إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب صفة الصلاة [2]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إذا قام المصلي إلى الصلاة فإنه يبدأ بتكبير الإحرام، ولها صفة معلومة، ثم يضع يمينه على شماله، وصفة الضم معلومة مفصلة، ولها حالات مذكورة في موضعها، ثم ينظر إلى موضع سجوده، ويقرأ دعاء الاستفتاح، وله ألفاظ عدة واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.. ثم يتم صلاته على هذا النحو الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    ما يفعله المصلي حال قيامه في الصلاة

    وضع اليمين على الشمال ومحلهما حال القيام في الصلاة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ثم يقبض كوع يسراه تحت سرته].

    بعد أن يفرغ الإنسان من التكبير والرفع فالسنة له أن يجعل يمينه على شماله، وهذا ثبتت به الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وترجم له الأئمة والحفاظ في كتب الحديث.

    وقال بعض أهل العلم: بلغت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع اليمين على الشمال في الصلاة مبلغ التواتر، أي أنها متواترة بوضع اليمين على الشمال، وهذه هي السنة، وخالف في هذا بعض المالكية رحمة الله عليهم فقالوا: إنه يطلق يديه ويرسلهما إلا في النافلة، وقالوا: في النافلة لا بأس أن يقبض أما في الفريضة فلا، وهذه المسألة تعرف بمسألة الإرسال، وفيها لبسٌ ينبغي لطلاب العلم أن يتنبهوا له، حتى يحصل منهم التوجيه لمن يرسل يديه في صلاته اعتماداً على القول في مذهب المالكية.

    ووجه ذلك أن الإمام مالكاً رحمه الله قال في موطئه: (باب وضع اليمين على الشمال في الصلاة)، فبوب رحمه الله لوضع اليمين على الشمال في الصلاة، وكان عبد الرحمن بن القاسم العتقي من أصحاب مالك المصريين رحمة الله عليهم أجمعين، فسافر إلى مالك، وقرأ عليه الموطأ، وحمل عنه مذهبهم وعلمه، ثم رجع إلى مصر، وتوفي مالك، فقدم أسد بن الفرات من المغرب لأجل أن يسأل عبد الرحمن بن القاسم، وكانت نيته حينما سافر من المغرب أن يلقى الإمام مالكاً، وأن يتتلمذ عليه، فلما وصل إلى مصر توفي الإمام مالك ، فلما أخبر بوفاته سأل: مَنْ مِنَ أصحابه أخذ علمه؟ فقالوا: عبد الرحمن بن القاسم ، فلزم عبد الرحمن وقال له: إني سائلك عن مسائل، فما كان فيها من قول مالك فأفتني به بقوله، وما كان لا قول له فيه فأخبرني بالأشبه، أو اذكر أشبه الأقوال بقوله، وذلك لأن عبد الرحمن بلغ مبلغ الاجتهاد في قول مالك رحمه الله؛ لأنه أخذ عنه الفقه وتتلمذ عليه، فسأله عن مسائل، ثم ارتحل أسد إلى المغرب، فجاء رجل يقال له: سحنون واسمه عبد السلام فسأل أسد بن الفرات أن يعطيه المدونة من أجل أن يأخذها ويدون ما فيها من المسائل والعلم، فامتنع أسد من إعطائها له، فضن بها عليه، فقال له: هذا علم، ولا يجوز لك أن تحفظه، فاشتكاه إلى القاضي، فأمر القاضي بها لـأسد؛ لأن أسداً قال: الكتابُ كتابي والقلم قلمي والمداد مدادي وسحنون يقول: إنه علم ولا يحل كتمه، فحكم القاضي أنها لـأسد، وله أن يعطيها من شاء ويمنعها من شاء، فارتحل سحنون إلى عبد الرحمن بن القاسم وأخبره بالقصة، فغضب عبد الرحمن، وسأله سحنون عن المسائل، وهي الموجودة الآن في كتابه (المدونة)، وفيها مسائل لـعبد السلام الذي يسمى سُحنون وكان مما سأل عبد الرحمن أنه سأله عن القبض، فقال عبد الرحمن بن القاسم : سألت مالكاً عن القبض فقال: لا أعرفه، ولا بأس به في النفل وأكرهه في الفرض. فهذه العبارة قالوا: المراد بها وضع اليمين على الشمال وأنه لا بأس به في النفل ويُكره في الفرض.

    والواقع أن هذه العبارة ليس لها علاقة بوضع اليمين على الشمال؛ لأن هناك شيئاً يسمى وضع اليمين على الشمال، وشيئاً يسمى القبض، وهو الزائد عن الوضع، فالإمام مالك رحمه الله روى الحديث في موطئه، ولا يمكن أن يقول قائل: إن مالكاً يقول: لا أعرفه. فهو قد رواه في موطئه، وهذا لا يمكن أن يكون بحال، والمراد بهذا القبض الأخذ؛ لأن بعض السلف يقول: إنما السنة أن تضع اليمين على الشمال وأما القبض فهذا فيه نوع من الراحة، ولذلك عندما تنظر إلى العبارة الواردة المدونة فسياقها في الاعتماد، والاعتماد في النافلة جائز، ولكنه في الفريضة مكروهٌ وممنوع، وقد يعبر بالكراهة ويراد بها المنع، فلذلك قال: لا بأس به في النفل وأكرهه في الفرض.

