إسلام ويب

شرح الفتوى الحموية [8]للشيخ : عبد الرحيم السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • علو الله تعالى ثابت بالكتاب والسنة وإجماع السلف، وقد بلغت أدلة العلو مبلغاً عظيماً في التواتر بما لا يدع مجالاً لأدنى شك فيه، ومع ذلك فقد نفى العلو بعض طوائف المبتدعة، سالكين في ذلك طرقاً معوجة وأدلة عقلية معارضة لنصوص الوحيين، فنفوا عن الله تعالى ما يجب له، وعطلوه عن صفات الكمال الثابتة له سبحانه وتعالى.

    1.   

    إجماع السلف على إثبات العلو لله تعالى

    انتهينا في الدرس الماضي من موضوع إثبات علو الله تعالى على خلقه في القرآن والسنة، وقد نقل الشيخ رحمه الله في كتابه هذا كثيراً من النصوص الدالة على علو الله سبحانه وتعالى على خلقه، ثم بعد ذلك تحدث عن مسألة مهمة وهي مسألة منهج نفاة صفات الله سبحانه وتعالى، ويمكن أن نقرأ الكلام الذي تحدث به عن هذا الموضوع، ثم نتحدث عن أبرز الشبهات التي من أجلها نفى المعطلة صفات الله سبحانه وتعالى.

    قال المصنف رحمه الله تعالى:[وقوله في الحديث الذي في السنن: (إن الله حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً)، وقوله: (يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب) إلى أمثال ذلك مما لا يحصيه إلا الله، مما هو من أبلغ المتواترات اللفظية والمعنوية، التي تورث علماً يقينياً من أبلغ العلوم الضرورية، أن الرسول صلى الله عليه وسلم المبلّغ عن الله، ألقى إلى أمته المدعوين أن الله سبحانه فوق العرش، وأنه فوق السماء، كما فطر الله على ذلك جميع الأمم عربهم وعجمهم في الجاهلية والإسلام، إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته.

    ثم عن السلف في ذلك من الأقوال ما لو جُمع لبلغ مئات أو ألوفاً ثم ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من سلف الأمة لا من الصحابة والتابعين، ولا عن أئمة الدين الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف حرف واحد يخالف ذلك، لا نصاً ولا ظاهراً، ولم يقل أحد منهم قط: إن الله ليس في السماء، ولا أنه ليس على العرش، ولا أنه بذاته في كل مكان، ولا أن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء، ولا أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل ولا منفصل، ولا أنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه بالأصبع ونحوها.

    بل قد ثبت في الصحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب خطبته العظيمة يوم عرفات في أعظم مجمع حضره رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يقول: (ألا هل بلغت؟) فيقولون: نعم، فيرفع أصبعه إلى السماء وينكبها إليهم، ويقول: (اللهم اشهد) غير مرة، وأمثال ذلك كثير.

    فإن كان الحق فيما يقوله هؤلاء السالبون النافون للصفات الثابتة في كتاب الله وسنة رسوله من هذه العبارات ونحوها، دون ما يفهم من الكتاب والسنة، إما نصاً وإما ظاهراً، فكيف يجوز على الله ثم على رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم على خير الأمة أنهم يتكلمون دائماً بما هو نص أو ظاهر في خلاف الحق الذي يجب اعتقاده، ولا يبوحون به قط، ولا يدلون عليه لا نصاً ولا ظاهراً، حتى يجيء أنباط الفرس والروم وفروخ اليهود والفلاسفة يبينون للأمة العقيدة الصحيحة التي يجب على كل مكلف أو كل فاضل أن يعتقدها.

    لئن كان ما يقول هؤلاء المتكلمون المتكلفون هو الاعتقاد الواجب وهم مع ذلك أحيلوا في معرفته على مجرد عقولهم، وأن يدفعوا بمقتضى قياس عقولهم ما دل عليه الكتاب والسنة نصاً أو ظاهراً، لقد كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم وأنفع على هذا التقدير، بل كان وجود الكتاب والسنة ضرراً محضاً في أصل الدين.

    فإن حقيقة الأمر على ما يقوله هؤلاء: أنكم يا معشر العباد لا تطلبوا معرفة الله عز وجل وما يستحقه من الصفات نفياً ولا إثباتاً، لا من الكتاب ولا من السنة، ولا من طريق سلف الأمة، ولكن انظروا أنتم فما وجدتموه مستحقاً له من الأسماء والصفات فصفوه به، سواء كان موجوداً في الكتاب والسنة أو لم يكن، وما لم تجدوه مستحقاً له في عقولكم فلا تصفوه به]

    هذا الحديث الذي في السنن وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله حيي كريم، يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً) هو من جملة الأحاديث التي فيها إثبات صفة العلو لله سبحانه وتعالى، ووجه الدلالة من هذا الحديث هو قوله: (إذا رفع إليه يديه) فإن رفع اليدين يدل على أن المسئول في السماء.

    ولهذا لما ذكر بعض أهل العلم أن رفع اليدين في الدعاء يدل على علو الله عز وجل، أجابهم هؤلاء المعطلة بأن السماء قبلة الدعاء كما أن الكعبة قبلة الصلاة، ولكن بقية الأحاديث والآيات الضرورية الواضحة تدل على علو الله عز وجل؛ ولهذا إذا جادلنا أحداً في حديث واحد أحلناه إلى حديث آخر، حتى لو كان الحق معنا في نفس الحديث.

    مثل إبراهيم عليه السلام عندما قال للنمرود : رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة:258] فكان بإمكان إبراهيم عليه السلام أن يرد على هذا الطاغية الكذاب بقوله: كيف ذلك؟ وقد قال له ذلك فطلب اثنين من السجن، فلما جيء بهما أطلق رجلاً وذبح الآخر، وقال: أنا أمت هذا وأحييت هذا، وكان بإمكان إبراهيم أن يقول: احي هذا الذي أمته أنت الآن، فلا يستطيع؛ لكن إبراهيم عليه السلام تجاوز النقاش في هذه النقطة إلى ما هو أوضح منها فقال: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [البقرة:258].

    فالانتقال من مناقشة المخطئ من حديث إلى آخر لا يعني أنه في الحديث الذي انتقل عنه غير مصيب فيه، لكن قد يناقش الإنسان رجلاً يكون مماحكاً أو مجادلاً فينتقل معه في النقاش من القضية الغامضة التي يحتاج إلى كثرة كلام فيها إلى الواضحات، فإن هناك عشرات الآيات من القرآن، وعشرات الأحاديث من السنة النبوية، وإجماع السلف الصالح رضوان الله عليهم، والفطرة، والعقل..، كلها تدل على إثبات علو الله سبحانه وتعالى.

    ولهذا لما أنكر الجويني -وهو من أئمة الأشاعرة- علو الله عز وجل، قال له الهمداني : أخبرني عن الضرورة التي نجدها في أنفسنا، عندما نرفع أيدينا للدعاء نجد ضرورة في أنفسنا تشعر الإنسان بأن الله عز وجل في العلو؛ فأصبح يضرب رأسه ويقول: حيّرني الهمداني ، حيّرني الهمداني ، وربما يأتي هذا النص معنا عند نقل نصوص السلف الصالح رضوان الله عليهم في موضوع صفات الله سبحانه وتعالى.

