إسلام ويب

تفسير سورة التوبة (4)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • شرع الله الجهاد وأمر به عباده المؤمنين، وذلك لتصفية صفوفهم من الضعفة والمتخاذلين والممالئين للمشركين، وكذلك لتصفية قلوبهم من خشية غير الله سبحانه وتعالى، فالمؤمنون تعرضوا في سبيل دعوتهم والتمسك بدينهم للقتل والتشريد والتنكيل، وهذه هي فرصتهم ليعذب الله المشركين بأيديهم، وينصرهم عليهم، ويشفي صدورهم، ويذهب غيظ قلوبهم على أعدائهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس -إن شاء الله- كتاب الله؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن ما زلنا مع سورة التوبة -تاب الله علينا وعلى كل مؤمن ومؤمنة في هذه الحياة- وهانحن مع هذه الآيات الأربع فلنصغ مستمعين لتلاوتها مجودة مرتلة، ثم نأخذ في دراستها وبيان ما جاء فيها من الهدى والنور.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [التوبة:13-16].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أعيد إلى أذهانكم أن الله عز وجل وقد علم قرب وفاة نبيه صلى الله عليه وسلم أعلن براءته وبراءة رسوله من المشركين كافة، وأعطاهم مدة أربعة أشهر، إما أن يدخلوا في الإسلام أو يخرجوا من ديار الإسلام، أو يقاتلون حتى يقتلوا، فلم يبق مجال للشرك والكفر في جزيرة الإسلام، وأنزل هذه الآيات المباركات: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التوبة:5]، إما أن يدخلوا في الإسلام أو يخرجوا هاربين يشرقون أو يغربون، وإما أن يقتلوا ويحاصروا ويضايقوا وتقطع الطرق عليهم حتى يذعنوا للإسلام ويدخلوا فيه.

    التهييج والإثارة على الجهاد ضد المشركين

    ثم قال تعالى حاثاً رسوله والمؤمنين، دافعاً لهم إلى قتال المشركين فقال: أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [التوبة:13]، أي: كيف تتأخرون عن قتالهم؟ وكيف تترددون؟ وكيف لا تعزموا العزم الحق على قتال هؤلاء المشركين؟

    أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ [التوبة:13]، فالأيمان التي حلفوها وحنثوا فيها.. لما انعقد صلح الحديبية في السنة السادسة كانت بين خزاعة وبنو بكر صراع، فحالف الرسول صلى الله عليه وسلم خزاعة، وحالف المشركون بني بكر، وتمت الاتفاقية على أن بني بكر مع قريش، وأن خزاعة مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يقاتل بعضهم بعضاً، وفجأة شاعر من بني بكر قال قصيدة وذم وشتم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له خزاعي: اسكت وإلا كسرت فمك، فأبى أن يسكت فكسر فمه، ومن ثم أعلنت الحرب بين خزاعة وبين بني بكر، ونصرت قريش بني بكر على خزاعة، وجاء رسولهم من هناك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يشكو خيانة قريش للعهد، فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن جهز نفسه، وأعلن الخروج لقتال المشركين في مكة؛ لنقضهم العهد؛ لأن الاتفاقية مدتها عشر سنين، لكن نقضتها قريش بقتالها إلى جانب أوليائها ضد من حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك بيتان قالهما أبو عمرو سالم الخزاعي :

    إن قريشاً أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا

    هم بيتونا بالهجير سجدا وقتلونا ركعاً وسجدا

    في قصيد أثارت عواطف الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر رجاله بأن يستعدوا لقتال قريش في مكة، فالله عز وجل يستحثهم على ذلك: أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ [التوبة:13]، حلفوا على أن لا يؤذوا خزاعة، وحلفت خزاعة أن لا تؤذيهم، وخزاعة مع رسول الله، وبنو بكر مع قريش، ولكن نكثوا تلك الأيمان وقاتلوا وقتلوا العبيد من أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني خزاعة.

    قال تعالى: نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ [التوبة:13]، أما هموا بإخراجه من مكة؟ وإن لم يخرجوه خرج بنفسه، لكن أما صدر الحكم بهذا؟ إما بالقتل وإما بالسجن وإما بالإخراج، هموا بإخراج الرسول بالفعل.

