول أوجه وأقوى.

    والفرق بين القولين: أنه ربما كان الثمن أكثر، وربما كان مثله أو أقل، والعكس، وحينئذٍ تكون قيمة الرقيق رهناً عند صاحب الدين، فإن عجز عن السداد أُخِذ منها بقدر الدين وسُدِّد الدين، كما لو عجز وبِيع الرقيق سداداً للدين.

    فهذا الذي أعتق عبده إن كان قاصداً، فإن على القاضي أن يعزِّره؛ لأنه أذية للناس ومعاملة لهم بالغش، فإن القاعدة أنه إذا تعامل شخص مع أخيه المسلم بعقدٍ شرعي، فينبغي على كلٍ منهما رعايته، فإذا خدع أحدهما الآخر فعلى القاضي أن يعزّر الخادع بما يناسبه، وهذا يختلف بحسب اختلاف الأحوال والأشخاص والأزمنة والأمكنة، ويرجع فيه إلى العرف، وبابه باب التعزير، كما سيأتي إن شاء الله.

    1.   

    نماء الرهن وكسبه وأرش الجناية عليه

    قال رحمه الله: [ونماء الرهن وكسبه وأرش الجناية عليه ملحق به].

    بعد أن بين المصنف رحمه الله المسائل المتقدمة في الرهن، شَرَع في مسألة نماء الرهن.

    ومن المعلوم أن الرهن تارةً يزيد وتارة ينقص، فإذا رهن الشيء وهو على صفة، ثم زاد أثناء مدة الرهن، فهل الزيادة تكون للمالك الحقيقي أو تكون تابعة للرهن، أم أن هناك تفصيلاً في المسألة؟

    من أهل العلم من قال: كل زيادة في الرهن تُعتبر تابعة للرهن، وهذا مذهب الجمهور من حيث الجملة.

    والزيادة تنقسم إلى قسمين: زيادة متصلة، وزيادة منفصلة.

    فالزيادة المتصلة: مثل أن يعطيه بعيراً ويكون نحيفاً ثم يصير سميناً، وتصير حالته أفضل من حالته حينما وضعه عند الرهن، أو يعطيه الرهن وهو بحالةٍ ضعيفة، كأن يكون مريضاً، فيصبح صحيحاً، ونحو ذلك من الزيادات المتصلة بالرهن.

    وأما الزيادة المنفصلة: مثل أن يعطيه ناقة، ثم ظهر بها حمل، فولدت، فهل الولد يتبع الأم أو لا يتبعه؟ أو رهن عنده بستانه سنتين، وللبستان ثمرة، وهذه الثمرة هل تتبع قيمتها البستان فتكون رهناً، أو لا تتبع خلال السنتين؛ لأن البستان نفسه مرهون، وثمرة البستان خلال السنة قيمتها مائتا ألف مثلاً، فخلال السنتين ستكون أربعمائة ألف، فهل نقول: الأربعمائة ألف تُوقف ويمنع صاحب البستان منها، وتكون تابعة للبستان في الرهن؛ حتى يأتي وقت السداد، فإن شاء سدّد وإلا أُخِذ من الرهن على قدر الدين؟

    من أهل العلم من قال -كما ذكرنا-: إن الزيادة من حيث الجملة تكون تابعة، وبعضهم يرى أن الزيادة المتصلة تتبع، والزيادة المنفصلة لا تتبع.

    ومن حيث الأصول فإن الأشبه والأقوى أن الزيادة تابعة لأصلها؛ لأنه لما رهنه رهنه على جهة الاستحقاق والاستيثاق، وأصول الشريعة تدل على أن الفرع تابعٌ لأصله، فلو قلنا: إنها لا تتبع، فهذا يُشكل وتنبني عليه مسائل أُخر في أبواب أخرى، وتنخرم القاعدة، فالأصل الشرعي أن هذه الرقبة صلاحها وفسادها مرهون إلى أن يأتي وقت السداد، ويُتوصل عن طريقها إلى الحق، فإذا جاء وقت السداد وسدد للناس حقوقهم وإلا أُخذ منها، ونحن لا نظلمه، فإن ماله مردودٌ عليه، له حقُّه الذي في الرقبة، سواءً كان زائداً في الرقبة أو في النماء الموجود فيها.