    قال المؤلف رحمه الله: (إلى أمثال ذلك مما لا يحصيه إلا الله مما هو من أبلغ المتواترات اللفظية والمعنوية).

    سبق أن ذكرنا أن موضوع إثبات علو الله عز وجل على خلقه متواتر، وتواتره معنوي، والفرق بين التواتر المعنوي والتواتر اللفظي: أن التواتر المعنوي أن تأتي نصوص كثيرة تدل على معنى معين بألفاظ متعددة؛ فهذه الألفاظ المتعددة التي تدل على معنى واحد تجعل هذا المعنى الواحد متواتراً، لأنه ثبت من أكثر من طريق، مثل حديث المسح على الخفين، ومثل أحاديث الرؤية، ومثل أحاديث المعراج، فإنه لم يرد صيغة واحدة معينة نقلت بالتواتر، وإنما وردت مجموعة أحاديث تقضي بأن هذا المعنى متواتر، وأنه لا يحتمل الشك ولا يحتمل الريب، بل هو من العلوم الضرورية اليقينية ولا شك؛ ولهذا قال: (التي تورث علماً يقينياً من أبلغ العلوم الضرورية أن الرسول صلى الله عليه وسلم المبلّغ عن الله ألقى إلى أمته المدعوين أن الله سبحانه فوق العرش، وأنه فوق السماء).

    وهذا واضح من خلال النصوص الكثيرة التي تدل على إثبات علو الله عز وجل على خلقه.

    قال: (كما فطر الله على ذلك جميع الأمم، عربهم وعجمهم، في الجاهلية والإسلام، إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته).

    والفطرة تدل على إثبات علو الله عز وجل على خلقه، بل إن ابن القيم رحمه الله في اجتماع الجيوش الإسلامية -وهو كتاب مصنف في الأساس لإثبات علو الله عز وجل على خلقه- بيّن أن هذا مما فطر عليه الإنس والجن والملائكة والحيوان بالإضافة إلى بني آدم.

    قال: (ثم عن السلف في ذلك من الأقوال ما لو جُمع لبلغ مئات أو ألوفاً).

    وهذا صحيح، فإن هناك كتباً عنيت بجمع النصوص الواردة عن السلف الصالح رضوان الله عليهم في إثبات علو الله عز وجل على خلقه، وقد ذكرنا سابقاً كتاب العلو للعلي الغفار للإمام الذهبي رحمه الله، وكتاب إثبات علو الله على خلقه لـابن قدامة المقدسي رحمه الله، وأيضاً لـابن القيم اجتماع الجيوش الإسلامية، وقد تحدث ابن تيمية رحمه الله عن موضوع العلو في مجلدين من درء تعارض العقل والنقل.

    استحالة ورود ما يخالف ما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف من علو الله تعالى

    قال: (ثم ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من سلف الأمة لا من الصحابة والتابعين، ولا عن أئمة الدين، الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف حرف واحد يخالف ذلك، لا نصاً ولا ظاهراً).

    ولهذا لا يوجد أي نص عن أحد من الصحابة، أو أحد من التابعين، أو أحد من الأئمة المعروفين ينفي في علو الله عز وجل على خلقه، وهذه كلها من المعضّدات الدالة على إثبات هذه القضية وهي من القضايا البدهية الأساسية.

    قال: (ولم يقل أحد منهم قط إن الله ليس في السماء، ولا إنه ليس على العرش..).

    لأن هذا مخالفة صريحة لنصوص القرآن والسنة.

    قال: (ولا أنه بذاته في كل مكان) أي: كما يقول الحلولية المتصوفة، والجهمية المتأخرون.

    قال: (ولا أن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء..) يعني: أنه في العلو وفي السفل.

    قال: (ولا أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل ولا منفصل) أي: كما يقوله عامة الأشعرية المتأخرين.

    قال: (ولا أنه لا تجوز الإشارة إليه بالأصبع..، ونحوها؛ بل قد ثبت في الصحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب خطبته العظيمة يوم عرفات، في أعظم مجمع حضره رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يقول: (ألا هل بلغت؟) فيقولون: نعم، فيرفع أصبعه إلى السماء وينكبها إليهم، ويقول: (اللهم اشهد) غير مرة).

    وهذا أمر ثابت في الصحيح، وهو يدل على جواز الإشارة في إثبات علو الله عز وجل على خلقه، فتجوز الإشارة إلى السماء بخلاف ما يقوله الأشاعرة من تحريم الإشارة إلى الله عز وجل، وأنه في السماء.

    وهذا أيضاً يدل على إثبات العقائد بالفعل، فإن إثبات العقائد يكون بالفعل، ويكون بالإقرار، ويكون بالقول؛ فأما القول فهو الأصل في إثبات العقائد، وأما الفعل فمثل هذا، وأما الإقرار فهو مثل حديث الجارية عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم الجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء، أو أشارت إلى السماء، وقال: من أنا؟ قالت: رسول الله، قال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة) وهذا إقرار لما تضمنه هذا الحديث من العقائد.

    وإلى هنا انتهى شيخ الإسلام من تقرير إثبات علو الله عز وجل على خلقه، وقد استخدم في هذا التقرير الاستدلال بالقرآن، والاستدلال بالسنة، والاستدلال بإجماع الصحابة، والاستدلال بنفي المخالف في هذا الموضوع، والاستدلال بالقول، والاستدلال بالفعل، والاستدلال بالتقرير، والاستدلال ببيان أن قول المخالف لم يكون موجوداً في القرون الثلاثة المفضّلة..، هذا الاستدلال كله على إثبات هذه الحقيقة التي هي إثبات علو الله عز وجل على خلقه.

    مناقشة الفرق الضالة المنحرفة في مسألة علو الله على خلقه

    ثم بدأ يناقش الفرق الضالة المنحرفة في هذا الموضوع، وقد سبق أن ذكرنا أن الذين انحرفوا في علو الله عز وجل على خلقه، أول ما بدأ الانحراف بدأ عن طريق الجعد بن درهم الذي نفى أسماء الله عز وجل وصفاته، ونفى علو الله عز وجل على خلقه، وقال إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، وقال بخلق القرآن، ثم تلقّف هذه المقالة عنه الجهم بن صفوان وقال بنفس هذه المقالة، ونسبت إليه الطائفة المعروفة بالجهمية، ثم أخذها عن الجهم بشر المريسي ، ثم أخذها عن بشر أحمد بن أبي دؤاد الذي وقعت على يديه الفتنة المشهورة بفتنة خلق القرآن.

    والأشاعرة المتقدمون كـأبي الحسن الأشعري والباقلاني كانوا يثبتون علو الله عز وجل على خلقه، وإنما حصل النفي من زمن الجويني فما بعد عندما اقتربوا من المعتزلة، وأصبحوا مثل المعتزلة، حتى جاءت مرحلة الفخر الرازي الذي يقول: إن الله عز وجل لا داخل العالم ولا خارج العالم، ولا منفصل عنه ولا متصل به.

    قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فإن كان الحق فيما يقوله هؤلاء السالبون النافون للصفات) يعني: الجهمية، والمعتزلة ومتأخري الأشاعرة، والماتريدية.