    قال تعالى: وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [التوبة:13]، فالقتال بدأ من المشركين في بدر، فقد خرجوا لحفظ عيرهم وتجارتهم، لكن علموا بسلامتها ونجاتها، ثم قالوا: لنأتين بدراً وتغني لنا القينات ونشرب الخمر ونستأصل محمداً ومن معه، فلو ما أرادوا القتال لعادوا إلى مكة وعيرهم سلمت ووصلت إليهم، بل قالوا: لا بد من الذهاب إلى بدر؛ لنستأصل محمداً وأصحابه، ولتغني لنا القينات، ونشرب الخمور ثم نعود، وهذا الله تعالى يخبر فيقول: وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [التوبة:13]، بالقتال.

    أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ [التوبة:13]، أولاً، وهموا بإخراجكم ثانياً، وهم بدءوكم بالقتال ثالثاً.

    وجوب خشية الله تعالى بطاعته وترك معصيته

    ثم قال تعالى: أَتَخْشَوْنَهُمْ [التوبة:13]، أي: يعيب عليهم الخوف والجبن والخشية من المشركين، إذ يوجد من يخاف، أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ [التوبة:13]، أي: إذا كنتم تخافون سلطانهم وقوتهم وقتالهم فالله يملك ذلك وأكثر منه، فمن أحق بالخشية؟ هل المخلوق الذي لا يحرك يده إلا بإذن الله؟ أم الله الذي بيده كل شيء؟!

    فخشية الله أولى، فإن كنتم تخشونهم فلا تقاتلونهم خوفاً من الموت والقتل والأسر، فالله إذاً يملك كل شيء فهو أحق إذاً بالخشية. فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [التوبة:13]، أي: مؤمنين به، عارفين جلاله وكماله وعظيم سلطانه وقدرته، أما الكافرون لا يعرفون عن الله ما يحملهم على أن يخافوه ويخشوه، لكن المؤمنين عارفون، فكيف إذاً يخافون الكفار ولا يخافون الله الذي بيده كل شيء، هكذا يقول تعالى في هذه الآية حاثاً أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم ورجاله على استئصال شأفة المشركين وقتالهم، وإنهاء وجودهم في هذه الجزيرة؛ لأنها قبة الإسلام وبيضته، فلا يجتمع فيها دينان.

    أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ [التوبة:13]، صلى الله عليه وسلم، وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ [التوبة:13]، فهذا لوم وعتاب، أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [التوبة:13].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم...)

    قال الله تعالى: قَاتِلُوهُمْ [التوبة:14]، بالأمر، يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ [التوبة:14]، هذا أولاً؛ لأن أسرهم وضربهم وجراحاتهم وقتلهم تعذيب، يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ [التوبة:14]، السيد مولاكم أمركم أن تقتلوهم وتعذبوهم فيعذبهم بأيديكم، قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ [التوبة:14]، ويذلهم تحتكم وهو كذلك، وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ [التوبة:14]، ثالثاً: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [التوبة:14]، فيوجد من المؤمنين المهاجرين من قلوبهم مليئة بالغيظ على المشركين؛ فهم أخرجوهم من ديارهم وسلبوا أموالهم، وقتلوهم وعذبوهم، فهذا الغيظ لا يزول، لكن إذا شاهدوهم صرعى قتلى انتهى وجودهم يذهب ذلك الغيظ، تشفى صدورهم، وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ [التوبة:15].

    أقول: ألم يقتل سبعون رجلاً من الأنصار والمهاجرين في أحد؟ أليس الذين قتل إخوانهم ما يتغيظون على المشركين؟ يبقى الغيظ في نفوسهم والكرب والحزن، فأتاح الله لهم الفرصة لإذهاب هذا الغيظ، قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ [التوبة:14]، ويذلهم، وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [التوبة:14]، أي: صدور المؤمنين التي امتلأت بالغيظ والألم من المشركين الذين قتلوهم وطردوهم من بلادهم وعذبوهم، تزول بحمد الله تعالى تلك الأمراض القلبية حين يشاهدون المشركين صرعى لا وجود لمن يرفع رأسه منهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ويذهب غيظ قلوبهم... )

    قال تعالى: وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ [التوبة:15]، يشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم بسبب من قتل منهم، أو من سلب ماله وطرد من بلده.

    وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ [التوبة:15]، فإن مواصلة قتال المشركين حتى يفنوا من شأنه أن يجعل الناس يخافون ويدخلون في الإسلام، وبالفعل فقد أسلم أبو سفيان وأسلم عكرمة بن أبي جهل من رجالات قريش المغتاظين.

