الحمد لله, نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه, ولا يضر الله شيئاً.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:6-11].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الملك:6]، في الآيات السابقة أعلمنا أن الشياطين أعد لهم سعيراً خاصاً وعذبهم به، ثم عطف على ذلك هذا، وقال: وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا [الملك:6]. فإذا كان ذلك للشياطين فللذين كفروا هذا العذاب.

ولا ننسى أن الذين كفروا هم: الذين ما آمنوا بالله رباً لا رب غيره، وإلهاً لا إله سواه، وآمنوا بأن محمداً رسول الله، وآمنوا بالبعث والدار الآخرة، وآمنوا بكل ما أمر الله أن نؤمن به في كتابه, أو على لسان رسوله، فمن لم يؤمن فهو كافر. وأنتم تعرفون عن الكفار اليوم أنهم لا يؤمنون بالله ولا بلقائه، ولا بمحمد ولا بدينه, ولا بشرعه في الشرق والغرب, وهم ملايين الملايين، والعياذ بالله. وكلهم من أهل النار. فقد قال تعالى هنا: وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ [الملك:6], فليس لهم بساتين ولا قصور ولا أموال, وإنما لهم عَذَابُ جَهَنَّمَ [الملك:6]. هذا الذي لهم، فهناك طبقة من طبقات النار تسمى جهنم من أشدها حرارة، والنار دركات سبع، وجهنم من أشدها حرارة.

ثم قال تعالى: وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الملك:6] الذي صاروا إليه، فقد صاروا إلى جهنم؛ لتأكلهم وتمزقهم وتحرقهم، ويعذبون فيها أبد الآبدين بلا نهاية. فهذا بئس المصير الذي يصار إليه, وهو دخولهم في جهنم, وخلودهم فيها. هذا جزاء الكافرين. فلنؤمن بالله ولقائه، ولنؤمن بالله ورسوله، ولنؤمن بكل ما أمر الله أن نؤمن به، سواء أدركناه وفهمناه أو لم ندركه ولم نفهمه ما دام أمرنا بالإيمان.

قال تعالى: إِذَا أُلْقُوا فِيهَا [الملك:7], أي: في جهنم، والذي يلقيهم ويقوى على إلقائهم هم الزبانية التسعة عشر الخزنة, فهم يسمون بالخزنة وبالزبانية.

فقوله: إِذَا أُلْقُوا فِيهَا [الملك:7], أي: ألقاهم الزبانية سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ [الملك:7-8]. وهذا والله كما تسمعون، فما إن يلقوا فيها حتى يسمعوا لها شهيقاً ليس كشهيق الحمار وصوته ونهمه، بل أعظم من ذلك. والشهيق يخرج من الصدر والحلق, والنار لها شهيق؛ متغيظة متألمة، تريد إحراقهم. وَهِيَ تَفُورُ [الملك:7]، أي: تغلو غلياناً, وتكاد تتمزق وتتحطم.

قال تعالى: تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ [الملك:8]. وذلك لأن الرب متغيظ عليهم, والنار تتغيظ، والمؤمنون يتغيظون. كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ [الملك:8], وهو الجماعة, سواء مائة أو مليون. وهم يلقون فيها جماعة بعد جماعة، فوجاً بعد فوج. و كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا [الملك:8]، أي: المكلفون بهم في جهنم, وهم الزبانية، ويقولون لهم: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [الملك:8] حتى تدخلوا النار؟ وما جاءكم رسول يبين لكم كيف تؤمنون؟ وكيف تعبدون الله؟ وكيف تزكون أنفسكم حتى تصبحوا من أهل الجنة؟ فما لكم أنتم أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [الملك:8]؟ وهذا الاستفهام استفهام توبيخ وتقريع وتأنيب فقط، وهم يعلمون أنه جاءهم.