    قال: (فإن كان الحق فيما يقوله هؤلاء السالبون النافون للصفات الثابتة في كتاب الله وسنة رسوله من هذه العبارات ونحوها، دون ما يفهم من الكتاب والسنة، إما نصاً وإما ظاهراً، فكيف يجوز على الله ثم على رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم على خير الأمة أنهم يتكلمون دائماً بما هو نص أو ظاهر، في خلاف الحق).

    يعني: إذا كان الحق فيما يقوله هؤلاء من نفي علو الله عز وجل على خلقه، فكيف يجوز أن يملأ القرآن بإثبات علو الله عز وجل على خلقه! ويتكلم به الرسول صلى الله عليه وسلم دائماً! ويعتقده الصحابة ويتكلمون به دائماً! وهكذا التابعون! وهكذا من بعدهم في القرون الثلاثة المفضّلة، كيف يجوز أن يقول هؤلاء ويتكلمون بما يخالف الحق الذي عليه هؤلاء النفاة؟ لا يمكن أبداً؛ ولهذا فإن هذا الإشكال الذي أورده شيخ الإسلام عليهم، وهو أن القرآن مشحون بإثبات علو الله على خلقه، وكذلك السنة، وكذلك أقوال الصحابة، وكذلك أقوال التابعين وغيرهم، بماذا أجاب عنه هؤلاء؟

    قالوا: إن الله عز وجل عندما ذكر علوه على خلقه، وعندما ذكره الرسول، وذكره الصحابة، فهذا ابتلاء من الله للخلق حتى يؤولوا هذه النصوص عن ظاهرها، ويجتهدوا في الوصول إلى معنى مجازي غير هذا الظاهر الذي دل عليه الكتاب والسنة.

    والجواب بسيط جداً، فنقول: كيف يُمْلأ القرآن بإثبات علو الله على خلقه! وكيف يتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم به دائماً ولا يشير ولو إشارة إلى أنه ليس في العلو، وأنه كلّف العباد أن يؤولوا هذه النصوص، فمن أين جئتم بها؟ ولهذا فهؤلاء في الحقيقة لم ينطلقوا في نفي علو الله عز وجل على خلقه من النصوص الشرعية، وإنما حكّموا عقولهم في صفات الله عز وجل، وجاءتهم شبهات أوصلتهم إلى أن الله عز وجل لا يوصف بأنه عال على خلقه، هذه الشبهات عندما أوصلتهم إلى هذه النتيجة اعترض عليهم أهل السنة بالنصوص، فما استطاعوا إنكار النصوص مطلقاً، لأنهم إن أنكروها مطلقاً كفروا، فماذا قالوا؟

    قالوا: إن الله ابتلى الناس بهذه النصوص حتى يؤولوها.

    ونحن نقول: لكن القرآن ليس فيه إشارة إلى أن الله ابتلى الناس بهذه النصوص حتى يؤولوها.

    قالوا: هذا ما يدل عليه العقل!

    قلنا: إن الله عز وجل لم يشر في القرآن، ولا أشار النبي صلى الله عليه وسلم في السنة أنكم تأخذون الأسماء والصفات وقضايا الاعتقاد من العقل، وإنما تؤخذ من النصوص، والنصوص موافقة للعقل وليست مخالفة له! ولهذا تعتبر شبهة هؤلاء من أفسد الشبهات.

    وعلى كل حال فأنتم تعلمون أن كل صاحب بدعة لديه كلام يتكلم به، ولديه شيء يتحدث به، حتى المشرك الذي يعبد غير الله عز وجل لديه كلام يتكلم به، ولديه شبهة يستند إليها، لكن ليست كل شبهة يكون صاحبها معذوراً، وليس كل كلام يكون صاحبه مصيباً فيه، وليس كل كلام يكون موافقاً للحق؛ فينبغي للإنسان أن يدرك هذه الحقيقة، ولهذا لما تحدث الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كشف الشبهات ذكر أن أصحاب الشبهات من أصحاب القبور لديهم علوم وعندهم أدلة، ولديهم كلام يتكلمون به، فإن لم يكن الموحد لديه من العلم والفهم لدين الله عز وجل ما يدفع به هذه الشبهات فإنه سيضل وينحرف والعياذ بالله، ولهذا ينبغي للإنسان أن يتزود بالعلم.

    والموحد الذي لديه علم شرعي يستطيع أن يغلب الألف من هؤلاء؛ لأن حججهم كما قال شيخ الإسلام حجج تهافت كالزجاج وكل كاسر مكسور، يعني: كل حجة تكسر الأخرى وتحطّم الأخرى، فلا يتصور أحد أن المشرك ليس لديه كلام يتكلم به، وأن القبوري ليس لديه كلام يتكلم به، وأن العصري الذي يتلاعب بالنصوص الشرعية ليس لديه كلام يتكلم به، بل كلٌ لديه كلام يتكلم به.

    حتى عندما أثيرت قضية تحطيم التماثيل الآن، وظهرت طائفة ممن ينتسب إلى العلم الشرعي يريدون أن يدافعوا عن هذه التماثيل باعتبار أنها حضارة إنسانية، كان لديهم كلام يتكلمون به، ويأتي بعضهم ويقول: إن الصحابة رضوان الله عليهم مروا على مصر وكان أبو الهول موجوداً وما حطّموه، وقالوا: إن هذا تراث إنساني، وبعضهم يأتي بغرائب، وأنه ينبغي أن نتركها، حتى إذا مررنا عليها نتذكر نعمة الله!

    نقول: يمكن أن نتذكر نعمة الله بغير هذا، ولهذا فإن الرد على هؤلاء بسيط جداً، عندما جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (بم بعثك الله؟ قال: بصلة الأرحام، وكسر الأصنام) كلام واضح بسيط.

    ولما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة صار يغمز هذه الأصنام برمحه ويقول: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ [الإسراء:81])، وأرسل سرايا من الصحابة رضوان الله عليهم لتحطيم الأصنام في الطائف، وحطّم ذي الخلصة، وحطّم مناة، وحطّم عزّى.. وغيرها، فهو أمر عادي وبسيط، بل هو من أصول الدين الأساسية التي لا يجهلها أحد، لكن كل صاحب شبهة إذا ركب هواه سيبحث عما يوصله إلى هواه وإلى طريقته التي يريد أن يصل إليها.

    فينبغي على الإنسان أن يدرك أن هؤلاء لديهم كلام يتكلمون به، لكن بعضه حق وأكثره باطل، أو كله باطل، وما يوجد من كلامهم في بعض الأحيان من الحق إنما هو لأنهم أخذوه من القرآن والسنة، فمثلاً الأشاعرة الذين يثبتون سبع صفات، فإن هذه الصفات ثابتة فأصابوا الحق، لأنهم أخذوا من القرآن والسنة، وعندما نفوا بقية الصفات ضلّوا؛ لأنهم خالفوا الكتاب والسنة، ولهذا لا يمكن للبشرية أن تسعد كلها، سواء اليهود أو النصارى أو ضلال المنتسبين إلى الإسلام؛ لا يمكن أن يسعدوا أبداً إلا بالالتزام بنصوص الوحيين: القرآن والسنة.

