إسلام ويب

تفسير سورة مريم (2)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لما أن جاءت زكريا عليه السلام البشارة بيحيى عليه السلام، أراد عليه السلام أن يعرف الكيفية التي يأتيه فيها الولد؛ لأنه كبير في السن وزوجه التي عنده كانت عاقراً، فلما جاءه الجواب من الله بأن هذا الأمر لا يعجزه سبحانه طلب مرة أخرى علامة تدله على قرب هذا الولد، فأوحى إليه ربه أن علاقة ذلك أن يمتنع عن تكليم الناس ثلاث ليال متواصلة دون علة أو داء يصيبه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقراً...)

    الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس -إن شاء الله- كتاب الله؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ).

    ها نحن الليلة مع سورة مريم المكية، والسورة المكية -كما قد علمتم وأيقنتم- أنها تعالج العقيدة؛ بإيجادها وتقويتها وإصلاحها إذا داخلها فساد، وتقرر أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن الدار الآخرة حق، وما يتم فيها من جزاء على الكسب في هذه الدنيا هو حق كذلك.

    فهيا بنا نصغي مستمعين تلاوة هذه الآيات ثم نتدارسها.

    قال تعالى: قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا * قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا * يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا * وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا [مريم:8-15].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! بالأمس قرأنا وعلمنا أن نبي الله زكريا عليه السلام سأل ربه الولد، وعلل لذلك فقال: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم:5-6]، سأل ربه أن يرزقه ولداً يقوم مقامه بعد موته بنشر الإسلام والدعوة إليه؛ لأن بني عمه عرفهم لا يصلحون لهذا الموقف ولا يقدرون عليه، فتوسل إلى الله عز وجل وتضرع أن يرزقه ولداً يقوم بهذا الواجب، فاستجاب الله عز وجل له ووهبه يحيى، ولما بشرته الملائكة بالولد أراد أن يعرف الطريقة أو الكيفية التي يكون بها الولد، هل يتزوج امرأة أخرى؟ أم هل زوجته التي معه سيذهب عقمها؟ فقال: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ [مريم:8]، أي: كيف يكون لي الغلام، وما هي الطريق التي يحصل بها على الولد؟

    وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا [مريم:8]، فهل يقتضي الأمر أن يتزوج غيرها، أو سيشفيها الله عز وجل فتلد؟

    وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [مريم:8]، أي: عمراً رق فيه العظم ونفد منها اللحم، فهاتان علتان:

    الأولى: عقر المرأة وعقمها.

    والثانية: كبر السن ورقة العظم. فكيف يتم هذا؟!

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً)

    فقالت له الملائكة التي بلغته عن الله: كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ [مريم:9]، أي: سهل ميسر، وأنك أنت الذي تضاجع امرأتك وتنجب هذا الولد بمباضعتك إياها.

    هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا [مريم:9]، وهذا برهان عقلي ومنطقي، أي: خلقتك ولم تكن شيئاً بالمرة فلا عجب أن أخلق ولداً من أم وأب، وإن كان الأب كبيراً في السن أو كانت الأم عقيمة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال رب اجعل لي آية ...)

    قال تعالى: قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا [مريم:10]

    قال زكريا عليه السلام: رَبِّ [مريم:10]، أي: يا ربي، اجْعَل لِي آيَةً [مريم:10]، أي: اجعل لي علامة قوية أعرف بها متى يحصل هذا الولد، رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً [مريم:10]، أي: علامة تدلني على قرب وجود هذا الولد.

    قال تعالى بواسطة الملك: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا [مريم:10]، أي: وأنت معتدلاً قوياً ما أنت بأخرس ولا بأبكم، وهذه من أعظم الآيات؛ الرجل سليم البدن والصحة وسليم المنطق، فيصبح لا يعرف كيف يتكلم.

    أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا [مريم:10]، أي: وأنت سوي حال كونك قادراً على الكلام، ولكن لا تستطيع.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشياً)

    قال تعالى: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ [مريم:11]، والمحراب عند بني إسرائيل بناية صغيرة عند المسجد ينقطعون فيها للعبادة -كما علمنا مع مريم عليها السلام-، ومن ثم خرج على قومه فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ [مريم:11] أي: أعلمهم بطريق خفي، فإن كان المراد بالصلاة أشار إليهم بالركوع والسجود فيفهمون، وإن كان بالذكر والتسبيح يشير بيديه، وروي أنه كتب ذلك وما هناك حاجة إلى الكتابة ما دام الله قد أقدره وأعانه وجعله آية، فإنه لا يتكلم في أمور الدنيا بكلمة قط، ولكن الكلام بذكر الله ينطق ويتكلم.