    فلو صليت في التهجد أو أطلت في قيام ليلك، فحينما تتهجد دون أن تقبض تتعب، فبمجرد ما تمضي عليك ربع ساعة وأنت واضع يدك اليمنى على الشمال تجد التعب والعناء، لكن حينما تقبض ترتاح، فأصبح فيه نوع اعتماد، فهذا من دقة مالك رحمه الله في تحري السنة، فليست العبارة لها علاقة بوضع اليمين على الشمال البتة؛ هل يمكن أن يقول في موطئه: (باب وضع اليمين على الشمال في الصلاة)، ثم يقول: لا أعرفه؟! وفي هذا الوضع أكثر من أربعين حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه وضع وأمر بالوضع، حتى قال: (أُمرنا معاشر الأنبياء أن نأخذ بأيماننا على شمائلنا في الصلاة) .

    فالسنة وضع اليمين على الشمال في الصلاة، وأما بالنسبة للقبض فأخذوه من قوله: (أن نأخذ)، والأخذ فيه زيادة معنى، فإنك لا تأخذ الشيء إلا إذا استحكمت يدك به، فلما قال: (أن نأخذ بأيماننا على شمائلنا) دلّ على هذه الزيادة، والإمام مالك لم يرو هذا الحديث، واقتصر على الأحاديث التي فيها وضع اليمين على الشمال، فكان من فقهه تسويغ ذلك في النافلة دون الفريضة.

    وإنما أحببنا التنبيه على هذا حتى لا ينسب إلى الإمام مالك رحمة الله عليه، ويكون طالب العلم على بينة إذا اعترض عليه معترض فقال: هذا قول الإمام مالك، فليقل له: إن الإمام مالكاً رحمه الله ذكر هذا في المدونة، وقال: باب وضع اليمين على الشمال في الصلاة، وقد قال رحمه الله: (إذا وجدتم قولي يخالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضربوا بقولي عرض الحائط وخذوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وقال: (كلٌ يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر -وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم-) فكلٌ يؤخذ من قوله ويرد، ولو صح عنه فالحجة في السنة، ونقول: لو كان الإمام مالك لا يرى القبض لعدم ورود الحديث عنده، فإنه يعتذر له بعدم العلم به، ويبقى سنة لورود الخبر من طريق غيره، ولذلك فالسنة وضع اليمين على الشمال في الصلاة، وهذا الوضع -كما قلنا- ثبتت به الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    قبض كوع اليسرى تحت سرته

    يقول المصنف رحمه الله بعد أن ذكر الوضع: [ثم يقبض كوع يسراه تحت سرته].

    هذا وجه في محلهما، وفيه أثر عن علي رضي الله عنه -وهو غير صحيح- في وضع اليدين تحت السرة، وهو مذهب الحنفية أيضاً.

    والصحيح أن السنة وضعهما على الصدر، وثبتت به الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يبالغ في رفعها في الصدر حتى يصل إلى الرقبة؛ لأن هذا ليس بالسنة، وإنما السنة أن تكونا على الصدر، وذلك على القصد دون تكلف، وإذا وضعها قال بعض العلماء: يقبض يمينه على شماله جهة قلبه؛ لأنه أشرف الأماكن ولا وجه لهذا التخصيص، والسنة مطلقة، فإن الإنسان يضع يمناه على يسراه على صدره كما ورد في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا هو السنة والذي يستحب للإنسان أن يتحراه، وإن وضع الكف على الكف فقد ثبت وضع يمينه على شماله على ظاهر الحديث، وإن وضعها على الرسغ -وهو المفصل الذي يكون بين الكف والساعد- فحينئذٍ لا حرج، وإن وضعها على الساعد فلا حرج، والناس يختلفون على حسب اختلاف الأماكن ضيقاً واتساعاً، وإن أراد الإنسان أن يفعل هذا مرةً ويفعل هذا مرةً ويفعل هذا مرةً فكل ذلك سائغ، وكلٌ على خير وسنة، ولا حرج على الإنسان في فعله.

    لكن الأخذ بالمرفق يعتبر من المخالف للسنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه أنه وضع أو ألقم كفه الأيمن مرفقه الأيسر، فهذا ليس من السنة في شيء، وهكذا لو عكس.

    والسنة في وضع اليدين أن تكون اليمنى هي العليا واليسرى أسفل، وليس من السنة وضع اليسرى على اليمنى، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما رأى الرجل وضع يسراه على يمناه نزع، فجعل يمناه على يسراه)، وهذا تشريف وتكريم، ويدل على فضل اليمين على اليسار.

    وقد أخذت منه فائدة، وهي خلاف العلماء رحمهم الله: هل الأفضل في الميت إذا كفن في ثلاثة أثواب أن يكون أحسنها جمالاً مما يلي الميت، أو الأفضل أن يكون من خارج لمنظر الناس؟

    فالذين يقولون يكون من الخارج قالوا: الأفضل يكون الأعلى، ولذلك لما أريد تشريف اليمنى جعلت هي الأعلى، مع أن اليسرى وليت البدن، وكذلك الأفضل في الكفن أن تكون العليا هي الحسنة، إضافةً إلى أنه جمالٌ له أمام الناس، وأبلغ في زينته لكفنه، وأجمل له في حاله، فهذه من المسائل التي خرجت على ما ذكرنا؛ لأنه لما جعل عليه الصلاة والسلام اليمنى على اليسرى دل على أن الأعلى أشرف وأفضل وإن كان الأدنى والياً للبدن أو مباشراً.