    وعلى هذا: فإن إبقاء النماء والزيادة تابعة للأصل هو الأشبه والأقعد والأقيس والأقرب للأصول، فلمّا لم يرد دليل يستثني أولاد الأمهات، إذا رهن الأرقاء، ولا أولاد البهائم، وقد عُلم أن البهائم تكون رهناً، فلمّا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استثناء للفروع والنماء، دلّ على أنها باقية وتابعة لأصولها، وعلى هذا يُقال: إنه ينبغي إبقاء هذا النماء تابعاً لأصله.

    لكن لو كان هذا النماء لا يمكن حبسه، ويُحتاج إلى بيعه، مثل ثمرة البستان، كما لو أخذت ديناً مائة ألف، وقلت: سأسددها بعد خمس سنوات، وهذا البستان رهنٌ عندك، فإنك إذا رهنت البستان، فالثمرة خلال خمس سنوات لا يمكن أن نبقيها في النخلة؛ لأن بقاءها في النخلة ضرر وإفساد لها في بعض الأحوال، وبناءً على ذلك نقول: من حق صاحب البستان أن يقطعها ويبيعها؛ ولكن يُطالب بجعل القيمة مرهونة، هذا إذا كان النماء لا يمكن إبقاؤه، كثمرة البستان، فإنه لا يمكن أن تبقى إلى وقت السداد، فتؤخذ قيمتها مكانها، أما لو أمكن بقاؤها كأولاد البهائم، وأولاد الأمهات إذا رهن الأرقاء، فإنها تبقى على حالها ولا يُتصرَّف فيها، كما لا يُتصرف بالأصول والأمهات.

    وقوله: (وكسبه) أي: كسب الرهن، فلو أن رجلاً استدان منك ألف ريال، وقال لك: أعطني ألف ريال إلى نهاية السنة، فقلت له: أريد رهناً، فقال: ما عندي رهن إلا ناقتي، أو ما عندي رهن إلا سيارتي، أو ما عندي رهن إلا هذه الشاة، فرهن الشاة أو الناقة وقيمتها ثمانمائة ريال، فلمّا مضت الأيام أصبحت قيمتها ألفين، فجاءك وقال لك: أنا أعطيتك هذا الرهن وقيمته ثمانمائة ريال، وسأُعطيك بدلاً عنه رهناً بقيمته، فنقول له: لا، بل يبقى ويكون الكسب تابعاً للرهن أيضاً، ويبقى مضموناً إلى أن يأتي وقت السداد، فإن سددت فالحمد لله، وإن لم تسدد فلن نأخذ منك إلا قدر الدين الذي عليك.

    إذاً: النماء والكسب التي يكون في الرهن، كزيادة قيمته، أو يكون له منافع كرقيق، فقد كانوا في القديم يضعون العبد رهناً، فإذا كان العبد صاحب حرفة، ويريد أن يتكسب، فهذا الكسب تابعٌ للرهن.

    وعلى هذا قالوا: نماء الرهن وكسبه ملحق به.

    وقوله: (وأرش الجناية عليه ملحق به)، مثال أرش الجناية في القديم والجديد: في القديم يمثلون بالرقيق أو الدابة: فلو أن رجلاً جاءك وأعطاك ناقته، وقال: هذه الناقة رهنٌ عندك لقاء ألف ريال، ثم إن هذه الناقة جنى عليها إنسان، فأتلف يدها، وأُعطي لقاء التلف الموجود فيها خمسمائة ريال التي هي أرش الجناية، فأصبح هناك ناقة وأرش جناية عليها، فالأرش يُحبس مع الناقة.

    وفي الجديد نمثل بمثال معاصر: لو أن رجلاً قال لك: أعطني عشرة آلاف ريال ديناً، فقلت له: أعطني رهناً، فقال: أُعطيك سيارتي رهناً، فقلت له: قبلت، فوُضِعت السيارة أمام بيتك، في مكان محفوظ، فجاء شخص، وضرب السيارة بسيارته، وهذا التلف الذي أصاب السيارة قدِّر بثلاثة آلاف ريال، أرش جناية، فدُفِعت الثلاثة الآلاف، فنقول: هذا الأرش يكون تابعاً للرهن، ويبقى الأرش محبوساً مع السيارة حتى يأتي وقت السداد ويُحكم فيه. هذا هو معنى قوله: (أرش الجناية عليه).