قال تعالى: قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ [الملك:9]، أي: نعم جاءنا نذير، والمراد من النذير: الرسول المبلغ عن الله، والعالم نائب الرسول المبلغ عن الله. فالنذير من ينذر من عذاب الله، ويخوف من عاقبة السوء، وينذر من عذاب القبر، وينذر من عذاب الدنيا وهمها وكربها. وهم ما استجابوا. فهم يوبخونهم هكذا ويؤدبونهم, فيقولون لهم: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [الملك:8] حتى دخلتم جئتم جهنم؟ ولم ما آمنتم وما أسلمتم؟ ولم ما زكيتم أنفسكم وما طهرتم أرواحكم حتى دخلتم النار؟ فيقولون: بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا [الملك:9] وما آمنا، فقد جاءنا الرسول فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [الملك:9]. وهم هكذا يقولون في مكة للرسول صلى الله عليه وسلم، فقد قالوا: شاعر وقالوا: أساطير الأولين وخرافات السابقين. والآن الملاحدة والعلمانيين والدهريين يقولون هكذا، فهم يقولون: الدين خرافة .. ضلال عقلي .. فساد للذوق .. طلاسم, وهذه العبادة تأخر في الفهم، وتأخر في العقل. وهكذا, ويوم القيامة يقولون: بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ [الملك:9]. والعلمانيون الملاحدة اليوم يعتبرون المسلمين في ضلال كبير، وأنهم لا يرجعون إلى الصواب الذي هم عليه، فهم ما داموا يعبدون الله ويحلون ما أحل ويحرمون ما حرم ويقيمون الصلاة، وينتهون عن المفاسد والمحارم ولا يفعلون الفواحش يرونهم أنهم متخلفون في عقولهم، وهكذا يقولون لهم، فهم يقولون: هذا تخلف عقلي. والعياذ بالله. فهؤلاء مصيرهم في جهنم.

قال تعالى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10]. والسعير عرفتموه البارحة, وهو: أنه أشد نار تلتهب وتستعر, والعياذ بالله.

قال تعالى مخبراً عن الكافرين: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ [الملك:11]. والذي أخبر بهذا الخبر هو الله، الذي أنزل هذا الكتاب، وقص هذا القصص، وعلمنا هذه العلوم والمعارف عن الدار الآخرة، فقال تعالى: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ [الملك:11]. فقد قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:9-10]. فقال أهل النار للزبانية للمكلفين بتعذيبهم: لو كنا نسمع دعوة الخير وكلام الخير والحق وكنا نعقل ما يقول فلن نقع في هذا. ومن هنا والله إن الكافرين اليوم وقبل اليوم وبعد اليوم لا يسمعون ولا يعقلون، وإنما يسمعون الأغاني والكذب، ولا يسمعون نداءات الرحمن لهم. فهو يقول لهم: أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ [آل عمران:193]، أي: أن ادخلوا في دين الله, وأسلموا قلوبكم ووجوهكم، وأن اجتنبوا ما حرم الله، وأن افعلوا ما أوجب الله، وهم والله لا يسمعون هذا الكلام, بل يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ [البقرة:19]، لأنهم ما يريدون أن يسمعوا. فهم لا يعقلون, ولو كانوا يعقلون لعلموا أن بعد هذه الحياة حياة أخرى للجزاء عن العمل في هذه الدنيا، وأنها جنة دار نعيم, ونار دار عذاب أليم، وقد جاءت الرسل بذلك نوح فإبراهيم فموسى فعيسى فسليمان, فالأنبياء والرسل. ولكن الكافرين ما يفكرون, ولا يأتون أهل العلم ويسألونهم, ويدخلون في الإسلام, فهم ما يعقلون، وإنما هم كالبهائم. وهذا شهادتهم على أنفسهم: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10] والله, ولكنهم ما كانوا يسمعون ولا يعقلون.

وهذا الاعتراف لا ينفعهم يوم القيامة, وإنما ينفعهم في الدنيا, فلو أذنب الشخص ذنوباً كالجبال وتاب تاب الله عليه، وأما الآن فليس هناك توبة تقبل أبداً، وكذلك أحدنا إذا غرغرت روحه في حلقه وكادت تخرج وشاهد ملك الموت ومن معه فلو قال هنا: تبت والله ما تقبل له توبة أبداً، وفرعون لما أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90]. فقال الله له: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ [يونس:91-92] فقط لا بروحك؛ لتكون آية للمسرفين.

وهم هنا فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ [الملك:11]، لكن قال تعالى: فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:11]. فلا ينفعهم الاعتراف أبداً، ولا تقبل لهم توبة؛ لأنهم ليسوا في دار العمل, بل هم في دار الجزاء. والتوبة تقبل هنا؛ لأن هذه الحياة حياة عمل، ذكر وشكر، أو كفر وشرك، وأما هناك فهي للجزاء فقط. ولذلك قال تعالى: فَسُحْقًا [الملك:11], أي: بعداً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:11]. ألا وهو عذاب جهنم الملتهب, والعياذ بالله. أعاذنا الله وإياكم منه، وأعاذ منه كل مؤمن ومؤمنة.

‏

هداية الآيات