    نظر المصلي إلى مكان سجوده

    قال رحمه الله تعالى: [وينظر مسجده].

    السنة للإنسان إذا صلى أن يرمي ببصره إلى مكان سجوده، والمسجد: مكان السجود، على وزن (مَفْعِل)، والمراد به موضع سجوده، وذلك لما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه رمى ببصره إلى موضع سجوده)، وكان إذا تشهد رمى ببصره إلى إصبعه وهو يشير بها صلوات الله وسلامه عليه لا يجاوزها، فقال: السنة في القيام الرمي بالبصر إلى موضع السجود.

    أما إذا ركع فقال بعضهم: يرمي ببصره إلى رؤوس قدميه؛ لأنه أبلغ في الذلة وقال بعضهم: إلى موضع السجود. والأولى: الكف في هذا حتى يثبت الخبر، ويترك الناس على سعة ولا يحدد لهم شيءٌ معين؛ لأنه لا تحديد من الشرع.

    فالسنة أنه إذا قام يرمي ببصره إلى موضع سجوده، لكن لو رمى ببصره إلى أمامه، إلا أن يكون في اضطرار كالخوف في صلاة الخوف، فلا بد أن يرمي ببصره أمامه، فالله عز وجل حينما قسّم طوائف المؤمنين في القتال في صلاة الخوف إنما شرع أن تكون الطائفة الثانية قائمة وراء الطائفة الأولى عندما تسجد من أجل مراقبة العدو، ففي هذه الحالة لا يكون من السنة الرمي بالبصر إلى السجود، وهذا من باب تقديم مصلحة فوات الأنفس على الخشوع المتعلق بالصلاة، فهذه من صورها ومن أمثلتها، وقد ثبت في حديث عباد بن بشر أنه لما صلى رمى ببصره إلى الشعب يحرسه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، لكن اختلف العلماء: هل الأفضل أن يرمي المصلي إلى موضع سجوده أو ينظر أمامه؟

    قال بعض العلماء: الأفضل أن يرمي ببصره إلى موضع سجوده، لما ذكرناه وقال بعضهم: الأفضل أن يرمي ببصره قِبَل وجهه، وذلك لقوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144] قالوا: فهذا يدل على أن وجهه يكون إلى جهة القبلة، وأنه لا يرمي ببصره أكثر. وأكدوا هذا بما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم -وهو في الصحيح- أنه قال: (أميطي عنا قِرامَك، فإنه ما زالت تصاويره تُعرض عليَّ آنفاً حتى ألهتني عن صلاتي) قالوا: هذا يدل على أن القرام كان ستراً ولا يمكن أن يراه عليه الصلاة والسلام إلا إذا رفع بصره، فدل على أنه كان يرفع بصره.

    والذي يظهر والله أعلم أن السنة أن يرمي ببصره إلى موضع السجود، وأنه لا حرج أن يرفع بصره أحياناً؛ لأنه قد يدفع إنساناً ماراً أمامه، وقد يحتاج إلى شيءٍ من هذا القبيل، أما السنة فرمي البصر إلى موضع السجود.

    1.   

    ذكر دعاء الاستفتاح

    قال رحمه الله تعالى: [ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك].

    هذا دعاء الاستفتاح يقوله بعد أن يفرغ من التكبير، فيضع يمناه على يسراه ويقول: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك) ودعاء الاستفتاح مشروع، وهو قول الجماهير، خلافاً للإمام مالك رحمةُ الله عليه الذي لا يراه، والصحيح أنه سنة، وقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم بدعاء الاستفتاح أكثر من حديث.

    منها حديث أبي هريرة في الصحيح، وحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في السنن، وكذلك أيضاً حديث قيام الليل في افتتاحه عليه الصلاة والسلام، وكذلك حديث علي رضي الله عنه: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض ..) وكلها أحاديث صحيحة في دعاء الاستفتاح، فالسنة مشروعية دعاء الاستفتاح.

    فبعد أن ذكر المصنف رحمه الله وضع اليمين على الشمال في الصلاة قال: (ثم يقول)، وذكر دعاء الاستفتاح، وقلنا: إنه مشروع على مذهب جمهور العلماء لثبوت الأحاديث الصحيحة به عن النبي صلى الله عليه وسلم، وثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال له أبو هريرة : (أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟ فقال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي ..) الحديث، فدل هذا على مشروعية دعاء الاستفتاح، والاستفتاح يأتي على ثلاث صور:

    الصورة الأولى: أن يشتمل على التمجيد المحض.

    الصورة الثانية: أن يشتمل على الدعاء المحض.

    الصورة الثالثة: أن يجمع بين التمجيد والدعاء.