    1.   

    تحمل الراهن مئونة الرهن

    قال رحمه الله: [ومئونته على الراهن].

    إن الله سبحانه وتعالى عدل، ولن تجد على وجه الأرض أكمل من هذه الشريعة، لا أكمل أحكاماً، ولا أحسن نظاماً: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام:115]، وهذه الشريعة ما دامت أصولها كاملة، ففروعها واجتهادات العلماء رحمهم الله المستنبطة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قمة في الكمال، والبهاء، والجلال، وقمة في العدل والمساواة.

    فكما أن هذا الرهن كسبه ونماؤه يكون لصاحبه ويُحبس، كذلك الغُرْم والأذيَّة والضرر يتحمّل مسئوليتها الراهن، ما لم يقصِّر من وُضِع عنده الرهن تقصيراً يكون سبباً في الأذية، أو سبباً في حصول الضرر؛ فحينئذٍ يتحمل مسئوليته.

    ومن هنا قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يغلق الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه، ) (لا يغلق) أي: يكون الذي دفعته: سيارتك، وأرضك، وعمارتك، ومزرعتك، ودوابك، وعبيدك ونحو ذلك مما دفعته في الرهن، إن صار له كسب ونماء؛ فإنه يُحفظ مع رهنك، وليس لمن له الدين، ولو أنه حصل للرهن ضرر وآفة سماوية، أو ضرر بدون تعدي ممن وضعت عنده الرهن، فإنك تتحمل أنت مسئوليته، ويكون النقص عليك، وقوله عليه الصلاة والسلام: (له غنمه وعليه غرمه)، فالذي يغنَم يغرم، وهذا هو عين العدل.

    ومن هنا قال صلى الله عليه وآله وسلم -يقرر هذه القاعدة في حديث أبي داود -: (الخراج بالضمان)، يعني: الربح لمن يضمن الخسارة؛ إذ ليس من العدل أن نقول: ربح الرهن يكون لصاحبه، ولو حصل على الرهن ضرر أو أذية فإنه يكون على المرتهن، فإن هذا من الظلم، ومن هنا عدلت الشريعة بين الناس، فالغنم بالغرم.

    ومن هنا قال العلماء في القاعدة المشهورة: (الخراج بالضمان) وقولهم: القاعدة: (الخراج بالضمان) ما هو إلا تأدباً مع حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

    وحديث: (الخراج بالضمان) أجمع العلماء على متنه، والعمل به، كما حكى ذلك الإمام أحمد رحمه الله وغيره.

    ومنهم من يقول: (الغنم بالغرم) ، يعني: الغنيمة لمن يتحمل الخسارة، أي: يأخذ النتاج والربح والنماء من يتحمل الخسارة.

    وعلى هذا: فإن الراهن هو الذي يأخذ النماء، وعليه البلاء، أي: إن حصل نقصٌ تحمّله، وإن حصلت زيادة كانت له.

    تحمل الراهن كفن المرهون وأجرة المخزن إن احتاج إلى حفظ

    قال رحمه الله: [وكفنه وأجرة مخزنه].

    قوله: (وكفنه) إذا كان الرهن عبداً فمات، فقيمة الكفن على الراهن.

    وقوله: (وأجرة مخزنه) مثلاً: أعطاك رهناً واحتاج إلى وضعه في مخزن، فإن أُجرة المخزن تكون على الراهن، وليس على صاحب الدين؛ لأن الرهن في الأصل لمن عليه الدين، وعلى هذا يكون متحمِّلاً لأجرة حفظه.

    وقد قلنا: إن القبض إذا كان معدوداً فإنه يحتاج إلى عد، فهل تكون أُجرة العد على الراهن أو على صاحب الدين؟

    قالوا: تكون أجرة العد على الراهن، فهو الذي يتحمل أجرة العد.

    وإذا كان منقولاً يحتاج إلى نقله إلى بيت المرتَهَن، فهل يكون النقل على المرتَهَن أم على الراهن؟ قالوا: يكون النقل على المرتهن.

    1.   