    فمن ثمرات قتال المؤمنين للمشركين: أن الله يذهب غيظ قلوب بعض المؤمنين ويتوب على من يشاء أن يتوب عليه، وقد تاب الله على أبي سفيان وأسلم سنة ثمانية، فعندما عسكر الرسول دون مكة جاء أبو سفيان يعلن إسلامه، وأسلم كثيرون، وهذا معنى: وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ [التوبة:15]، فإذا انتصرتم وعززتم وذل المشركون وهانوا، سوف يدخل في الإسلام الكثيرون، وبالفعل دخلوا لما شاهدوا راية لا إله إلا الله ترتفع والمشركون ينهزمون في كل معركة، فهذه حال تدفعهم إلى أن يطلبوا الإسلام ويدخلوا فيه، ويبعثون بوفودهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلنون إسلامهم وإسلام قومهم وأتباعهم، فبسبب قتالكم لهم وانتصاركم عليهم وإذلالكم لهم يدخل الناس في الإيمان والإسلام.

    وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ [التوبة:15]، نعم! فليس كل من أراد التوبة يتوب، فلا بد من إرادة الله عز وجل وتوفيقه، فمن لم يرد الله توبته لم يخطر بباله التوبة ولا يفكر فيها، ولا يقبلها ولو تعرض عليه بالملايين من الدينارات.

    وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ [التوبة:15]، وعقب على ذلك بقوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:15]، فلهذا يجب أن يطاع في الأمر بالقتال أو في غيره؛ لأنه عليم بأحوال الخلق كلهم، حكيم فيما يأمر به وينهى عنه، فيما يعطي وفيما يمنع، فيما يعز ويذل، لا يتم ذلك إلا على أساس الحكمة وهي وضع الشيء في موضعه، لا حماقة ولا جهل، ولكن علم وحكمة ومعرفة، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:15].

    إذاً: فأذعنوا لأمره واستسلموا له وانقادوا وقاتلوا المشركين، وعجلوا، فالفرصة ضيقة ولم يبق إلا الزمن القليل؛ لتطهر هذه البلاد طهارة كاملة، ومنها تنتشر أنوار الإسلام في الشرق والغرب، وكذلك كان بفضل الله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا ...)

    قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا [التوبة:16]، أي: على ما أنتم عليه، فمنكم قوي الإيمان ومنكم ضعيف الإيمان، ومنكم المؤمن الصادق ومنكم المنافق، ففي هذه الفترة، وإن انتصر الإسلام وفتح الله على رسوله مكة فالمنافقون موجودون، ومنهم من يتصل بالخارج وبالقبائل والجماعات ويحثهم ويبين لهم ضعف الرسول والمؤمنين.

    معنى الوليجة

    ومعنى الوليجة في قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا.. [التوبة:16] أي: على ما أنتم عليه، ففيكم المريض والصحيح، وفيكم والسليم والسقيم، وفيكم المنافق والمؤمن، قوي الإيمان وضعيفه، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً [التوبة:16] (الوليجة) بمعنى: من ولج في الشيء إذا دخل فيه، يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ [فاطر:13] أي: يدخله.

    الوليجة: عبارة عن بعض المنافقين وبعض ضعاف الإيمان يتصلون ببعض الجهات وبعض القبائل، ويجيء الرجل منهم ويبيت عندهم ويطلعونه على أسرار النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا هو معنى الوليجة.

    معنى قوله تعالى: (أم حسبتم أن تتركوا ...)

    فالله تعالى يقول: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا [التوبة:16]، أي: تتركوا على ما أنتم عليه، فبينكم المنافق وبينكم الصادق الإيمان، وبينكم السليم القوي، وبينكم مريض، لا، لا، لا بد من التطهير، وذلك يتم بالقتال والانتصار، إذا قاتلتم المشركين وانتصرتم عليهم ظهر كل شيء، وعلم الله عز وجل بمعنى ظهوره للعالم وليشاهدوه المؤمنين، فهذا الحسبان وهذا الظن ليس بسليم أبداً.

    أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا [التوبة:16]، أي: على ما أنتم عليه؛ لأن بعضهم -أي: من المؤمنين- قالوا: لا فائدة الآن في القتال ما دامت مكة سقطت، وثقيف هزمت ودخلت في الإسلام لا حاجة إلى قتال الناس، ندعهم يدخلون في الإسلام، وهذا القول قول ضعيف الإيمان وضعيف القوة والعزيمة، وقاله من قاله من الأصحاب. وهذا رأي، ما دام مكة فتحها الله فليس هناك حاجة إلى القتال.