    فاستفتاح النبي صلى الله عليه وسلم لصلاته الذي أقره وفعله عليه الصلاة والسلام أتى على هذه الثلاثة الأحوال، تارةً يعظم الله ويمجده ويسبحه ويقدسه، ومن ذلك ما ذكره المصنف من حديث عائشة رضي الله عنها في السنن: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك)، واستفتح به عمر رضي الله عنه، وجهر به ليعلم الناس، ومن الاستفتاح بالتعظيم ما أقره عليه الصلاة والسلام، ففي الحديث الصحيح: (أن رجلاً دخل في الصلاة وقال: الله أكبر، الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، فلما سلّم عليه الصلاة والسلام، قال: من الذي قال كذا وكذا آنفاً؟ قال: أنا يا رسول الله. قال: والذي نفسي بيده لقد رأيتُ اثنى عشر ملكاً يبتدرونها إلى السماء)، فتأمل هذه الألفاظ: الله أكبر، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، فكل كلمة يحملها ملك، وإذا نظرت إلى عددها وجدتها اثنتي عشرة كلمة، ولما قال رجل بعد التسمية: (ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، قال صلى الله عليه وسلم: رأيت بضعاً وثلاثين ملكاً يبتدرونها)، فإذا عددت حروفها وجدتها بضعاً وثلاثين، فهذا من المناسبات كما يقولون، وهو يدل على فضل ذكر الله عز وجل، وهذا من الألفاظ الواردة في الشريعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ الصحابي على هذا الذكر المخصوص، وقد ثبت في الحديث أنك إذا قلت: الحمد لله تملأ الميزان، وإذا قلت: سبحان الله والحمد لله ملأت ما بين السماء والأرض، فمن أنواع الذكر أن تستفتح بتمجيد الله عز وجل، أو أن تقول: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك) .

    أو تقول: (الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً)، أو يكون دعاءً محضاً كما في حديث أبي هريرة : (اللهم باعد بيني وبين خطاياي)، فهذا دعاء محض.

    أو أن تجمع، وقد جمع عليه الصلاة والسلام بين الدعاء والثناء، وذلك في حديث علي الثابت في الصحيح، قال عليه الصلاة والسلام فيه باستفتاحه: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلكَ أمرت وأنا أول المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت وأنا عبدك، ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، واعترفت بذنوبي، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك وارحمني إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير بيديك، اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها)، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين التمجيد وبين الدعاء، وهو النوع الثالث من الاستفتاحات، وكلٌ على سنة.

    قال العلماء: إن كان الوقت طويلاً كقيام الليل، وتريد أن تكسب فضل الذكر والتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم تقول هذه الدعاء الطويل، وكذلك صلاة الظهر تحتاج إلى الإطالة حتى تصيب السنة في إطالة الأوليين، فتقول الدعاء الطويل في الاستفتاح، وإن كان الوقت ضيقاً ولا يسع فلك أن تقول: (سبحانك اللهم وبحمدك)، أو الدعاء المحض، أو (الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً)، ونحوها مما يشتمل على التمجيد.

    1.   

    بعض مسائل دعاء الاستفتاح

    تفاوت أدعية الاستفتاح في الفضل

    يقول المؤلف عليه رحمة الله: [ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك].

    تقدم معنا أن هذا الدعاء يسميه العلماء رحمهم الله دعاء الاستفتاح، والمراد بذلك أنه تستفتح به الصلاة، وفاتحة الشيء: ما يكون في أوله، وقد يسمى بدعاء الثناء.

    وتقدم معنا أن استفتاح النبي صلى الله عليه وسلم الذي ورد من هديه القولي والتقريري منه ما هو دعاء محض، ومنه ما هو ثناءٌ محض، ومنه ما هو مشتملٌ على الدعاء والثناء، فكان صلى الله عليه سلم يستفتح صلاته بالثناء على الله عز وجل، ويستفتح صلاته بالدعاء وسؤال الله، ويستفتح صلاته جامعاً بين الثناء والدعاء.

    وقد ذكرنا الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، من قوله وإقراره عليه الصلاة والسلام. وأما المفاضلة بين هذه الاستفتاحات من عدمها فقد ذهب بعض العلماء رحمهم الله إلى تفضيل الثناء على الدعاء، وقال: الاستفتاح بالثناء على الله عز وجل أفضل من الاستفتاح بالدعاء، وذلك لحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وكذلك حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم استفتح صلاته بهذا الثناء فقال: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك)، فأثنى على الله عز وجل، وثبت في الحديث أيضاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً قال: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، قال: والذي نفسي بيده لقد فتحت لها أبواب السماء، وقال: لقد رأيت اثني عشر ملكاً يبتدرونها أيهم يصعد بها)، فهذا يدل على فضل الثناء على الله عز وجل في دعاء الاستفتاح.

    وذهب بعض العلماء إلى تفضيل الدعاء، وأخذ بحديث دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد)، وهو حديث أبي هريرة في صحيح مسلم، قالوا: فالأفضل للمكلف أن يفتتح صلاته بالدعاء والمسألة.

    وقال بعض العلماء: الأفضل حديث علي : (وجهْتُ وجهي للذي فطر السماوات والأرض ..)، وقالوا: لأنه يجمع بين الدعاء والثناء.

    والذي يظهر والله أعلم أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قول أبي هريرة للنبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي) هو هديه الذي فعله عليه الصلاة والسلام واختاره الله له.