    الأسئلة

    حكم أجرة الطبيب إذا لم يشف المريض

    السؤال: لو أن رجلاً دفع مبلغاً للطبيب؛ وذلك من أجل العلاج للمرض، فإذا لم يُشف المريض، فهل يُلزم الطبيب برد المبلغ للمريض أثابكم الله؟

    الجواب: هذه المسألة فيها تفصيل من حيث الأصل، فإن المهمات والأعمال الطبية تنقسم إلى أقسام: فهناك مهمات تُطلَب من الطبيب، أو من مساعد الطبيب، أو من الممرض، أو مَن يتوكَّل عنهم، وهي إدارة المستشفى، فتطلب هذه المهمات بغض النظر عما تتضمنه، مثلاً كالتحاليل، وتصاوير الأشعة، ونحوها مِن المهمات الظاهرة التي يقوم بها الطبيب والممرض، ونحوهم من مساعدي الأطباء، فهؤلاء يقومون بهذه المهمة على وِفق ما طُلِب منهم، فهذه لا دخل لها بمسألة الشفاء وعدمه.

    لكن الطبيب إذا دخل عليه المريض، وقال له: افحصني، فقام بفحصه، وتعاطى أسباب الفحص الواجبة عليه طبياً، وقام بها على وفق الأصول المتبعة عند أهل الاختصاص، وأدّاها على وجهها، ثم بعد ذلك شخّص المرض، فإنه إن استأجره من أجل التشخيص، وأصاب في تشخيصه؛ كان المال من حقه، وأما إذا كان أخطأ في التشخيص، فإنه يتحمل مسئولية الخطأ، كأن خرج عن الأصول المتبعة عند أهل الاختصاص، أو خمَّن، أو ما إلى ذلك.

    مثال ذلك: هناك أنواع من المرض لا يمكن للطبيب أن يحكُم بوجودها إلا بعد أن يستعين -بعد الله عز وجل-بالفحص بالوسائل المتبعة عند المختصين، وهناك نوعان من العوارض: العوارض الظاهرة، والعوارض الباطنة، فيمكن أن يشخِّص أنها قرحة بالاحتمال، فإذا جاءه شخص وقال: أشعر بألم في هذا المكان، وأشعر بحموضة، وأشعر بكذا وكذا، وجاء بالعلامات التي تسمى: بالسريرية؛ والفحص السريري هو الذي يكون في البداية، فهذا يمكن أن يكون احتمالياً، فيحتمل أن تكون قرحة أو غيرها، فقال: أنت مصاب بالقرحة، وشخَّص على أنه مصاب بالقرحة، مع أن بإمكانه التصوير بالأشعة؛ لكي يتحقق هل هو مريض بالقرحة أم لا؟ فأعطاه الدواء على أنه مريض بالقرحة دون أن يتبع الأصول المتبعة عند أهل الاختصاص؛ من إحالته إلى التصوير بالأشعة، أو أن يحلل له دماً أو نحو ذلك، للوصول إلى معرفة المرض الذي لا يُتوصَّل إلى الجزم به أو غلبة الظن إلا عن طريق هذه الوسائل، فإن قصَّر على هذا الوجه، وشخَّص بالطريقة الأولى، التي هي التمهيدية، أو الفحص السريري، أو الفحص المبدئي، فإنه حينئذٍ إذا أخطأ تحمّل مسئولية الخطأ، وسقط استحقاقه في الأجر؛ لأن هذا الفحص الذي قام به ليس على الوجه المتَّبَع، وليس على أصولٍ متَّبعة.

    أما لو أنه قام بتعاطي الأسباب، وبذل جهده، وفعلاً وُجِدت الأمارات والدلائل، وبنى عليها، فلا إشكال، وإن كانت الدلائل محتمِلة فخالف أصول المهنة، كأن تأتي صورة ليست بواضحة، فالأصول المتَّبعة عند أهل المهنة: أنه إذا جاء التصوير بالأشعة مثلاً غير واضح؛ فإنه يطَالب بإعادته، فلم يعد التصوير، وقال: هناك احتمال في الصورة أن عندك مرض كذا، ثم أعطاه دواءً بناء عليه، فإنه يتحمل المسئولية إذا تبيّن أنه ليس عنده هذا المرض.