    إذاً فقوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ [التوبة:16]، يذكر ما في قلوبهم، أَنْ تُتْرَكُوا [التوبة:16] هكذا قبل القتال وانتصاركم على المشركين، وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ [التوبة:16]، أي: يظهر الله الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ [التوبة:16]، يظهرهم لكم، وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [التوبة:16].

    فلهذا حثهم على قتال المشركين وألزمهم وحذرهم من الهزيمة وعابهم إن تأخروا، وقال لهم: لا ينبغي أبداً وضع السلاح مهما كانت الأقاويل، مهما ما قال الناس، مهما كانت الخديعة، فلا بد من مواصلة القتال؛ حتى لا يبقى من يشرك بالله في هذه البلاد، هذا هو سر القضية؛ لأنها بلاد الإسلام ومنها ينتشر الإسلام، لكن إذا وجد فيها دينان أو ثلاثة ما أصبحت أهلاً لأن تنشر دعوة الإسلام، وهذا تدبير الله عز وجل.

    1.   

    ملخص لما جاء في تفسير الآيات

    قال الله تعالى: أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:13-15]، أي: بقتالكم، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا [التوبة:16]، هكذا خليطاً، الصادق والكاذب والمنافق والبار والفاجر لا بد من التصفية النهائية.

    أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ [التوبة:16]، أي: علم ظهور، الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [التوبة:16]، فهناك من لهم وليجة من المشركين يتصلون بهم ويطلعونهم على أعمال الرسول وأسراره.

    فمعنى هذا: أن المجتمع ما زال غير صافٍ صفاءً كاملاً، والرسول قريب يرحل، فلا بد من التصفية الكاملة، ومن هنا ما كان إلا أن شد الرسول مئزره وحاربهم حتى أدخلهم في الإسلام، ففي السنة التاسعة والعاشرة كانت الوفود تأتي من كل جهات الجزيرة ويعلنون إسلامهم، فتوفي صلى الله عليه وسلم وما على الجزيرة كافر.

    قال تعالى: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ.. [التوبة:16]، أي: ولما يظهر الله..، فعلم الله أزلي قديم، فقوله تعالى: (ولما يعلم الله) أي: علم ظهور وليس علم أزل، بمعنى: لما يظهر الله للناس ما أراد أن يظهره لهم، يبين هذا صحيح الإسلام وهذا فاسد الإسلام، وهذا صادق وهذا كاذب، فهذا تعليل لقوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا [التوبة:16]، كما أنتم عليه، فيكم الصادق والكاذب، والمحب والمنافق، والقوي والضعيف، ولما ما زال ما أظهر الله ذلك لكم، لكن لما تعلن الحرب العامة يظهر ذلك وينفضح.

    وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ [التوبة:16]، أي: يظهرهم علناً، وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً [التوبة:16]، أي: من المشركين، بل صلتهم بالله وببعضهم البعض دون المشركين، وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [التوبة:16]، أيضاً يعلمهم بأن هناك يداً خبيثة في المجتمع، وأن هناك ولائج وليست وليجة واحدة، كيف نطهر هذا؟ يجب أن تكون الطهارة عامة.

    إذاً: قاتلوا المشركين حتى ينتهوا، أما أعطاهم أربعة أشهر فقط؟ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:5]، وسر ذلك كما قلت لكم: قرب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، لو مات الرسول والجزيرة فيها مشركون ما دخل الناس الإسلام ولا انتشر.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات

    فمن هداية الآيات:

    [أولاً: مشروعية استعمال أسلوب التهييج والإثارة للجهاد]. ألم يقل الله تعالى: أَلا تُقَاتِلُونَ [التوبة:13]؟ وهذا إثارة وتهييج. بمعنى: ما لكم.

    [ثانياً: وجوب خشية الله تعالى بطاعته وترك معصيته]؛ لقوله تعالى: أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [التوبة:13]، فلهذا لا يخشى المؤمن غير ربه؛ إذ بيده ملكوت كل شيء، تخشى فلان وفلان وفلان فتترك طاعة الله! اخش الله ولا تترك طاعته، ولا تخشاهم واعصهم ولا تبالي بهم؛ لأن الله أقوى منهم، فهذا الذي تخافه أنت الله أقوى منه، فكيف تعصي الله وتطيع الضعيف وتعصي القوي؟! (أَتَخْشَوْنَهُمْ) وهذا لوم وعتاب، (فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ)، إذا كنتم تخافون من الموت، ومن أن يقتلوكم، فالله بيده الموت والحياة، وبيده كل شيء وهو أحق بأن يخاف.