    وأما حديث: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك) فهو نوعٌ من أنواع الثناء على الله عز وجل لا يخالف ما ورد عن أبي هريرة فإنه قد روته أم المؤمنين عائشة ، والأشبه بـعائشة رضي الله عنها أن تعلم صلاته بالنوافل، وأما بالنسبة لـأبي هريرة فقد صرح أنه يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، أو اطلع على سكوته بين التكبير والقراءة، وهذا إنما يكون في الصلاة المفروضة، فيجمع بين هاتين، فيقال: الدعاء أفضل لفضل الفريضة، ثم التمجيد والثناء وما ورد في الأحاديث الأُخر فيكون في النوافل، جمعاً بين هذه النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    مشروعية دعاء الاستفتاح في الصلاة

    دلت الأحاديث الصحيحة، كحديث أم المؤمنين عائشة، وحديث أبي سعيد، وحديث أبي هريرة، وغيرها من الأحاديث التي اشتملت على دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في الاستفتاح على أن دعاء الاستفتاح من الأمور المسنونة والمشروعة في الصلاة، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

    فذهب جمهور العلماء إلى أن دعاء الاستفتاح سنة، كما هو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية رحمة الله على الجميع، وذلك لثبوت الأحاديث والأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه استفتح صلاته الفريضة والنافلة.

    وذهب الإمام مالك رحمه الله في المشهور عنه إلى أن دعاء الاستفتاح لا يشرع، وجاءت عنه رواية إلى أنه يشرع في النافلة دون الفريضة، والسبب الذي جعل المالكية يقولون بعدم مشروعية دعاء الاستفتاح أدلة:

    منها: حديث أنس في الصحيح أنه قال: (صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان كلهم كانوا يستفتحون القراءة بـ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]) قالوا: فلم يذكر أنهم استفتحوا بدعاء الاستفتاح.

    وقالوا أيضاً: إنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علم المسيء صلاته وقال له: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) قالوا: فلم يذكر صلوات الله وسلامه عليه دعاءً بين التكبير والقراءة.

    والذي يترجح والعلم عند الله القول بمشروعية دعاء الاستفتاح، وذلك لثبوت الأحاديث الصحيحة فيه.

    وأما الاستدلال بحديث أنس رضي الله عنه فإنه محله القراءة، أي: أنهم كانوا يستفتحون قراءتهم بـ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، ولا يستفتحونها بسورةٍ أخرى، فهو يتكلم عن الابتداء بالقراءة، ونحن نتكلم عن ابتداء الصلاة، وفرقٌ بين الابتداء العام وهو ابتداء الصلاة، وبين الابتداء الخاص وهو ابتداء القراءة، ولذلك لا معارضة بين حديث أنس وبين حديث الاستفتاح.

    ثم إننا نقول: لو أن أنساً قال: لم أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح لكان حديث أبي هريرة حجةً عليه؛ لأن القاعدة أن من حفظ حجةً على من لم يحفظ، فكيف وحديث أنس لم يصرح بنفي دعاء الاستفتاح؟! فلذلك يقوى اعتبار الأحاديث التي دلت على مشروعية دعاء الاستفتاح.

    دعاء الاستفتاح مشروع في كل صلاة

    ظاهر النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن دعاء الاستفتاح مشروعٌ في الصلوات كلها، نافلةً كانت أو فريضة، والمالكية يفرقون بين النفل والفرض كما قدمنا، والصحيح أنه سنةٌ مطلقة.

    واختلف في صلاة الجنائز: هل يستفتح المصلي إذا صلى صلاة الجنازة؟

    فللعلماء في هذه المسألة قولان مشهوران:

    القول الأول: صلاة الجنازة لا يشرع لها دعاء الاستفتاح، وإنما تكبر وتبتدئ بقراءة الفاتحة، وذلك لثبوت السنة من حديث أبي أمامة ، وكذلك حديث ابن عباس رضي الله عن الجميع في صفة صلاته عليه الصلاة والسلام على الجنائز، فذكرا أنه استفتح بالفاتحة، وأنه لم يقرأ غير الفاتحة، ولم يفصل بين الفاتحة والتكبير بدعاء.

    القول الثاني: يُسنّ أن يقرأ دعاء الاستفتاح في صلاة الجنازة في التكبيرة الأولى، وهذا هو مذهب الحنفية رحمة الله عليهم، وأخذوا بعموم الأحاديث.

    والذي جعل الحنفية رحمة الله عليهم يذهبون إلى هذا هو أنهم لا يرون في الصلاة على الجنائز قراءة الفاتحة، وإنما يرون أنها دعاء، ولذلك قالوا بمشروعية هذا الدعاء؛ لأنه داخل في جنس ما قرروه من أن صلاة الجنازة تقوم على الدعاء والشفاعة للميت.

    والذي يترجح والعلم عند الله القول بعدم مشروعية دعاء الاستفتاح في صلاة الجنازة؛ لأن العموم الوارد هنا مخصص هناك، فإن حديثي ابن عباس وأبي أمامة في السنن رضي الله عن الجميع يدلان دلالة واضحةً على أن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الاقتصار على الفاتحة في التكبيرة الأولى.

    موضع دعاء الاستفتاح

    دعاء الاستفتاح يقع بين تكبيرة الإحرام والقراءة، سواءٌ أكان في فريضة أم نافلة.

    وهنا سؤال: فلو أن إنساناً صلى صلاة العيد، فهل يستفتح بين التكبيرة الأولى والتكبيرة الثانية، أو يستفتح عقيب التكبيرات؟

    والجواب: مذهب الجماهير أنه يستفتح عقيب التكبيرات، وذلك لأن الفصل بين تكبيرة الإحرام وبين دعاء الاستفتاح بعد الانتهاء من التكبيرات إنما هو فصل بشيء من جنس التكبير، ولذلك لا يؤثر، وبناءً على هذا يشرع أن يستفتح بعد التكبيرة الأخيرة من تكبيرات العيدين في الركعة الأولى من الصلاة.