    واسمعوا قوله تعالى: آيَتُكَ [مريم:10] الدالة على ما طلبت: أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا [مريم:10]، أي: حال كونك قادراً على الكلام، ولست بأبكم ولا بأخرس.

    هنا: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ [مريم:11]، الذي كان منقطعاً فيه للعبادة، فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ [مريم:11] أي: أشار إليهم: أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم:11]، قد تكون صلاة الصبح وصلاة المساء، وقد يكون التسبيح مطلقاً، وكونها صلاة الصبح والمساء أقرب.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبياً)

    ثم قال تعالى مخاطباً ولده النبي الجديد يحيى عليه السلام: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12]، أي: خذ التوراة بقوة العلم والفهم والعمل، والتطبيق والدعوة إليه، والقوة تتمثل في حفظه والدعوة إليه والعمل به وتعليمه بلا تهاون.

    وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم:12]، من إفضال الله وإنعامه عليه أنه آتاه العلم وهو صبي، ما بلغ الرابعة من عمره، بل الثالثة فقط، ولهذا يقول أهل العلم: الغلام الذي يحفظ القرآن من المسلمين قبل أن يبلغ يكون ممن آتاه الله الحكمة وهو صبي، فالذي يحفظ القرآن من أولادنا قبل البلوغ كان ممن آتاهم الله الحكمة وهم صغار لم يبلغوا.

    وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم:12] (وَآتَيْنَاهُ): القائل هو الله جل جلاله وعظم سلطانه، وآتى عبده يحيى بن زكريا، هذا الولد الذي سأله أبوه وتعجب من إيجاده.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وحناناً من لدنا وزكاةً وكان تقياً)

    قال تعالى: وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا [مريم:13] (وَحَنَانًا): أي: ورحمة منا، (مِنْ لَدُنَّا)، أي: من عندنا، (وَزَكَاةً)، أي: طهارة، فهذا العبد الولي لله طاهر لا يرتكب إثماً ولا يتسخ أبداً، فقد ورد أن يحيى عليه السلام قال لعيسى عليه السلام ابن خالته: استغفر لي، فقال عيسى: أنت أولى أن تستغفر لي فأنت خير مني، قال: كيف؟ قال: أنت سلَّم الله عليك يوم ولادتك ويوم موتك وفي حياتك يوم القيامة، إذ قال تعالى: وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا [مريم:15]، وأنا سلمت على نفسي: وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم:33]، فعيسى عليه السلام ابن خالة يحيى عليه السلام، وكلاهما نبي ورسول.

    قال تعالى: وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا [مريم:13]، وقد عرفنا أن التقي هو الذي لا يترك واجباً أوجب الله فعله أو قوله أو اعتقاده، ولا يرتكب محرماً حرم الله اعتقاده أو قوله أو فعله، فالتقي من الناس الذي يتقي سخط الله وذلك بطاعته وطاعة رسوله، فلا يترك واجباً أوجب الله فعله أو قوله أو اعتقاده، ولا يرتكب محرماً حرم الله اعتقاده أو قوله أو فعله، وذلكم التقي.

    وتعرفون أن الجنة أعدت للمتقين: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63]، (تِلْكَ الْجَنَّةُ) بعد ما وصفها قال: نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63]، وحكمة ذلك وعلته هو زكاة نفسه وطهارة روحه، فالتقي يفعل الواجبات فتزكي نفسه وتطهرها، ويجتنب المحرمات فيبتعد عن مدسيات وملوثات نفسه فيبقى طهر نفسه وزكاتها كما هو، وهذا الذي يرضى الله أن يجاوره وأن ينزل في دار السلام مع أوليائه.

    1.   

    ملخص لما جاء في تفسير الآيات

    فهكذا يقول تعالى عن يحيى: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ [مريم:12]، واسم يحيى لم يسم به أحد قبله أبداً

    يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ [مريم:12]، والمراد من الكتاب هو التوراة ولا شك في ذلك؛ لأن الإنجيل ما نزل بعد، فعيسى ما زال طفلاً.

    خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12] أي: يأخذه قراءةً وعملاً به ودعوة إليه، ما يتهاون أبداً في إبلاغه وتعليمه والعمل به.

    وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ [مريم:12]، وهو صبي لم يبلغ بعد، فإذا به أعطاه الله الحكمة والحكم والعلم والنبوة، فهو نبي ورسول.

    وقوله تعالى: وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا [مريم:13]، أي: رحمة من لدنا أفضناها عليه، فهو يعيش في رحمة الله.

    وَزَكَاةً [مريم:13] أي: وطهراً.