    [وجوب خشية الله تعالى بطاعته وترك معصيته]، وإلا ما هي خشية الله؟ الخوف الذي يحملني على أن أطيعه في أمره ولا نعصيه في نهيه.

    [ثالثاً: لازم الإيمان الشجاعة فمن ضعفت شجاعته ضعف إيمانه]؛ لقوله تعالى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [التوبة:14].

    [لازم الإيمان الشجاعة فمن ضعفت شجاعته ضعف إيمانه]، فلهذا كان الأصحاب أشجع الخلق، فكانوا يرمون بأنفسهم في المعارك حتى يستشهدوا؛ لأنهم عرفوا أن الموت بيد الله، إن شاء أمات وإن شاء أحيا، فكيف نخاف هذا من سلاحه والله فوقه؟!

    فهذه البصيرة يجب أن لا ننساها: لا يحملك الخوف؛ خوف من السلطان أو خوف من الشيطان أو خوف من غني.. فلا يحملك على أن تعصي الله من أجله.

    فلو أن شخصاً يخوفك أن لا تصلي تطيعه ولا تصلي؟ يخوفك على أن لا تذكر الله فتنسى الله من أجله ولا تذكر الله؟!

    فالله أحق أن يطاع ولا يعصى؛ لأن بيده كل شيء، إن شاء خوفك وإن شاء أمنك.

    قد يقول القائل: بالأمس تقول نحلق اللحية إذا كانت هناك فتنة أو كذا. نقول: اللحية ليست من أصول الدين ولا من أركانه ولا من واجباته، سنن من سنن الإسلام وآدابه، فإذا كان المؤمن يتعرض للسجن والبلاء والعذاب من أجل هذه السنة يعفا عنه بشرط أن يكون ناوياً متى زالت الفتنة من بلاده يعود إلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بخلاف الخوف الذي يمنعك على أن لا تزكي وعلى أن لا تصلي، وعلى أن لا تصلي على النبي، وعلى أن لا تكون مؤمناً، فهذا الخوف لا قيمة له؛ لأن الله أحق أن يخاف، أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [التوبة:13].

    [رابعاً: من ثمرات القتال دخول الناس في دين الله تعالى]، فللقتال ثمرة وهي أن يدخل الناس، قال: وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ [التوبة:15]، فلما انهزم المشركون دخل من مكة في الإسلام مئات، ولو بقيت مكة ما فتحت بقي الشرك فيها والمشركون، ما إن فتحها الله على رسوله حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1]، فتح مكة، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [النصر:2-3]؛ لأنك قريب ترحل من هذه الحياة.

    وعلى رأس من أسلم أبو سفيان وقد كان حامل راية الحرب ضد الرسول صلى الله عليه وسلم، وعكرمة بن أبي جهل وكان أشد من أبيه وأقوى -والعياذ بالله- ولكن أسلم، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ [التوبة:15]، بسبب القتال وهزيمة المشركين.

    فلهذا قلنا: من ثمرات القتال دخول الناس في دين الله أفواجاً.

    فالآن -والله العظيم- لو تجتمع كلمة المسلمين وتتحد رايتهم وأمتهم، ويدخلون في الإسلام عملياً ظاهراً وباطناً لدخلت أمم في الإسلام، أمم في الشرق -الآن- يدخلون فقط يشاهدون أنوار الإسلام ويدخلونه بدون قتال.

    [خامساً: الجهاد عملية تصفية وتطهير لصفوف المؤمنين وقلوبهم أيضاً]؛ لقوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [التوبة:16]. إذاً: [الجهاد عملية تصفية وتطهير لصفوف المؤمنين وقلوبهم أيضاً].

    لو يعلن خادم الحرمين الجهاد لإقامة دولة الإسلام لانفضح منا الآلاف ممن لا يريدون، أما إذا طالبنا بالمال ستجد منا آلافاً يقولون: ما نملك شيئاً. وهنا تظهر التصفية.

    وهكذا يمتحن الله من يشاء بما يشاء، فامتحنهم بالإعلان بالجهاد، ومن ثم ظهر المنافق، وظهر الضعيف والقوي.

    وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756180639