إسلام ويب

تفسير سورة الشورى (6)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الساعة إذا جاءت فلا مرد لها؛ لأنها أمر الله، والناس تجاه هذا الحدث الرهيب والأمر الجلل في اتجاهين متعاكسين، فمنهم من يستعجل بها ويسأل عنها استخفافاً واستهزاء، وما ذلك إلا لغفلتهم وعدم يقينهم وإيمانهم، ومنهم من يخشاها ويشفق منها، بما يحمله على الاستعداد لها، والعمل بما ينجيه من أهوالها، وهؤلاء هم المؤمنون الذين يجزيهم ربهم بأحسن ما كانوا يعملون.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    وها نحن مع هذه الآيات من سورة الشورى، فهيا بنا لنصغي مستمعين تلاوتها مجودة مرتلة، ثم نتدارسها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ * يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ * مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الشورى:17-21].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ [الشورى:17] هذا خبر، فمن المخبر؟ من القائل؟ إنه الله خالق الكون كله، خالق الإنس والجن، خالق هذه المخلوقات، رافع هذه السماوات، باسط هذه الأرضين، اسمه الأعظم: الله، لا معبود بحق إلا هو، هو المخبر بهذا الخبر العظيم.

    المراد بالكتاب

    تأملوا هذا الخبر ما هو: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [الشورى:17] ما الكتاب الذي أنزله؟ إنه القرآن العظيم، فمن أنزل القرآن؟ أشيروا إلى واحد من البشر، من؟ ليس لك إلا أن تقول: الله.

    وهل عرفت هذا القرآن؟ آياته مائة وأربع عشرة سورة، ستون حزباً، ثلاثون جزءاً، هذا القرآن هل ادعى العرب أنهم قالوه؟ فمن أنزله؟ قولوا: آمنا بالله.

    اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [الشورى:17] ليبين به الطريق إلى السعادة والكمال، ويبين الطريق إلى الشقاء والخسران، القرآن الحاوي للشرائع والآداب والأحكام والقضايا، هذا هو القرآن.

    ويصح أن تقول: (الكتاب) هو ما أنزل الله من الكتب، فـ(أل) للجنس، والكل واحد، لكن إن كانت (أل) للتفخيم والتعظيم فهو القرآن العظيم.

    وأنزله من أين؟ من عنده من فوق عرشه، من فوق السماوات: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى [طه:5-6]، فيا أيها المستمعون تأملوا كتاب الله.

    اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [الشورى:17] لا بالباطل، من أجل أن يحق الحق في الكون ويبطل الباطل، من أجل أن يُعبد الله تلك العبادة المسعدة المنجية لعباد الله.

    المراد بالميزان وبيان غاية إنزاله

    اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ [الشورى:17] وأنزل الميزان، ألا وهو العدل، حتى الميزان من ألهم الإنسان صنعه؟ إن الله هو الملهم.

    والرحمن يقول: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ [الرحمن:1-7] فمن وضع العدل في الأرض؟ الله، لولا الله ما عرفت البشرية العدل ما هو، ولا كان العدل بين الناس في كل معاملاتهم وبيعهم وشرائهم، فالعدل ضد الباطل ضد الجور والاعتداء.

    قرب قيام الساعة

    ثم قال تعالى: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشورى:17] وما يدريك يا رسولنا، وما يدريك أيها السامع لهذه الآيات؟ والله! لا يدرينا أحد، والله! لعل الساعة قريب، ووالله! إنها لقريبة، أما قال تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]؟ والرسول الكريم يقول: ( بعثت أنا والساعة كهاتين ) متلازمين، الآن مضت ألف وأربعمائة سنة، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشورى:17] ما قال: قريبة، وهذا يصح، فكل مذكر مؤنث قل فيه: قريب، حتى الجماعة قل فيهم: قريب.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ...)

    ثم قال تعالى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا [الشورى:18] من هم الذين يطالبون الرسول صلى الله عليه وسلم فيقولون: هات الساعة؟ أين القيامة؟ ماذا تقول؟ إنهم الكافرون بها، والملاحدة الآن والشيوعيون والعملاء والأذناب كلهم يقولون: متى الساعة؟ لا ساعة، لا قيامة! كالمجانين.

