إسلام ويب

تفسير سورة الحج (8)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • جعل الله عز وجل لكل أمة ما يذبح من القرابين له سبحانه، مما يدل على مشروعية القرابين في سائر الأديان الإلهية، ودلالة ذلك على وحدانية الله عز وجل، إذ وحدة التشريع تدل على وحدة المشرع، وسر مشروعية ذبح القربان هو أن يذكر الله تعالى، ولذا وجب ذكر اسم الله عند ذبح ما يذبح، ونحر ما ينحر، لما في ذلك من إعلان الشكر لله على ما أنعم به على عباده.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم والذي بعده ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن ما زلنا مع سورة الحج المكية المدنية، قال تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ [الحج:34-37].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا [الحج:34]، هذا خبر أخبر الله تعالى به، فما معناه؟ لكل أمة من الأمم، سواء أمة نوح أو إبراهيم أو موسى أو داود أو سليمان، كل هذه الأمم التي بعث الله فيها رسلاً شرع لهم هذه العبادة وهي النسك، أي: يذبحون ذبيحة في مكان معين يتقربون بها إلى الله ليرضى عنهم ويحبهم، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا [الحج:34]، أي: مكان نسك، وما ينسك، أي: يذبح، والنسك هو العبادة، والنسْك هي الشاة التي تذبح في سبيل الله، والمناسك هي شعائر العبادات، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا [الحج:34]، لماذا يا رب! جعلت لهم هذا المنسك؟ قال: لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ [الحج:34]، فهذه هي العلة، أي: من أجل أن يذكروا اسم الله عند ذبح البعير أو البقر أو الشاة، وبالأمس قد عرفنا ما هي الأنعام؟ وقلنا: هي: الإبل، والبقر، والغنم، وأما الإنعام فهو من النعم.

    وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا [الحج:34]، لماذا؟ لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ [الحج:34]، بقولهم: باسم الله والله أكبر، عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ [الحج:34]، وهذه السنة واجبة، فأيما مؤمن أو مؤمنة يذبح لله ذبيحة إلا ويجب عليه أن يقول: باسم الله والله أكبر، باسم الله الذي أذن لي أن أذبح هذا الحيوان، والله أكبر وأعظم، وإلا فمن أنا حتى أذبح هذا الحيوان وآكل لحمه؟ والذين يذبحون في غير المناسك سواء في بيوتهم أو في المجازر أو في السوق فلابد وأن يقول: باسم الله والله أكبر، وإذا تعمد ألا يذكر اسم الله فلا يحل أكل تلك الذبيحة، أما إن نسيها فقد عفي عن النسيان ولا حرج، أما أن يقول: لا أذكر اسم الله، أو يقول: لمَ أقول: باسم الله؟ فإنها محرمة لا يحل أكلها كالميتة.

    وبناء على هذا قال تعالى: إذاً: فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [الحج:34]، أي: إذا كان كل الأمم التي سبقتكم قد شرع الله تعالى لها الذبح تقرباً إليه بأنواع النسك، إذاً: فأمتكم أمة واحدة، فَإِلَهُكُمْ [الحج:34]، إذاً: إِلَهٌ وَاحِدٌ [الحج:34]، والحمد لله، أي: معبودكم الحق الذي لا يعبد بحق سواه هو الله الإله الأحد، فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [الحج:34]، إذاً: فَلَهُ أَسْلِمُوا [الحج:34]، أي: قلوبكم ووجوهكم، فأطيعوه ظاهراً وباطناً، وآمنوا واعملوا الصالحات واجتنبوا الشرك والكفر والذنوب والآثام، فَلَهُ [الحج:34]، لا لغيره تسلمون قلوبكم ووجوهكم، أي: تعبدون غير الله تعالى، بل لله وحده إسلام القلوب والوجوه، وهو الطاعة الكاملة فيما يأمر به وينهى عنه من أجل طلب رضاه، فَلَهُ أَسْلِمُوا [الحج:34].

    وأخيراً: وجه تعالى الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ [الحج:34]، أي: وبشر يا رسولنا المبلغ عنا، الْمُخْبِتِينَ [الحج:34]، وهم الخاضعون الخاشعون المطيعون، فلا عصيان ولا تكبر ولا تعالي ولا تجبر، ولكن تطامن وسكون وخشوع وخضوع لله عز وجل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم...)