    قال: (فكيف يجوز على الله ثم على رسوله صلى الله عليه وسلم ثم على خير الأمة أنهم يتكلمون دائماً بما هو نص أو ظاهر في خلاف الحق الذي يجب اعتقاده، ولا يبوحون به قط).

    يعني: لا يبوحون بهذا الحق الذي يجب اعتقاده وإنما يظهرون الباطل دائماً، يقول: كيف يمكن هذا؟ هذا لا يمكن.

    قال: (ولا يدلون عليه لا نصاً ولا ظاهراً).

    يعني: لا توجد إشارة في كلامهم على نفي علو الله عز وجل على خلقه.

    قال: (حتى يجيء أنباط الفرس والروم، وفروخ اليهود والفلاسفة، يبينون للأمة العقيدة الصحيحة التي يجب على كل مكلف أو كل فاضل أن يعتقدها).

    يعني: الصحابة رضوان الله عليهم على كثرتهم وكثرة كلامهم في موضوع العقائد، والتابعون، والقرآن، والسنة، هذه التي هي من أعظم مصادر الدين لا تثبت إلا علو الله على خلقه، ومع هذا يقولون: إن الحق خلافه، فكيف يمكن أن يدل القرآن على خلاف الحق، وتدل السنة على خلاف الحق، وكلام الصحابة الظاهر والواضح والبيّن من كلامهم وحتى المبهم يدل على خلاف الحق، وكل كلام التابعين كذلك، وكل أئمة الدين كذلك؟

    أبعد ذلك كله يأتي الجعد بن درهم والجهم بن صفوان وأئمة الضلالة والبدع حتى يبيّنوا لنا العقيدة الصحيحة، وأن الله ليس مستوياً على خلقه؟! هذا غير معقول ولا يمكن أن يصدّق.

    وهكذا يقال لهؤلاء العصريين الضالين في أي أمر يثيرونه، خاصة أن القضايا العصرية التي بدءوا يثيرونها قضايا مخالفة لحقائق كبيرة واضحة مجمع عليها: كقولهم بجواز كشف المرأة لحجابها، وقولهم بجواز الغناء الموجود الآن، وقولهم بعدم تحطيم الأصنام، وقولهم بإباحة الربا، وقولهم بإباحة القوانين الجاهلية، حتى إنه صار هناك إسفاف فيما يقولون به من الأقوال إلى درجة بعيدة جداً؛ حتى أفتى الدكتور القرضاوي ووافق فتوى بعض الأتراك بأنه يجوز ذبح الدجاج أضحية يعني: إلى هذه الدرجة بلغ الإسفاف وبلغ التلاعب بأحكام الدين؛ ولهذا هؤلاء يفتون الناس بما يشتهونه، ويتنحلون لهم الأعذار ويبحثون عن شواذ الأقوال، فلا شك أن ما يقول به هؤلاء يجعلنا ننظر إلى الجيل الأول، هل قال به أحد على كثرة الدجاج الذي كان موجوداً في زمن الصحابة والتابعين ومن كان بعدهم، وعلى كثرة الفقر الذي كان موجوداً؟ يعني: لماذا لم يفت أحد بهذه الفتوى الضالة المنحرفة؟

    ولهذا لا يمكن أن يكون الصحابة رضوان الله عليهم، ونصوص الوحيين على الباطل، ويكون هؤلاء على الحق أبداً.

    قال: (لئن كان ما يقوله هؤلاء المتكلمون المتكلفون هو الاعتقاد الواجب، وهم مع ذلك أحيلوا في معرفته على مجرد عقولهم).

    يعني: ليس عندهم أدلة إلا مجرد الاستدلال العقلي، والاستدلال العقلي لا ينافي العلو، بل العلو ثابت بالعقل؛ ولهذا يقال لهم: إن الإله هل هو داخل العالم أو خارج العالم؟ إما أن يقولوا: داخل العالم، فإن قالوا: داخل العالم كفروا؛ لأن معناها أن الإله مع الخلق، وإن قالوا: إنه لا داخل العلم ولا خارج العالم جاءوا بالمستحيل، كيف ينفى الضدان؟ ولهذا يلزمهم أن يقال: إنه خارج العالم وهي جهة العلو التي هي فوق العالم جميعاً.

    قال: (لئن كان ما يقوله هؤلاء المتكلمون المتكلفون هو الاعتقاد الواجب، وهم مع ذلك أحيلوا في معرفته على مجرد عقولهم، وأن يدفعوا بمقتضى قياس عقولهم ما دل عليه الكتاب والسنة نصاً أو ظاهراً).

    يقول شيخ الإسلام : إذا كان قضية نفي علو الله عز وجل على خلقه قال به هؤلاء المتكلمون المتكلفون وليس عندهم دليل إلا محض العقل، وأنهم بقياساتهم العقلية دفعوا ما دل عليه الكتاب والسنة، يقول: إذا كانت هذه الصورة هي الحق! (لقد كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم وأنفع على هذا التقدير) يعني: إذا كان كلامهم هذا الذي يقولونه حقاً! صار الكتاب والسنة وسيلة الضلالة، لأن فيها إثبات علو الله على خلقه، بل كثير من النصوص تدل على هذا المعنى.

    وأيضاً لو كان كلامهم هو الحق، لكان اعتقاد الصحابة والتابعين كله يدل على تضليل الخلق، حتى جاء هؤلاء وأبرزوا الحق للناس بالاستدلال العقلي الذي جاءوا به.

    قال: (بل كان وجود الكتاب والسنة ضرراً محضاً في أصل الدين).

    يعني: على هذا الافتراض الذي هو لازم لهم لا محالة.

    قال: (فإن حقيقة الأمر على ما يقوله هؤلاء: أنكم يا معشر العباد لا تطلبوا معرفة الله عز وجل وما يستحقه من الصفات نفياً وإثباتاً، لا من الكتاب ولا من السنة، ولا من طريق سلف الأمة).

    يعني: أول شيء قطعوا مصدر التلقي الصحيح وهو الكتاب والسنة، وسلف الأمة.

    قال: (ولكن انظروا أنتم فيما وجدتموه مستحقاً له من الأسماء والصفات).

    يعني: كأنهم نزّلوا أنفسهم منزلة الآلهة التي تعلّم الناس الغيب.

    قال: (فصفوه به، سواء كان موجوداً في الكتاب والسنة أو لم يكن، وما لم تجدوه مستحقاً له في عقولكم فلا تصفوه به، بل صفوه بضده).

    إلى هذا الحد عرفنا الإلزامات التي ألزم بها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هؤلاء النفاة لعلو الله سبحانه وتعالى على خلقه، وفي هذه الإلزامات بيان لمصدر أهل السنة والجماعة في إثبات علو الله على خلقه وغيره من الصفات، ومصدر أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية.

    فإن مصدر أهل السنة والجماعة هو القرآن والسنة وإجماع السلف، وقد دلَّ على علو الله على خلقه وغيره من الصفات.

    نفات الصفات يقدمون العقل على النقل

    ومصدر المتكلمين من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية هو محض العقل.