    فمن أوجدكم؟ من يعدمكم؟ لم وجدتم؟ لم تعدمون؟ من أجل أن تجزوا بالعمل في ذلك اليوم الذي لا بد منه، دنياكم كلها عبارة عن عمل أسبوع أو عام أو عشرة، بعد نهاية العمل الجزاء على العمل، لا بد، من الضرورة أن تكون هذه الدار الآخرة، لكن الملاحدة والعلمانيين والمشركين والجهال والضلال يسألون: متى الساعة هذه؟ تريدونها الآن؟ أأأما تستحون؟ الموظف ينتظر شهراً كاملاً ما يطالب بريال واحد حتى ينتهي العمل، وهذه الدار دار عمل فقط، وحين تنتهي يأخذون جزاءهم إما الجنة دار النعيم أو النار دار البوار والعياذ بالله.

    يقول تعالى: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشورى:17] وهي -والله- لقريب، لكن يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا [الشورى:18] أي: بالقيامة والبعث والجزاء، هم الذين يقولون للرسول: متى الساعة؟ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأعراف:187] الملائكة ما يعرفون الساعة متى، الملائكة المقربون حملة العرش والأنبياء والرسل، والله! لا يوجد من يعرف الساعة، استأثر الله بعلمها وحده، هو الذي يعلم متى هي، أما الخليقة فكلها لا تعرف متى هي أبداً، وهي آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور أحبوا أم كرهوا.

    ثم قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا [الشورى:18] اللهم اجعلنا منهم مُشْفِقُونَ مِنْهَا [الشورى:18] خائفون، لا يدرون هل يكونون من أهل الجنة أم يكونون من أهل النار، لا يدرون هل يرحمهم الله أم يعذبهم، مشفقون خائفون.

    وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ [الشورى:18] والله! لنعلم أنها الحق، وكم قلنا: ما سر هذه الحياة؟ لم أوجد الله هذه الحياة؟ يا فلاسفة يا علماء يا حكماء! لنا لم أوجد الله هذه الحياة؟

    الجواب: أوجدها للعمل فقط، هي دار عمل خيراً أو شراً، ولم أوجد الدار الثانية إذاً؟ ما الحكمة؟ ما العلة؟ ما السبب؟ والله! لهو الجزاء على هذا العمل في هذه الدنيا، فالدنيا دار عمل خيراً أو شراً، والدار الآخرة دار جزاء إما بالجنة فوق السماوات السبع، وإما بالجحيم والنار في أسفل سافلين فقط.

    معنى قوله تعالى: (ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد)

    ثم قال تعالى: أَلا [يونس:62] هنا لطيفة دائماً نذكر بها، فنقول: الطفل يمسك السماعة فيقول: ألو.. ألو، والقرآن يقول: ألا! ونحن ما نعرف (ألا) أبداً، فما معنى (ألو)؟ قالوا: ما عرفنا، هكذا وجدت مع التليفون، والقرآن سبق هذا، فـ(ألا) بمعنى: هل أنت تسمع؟ هل أنت واع؟ هل تدرك ما أقول لك؟

    أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ [الشورى:18] ويعملون بالشك فيها والريب وينشرون الباطل وينفونها لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ [الشورى:18] لا حد له، لن يعودوا إلى الصواب، الذين يكفرون بالبعث والدار الآخرة ولا يؤمنون بذلك والله! لفي ضلال بعيد وزيغ وباطل وشر والعياذ بالله، هم شر الخليقة؛ لأن الذين لا يؤمنون بالدار الآخرة ما يعملون عملاً صالحاً، وما يريدون دخول الجنة والنجاة من النار.

    الذين لا يؤمنون بأنهم سيحاسبون ويجزون على أعمالهم، هؤلاء -والله- لن يكونوا إلا فجاراً، كفاراً، لصوصاً، خبثاء، منتنين عفنين، لا خير فيهم أبداً، شر الخلق، فشر الخلق الذين لا يؤمنون بالدار الآخرة، ما يستقيمون ولا يوثق فيهم.

    ودائماً أقول يا عباد الله: إن كان إلى جنبك في بيتك أو في عملك كافر بالدار الآخرة لا يؤمن بالبعث والجزاء فإياك أن تثق به أو تعول عليه في شيء، فإنه شر البرية، شر من الخنزير والقردة، واقرءوا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6] ما البرية؟ الخليقة، شر الخلق من هم؟ الكافرون المشركون، ما وجه شرهم؟

    أيخلقهم ويرزقهم ويعطيهم سمعهم وأبصارهم وأرزاقهم ويخلق الحياة كلها من أجلهم ثم لا يؤمنون بالله ولا بلقائه، ولا يذكرونه ولا يسبحونه؟ إنهم شر الخلق.

    أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ [الشورى:18] أي: يشككون الناس في القيامة لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ [الشورى:18] ما يرجعون إلى الحق والهدى أبداً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز)

    ثم قال تعالى: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ [الشورى:19] هذا خبر عظيم، حيث يقول تعالى: اللَّهُ [الشورى:19] جل جلاله وعظم سلطانه لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ [الشورى:19]، رحيم بهم، يكفرون به، يكذبونه، يعصونه، يفجرون ولا ينزل بهم عذاباً ولا نقمة، ويرزقهم الطعام والشراب، أي لطف أكثر من هذا اللطف؟ لولا لطفه لكان من قال كلمة يكرهها الله محاه الله ولم يجبه.

    اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ [الشورى:19] كافرهم ومؤمنهم على حد سواء، يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ [الشورى:19] من عباده، وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ [الشورى:19] القادر على كل شيء، العزيز الذي لا يمانع في شيء يريده، لو تقف الخليقة كلها لترد شيئاً أراده لما استطاعت، فهو العزيز الذي لا يرد ما يريده أبداً، لا يمانع في شيء أراده، القادر على كل شيء إيجاداً وإعداماً.

    هذا هو الله الذي يجب أن نتحاب فيه، هذا الذي يجب أن نركع ونسجد له، هذا الذي يجب أن نتعرف إليه، هذا الذي يجب أن نحبه أكثر من حب أنفسنا، هذا الذي يجب أن نخافه ونرهبه حتى لا نخرج عن طاعته بنظرة أو كلمة.

    اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ [الشورى:19]، يرزق الجاهل والفاسق والفاجر، ويعطيه الطعام والشراب، أليس كذلك؟ والعبد المؤمن الصالح يعطيه الطعام والشراب.

    يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ [الشورى:19] من عباده وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ [الشورى:19].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ...)

    ثم قال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20] هذا خبر عجب.

    اسمع: أيها العاملون! من كان يعمل منكم يريد الدار الآخرة الجنة ونعيمها ورضوان الله عنه؛ فهذا يقول الله تعالى عنه: نزيده ونبارك له في عمله: الحسنة بعشر أمثالها، الحسنة بخمسمائة، الحسنة بألف، بمليون، وعد الله.

    مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ [الشورى:20] ما هو حرث الآخرة عباد الله؟

    العمل للدار الآخرة، الحارث يحرث ويعمل ليحصد الزرع، فكل إنسان عامل إلا إذا كان مجنوناً لا عقل له، فهو إما حارث للدار الآخرة أو حارث للدنيا وأوساخها.

    اسمع هذا الخبر: من كان منكم يا عباد الله يريد بعمله حرث الآخرة ليغفر له ويرحم، ويسكن الجنة دار النعيم، فإنه يعده الله بأن يزيد في عمله، يبارك له في عمله، يزيد له في حرثه، تصلي ركعتين وتؤديهما على الوجه المطلوب فيحسبان لك بخمسمائة، بألف، بمليون، هذا وعد الله.

    ومن كان يريد دار الفجار ويعمل بالفسق والفجور؛ فهذا -والعياذ بالله تعالى- ما له في الآخرة من نصيب ولا حظ صغير ولا كبير، مأواه جهنم وعالم الشقاء.

    مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [الشورى:20] الحسنة بعشر أمثالها، الحسنة بخمسمائة، يضاعفها إلى ألف، إلى مليون، والسيئة بمثلها فقط، فمن عمل سيئة فيجزيه بمثلها بلا زيادة ولا نقصان، عدل الله عز وجل.‏

    عظم عذاب الآخرة

    ولكن من أراد حرث الدنيا فما له في الآخرة من نصيب قل أو كثر، مأواه جهنم، عالم الشقاء النار، ومن أراد أن يعرف شيئاً عنها فغداً في الساعة العاشرة نهاراً يخرج ويشاهد الشمس في السماء، فالشمس هذا الكوكب من صنعه؟ هل أمي؟ آباؤكم؟ أجدادكم؟ أمريكا؟ الملاحدة الشيوعيون؟ من صنعه؟ هذا الكوكب من خلقه؟ من أوجده ناراً ملتهبة أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون مرة؟ لو تجتمع البشرية كلها فيه ما سدت جزءاً منه، هذه الشمس فقط، فكيف بالنار ذلك العالم الذي فوق العقل؟