    قال تعالى: الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [الحج:35].

    ومن أراد المزيد في معرفة الخاشعين المخبتين فهذه صفاتهم، فأولاً: الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ [الحج:35]، بينهم، كأن قال قائل: الله أكبر، أو قال آخر: باسم الله، أو قال إنسان: الحمد لله، أو قال فلان: اتق الله، إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ [الحج:35]، وهم يسمعونه، وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الحج:35]، أي: خافت لعلها مقصرة في عبادته، أو لعله غير راضٍ عنها، أو لعله لا يحبها، فتجد القلوب تضطرب.

    ثانياً: وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ [الحج:35]، فالمخبتون الخاشعون الخاضعون الأذلاء لله الذين يبعدون عن التكبر والتعالي، فهؤلاء إذا أصابهم ربهم بمصيبة امتحاناً واختباراً وابتلاء لهم بموت قريب أو بذهاب مال أو بمرض فإنهم يصبرون، فلا جزع ولا سخط، وإن سئلوا: كيف حالك؟ ردوا: الحمد لله، إننا بخير، مع أنه قد ضاع المال أو الولد أو المنصب، وهذا الضياع ما كان إلا اختباراً من الله لوليه، وذلك ليرفع درجته، أما الصراخ والبكاء والسخط وماذا فعلنا فإن ذلك يتنافى تماماً مع صفات المخبتين.

    وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ [الحج:35]، في أنفسهم أو في أموالهم أو في أولادهم، فلا يجزعون ولا يتسخطون أبداً، والجزع والصياح والبكاء والسخط يبدأ أن يقول: لماذا يصيبني ربي بهذا؟! أو ماذا فعلت حتى يصيبني ربي بهذا؟! وذلك كما يفعل الجهال والضلال، أما الصابر فإنه يبتسم ويقول: الحمد لله، إنا لله وإنا إليه راجعون، وقد عاشرنا إنساناً دفن في البقيع ابتلاه الله بموت أطفاله من العام إلى العام، وقد رئي إخوانه وأصدقاؤه على القبر يبكون وهم يدفنون وهو يبتسم، فلا حزن ولا هم ولا سخط ولا جزع، وهذا هو الصابر بحق، وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ [الحج:35].

    ثالثاً: وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ [الحج:35]، وقرئ: (والمقيمين الصلاة)، فإذا قرأنا: (والمقيمين الصلاة) فهو منصوب على أنه مفعول به، وإذا قرأنا: وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ [الحج:35]، فهو مضاف إليه مجرور، وإقام الصلاة كما علمتم: أن تؤدى أو تفعل على الوجه الذي بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قال: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، فيأتي بها المسلم في أوقاتها المحددة لها وبهيأتها وكيفيتها وعددها، ومن أراد أن يشاهد صلاتنا مع الأئمة هنا فتلك هي الصلاة كما هي، في القراءة وعدمها، في إطالة الركوع والسجود، في الخشوع في الخضوع، وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ [الحج:35].

    رابعاً: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [الحج:35]، أي: ومن الشيء الذي رزقناهم ينفقون، حتى الجاه والعلم، فمن كان له جاه أو علم فإنه ينفق منه، وليس مقصوراً ذلك على الدينار أو الدرهم أو الخبز أو الحليب أو اللبن، بل حتى من لديه صحة بدنية، فإنه إن يجد عاملاً لا يستطيع أن يحمل كيساً من القمح أو غيره، فإنه يحمله عنه، وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ [الحج:35]، من خير، وإن كان يتناول اللفظ أولاً المال أو الطعام.

    وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [الحج:35]، ويدخل في هذا أولاً: الزكاة المفروضة، ثم بعد ذلك: كل ما تطلبت الحاجة النفقة فلينفق، وذلك باستمرار بدون انقطاع؛ لأنه قال: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [الحج:35]، دائماً حتى الموت، فمن هؤلاء يرحمكم الله؟ إنهم المخبتون الذين أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يبشرهم برضوان الله ورضاه بالجنة دار النعيم، فاللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين.