    ذكر الرازي في كتابه أساس التقديس قانوناً كلياً في تلقي العقائد، وناقشه من خلال ذكره للتعارض بين العقل والنقل؛ فقال: إن تعارض العقل مع النقل فإما أن نأخذ العقل وندع النقل، أو نأخذ النقل وندع العقل.

    قال: إن أخذنا النقل فمعنى هذا أننا أبطلنا العقل، والعقل هو أساس التفكير الذي فهمنا به النقل، وحينئذٍ لا يصح أن نأخذ النقل ونبطل العقل، ما هو العمل إذاً؟

    قال: نأخذ العقل؛ لأن العقل هو الأساس الذي فهمنا به النقل.

    فإن قلنا له:وما كان ظاهره مخالفاً للعقل من النقل؟

    قال: ما كان ظاهره مخالفاً للعقل من النقل فإننا نؤوله على سبيل التبرع، أو نرده ولا نقبله ونعتقد أن الراوي أخطأ في نقله، ولهذا ضعفت أهمية النصوص الشرعية عند هؤلاء، فألغوا كونها مصدراً للتلقي، وقالوا: إن النصوص تنقسم إلى قسمين: القرآن والسنة، والاستدلال بها يكون من جهتين: من حيث الثبوت، ومن حيث الدلالة.

    قالوا: فأما من حيث الثبوت فإننا لا نقبل في العقائد إلا المتواتر، فأخرجوا ثلاثة أرباع السنة التي نقلت بالآحاد وقالوا: لا نقبل هذه في مجال العقائد.

    ثم بقي القرآن المنقول بالتواتر، وبقي المتواتر من السنة، فانتقلوا من الثبوت إلى الدلالة، وقالوا: إن الدلالة اللفظية التي نقلت من الكتاب والسنة لا تدل على اليقين حتى تتجاوز عشر عقبات.

    يقول: وعقبة من هذه العقبات كافية في عدم الاستدلال بها، وهو وجود المعارض العقلي لها.

    يعني: العقبات التي ذكرها منها احتمال المجاز، ومنها احتمال التخصيص، ومنها العقل فيقول: إذا تجاوزت هذه الاستدلالات جميعاً استدللنا بها، ويكفي المنهج العقلي -أي: المعارض العقلي- في رد النص الشرعي إذا خالفه.

    طبعاً هذا كلام باطل وخطير جداً في التعامل مع النصوص الشرعية، وهو الأساس الذي بنى عليه الجهمية والمعتزلة ومتأخرو الأشاعرة والماتريدية مذهبهم، والرازي وإن كان من الأشاعرة إلا أنه أخذه من المعتزلة، والمعتزلة أخذوه من الجهمية؛ ولهذا سماهم شيخ الإسلام رحمه الله جهمية، والجهمية تنقسم عند السلف إلى ثلاثة أقسام:

    الجهمية الأولى: وهم أتباع جهم بن صفوان مثل بشر المريسي وغيره.

    والنوع الثاني من الجهمية: المعتزلة.

    والنوع الثالث من الجهمية: الأشاعرة والماتريدية.

    العلاقة بين النقل والعقل علاقة توافق وتعاون

    هذا الكلام الذي سبق نقله عن الرازي في كتابه أساس التقديس كلام خطير جداً، لأنه أورد احتمال تعارض النقل والعقل، والحقيقة أنه لا يوجد أصلاً احتمال تعارض النقل والعقل؛ فإنه إذا أراد بالعقل العقل الصحيح نقول: من خلق العقل؟ الله، ومن أنزل النقل؟ الله.

    فمصدرهما واحد، فإذا كان مصدرهما واحداً فإنه يستحيل حصول التعارض بينهما، ووجود احتمال أن هناك تعارضاً يشعر بأن العقل من غير الله وأن النقل من الله! والعياذ بالله، ولهذا إذا كان العقل من الله خلقاً، والنقل من الله أمراً، والله عز وجل يقول: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54] فلا يمكن حصول التعارض بينهما أبداً، وإذا وجدنا في النصوص الشرعية ما ظاهره معارض للعقل فنقول في الرد حينئذ: إما أن يكون العقل غير صريح، وإما أن يكون النقل غير صحيح؛ أما العقل الصريح الواضح الذي ابتعد عن الشبهات والأوهام والهواجيس الضالة، والنقل الصحيح لا يمكن حصول التعارض بينهما، ولهذا يذكر أهل العلم العلاقة بين العقل والنقل، فيقولون: النقل مثل العين، والعقل مثل الضوء، فلا يمكن للعين أن تبصر بدون الضوء، وهكذا لا يمكن للنقل أن يستفاد منه بغير عقل؛ ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) والفقه: هو الفهم، والفهم مصدره العقل، والمقصود بالعقل هنا العقل المجرد، وليس العقل الذي يقصده أهل الكلام كما سيأتي معنا.

    والضوء بدون عين لا ينفع، لأنه لا بد له من عين تبصر، فالعلاقة بين العقل والنقل هي علاقة توافق وتعاون؛ لأن مصدرهما واحد وهو الله سبحانه وتعالى، ولهذا إذا جاء أحد من أهل الكلام وافترض التعارض! نقول: هذا الافتراض فاسد، إما فاسد من جهة ما ذكرته من الأدلة العقلية، بمعنى: أن هذه الأدلة ليست صريحة، وليست عقلية صحيحة، وإنما هي شبهات ضالة، أو يكون النص الذي تصورت العقل مخالفاً له نصاً غير صحيح، فإذا كان غير صحيح فهو لا يعتبر نقلاً ثابتاً عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم.

    وعلى كل حال فهذه القضية اقتضت من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن يؤلف فيها كتاباً كبيراً سماه درء تعارض العقل والنقل في أكثر من عشرة مجلدات تقريباً، ناقش فيها هؤلاء نقاشاً مستفيضاً ومطولاً.

    نفي المبتدعة ما لا تثبته عقولهم من العقائد

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم هم ها هنا فريقان، أكثرهم يقولون: ما لم تثبته عقولكم فانفوه.

    ومنهم من يقول: بل توقفوا فيه، وما نفاه قياس عقولكم -الذي أنتم فيه مختلفون ومضطربون اختلافاً أكثر من جميع من على وجه الأرض- فانفوه].

    بعد أن بيّن شيخ الإسلام رحمه الله أن مصدر هؤلاء في تلقي العقائد هو العقل من جهة الإثبات، ذكر موقفهم من جهة النفي، فقال: إنهم فيما لم يثبته العقل انقسموا إلى فريقين:

    الفريق الأول: قال: (ما لم تثبته عقولكم فانفوه) وهم المعتزلة، ولهذا نفوا الميزان، ونفوا الصراط، ونفوا كثيراً من الغيبيات التي لم يستطيعوا الاستدلال عليها بالعقل، ونفوا عذاب القبر ونعيمه..، وهكذا.

    ومنهم من يقول: (بل توقفوا فيه، وما نفاه قياس عقولكم -الذي أنتم فيه مختلفون مضطربون، اختلافاً أكثر من جميع من على وجه الأرض- فانفوه).

    هذه الطائفة الثانية هم عامة الأشاعرة، وهم الذين يقولون: إذا لم يثبت العقل هذا الأمر، فإننا لا ننفيه إلا إذا اقتضى العقل نفيه فإننا ننفيه، أما إذا لم يقتض العقل نفيه فإننا لا ننفيه؛ ولهذا أثبتوا السمعيات التي هي الغيبيات.