    وإن شئت أن تعرف عنها فاعلم ما يقول الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( إن ضرس الكافر في جهنم كجبل أحد )، هل رأيتم جبل أحد، ضرس الكافر كجبل أحد، فجسمه كيف سيكون؟

    قال: سيكون مائة وخمسة وثلاثين كيلو؛ إذ قال عليه الصلاة والسلام: ( ما بين كتفي الكافر كما بين مكة وقديد ) وقديد في طريقكم إلى مكة، ما بينه وبين مكة مائة وخمسة وثلاثون كيلو، فقولوا: آمنا بالله.

    هذا الكافر يوم القيامة حين يخلق خلقاً جديداً ما بين كتفيه مائة وخمسة وثلاثون كيلو متر، وضرسه كجبل أحد، فكم تتسع النار للملايين من هذا الخلق؟ لأنها عالم لا يعرف مداه إلا الله.

    وإن أردت أن تعرف فطأطئ رأسك وفكر وأنت نازل تهوي فكر فقط، اجعل رأسك بين ركبتيك وفكر لتنزل إلى أسفل، فإلى أين ستنتهي؟ والله! إلى جهنم. ثم ارفع رأسك وقل: سأطلع، فإلى أين ستنتهي؟ والله! إلى الجنة.

    ولكن أهل الكفر وظلمة الشرك أموات غير أحياء، البعيدون عن هذا الكلام الإلهي ما يعرفون الطريق، فيا ويلهم ويا ويحهم!

    هذا الخبر العظيم: مَنْ كَانَ يُرِيدُ [الشورى:20] منكم حَرْثَ الآخِرَةِ [الشورى:20] أي: يريد بصلاته وصيامه، برباطه وجهاده، بذكره وعبادته الدار الآخرة؛ فالله يعده بأن يزيده: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة وأكثر.

    وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا [الشورى:20] يعمل للدنيا فقط، قال: نُؤتِهِ مِنْهَا [الشورى:20] ما نحرمه عمله، يحرث، يحصد، يبني، يسكن؛ لا حرج، لا نمنعه من دنياه، وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20] وإن قل أبداً، لا نصيب له في عالم الدار الآخرة أبداً؛ لأنه كان يعمل للدنيا ولا يعمل للآخرة، فلا نصيب له.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ...)

    ثم قال تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21].

    يقول الله لرسوله: أم لهؤلاء الكفار، هؤلاء المشركين، هؤلاء الذين يعبدون غير الله أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]؟ فالشياطين هم الذين زينوا لهم عبادة الأصنام والأوثان والكفر والشرك إلى اليوم، الشياطين هم الذين زينوا لهم الكفر والشرك، فكفروا وأشركوا.

    ثم قال تعالى: وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ [الشورى:21] لولا أن الله خلق العالم الثاني من أجل الجزاء لكان يجزيهم في الدنيا بتدميرهم وإحراقهم والقضاء عليهم، ولكن الدار ما هي دار جزاء، هي دار عمل، والجزاء في المستقبل في الدار الآخرة.

    وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ [الشورى:21] والحق والعدل لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ [الشورى:21] في الدنيا، لكن الله خلق هذه الدار للعمل، فكفر وإيمان، شر وخير، فساد وصلاح، والجزاء هنالك، فلهذا يعصونه فيفجرون ويقتلون الأنبياء والعلماء وما ينزل بهم العذاب؛ لأن الدار ما هي دار جزاء أبداً، هي دار عمل خيراً أو شراً، والدار الآخرة دار جزاء، وهل هناك دار آخرة؟ اسأل الموتى أين يذهبون؟ حين تخرج الروح أين يذهب بها؟ ما بقي شيء، ارموا الجثة في القبر، والروح أين؟ إما في عليين وإما في سجين حتى تنتهي هذه الدورة، وبعد ذلك يخلق الله الأجسام ويرد الأرواح إلى أجسامها، ويتم الجزاء إما بالنعيم المقيم في مواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وإما في العذاب الأليم مع الكافرين والمشركين والشياطين.