    إذاً: صفات المخبتين هي: أولاً: الإخبات، وثانياً: الخوف من الله تعالى، وثالثاً: الصبر على المصيبة، ورابعاً: إقام الصلاة، وخامساً: إيتاء الزكاة أو الإنفاق مطلقاً في سبيل الله تعالى، فكيف حالكم يا أبنائي! مع هذه الصفات؟ أما الأولى: وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الحج:35]، فهي صعبة، إذ قل أن تجدها، فإذا ذكر الله يضحك ولا يبالي، بينما الصنف الآخر إذا قيل له: اتق الله ترتعد فرائصه وتذرف عينه بالدموع، ولذلك قلوبنا قاسية، فنسأل الله أن يلينها ويرققها، وأن يجعلها قلوباً خاشعة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله...)

    قال تعالى: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الحج:36].

    ثم قال تعالى -وهذه كلها تعاليم الله عز وجل للمؤمنين-: وَالْبُدْنَ [الحج:36]، والبُدن هي البعير السمين، يقال: فلان بدين أو ذو بدن، إذا كان قوياً في لحمه وشحمه، فأطلق لفظ البدن على الإبل، ويصح إطلاقها على البقر إذا كانت سمينة، لكن المراد هنا الإبل، والبدن جمع: بدنة، أي: البعير السمين أو البقر السمين، جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [الحج:36]، أي: من عباداتنا التي تتعبدون بها، وذلك بإهدائها للحرم وذبحها ونحرها وإطعامها الفقراء والمساكين، وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ [الحج:36]، من شعائرنا، أي: من عباداتنا وعلامات طاعاتنا، لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ [الحج:36] قطعاً، إذ يتقرب المؤمنون بهذه البدن لربهم عز وجل، ولهم فيها خير، أي: في لحمها وفي لبنها وفي كل شيء منها، فهي خير كامل.

    وبعد أن عرفتم هذا فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ [الحج:36]، وقال تعالى: الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ [ص:31]، والفرس الجواد لا الأنثى يقف على ثلاثة أرجل، وهذه من طبيعته، بينما الإبل لا تقف على ثلاثة أرجل، ولكن نحن نربط إحدى يديها فتبقى واقفة على ثلاثة أرجل، وذلك حتى نتمكن من نحرها على هذه الصورة، وهي تنحر بأن يدخل السكين من حلقها حتى يخرج من خلف رقبتها.

    فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ [الحج:36]، باسم الله والله أكبر ثم ينحر، فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا [الحج:36]، أي: سقطت جنوبها، فَكُلُوا مِنْهَا [الحج:36]، ومعنى هذا: لا يحل أكل الحيوان قبل ذبحه أو نحره أبداً، فلو تأخذ من حيوان قطعة لحم وهو حي والله ما جاز أكله بحال من الأحوال، إذ لابد من الذبح إذا كان من الغنم أو البقر، أو النحر إذا كان بعيراً، وهذا ظاهر في كلامه تعالى: فإذا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا [الحج:36]، أي: سقطت على جنوبها، ووجبت: بمعنى سقطت، يقال: وجبت الشمس إذا سقطت وغابت، فَكُلُوا مِنْهَا [الحج:36]، ولم يقل: فكلوها كلها، إذ فيها الفرث والعظام فلا يؤكل.

    ثم قال تعالى: وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [الحج:36]، أي: كلوا منها والباقي أطعموا القانع، والقانع قانعان: قانع يقنع فهو ذو قناعة فلا يطلب شيئاً أبداً وإن كان فقيراً، وقنع يقنع إذا طلب، وهو المقصود في الآية، وهو يَسأل فيقول: أعطني، وأما المعتر فإنه يستحي، أي: أنه فقير لكنه يستحي أن يسأل، إذ قد يمر بك ويسلم عليك ويكاد أن يقول لك: أعطني، ولكن ما يقول ذلك، ولذلك يأمر الله عباده أن يأكلوا من تلك البدن التي نحروها له، وأن يطعموا منها القانع والمعتر، أي: الذي يطلب من الفقراء والذي لا يطلب وأنت تعلم أنه فقير، لكن قد يعرض لك ويظهر أمامك فيقول لك: كيف حالك؟ أو السلام عليكم، وهو لا يستطيع أن يقول: أعطني.