    قال رحمه الله: [وإليه عند التنازع فارجعوا، فإنه الحق الذي تعبدتكم به، وما كان مذكوراً في الكتاب والسنة مما يخالف قياسكم هذا، أو يثبت ما لم تدركه عقولكم -على طريقة أكثرهم- فاعلموا أني أمتحنكم بتنزيله، لا لتأخذوا الهدى منه، لكن لتجتهدوا في تخريجه على شواذ اللغة، ووحشي الألفاظ، وغرائب الكلام، وأن تسكتوا عنه مفوضين علمه إلى الله، مع نفي دلالته على شيء من الصفات، هذا حقيقة الأمر على رأي هؤلاء المتكلمين.]

    سبق أن بيّنا أن هؤلاء حاروا فيما يفعلون بالنصوص الشرعية الدالة على خلاف عقائدهم، فأصبحوا على فريقين، اتفقوا أولاً على أن هذه النصوص مخالفة للعقيدة الصحيحة، وأنها ليست على ظاهرها، ثم انقسموا إلى فريقين: فريق قالوا: لها معنى امتحننا الله عز وجل بتحصيله، وهم أهل التأويل، وفريق آخر قالوا: نكل علمه إلى الله عز وجل، ولا ندري ما معناه وهم أهل التفويض، وقد سبق أن أشرنا إلى هذا عند كلامنا على آية آل عمران.

    وإلزام شيخ الإسلام رحمه الله لهم هو من جهة أن الله عز وجل كأنه لم ينزل القرآن، ولم يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقائد إلا ليحرفه هؤلاء، وهذا غير معقول، فهذا القرآن الذي هو هدى وبيان وذكرى، والذي أنزله الله عز وجل ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، لا يمكن أن يأتي بما ظاهره الباطل، حتى نحتاج إلى أن يحرفوه عن معناه الظاهر إلى معنىً آخر.

    ولو كان هذا المعنى مقصوداً لجاء به مباشرة، ولأخبر الله عز وجل بأنه ليس في السماء، وأنه لا داخل العالم ولا خارجه، وارتاح الناس، ولهذا فدلائل بطلان مقالة هؤلاء ودلائل انحرافهم ظاهرة وواضحة؛ سواء من جهة مصدر تلقيهم للعقائد، أو من جهة مخالفتهم الصريحة للنصوص والإجماع، أو من جهة تعاملهم مع النصوص الشرعية وكيفية تأويلها، فكل هذه المعاني الثلاث تدل على أن ما جاءوا به باطل، وأنهم على ضلالة وعلى انحراف، وأصل الضلالة عندهم نشأت من زاويتين:

    الزاوية الأولى: هو عدم طلبهم للعلم الشرعي، وعدم تعظيم النصوص الشرعية في نفوسهم.

    والزاوية الثانية: هو مناقشتهم لأهل الملل والأهواء بالمنهج العقلي بعيداً عن النصوص، فلما ناقشوا أهل الهواء بالمنهج العقلي بعيداً عن النصوص بنوا عقيدة كاملة بالقياسات العقلية من خلال المناظرة والمناقشة، فلما بنوا هذا العقيدة الكاملة من خلال مناظراتهم رجعوا فوجدوا أهل السنة يخالفونهم فحصل احتكاك.

    فلما حصل النقاش بينهم، لم يتركوا هذا البناء العظيم الذي بنوه من خلال الأدلة العقلية، لا سيما أنهم يعظمون العقليات ويعتقدون أنها العلم، وأصبحوا يؤولون النصوص الشرعية وينتقدون الصحابة والتابعين وأنهم لم يشتغلوا بالفلسفة، ولم يعتنوا بالعقليات، ولم يبحثوا بحثاً دقيقاً، وإنما اشتغلوا بالجهاد واشتغلوا بالمحاربة مع الكفار، وأصبحوا يرمزون لهم من هذه الزاوية، ولا شك أن هؤلاء كونوا مذهباً وفرقة بعيدة عن النصوص الشرعية، فتنزيل الحديث عليهم: (ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) والمقصود بالواحدة الصحابة والتابعون ومن كان على طريقتهم، هذا واضح لكل أحد تأمل منهج هؤلاء وأسلوب هؤلاء في التعامل، وطريقة هؤلاء في بناء العقائد، وموقفهم من القرآن والسنة.

    ولهذا لو بحثنا موقف أهل الكلام: الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية من النصوص الشرعية! لكان هذا وحده كافياً في أن هؤلاء مبتدعة وأنهم ضالون ومنحرفون، ومع هذا يردد كثير من الناس أن الأشاعرة اليوم من أهل السنة والجماعة، وأن الخلاف بيننا وبينهم في مجموعة قليلة من الصفات، وأنهم اجتهدوا، وأنهم كانوا علماء كباراً، ولا ينبغي أن ينقدوا بهذه الطريقة الشديدة، وأنكم أنتم فرقتم الأمة ومزقتم وحدتها، وكأن أهل السنة هم الذين فرقوا هذه الأمة، والأشاعرة هم الذين يسعون إلى جماعتها ووحدتها، وهم الذين خرجوا عن خط أهل السنة، وارتكبوا البدع والانحرافات، ثم بعد ذلك يأتي بعض المنتسبين إلى الدعوة الإسلامية، ويريد أن يضم هذا النشاز مع أهل السنة والجماعة، ولا يمكن أن يتم هذا أبداً.

    مشابهة النفاة للمشركين والمنافقين

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا الكلام قد رأيته صرح بمعناه طائفة منهم، وهو لازم لجماعتهم لزوماً لا محيد عنه، ومضمونه أن كتاب الله لا يهتدَى به في معرفة الله، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم معزول عن التعليم والإخبار بصفات من أرسله، وأن الناس عند التنازع لا يردّون ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، بل إلى مثل ما كانوا عليه في الجاهلية، وإلى مثل ما يتحاكم إليه مَن لا يؤمن بالأنبياء كالبراهمة والفلاسفة -وهم المشركون- والمجوس وبعض الصابئين]

    وهذا واضح لمن عرف طريقتهم ومن عرف منهجهم، فهم لا يتحاكمون في اعتقاد إثبات الصفات أو نفيها، أو إثبات الأسماء أو نفيها، أو الكلام في الإيمان أو القدر إلى النصوص أصلاً، ولهذا فإلزام شيخ الإسلام لهم بأنهم يشبهون أهل الجاهلية، ويشبهون أهل الشرك والمشركين، أولاً: هذا ليس تكفيراً لهم، والكلام على موضوع التكفير له شأن آخر، وله طريقة أخرى ودراسة أخرى، وإنما أراد شيخ الإسلام رحمه الله أن يبيّن أن هؤلاء الذين انحرفوا عن هدي الكتاب والسنة شابهوا الكفار وشابهوا أهل الجاهلية، لأن أهل الجاهلية لا يؤمنون بالقرآن ولا السنة، ولا يتخذونه مصدراً في التحاكم، سواء في مجال التصورات والعقائد، أو في مجال الأحكام والتشريعات؛ وكذلك غيرهم ممن شبههم بهم.