    هكذا يقول تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]، فالشياطين شرعوا لهم البدع والخرافات والضلالات، بل ووضعوا لهم القوانين، وها هو ذا العالم الإسلامي يطبق قوانين الكفر ويعرض عن قوانين السماء، ما يطبقون شرع الله أبداً لا في الدماء ولا في الأعراض ولا في العبادات، فمن صرفهم؟ الشياطين تعبث بهم وتلعب بهم، هم الذين شرعوا لهم القوانين وحثوهم عليها، وطبقوها وأعرضوا عن كتاب الله وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم.

    وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ [الشورى:21]، لولا أن الله وعدهم بالعذاب في الدار الآخرة لكان ينزل بهم الشقاء في الدنيا ويهلكهم؛ لأنهم كفروا وفسقوا وأعرضوا عن كتابه ودينه.

    وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الشورى:21] هذا الختم الأخير، الظالمون من هم؟ الذين عبدوا غير الله، الذين اتبعوا سبل الشياطين ومشوا في طرق الضلال وأعرضوا عن هدي الله وكتابه ورسوله، أولئك المشركون الظالمون لهم عذاب موجع أليم في الدار الآخرة، وسوف ينالهم ذلك.

    فهل فهمتم كلام الله يا عباد الله؟ هذا هو القرآن، فهل هذا القرآن يقرأ على الموتى؟ حين تضع ميتاً بين يديك تقرأ عليه فهل سينتفع بهذا؟ هل يبكي؟ هل يقوم ليصلي؟ يقول: أستغفر الله وأتوب إليه؟ فما الذي يحصل؟

    لقد عرفتم ما نسميه بالثالوث الأسود المكون من المجوسية واليهودية والصليبية، تعاونوا على إطفاء هذا النور، على إهباط هذه الأمة، ومن جملة ما وصلوا إليه أنهم صرفوا أمة الإسلام من إندونيسيا إلى موريتانيا عن تدبر القرآن وقراءته إلا على الموتى، حتى لا يفهموا مراد الله ولا كلام الله، من إندونيسيا إلى موريتانيا لا يجتمع عشرة على القرآن إلا على ميت فقط، أما أن يتدارسوه بينهم في بيوتهم، في منازلهم، في مساجدهم فلا، بل قالوا: تفسير القرآن صوابه خطأ وخطؤه كفر، وماذا نفعل بالقرآن؟ قالوا: اقرءوه على موتاكم.

    فأي هبوط أسوأ من هذا الهبوط؟ بدل أن نقرأ القرآن على الأحياء ليهتدوا وليستقيموا وليعبدوا الله ويستقيموا على عبادته نقرؤه على الموتى والعياذ بالله! وما زلنا نتخبط في حيرتنا، ما اهتدينا أبداً، والله تعالى أسأل أن يهدينا.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات

    والآن مع هداية الآيات، أي: ما تحمله هذه الآيات من الهداية.

    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:

    [ هداية الآيات:

    من هداية الآيات:

    أولاً: بيان بعض الحكمة في إنزال الكتاب -أي: القرآن- والميزان، وهو أن يحكم الناس بالقسط ].

    بيان هداية نزول القرآن، لم أنزل الله القرآن والميزان؟ من أجل أن يحكم الناس بالعدل والحق في هذه الدنيا، كان المشركون في عذاب، فأنزل الله تعالى القرآن فأقام به الحدود، ما بقي ظالم ولا فاجر ولا فاسق، وعبدوا ربهم واستقاموا، ومضت ثلاثمائة سنة والعالم الإسلامي كأنه كوكب في السماء، وحين تآمر الثالوث الأسود أبعدوهم عن القرآن والسنة وهبطوا بهم ومزقوهم إلى مذاهب وطوائف وجماعات، وهبطنا إلى الحضيض كما نحن فيه الآن.

    [ ثانياً: بيان قرب الساعة وأن معرفة قربها كان بالوحي الإلهي، مثل: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:1]].

    من هداية هذه الآيات: إعلام بقرب الساعة، والله! لقريبة، ولا يعلمها إلا الله، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، ليس هناك في الكون علويه وسفليه من يعرف متى الساعة أبداً، كل ما في ذلك أنها آتية وقريبة، أعلمنا الله بهذا، أما متى هي فلا، هذا استأثر الله به ولم يطلع عليه غيره، فلا تصدق من يقول: غداً تقوم الساعة، أو العام الآتي قيام الساعة أبداً.