    نسيان دعاء الاستفتاح وسجود السهو له

    للعلماء في نسيان دعاء الاستفتاح وسجود السهو له وجهان: أصحهما أن دعاء الاستفتاح سنة وليس بواجب، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علَّم المسيء صلاته الأركان والواجبات، ولم يرد في دعاء الاستفتاح دليل يأمر به ويلزم به، فبقي على السنة والتخيير، ويؤكد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بالاستفتاح، ولم يطلع عليه أبو هريرة إلا بعد أن قال له: (أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة)، فلو كان دعاء الاستفتاح واجباً لبينه صلوات الله وسلامه عليه، ولما جعل الصحابة ينتظرون أن يعلمهم بعد سؤالهم.

    وهنا مسألةٌ وهي: لو أن إنساناً نسي دعاء الاستفتاح فكبّر تكبيرة الإحرام في فريضةٍ أو نافلة، ثم شرع بالاستعاذة، خاصة في الصلوات السرية، وتذكّر قبل أن يبدأ بالبسملة والسورة، فهل يرجع أو لا؟

    فيه وجهان للعلماء: أقواهما أنك إذا شرعت في الاستعاذة أو البسملة أو الفاتحة لا ترجع للفوات، فإن محل دعاء الاستفتاح ما بين التكبير والاستعاذة، وبناءً على ذلك إذا فات فإنه يشرع في الاستعاذة، ويسقط الاستفتاح.

    1.   

    الأسئلة

    حكم الجمع بين أدعية الاستفتاح في موضع واحد

    السؤال: هل يجوز جمع روايات دعاء الاستفتاح في الصلاة، أم يقتصر على رواية واحدة؟

    الجواب: الذي اختاره جمعٌ من المحققين أنه ينوع، فيدعو بهذا تارةً ويدعو بهذا تارة؛ لأن الخلاف هنا خلاف تنوع وليس بخلاف تضاد، وبناءً على ذلك ينوع، فيصلي بهذا تارة ويصلي بهذا تارة؛ لأنه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    أما لو جمع الجميع في موضع واحد فللعلماء وجهان:

    الوجه الأول: اختار الإمام النووي رحمه الله أنه لا حرج في الجمع بين هذه الأدعية.

    والوجه الثاني: اختار شيخ الإسلام وغيره: أن الجمع بينهما لم يرد، فلذلك يقتصر على الوارد.

    والأولى والأحوط أن الإنسان يقتصر على الوارد، فيصلي بهذا تارة وبهذا تارة، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.

    معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وتعالى جدك)

    السؤال: ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وتعالى جدّك) في دعاء الاستفتاح؟

    الجواب: (تعالى) من العلوّ، فلذلك وصف الله سبحانه وتعالى بالعلو، وقد ثبتت صفة العلو لله سبحانه وتعالى، وهي على مذهب أهل السنة والجماعة تدل على ثبوت الفوقية لله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل:50].

    ولذلك لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم الجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء)، فهذا إثبات صفة العلو لله سبحانه وتعالى، على خلاف من قال بعدم ثبوتها، وقال: إن العلو ليس لله سبحانه وتعالى، بمعنى أنك لا تقول: إن الله في العلو كما ثبتت به النصوص الواردة في الكتاب والسنة، ولذلك يقول: من أثبت الجهة كان مبتدعاً، وهذا قولٌ مردود.

    فمذهب أهل السنة والجماعة إثبات العلو لله عز وجل على ما يليق بجلاله وكماله.

    فالنصوص ثبتت بوصف الله عز وجل بكونه أعلى، كما قال عليه الصلاة والسلام: (سبحان ربي الأعلى) في سجوده، وقال تعالى في كتابه: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1]، فأثبت العلو لنفسه، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء)، فدل هذا على ثبوتها.

    وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الدعاء كما جاء في السنن عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أحب الكلام إلى الله: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك).

    حكم إشراك نية الدنيا مع نية الآخرة

    السؤال: هل يشترط في الخروج إلى المساجد أن يستحضر النية في رفع الدرجات وحط الذنوب والسيئات بالخطا، أم أنها تقع بمجرد المشي؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    فإذا خرج الإنسان من بيته ونيته المسجد فلا يخلو من حالات:

    الحالة الأولى: أن تكون نيته الصلاة والتقرب إلى الله عز وجل، وليس في قلبه أن يلقى أحداً أو أي شيء من عرض الدنيا، لا يريد إلا أن يذهب لأجل أن يصلي ويطيع الله عز وجل، فهذا بأعلى المراتب وأشرفها عند الله عز وجل، ونيته نية آخرة، فإذا نوى هذه النية كتب الله له أجره، ورفع درجاته، وحط خطيئاته، فتكفي هذه النية، وهي أن تخرج للصلاة ولا يخرجك إلا إجابة داعي الله عز وجل، وهذا هو الذي يحصل به قدر الفضل.

    الحالة الثانية: أن يخرج ونيته الدنيا والعياذ بالله، كرجل لولا أن هناك حاجة من حوائج الدنيا ما خرج، أو يخرج رياءً أو سمعة، فهذا -والعياذ بالله- خروجه عليه لا له.