    قال رحمه الله: [وإن كان هذا الرد لا يزيد الأمر إلا شدة ولا يرتفع الخلاف به، إذ لكل فريق طواغيت يريدون أن يتحاكموا إليهم، وقد أمروا أن يكفروا بهم]

    شيخ الإسلام رحمه الله أراد أن يبيّن أن هؤلاء عندما انحرفوا، فرقوا الأمة تفريقاً كبيراً، حيث جاءت الصوفية واتخذوا الكشف مصدراً للتلقي، وجاءت الشيعة واتخذوا أئمتهم مصدراً للتلقي، وجاء أهل المذاهب المتعصبين واتخذوا أئمتهم مصدراً للتلقي، وجاء عدد كبير ممن يعارض النصوص الشرعية ولا يعطي لها مقداراً.

    واتخذوا مصادر للتلقي، ولما جاء العصر الحديث اتخذ كثير من الناس القوانين الغربية مصدراً من مصادر التلقي والتشريعات، وأصبح كثيرٌ من هؤلاء يحاول أن يجمع بين الشرع وبين ما اتخذه مصدراً.

    فتجد أن أهل الكلام يقولون: نحن نريد التوفيق بين النصوص الشرعية والمعقولات، وذلك بتأويل النصوص الشرعية وتحريفها، ويأتي الصوفية، ويقولون: نحن نريد التوفيق بين الكشف والنصوص الشرعية، فيحرفون النصوص الشرعية ويفسرون قول الله عز وجل: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] يعني: حتى يحصل لك الكشف، ثم لا تعبد الله عز وجل؛ لأنك قد سقطت عنك التكاليف..، ويأتي الشيعة ويجعلون الأئمة مصدراً للتلقي، ويقولون: نحن مع هذا نؤمن بالكتاب والسنة..، ويحاولون أن يفسروا أن وجوب طاعة الأئمة مأخوذ من النصوص الشرعية.

    ولما جاء هؤلاء الذين طبقوا القوانين الوضعية، قالوا: إن هذا الدين وهذه التشريعات جاءت لإصلاح الإنسان في صلاته وصيامه وحجه، وفي تهذيبه وأخلاقه، وأما سياسة الناس والأموال والتعليم والحضارة، فإنها تبنى بناء آخر لا علاقة له بهذا الدين، ونحن بهذه الطريقة نوفق بين الدين والعلم، ولهذا سموا علمانية؛ وتصوروا أن الدين ليس فيه علم وليس شاملاً للحياة بأكملها، ولهذا أشبهوا المنافقين الذين يظهرون جانباً من الدين ويخفون جانباً آخر.

    قال المؤلف: [وما أشبه حال هؤلاء المتكلفين بقوله سبحانه وتعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا [النساء:60-62]].

    سبحان الله! هذه الآية يمكن أن تنزلها على المنافقين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن تنزلها على أهل الكلام الذين عارضوا النصوص بالعقل، وأن تنزلها على الصوفية الذين عارضوا النصوص بالكشف، وأن تنزلها على الشيعة الذين عارضوا النصوص بالأئمة، وأن تنزلها على متعصبة المذاهب، وأن تنزلها على العلمانيين اليوم الذين يسنون للناس التشريعات، وهي مخالفة للكتاب والسنة.

    قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ [النساء:60] كل هذه الفئات التي ذكرناها تزعم أنها آمنت بما أنزل إليك، وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ والطاغوت: هو الذي نصّبوه لتلقي العقائد، أو للتحاكم عند النزاع وعند الخلاف غير الكتاب والسنة؛ فطاغوت المتكلمين العقل، وطاغوت الصوفية الكشف، وطاغوت الشيعة الأئمة، وطاغوت المذهبيين الإمام، وطاغوت العلمانيين اليوم التقنين والقانون الوضعي، كل له طاغوت يتحاكم إليه وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ يعني: يوحدوا الله عز وجل ويجعلوا توجههم لله عز وجل في كل أمورهم وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ [النساء:60-61] وإذا قيل لأهل الكلام الذين يعارضون النصوص بالعقل، وقلنا: اتركوا العقل وتعالوا إلى النصوص رأيتهم يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا [النساء:61].

    وكذلك يصد عنك الصوفية إذا قلت: اتركوا الكشف وتعالوا إلى النصوص، وكذلك يصد عنك الشيعة إذا قيل لهم: اتركوا الأئمة وتعالوا إلى النصوص، وكذلك يصد عنك متعصبة المذاهب إذا قيل: الحجة في كلام الله وفي كلام رسوله واتركوا الإمام، وكذلك إذا قيل لهؤلاء: اتركوا القوانين وتحاكموا إلى الشرع رأيتهم يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا .

    فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ولهذا موعود هؤلاء جميعاً بالمصائب ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا [النساء:62] كل هؤلاء يقولون: نحن نريد أن نحسن، وهم يزعمون أنهم يريدون الإحسان، وأنهم يريدون التوفيق بين العقل والشرع، وبين الكشف والشرع، وبين الأئمة والشرع، وبين القوانين والعلم المعاصر والشرع، لكن توفيقهم فاسد؛ لأن الشرع لا يعارض النقل ولا يعارض العقل، والشرع إذا كان الكشف مخالفاً له لا قيمة للكشف، وكذلك لا قيمة للأئمة إذا خالفوا الشرع، وكذلك لا قيمة للقوانين إذا خالفت الشرع.

    قال رحمه الله: [فإن هؤلاء إذا دعوا إلى ما أنزل الله من الكتاب وإلى الرسول -والدعاء إليه بعد وفاته هو الدعاء إلى سنته- أعرضوا عن ذلك وهم يقولون: إنا قصدنا الإحسان علماً وعملاً بهذه الطريق التي سلكناها، والتوفيق بين الدلائل العقلية والنقلية].

    وكل طائفة من الطوائف التي أشرنا إليها تقول هذا القول وتزعم هذا الزعم، والآن بدأت طائفة جديدة وهي العصرانية تجعل المصلحة طاغوتاً؛ فالمصلحة والتيسير على الناس بأي وسيلة من الوسائل طاغوت يتحاكمون إليها، فإذا كان من مصلحة الناس مثلاً أن يخالفوا الشرع في الفن قالوا: التمثيليات حلال، والرسم حتى لو كان للآدميين حلال، والغناء حلال، والرقص حلال، والاختلاط حلال، لأن فيه مصلحة للناس وفيه تيسيراً عليهم، وهكذا اتخذوا طاغوتاً جديداً وهو المصلحة والتيسير للناس، فحالهم كحال هؤلاء.

    1.   

    الأسئلة

    حكم تحطيم الأصنام

    السؤال: بعض العلماء يقولون: ما فعلته دولة الطالبان في أفغانستان من تحطيم الأصنام فعل خاطئ؟

    الجواب: سبحان الله! الآن هذه الأصنام التي وجدت عندهم إما أنها تعبد أو لا تعبد، فإن كانت تعبد فتحطيمها واجب، وإن كانت لا تعبد فهي حجارة حطموها، ولو أن إنساناً حطّم جبلاً من الجبال، فهل يذم؟ وهل يشنع عليه؟ هل يتكلم عليه بهذه الطريقة، ويسب بهذا الأسلوب؟

    فهذا جبل من حجارة أنا أريد تحطيمها، فإذا سئلت: لماذا تريد تحطيمها؟ أقول: أحب أن أحطم الحجارة، فهل يذم الإنسان على هذا؟ غاية ما هنالك أن يقال: كان الأولى أن يشتغل بغيره.