    ثم يقول تعالى: كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ [الحج:36]، أي: كهذا التسخير سخرناها، ولذلك والله لولا أن الله سخرها ما استطاع أهل البلاد كلهم أن يذبحوا بعيراً، بل العقرب تجلي أهل القرية من القرية، أو حنش يبعدهم من منازلهم، فكيف بالبعير لو لم يسخره الله تعالى؟! من يقرب منه قد يبتلعه، لكن سخرها وذللها وسكنها وأذهب قوتها، وكل ذلك من أجل: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الحج:36]، أي: تركبون وتحلبون وتأكلون اللحم وأنتم عاجزون، وكل ذلك من أجل أن تشكروا الله على ذلك، فتقولوا: الحمد لله والشكر لله، فأراد الشكر فجعلكم سببه حتى تشكروه، والغافلون يأكلون ولا يحمدون الله تعالى، ويبتدئون طعامهم ولا يسمون الله تعالى، وهؤلاء ليسوا من الشاكرين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ...)

    قال تعالى: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ [الحج:37].

    ثم قال تعالى في خبر ثاني: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا [الحج:37]، فتذبح ألف بقرة أو مليون بعير ما يصل إلى الله لا لحمه ولا دمه، إذ الله ليس في حاجة إليه أبداً، وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37]، فهذا هو الذي يناله الله تعالى، وهو أن تتقوه فتعبدوه وحده، وتلازموا طاعته حتى الموت، ذاكرين شاكرين حتى تلقوا الله رب العالمين.

    لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا [الحج:37]، فلا تقل: الله في حاجة إلى هذا البعير ليذبح من أجله، ولكن فقط من أجل أن تتقوه فتطيعوه وتعبدوه وحده، فتكملوا وتسعدوا بذلك.

    كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ [الحج:37]، أيضاً، وعلة أخرى: سخرها وذللها وتنحرونها من أجل ماذا؟ لتكبروا الله على ما هداكم إليه من هذه العبادات والشعائر، ومن ذلك عند رمي الجمرات وفي مزدلفة وفي عرفات وأيام العيد، فكلها أيام ذكر وتكبير، لتكبروا الله على ما هداكم إليه من الإيمان والإسلام والعلم والمعرفة والطاعة.

    وأخيراً يا رسولنا! وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ [الحج:37]، اللهم اجعلنا منهم، والمحسنون ليس الذي يحسن الخياطة، ولا الذي يحسن طبخ الشاي، وإنما المراد: الذين إذا عبدوا الله فإنهم يعبدونه وكأنهم بين يديه، فلا يفسدون عملهم أبداً بحال من الأحوال؛ لأنهم إذا قاموا للعمل كأنهم مع الله تعالى، فإن غفلوا فهم موقنون أن الله تعالى ينظر إليهم وهو معهم.

    وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان ما هو؟ مع أن الإحسان ثلث الدين، إذ الإسلام ثلاثة أجزاء: الإيمان، والإسلام، والإحسان، وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لجبريل: ( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك )، ومن كانت هذه حاله والله ما يسيء في عمل يعمله، إذ الذي يعيش تحت مراقبة الله لا يغش ولا يخدع ولا يفسد أبداً، فإذا قام يعمل بالدين أو بالدنيا ما يفسد أبداً، ولو خاط ثوباً والله ما يغش ولا يسيء في الخياطة بل يحسنها، وكذلك في فلاحته أو في زراعته، بل في عمله دائماً؛ لأنه يراقب الله عز وجل فضلاً عن سائر العبادات من الرباط والجهاد إلى الصلاة والصيام.

    فهؤلاء هم المحسنون، وقد بشرهم رسول الله بأمر الله في أول الآيات وفي آخر الآيات: وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ [الحج:37]، أي: الذين يحسنون الأعمال فيؤدونها كما أمر الله وبين رسوله، فلا يداخلها نقص ولا زيادة ولا تقديم ولا تأخير، وهم خاشعون ذليلون بين يدي الله.