    وكل ما في الأمر أن هناك علامات صغرى أخبر بها رسولنا صلى الله عليه وسلم فكانت موجودة، وعلامات كبرى هي عشر علامات ما ظهرت منها علامة واحدة، ولو ظهرت علامة منها تتابعت، كالحبات في السبحة تتساقط، فهي عشر علامات، أولها: خروج المسيح الدجال ، فإذا خرج المسيح الدجال يفتن البشرية ينزل عيسى عليه السلام فيقتله، ثم يخرج يأجوج ومأجوج حتى تتم عشر آيات، وبذلك تقوم القيامة.

    فنحن ننتظر المسيح الدجال إذا خرج وأخذ يكفر الناس ويفتنهم، فينزل الله عيسى من الملكوت الأعلى من الجنة إلى الأرض، ينزل على منارة دمشق، ويحاربه ويقتله، ثم يخرج يأجوج ومأجوج والعياذ بالله فيبتلعون الأرض ويهلكهم الله، وتطلع الشمس من مغربها أيضاً، فهذه من الآيات العشر، فإذا طلعت الشمس من المغرب ورأيناها صباحاً علمنا أن الفلك اختل في دورته، وستقوم الساعة.

    [ ثالثاً: المستعجلون بالساعة هم الكافرون الجاحدون لها ].

    المستهزئون بالساعة والساخرون منها هم المكذبون بها والكافرون بالله وكتابه ورسوله، يقولون: ما هذه الساعة؟ ما الساعة؟ لأنهم لا يؤمنون بالدار الآخرة وما فيها من جزاء، لماذا؟ لا لشيء، إنما من أجل أن يبقوا على فجورهم وكفرهم وفسقهم وضلالهم، وإلا فكيف ينفون الدار الآخرة؟ بأي دليل؟

    فيقولون: دعونا نفجر ونكفر ونفعل كل ما نريد، فما هناك دار آخرة، ينفونها بألسنتهم فقط والعياذ بالله.

    [ رابعاً: بيان لطف الله بعباده، فله الحمد وله المنة والشكر ].

    من هداية هذه الآيات: بيان لطف الله بعباده، فله الحمد وله الشكر، كافر فاجر ويرزقه ويطعمه ويسقيه ويكسوه، ويعالج مرضه ويبرؤه، ومؤمن تقي كذلك، فهذا فضل الله، هذا لطف الله بعباده؛ لأن الدار دار عمل ما هي دار جزاء، لو كانت دار جزاء فإن الذي يعصيه سيقتله أو لا يوجده، لكنها دار عمل، فهو لطيف بعباده، فاستوجب الشكر والحمد، فالحمد لله والشكر لله على إفضاله، على إنعامه، على إحسانه.

    [ خامساً: بيان وجوب إصلاح النيات؛ فإن مدار العمل قبولاً ورفضاً بحسبها ].

    هذه لطيفة عجيبة، من هداية الآيات: أن على كل عامل خيراً أو شراً أن تكون له نية صادقة في عمله، مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [الشورى:20] ، صليت ركعتين تريد الدار الآخرة بارك الله لك في ذلك، تصدقت بدرهم واحد تريد وجه الله بارك الله لك في ذلك، مشيت خطوة واحدة لوجه الله بارك الله لك في عملك: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا [الشورى:20] يعطيه ما أراد في الدنيا، وفي الآخرة إلى جهنم والعياذ بالله.

    [ سادساً: حظر التشريع بجميع أنواعه عن غير الله ورسوله ].

    حظر ومنع التشريع بالقوانين الباطلة، ممنوع على الآدمي أن يشرع شرعاً لا في أمر الدنيا ولا في الآخرة إلا ما جاء من كتاب الله وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، أما أنك تضع كتاب قوانين بعيدة عن القرآن؛ أفتريد أن تكون رباً وإلهاً؟ فهذا التشريع كله في جهنم.

    وانظر إلى الكافرين: الخبث، والشر، والفساد، والهم والغم، والكرب فيهم ولن ينتهي أبداً، ولو أكلوا وشربوا وطاروا في السماء، لن يعرفوا السعادة أبداً، ولن تصل إلى قلوبهم، فهم في هم وكرب دائماً وأبداً؛ لبعدهم عن هداية الله وعبادته.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756543292