    الحالة الثالثة: أن يُشَرّك بين النيتين، فتكون نيته الصلاة والدنيا، يقول: أخرج إلى الصلاة وألقى فلاناً فأكلمه على البيت وعلى الحاجة، أو أكلمه على دَين، أو أكلمه على أمرٍ من الأمور. وإن كانت نيته المشتركة نية طاعة وعبادة فلا إشكال، كأن يقول: أخرج إلى المسجد من أجل الصلاة ومن أجل تعليم العلم، فهذا أفضل من الذي قبله من جهة أنه جمع بين فضل الصلاة بالخطا وفضل تعليم الناس، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من عمد إلى مسجده ليتعلم أو يعلم الناس كان كأجر المجاهد في سبيل الله)، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من خصوصيات مسجده عليه الصلاة والسلام.

    أما إذا كانت النية المشرَّكة لحاجة من حوائج الدنيا كأن يقول: أُصلي وأكلم فلاناً، أو: أصلي وأوصي فلاناً على أمر من أمور الدنيا، فحينئذٍ إن كانت نية الآخرة هي الأصل ونية الدنيا تبع بحيث لو لم توجد نية الدنيا لخرج لا يؤثر هذا التشريك؛ لقوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198]، فإنها نزلت فيمن يريد الحج والتجارة، فلما كانت التجارة تبعاً لم تؤثر، وقال تعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ [الأنفال:7]، فكانوا يتمنون العير وقد خرجوا إلى غزوة بدر، فجعل الله لهم فضل الجهاد مع أنهم كانوا يتمنون العير وهي دنيا، وكقوله عليه الصلاة والسلام: (من قتل قتيلاً فله سلبه)، فهذا دنيا لكنه تبع وليس بغاية.

    فمن خرج إلى المسجد بهذا النوع الثالث وهو يريد الدنيا، والنية لها تبع وليست بأصل، بحيث لو امتنعت نية الدنيا لخرج، فهذا لا يؤثر، ويعتبر من التشريك المغتفر على مذهب المحققين من العلماء، كما ارتضاه الإمام الطبري رحمه الله، والحافظ ابن حجر، وغيرهم من علماء الإسلام، فإذا كانت نيتك الصلاة أساساً ونية الدنيا تبعاً فلا حرج عليك في ذلك، وأنت مأجورٌ إن شاء الله. والله تعالى أعلم.

    الجمع بين أفضلية الجماعة على الانفراد بسبع وعشرين وخمس وعشرين درجة

    السؤال: ورد في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة الجماعة تفضل على صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة) ، وفي حديث آخر: (بخمس وعشرين)، فكيف نجمع بين الحديثين؟

    الجواب: هذه المسألة فيها خلاف، قال بعض العلماء: سبع وعشرون وخمس وعشرون لا تعارض بينهما، فالسبع والعشرون لمن بكّر إلى المسجد، وحصّل الصلاة من أولها، والخمس والعشرون لمن تأخر فجاء في آخر الصلاة، كأن يدرك التشهد، فمن أدرك الإمام قبل أن يسلم فقد أدرك الخمس والعشرين، وهذا القول له وجهٌ من حديث أبي هريرة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وذلك أنه إذا توضأ فأصبغ الوضوء ثم مشى إلى المسجد أو خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوةً ..) الحديث، وقد قال في صدر الحديث: (تضعف على صلاة الفذ بخمسٍ وعشرين ضعفاً) فجعل الفضل من جهة الخروج، فمن أدرك آخر الصلاة أدرك الخمس والعشرين، والسبع والعشرين لمن أدرك أولها، فلا تعارض بين الحديثين لانفكاك الجهة.

    وقال بعضهم: السبع والعشرون درجة للصلاة مع الجماعة إذا كانت جهرية، والخمس والعشرون درجة إذا كانت سرية؛ لأن الجهرية فيها قراءة واستماع وتأثر بالقرآن.

    وقيل: السبع والعشرون درجة لمن سمع القراءة وتأثر بها، والخمس والعشرون لمن سمع وغفل عن التأثر بها.

    وقيل: إن السبع والعشرين درجة تكون لمن مشى إلى المسجد، والخمس والعشرين لمن ركب.

    وقيل: إن السبع والعشرين درجة تكون لمن تأثر وخشع وكانت الصلاة مؤثرةً فيه، والخمس والعشرين لمن كان على قدر الإجزاء، فيكون له حظ السعي والتعب والمشي.

    وهناك أوجه أخرى ذكرها العلماء رحمهم الله، من ذلك أن سبعاً وعشرين درجة للجماعة الكثيرة، وخمساً وعشرين درجة للجماعة القليلة، إلى غير ذلك مما ذكروه.

    ولكن الحقيقة أن القول الذي يقول: إن الخمس والعشرين للمشي، والسبع والعشرين لكمال الصلاة من القوة بمكان، وهناك وجه يرفع التعارض بالكلية، فيقول: عندنا حديث يقول: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبعٍ وعشرين درجة)، وهذا من حديث ابن عمر في الصحيح، وحديث أبي هريرة : (صلاة الرجل في مسجده تضعف على صلاته في بيته خمساً وعشرين ضعفاً)، فجعل الفضل هنا بالضعف، والفضل هناك بالدرجات، والقاعدة في الأصول أنه لا يُحكم بالتعارض إلا إذا استويا محلاً، وهنا لم يستويا؛ لأن الموصوف بالدرجة ليس كالموصوف بالمضاعفة، وهذا مذهب من يقول بانفكاك جهة التعارض.