    إذاً: مدار المسألة: أنه إذا بذل ما يجب عليه بذله، واتبع الأصول المتبعة عند أهل الاختصاص، ولم يجازف بالمريض، ولم يعرِّضه للخطر، فحينئذٍ يكون من حقه أن يأخذ أجرة مثله، أو ما اتُّفِق عليه.

    لكن لو قلنا: إنه أخطأ وقصَّر، وخرج عن الأصول المتبعة عند أهل الاختصاص؛ فإنه يكون هناك أمران:

    أولاً: أنه قام بغير العمل الذي ينبغي القيام به؛ لأن المريض ائتمنه فيما بينه وبين الله، وحمّله المسئولية أن يتقي الله عز وجل فيه فيعامله معاملة المثل، فإن خرج عن هذه الأمانة، فقد خرج عن مقتضى العقد بينهما، ومن هنا لا يستحق الأجرة، بل وتترتب عليه مسئولية الدنيا بمحاسبته ومعاقبته ومطالبته بضمان ما ترتّب على خطئه، وتترتب عليه مسئولية الآخرة إذا لم يتب الله عز وجل عليه، فيعاقَب عقوبة الدنيا وعقوبة الآخرة.

    وهناك شيء قريب من الإجارة الطبية، وهي مسألة القراءة بالقرآن، فبعض العلماء يجعلها من باب الجُعل لا من باب الإجارة، وهناك فرق بين الجعل والإجارة؛ لأن الحديث في الصحيح: (اجعلوا لنا جعلاً)، فإذا قلنا: إن القراءة بالقرآن على المرضى والمصروعين والممسوسين جُعل؛ فيكون الأمر فيها أشد، فإذا قرأ القارئ على المريض، فإنه لا يستحق المال إلا إذا شُفي؛ لأن النص الذي ورد باستحقاق أخذ الأجرة على القراءة بالشفاء، وإنما أخذ الصحابة رضوان الله عليهم الأجر بعد الشفاء.

    ومن هنا فكون بعض القراء يفتحون عيادات، فتجدهم يأخذون مبالغ كالرسوم قبل أن يقرءوا على المرضى، فهذا لا يخلو من نظر؛ لأنه لا يتأتى فيه الجعل وإنما هو إجارة، وليس هذا من ضرب الإجارة، وإنما تكون القراءة هبة من الله سبحانه وتعالى: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)لمن قرأه فأعطاه حقه، وجعل الله عز وجل ثمرة هذا التوجه إليه سبحانه وتعالى بقراءة القرآن الإخلاص، فإنه يجعل له أجر الدنيا والآخرة، فيجعل له عاجل البشرى من الدنيا إذا أُعطي شيئاً أن يأخذه للسُّنة، وإن أحب أن لا يأخذ وأن يختار أجر الآخرة: قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ [سبأ:47]، فهذا أكمل وأعظم أجراً، وهو أوجب لنزول البركة له إلى أن يقبضه الله عز وجل، فقلّ أن تجد قارئاً لا يأخذ من الناس إلا وتأذَّن الله ببقاء البركة والخير في قراءته.

    فكون القراء يفتحون العيادات، ويكون هناك أناس يقبضون أجرة معيّنة، ويجلس معهم الجلسة الأولى لكي يبين أنه ممسوس أو مسحور أو كذا، فهذا أمر فيه توسُّع، ويحتاج إلى إعادة نظر ودراسة شرعية، يحصل من لقائها الحكم بأن هذا عمل شرعي؛ لأنها تصبح أشبه بالتكسب الدنيوي المحض.

    ومسألة: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)إنما هو في جُعل، والجُعل ثابت في النص، قال: (اجعلوا لنا جُعلاً)، ومن قواعد الشريعة أن ما كان من باب الجعل فلا يستحق إلا بعد تمام الشفاء الكامل؛ لأن الجُعل يخالف الإجارة، وسيأتينا هذا، وهذا مقرر عند العلماء: أن الإجارة تُستحق شيئاً فشيئاً، فلو قام بنصف العمل، فإنه يستحق نصف الأجرة، لكن في الجعل لا يستحق شيئاً حتى يأتي بالعمل كاملاً، فإن كان قد جعل له جُعلاً على أن يقرأ على مريضه فيُشفى، فلا يستحق إلا إذا شفي المريض.

    ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يُلهمنا الصواب في القول والعمل، وأن يعصمنا من الزلل.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756567691