    أسمعكم الآيات مرة أخرى حتى تعرفوا ما فهمتم: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ [الحج:34-37]، اللهم اجعلنا منهم!

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات

    ومع هداية هذه الآيات فتأملوا يرحمكم الله! قال الشارح: [ من هداية الآيات: أولاً: ذبح القربان مشروع في سائر الأديان الإلهية، وهو دليل على أنه لا إله إلا الله، إذ وحدة التشريع تدل على وحدة المشرع ]، ذبح القربان، أي: ما يذبح لله تقرباً إليه مشروع في الأمم كافة، وهذا يدل على أن الإسلام دين البشرية، ومن خرج منه هلك، وأن الأمة الإسلامية هي أمة الله عز وجل في الأرض، قال: [ وسر مشروعية ذبح القربان: هو أن يذكر الله تعالى، ولذا وجب ذكر اسم الله عند ذبح ما يذبح، ونحر ما ينحر بلفظ: باسم الله والله أكبر ]، أي: السر في ذكر الله عند الذبح هو أن نشكر الله عز وجل، فالذي يذبح ويأكل ولا يقول: باسم الله فقد كفر ولم يشكر.

    قال: [ ثانياً: تعريف المخبتين أهل البشارة السارة برضوان الله وجواره ]، تعريف المخبتين بصفاتهم الخمس التي ذكرناها، والمخبت هو المطيع الخاشع الطائع لله تعالى، فأول صفاتهم: إذا ذكر الله وجل قلبه، وثانياً: الصابرين على ما أصابهم فلا جزع ولا سخط أبداً، وثالثاً: والمقيمين الصلاة، ورابعاً: والمنفقين مما رزقهم الله تعالى.

    قال: [ ثالثاً: وجوب ذكر اسم الله على بهيمة الأنعام ]، هذا مما هو معلوم بالضرورة، فلا يحل لمؤمن أن يذبح طيراً أو عصفوراً أو شاة أو بعيراً أو بقرة إلا ويجب عليه أن يقول: باسم الله والله أكبر، فإن تكبر ولم يذكر اسم الله فإن ذبيحته لا تؤكل ولا تحل لا له ولا لغيره.

    قال: [ رابعاً: بيان كيفية نحر البدن، وحرمة الأخذ منها قبل موتها وخروج روحها ]، فقد بين تعالى ذلك فقال: صَوَافَّ [الحج:36]، أي: تنحر وهي واقفة على ثلاث، ولا يحل الأكل منها حتى تسقط على الأرض ميتة.

    قال: [ خامساً: الندب إلى الأكل من الهدايا ووجوب إطعام الفقراء والمساكين منها ]، الاستحباب من أكل الذبائح التي ذبحت لله تعالى، فمن أهدى يستحب له أن يأكل من ذبيحته، بعيراً كان أو بقر أو شاة، ويجب أن يطعم من ذلك الفقراء والمساكين، وذلك كالأضحية يستحب لك أن تأكل منها ثم بعد ذلك توزع على الفقراء والمساكين.

    قال: [ سادساً: وجوب شكر الله على كل إنعام ]، سواء السمع أو البصر أو الأمن أو الرخاء أو الشبع أو الظمأ أو الري أو الثوب أو النعل في رجليك، بل كل نعمة أنعمها الله عليك، فيجب أن تشكر الله على كل ما أنعم، إذ علة الوجود أن يذكر الله ويشكر، فما أعطاك وأوجدك إلا لذلك، أي: من أجل أن تذكره وتشكره، وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ [إبراهيم:2].

    قال: [ سابعاً: مشروعية التكبير عند أداء المناسك كرمي الجمار وذبح ما يذبح وبعد الصلوات الخمس أيام التشريق ]، مشروعية التكبير عند رمي الجمرات في الحج أو عند أداء المناسك، وعند ذبح الأضحية، وعند الذهاب إلى المصلى، وبعد الصلوات الخمس أيام العيد، فاذكروا الله فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203]، وهي هذه الأيام.

    قال: [ ثامناً: فضيلة الإحسان وفوز المحسنين ببشرى على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ]، فضيلة المحسنين وبشراهم على لسان رسول الله، اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756366083