    وعلى العموم صل مع الجماعة وأدرك فضلها وأنت على خير، فالأفضل للإنسان أن يدرك الصلاة على أكمل وجوهها، حتى يحصل الفضل على أتم وجوهه، كتبكير إلى الصلاة، والخشوع والتأثر بالقرآن، فهذا أكمل ما يكون من الحظ في السبع والعشرين درجة، وهو أعلى مرتبة من صاحب الخمس والعشرين درجة، ولذلك ينبغي للمسلم أن يحرص دائماً في مسائل الفضل على تحصيل الفضل، وما دام أن الإنسان يرجو الخير والفضل ويسعى إلى الكمال فهو على خير، ثم العلم عند الله في حقيقة هذه الأمور، وهو الذي يفصل بين عباده وهو خير الفاصلين. والله تعالى أعلم.

    حكم الائتمام بمسبوق من الجماعة الأولى

    السؤال: يحدث كثيراً أن بعض المصلين يفوتهم شيء من الصلاة، فإذا قاموا ليقضوا ما فاتهم جاء رجلٌ من خارج المسجد وائتم بأحد هؤلاء، فهل يصح ذلك؟

    الجواب: هذه المسألة فيها تفصيل، فإذا صليت مع الجماعة وأدركت الجماعة فلا تخلو من حالتين:

    فإن أدركت ركعةً فأكثر فقول جماهير العلماء أنه لا يصح الاقتداء بك؛ لأنك مأموم ولست بإمامٍ، ولا يصح للمأموم حُكماً وفضلاً أن يصير إماماً، ولا يعرف في الشرع هذا إلا في مسائل الاضطرار كالاستخلاف.

    وقال بعض العلماء -وهو وجهٌ ضعيف عند الشافعية-: يجوز أن يصلي المأموم الذي أدرك الإمام بجماعةٍ ثانية، واستدلوا على هذا بوجود صلاة الخوف في الاستخلاف، ولكن هذا المذهب ضعيف، وبيّن العلماء رحمهم الله أنه قولٌ ضعيف ولا يقوى دليله.

    والصحيح أن من أدرك ركعةً فأكثر أنه مأموم وليس بإمام، ولا يحمل عن مأمومه الصلاة وهو منها في حلّ، ولذلك لا يكون المأموم إماماً.

    أما بالنسبة للحالة الثانية فهي أن لا تدرك ركعةً مع الإمام، كأن تدرك الإمام وقد رفع من الركوع الأخير، سواءٌ أدركته بين الرفع وبين السجود، أم أدركته في السجدة قبل الأخيرة، أو السجدة الأخيرة، أو في التشهد، فإذا أدركته في هذه الحالة جاز لك أن تصير إماماً لغيرك؛ لأنك وبالإجماع تأخذ حكم المنفرد، ألا تراهم في هذه الحالة يقولون: إنك لو أدركت إمام الجمعة في التشهد أو بعد الركعة الأخيرة فإنك تصلي ظهراً على الراجح، فدل ذلك على أنك مدركٌ لفضل الجماعة لا لحكمها، فتكون إماماً من هذا الوجه، ولذلك رخص العلماء في هذه الصورة، فإذا دخلت مع إنسان معك تقول له: إذا سلّم الإمام ائتم بي حتى تكون النية منقعدة، فإذا سلّم الإمام تقوم أنت فتكبر فيتبعك دون أن تكلمه، فتنعقد لكم الجماعة، فيحصل لكم فائدة دخولكم في الجماعة الأولى، وفائدة الجماعة الثانية من جهة الاقتداء.

    ولذلك الأفضل للإنسان إذا دخل أن يتبع الإمام، بل قال العلماء: يجب على من دخل المسجد ولو بقيت لحظة على سلام الإمام أن يدخل معه، ولو لم يدخل يأثم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أدركتم فصلوا)، وهذا نص من السنة، وإن كان بعض الشافعية رحمهم الله اختاروا على أنه لا حرج أن يحدث جماعة ثانية، لكنه وجه شاذ؛ لأن الإسلام يحرص على الجماعة ولا يريد الشذوذ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: لما رأى الرجلين لم يصليا قال: (ما منعكما أن تصليا في القوم، ألستما بمسلمين؟!!)، فدل على أنه لا يجوز إحداث جماعة في داخل المسجد مع وجود الجماعة الأولى، ولأنه يحتمل أن الإمام بقيت عليه ركعة كأن يكون سلّم من ثلاث وهو في ظهر سهواً، فلذلك لا يحكم بجواز إحداث الجماعة الثانية ما دام أن الإمام لم يسلم من الجماعة الأولى، ولأن إدراكك للجماعة الأولى أفضل من إحداث جماعةً ثانية؛ لأنك إذا أدركت الجماعة الأولى أدركت فضلاً في الوقت لم تدركه الجماعة الثانية، واللحظة اليسيرة في أوقات الصلاة بينها وما بعدها كما بين السماء والأرض، ففي الحديث: (إن العبد ليصلي الصلاة، وما يصليها في وقتها، وإن ما فاته من وقتها خيرٌ له من الدنيا وما فيها)، فقد يكون وقتاً يسيراً جداً ما بين الجماعة الأولى والثانية، فتفوت على نفسك الفضل بإحداث الجماعة الثانية، ثم إن هذا شذوذ ويخالف ظاهر السنة في قوله صلى الله عليه وسلم: (ما أدركتم فصلوا)، فدل على أن من دخل المسجد يلزم بالدخول مع الجماعة، ولا يجوز له أن يختلف عن الإمام والشذوذ عنه.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756343807