    وَكَانَ تَقِيًّا [مريم:13]، أي: زكيناه قبل أن يفعل الصالحات، طاهر قبل أن يطهر، واتقى الله عز وجل فحفظ له تلك الطهارة وتلك الزكاة في نفسه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وبراً بوالديه ولم يكن جباراً عصياً)

    قال تعالى: وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا [مريم:14].

    وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ [مريم:14]، البر بمعنى: أكبر من البار، أي: مبالغة في البار، وهو الذي يطيع والديه ولا يعصيهما في غير طاعة الله ومعصيته، يطيعهما فيما يأمرانه به وينهيانه عنه، ما لم يكن معصية لله، إذ ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق )، فهذا الحديث يجب أن يحفظ، تطيع أمك، أباك، شيخك، معلمك، حاكمك، أميرك، ولكن في حدود ما ليس فيه معصية الله عز وجل، فإن أمر بالمعصية فالله لا يعصى بل أحق بالطاعة.

    وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا [مريم:14]، والجبار: المتعالي المستكبر الذي لا يطيع ولا يسمع.

    والعصي: من العصيان، وَلَمْ يَكُنْ [مريم:14]، أي: لم يكن يحيى عليه السلام مع والديه جباراً عصياً، لا متكبر ولا متعنتاً ولا معانداً، بل كان لين هشاً حليماً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً)

    ثم قال تعالى: وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ [مريم:15]، أي: الله سبحانه وتعالى سلَّم على يحيى عليه السلام.

    وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا [مريم:15]، وقد سمعتم كيف واجه ابن خالته وقال: أنت خير مني، قال: كيف؟ قال: لأن الله سلَّم عليك عند ولادتك وعند موتك وعند بعثك، وأنا سلمت على نفسي فقط، وهنا السلام عند الولادة؛ لأن الروح لما كانت مستقرة في الرحم.. فالجنين في بطن أمه يشعر بأنه في أوسع من دنيانا هذه، فإنه في بطن أمه يتغذى باللبن أو بالدم، فلا يرى مكاناً أوسع أبداً مما هو فيه، والذي هو في الدنيا لا يرى مكاناً أوسع منها.

    إذاً: ثلاث مواطن:

    أولاً: في داخل الرحم، لما خرج كرب وتألم، خرج من ذلك الكمال الذي كان فيه، فسلمه الله بالسلام عليه فهدأت نفسه وطابت وسكنت.

    ثانياً: عند الموت لما يواجه موكب الملائكة، فهذا الموقف ليس من السهل، فالله سلم عليه ليسلم من هذا الموقف.

    ثالثاً: لما يبعث في عرصات القيامة وهي ساحة فصل القضاء يكون الموقف أيضاً يحتاج أن يسلم الله عليه فيسلم.

    فهذه مواطن الخوف: عند الولادة، وعند الموت، وعند البعث.

    ويحيى أمنه الله بالسلام عليه في هذه المواطن الثلاثة بقوله: وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا [مريم:15].

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    معنى الآيات

    شرح الآيات من الكتاب: [ ما زال السياق الكريم في ذكر رحمة الله عبده زكريا، إنه لما بشره ربه تعالى بيحيى قال: ما أخبر به تعالى عنه في قوله: (( قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ))[مريم:8]، أي: من أي وجه -وجهة- يأتيني الولد أمن امرأةٍ غير امرأتي، أم منها، ولكن تهبني قوة على مباضعتها -أي: جماعها- وتجعل رحمها قادرة على العلوق -بالنطفة- لأني كما تعلم يا ربي قد بلغت من الكبر حداً بس فيه عظمي ومفاصلي وهو العتي كما أن امرأتي عاقر لا يولد لها. فأجابه الرب تبارك وتعالى بما في قوله عز وجل: (( قَالَ كَذَلِكَ ))[مريم:9]، أي الأمر كما قلت يا زكريا، ولكن: (( قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ))[مريم:9]، أي: إعطاؤك الولد على ما أنت عليه من الضعف والكبر، وامرأتك من العقر سهل يسير لا صعوبة فيه، ويدلك على ذلك أني: (( وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ))[مريم:9]، فكما قدر ربك على خلقك ولم تك شيئاً فهو قادر على هبتك الولد على ضعفك وعقر امرأتك، وهنا طالب زكريا ربه بان يجعل له علامة تدله على وقت حمل امرأته بالولد، فقال ما أخبر به تعالى في قوله: (( قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ))[مريم:10]، فأعطاه تعالى علامة على وقت حمل امرأته بالولد، وهي أنه يصبح يوم بداية الحمل لا يقدر على الكلام وهو سوي البدن ما به خرس ولا مرض يمنعه من الكلام. (( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ ))[مريم:11]، إلى المصلى الذي يصلي فيه، (( فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ ))[مريم:11]، أي: أومأ وأشار إليهم، (( أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ))[مريم:11]، أي: اذكروا الله في هذين الوقتين بالصلاة والتسبيح. وهنا علم بحمل امرأته إذ امتناعه عن الكلام مع سلامة جسمه وحواسه آية على بداية الحمل. وقوله تعالى: (( يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ))[مريم:12]، هذا قول الله تعالى للغلام بعد بلوغه ثلاث سنين أمره الله تعالى أن يتعلم التوراة ويعمل بها بقوة جد وحزم بقوله: (( وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ))[مريم:12]، أي: ووهبناه الفقه في الكتاب ومعرفة أسرار الشرع وهو صبي لم يبلغ سن الاحتلام. وقوله تعالى: (( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا ))[مريم:13]، أي: ورحمة منا به ومحبة له آتيناه الحكم صبياً كما أنه عليه السلام كان ذا حنان على أبويه وغيرهما من المسلمين. وقوله تعالى: (( وَزَكَاةً ))[مريم:13]، أي: طهارة من الذنوب باستعمال بدنه في طاعة ربه عز وجل. (( وَكَانَ تَقِيًّا ))[مريم:13]، أي: خائفاً من ربه فلا يعصيه بترك فريضة ولا بفعل حرام. وقوله تعالى: (( وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ ))[مريم:14]، أي: محسناً بهما مطيعاً لهما لا يؤذيهما أدنى أذى، وقوله: (( وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ))[مريم:14]، أي: لم يكن عليه السلام مستكبراً ولا ظالماً، ولا متمرداً عاصياً لربه ولا لأبويه. وقوله: (( وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ ))[مريم:15]، أي: أمان له من الشيطان يوم ولد، وأمان له من فتنة القبر يوم يموت، وأمان له من الفزع الأكبر يوم يبعث حياً، فسبحان الله ما أعظم فضله، وأجزل عطاءه على أوليائه، اللهم أمنا كما أمنته فإنك ذو فضل عظيم]. اللهم أمنا كما أمنته فإنك ذو فضل عظيم.. اللهم أمنا كما أمنته فإنك ذو فضل عظيم..

    هداية الآيات

    قال: [من هداية الآيات:

    أولاً: طلب معرفة السبب الذي يتأتى به الفعل غير قادح في صاحبه، فسؤال زكريا عن الوجه الذي يأتي به الولد كسؤال إبراهيم عن كيفية إحياء الموتى ].

    لا يلام ويقال: كيف يسأل الله ويقول له: أعطني آية، ما صدق، ما آمن بأن الله سيعطيه الولد؟ إبراهيم عليه السلام ألم يقل: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى [البقرة:260]، هل إبراهيم شاك في إحياء الموتى؟ لكن يريد أن يعرف كيف، لا أقل ولا أكثر.

    كذلك زكريا أراد أن يعرف كيف يكون الولد، هل يتزوج بأخرى هل كذا.. هل كذا..

    [ ثانياً: جواز طلب العلامات الدالة على الشيء للمعرفة ]، جواز طلب العلامات الدالة على الشيء من باب المعرفة ولا بأس.

    [ ثالثاً: آية عجيبة أن يصبح زكريا لا يتكلم فيفهم غيره بالإشارة فقط ]، وهذه من أعظم الآيات كون زكريا انقطع عن الكلام أبداً حتى مات هذا مرد معتاد، لكن كونه ثلاث ليالي فقط ما يستطيع أن ينطق أية آية أعظم من هذه الآية، وهكذا.. والله على كل شيء قدير.

    [ رابعاً: فضل التسبيح في الصباح والمساء ]، فضل التسبيح والصلاة في الصباح والمساء؛ لأن الله قال فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم:11].

    [ خامساً: وجوب أخذ القرآن بجد وحزم قراءة وحفظاً وعملاً بما فيه ]، هذه نأخذها من التوراة التي عند يحيى، يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم:12]، فنقول: يا ولدي.. يا مسلم.. يا مؤمن! خذ القرآن بحكمة وقوة واحفظ واعمل به وعلمه.

    [ سادساً: صدق قول أهل العلم: من حفظ القرآن في سن ما قبل البلوغ فقد أوتي الحكم صبياً ]، أي نعم، هذه قالها أهل العلم: الذي يحفظ القرآن من أولادنا قبل بلوغه لقد أوتي الحكم صبياً، كما أوتي ذلك يحيى.

    [ سابعاً وأخيراً: وجوب البر بالوالدين ورحمتهما والحنان عليهما والتواضع لهما ]، وما في ذلك شك لابد من بر الوالدين، فيا من له والدان أو والد واحد! بر أباك أو أمك بر والديك، فإن عقوقهما يوجب النار -والعياذ بالله وتعالى- والخلود فيها.

    وصلى الله على نبينا وآله وأصحابه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755828592