    إذاً: لا شك أن من يخطئ هؤلاء هو مخطئ مائة بالمائة؛ لأنه إن كانت تعبد فإزالتها واجبة، وإن كانت لا تعبد، وقيست على الأحجار! فالإنسان إذا حطم أحجاراً ليس مذموماً ولا مخطئاً، ولهذا لا يصح تخطئة هؤلاء فيما فعلوا.

    هذا مع أن النصوص الشرعية جاءت بإزالة الأوثان، وإزالة الأصنام، ووجوب تحطيمها، وهذه واضحة في النصوص الشرعية، في القرآن وفي السنة، وفي أفعال الصحابة رضوان الله عليهم، واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار؛ فإن قال بعض الناس: إنها لا تعبد، فلماذا هم يشتغلون بتحطيمها؟

    نقول: لو لم تكن معبودة لما تحرك العالم بهذا الأسلوب، فإنه لا يشترط من العبادة أن يكون سجوداً وانحناءً، قد يكون تعظيماً في بعض الأحيان باسم التراث وباسم الحضارة مثلاً.

    فالحاصل: أن هؤلاء مصيبون فيما فعلوه، والنصوص الشرعية تدل على ذلك، وغاية ما هنالك أن يقال: إنهم اشتغلوا بأمر مباح، ولا يذم الإنسان على اشتغاله بالأمر المباح، فهو لم يرتكب منكراً، ولم يعص الله بتحطيمه، فلماذا ينكر عليه؟ ولهذا لا شك أن من يخطّئ هؤلاء مخطئ، وخطؤه ظاهر وواضح.

    وهذا مؤشرة يدل على أن العالم اليوم متجه لتعظيم الآثار، ومتجه لتعظيم الحضارات البائدة القديمة، ولربط الأمم بها؛ ولهذا كان من أعظم سياسات الإنجليز عندما استعمروا مصر، وكذلك الفرنسيون من قبل أن ربطوا المسلمين الموجودين في مصر بالتراث الفرعوني، وأخرجوا الأصنام التي كانت موجودة في الأهرامات، ووضعوا لها متحفاً، وعندما جاء نابليون في حملته إلى مصر جاء بمعهد للتراث الفرعوني، وما يزال المعهد موجوداً إلى الآن، فالاتجاه إلى إحياء الملل والعقائد البائدة القديمة التي قبل الإسلام! مقصد من مقاصد الغزو الفكري، وهذا واضح في كل بلاد المسلمين التي استعمرت من جهة هؤلاء الكفار، هذا من جهة.

    ومن جهة أخرى: هؤلاء الذين يدافعون عن هذه الأصنام المحطمة، لو قيل: نريد أن نزيل القباب التي على القبور، ماذا سيقولون؟ سيشغبون علينا أيضاً، ويقولون أنتم تحطمون القباب التي على قبور الصالحين والأولياء! لماذا لا تجعلونها موجودة، حتى نذكر الناس بصلاح هؤلاء، وبتقواهم وبعبادتهم لله، فنأخذ منهم القدوة الصالحة والحسنة؟ ثم يعطونك موضوعاً طويلاً، وموعظة طويلة في القدوة والاقتداء، ولا شك أن هؤلاء الذين يتكلمون بهذه الطريقة ليس عندهم علم شرعي صحيح ينطلقون منه، وإنما هي مجرد عواطف ومجرد تصرفات، في بعض الأحيان يكون لها مغازٍ سياسية معنونة عند صاحبها، وفي بعض الأحيان يكون انحراف فكري موجود عند هذا الإنسان.

    الفرق بين قولنا: القرآن منزل وقولنا: القرآن مخلوق

    السؤال: ما الفرق بين قولنا القرآن منزّل، والقرآن مخلوق؛ حيث إني أرى أن الاختلاف في ذلك لا يؤدي إلى الاختلاف في العبادة والاتباع؟

    الجواب: هناك فرق كبير جداً، فإذا قلنا: القرآن منزّل، فالمعنى: أن الله عز وجل تكلم بهذا القرآن، وأن الكلام صفة من صفات الله عز وجل، سمع جبريل هذا القرآن وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونزل به، وليس المقصود بالقرآن المنزّل المصحف المطبوع، وأنه كان في السماء ثم نزل إلى الأرض، وإنما المقصود بقوله: (منزّل): أن جبريل عليه السلام سمع الكلام من الله سبحانه وتعالى ثم نزل إلى الأرض وبلغه للرسول صلى الله عليه وسلم.

    وإذا قلنا إنه مخلوق: فمعنى هذا أن الله لم يتكلم، وهذا هو الذي يريدون الوصول إليه، قالوا: لأن الكلام يستلزم حلول الحوادث بذاته، وحلول الحوادث بذات الله عز وجل منتف؛ لأنه يستلزم أن يكون جسماً، وهكذا يرتبونها بهذه الطريقة التي سيأتي شرحها بإذن الله تعالى.

    وأما قولك: إن هذا الاختلاف لا يؤدي إلى الاختلاف في العبادة والاتباع، فعليك أن تدرس الموضوع دراسة كافية، حينئذ ستفهم هذه القضية، لكن مجرد أن يسمع الإنسان كلمة أن القرآن المخلوق، والقرآن منزّل! ويفكر فيها وهو لم يقرأ فيها ولم يبحث ولم يعرف تاريخها ولم يناقش فيها، ولم يقرأ فيها قراءة تفصيلية فسيرى أنه أمر، فشيء عادي أن يقول: ما الفرق بينهما؟

    وأنا لا أقصد هذا الأخ، لكن أكثر من يتكلم في قضايا العقائد فيضل فيها، سبب ضلاله أنه ما درس أصلاً، ولا بحث ولا قرأ ولا تفهّم ولا تفقه في الدين، وحينئذٍ قد يصبح دكتوراً ويصبح إنساناً كبيراً ويؤلف كتاباً ثم يقول: ما الفرق بين كذا وكذا؟ ولماذا لا يقال: كذا؟ طبعاً أنا لا أتكلم على الأخ، فغير هذا الأخ قد يؤلف كتاباً ويقول: ماذا على المعتزلة عندما قالوا: إن القرآن مخلوق؟ لماذا نحيي هذا الخلاف ونجعل هذه المصيبة الكبرى في الفكر الإسلامي، وفي الحضارة الإسلامية من أجل كلمة؟

    لكننا نقول له: إن الإمام أحمد صبر على التعذيب من أجل القرآن!

    وهو قد يستغرب ويقول: لماذا يصبر الإمام أحمد ؟ لماذا يتعب نفسه؟ يقول ذلك لأنه أصلاً لم يفهم الموضوع؛ إذاً: بدلاً من أن تستغرب بهذه الطريقة، وتجعل استغرابك أصلاً وتكتبه وتجاهد عليه! ابحث، وتفقه، وادرس، حينئذ ستعرف لماذا وقف أهل العلم موقفاً قوياً من هذا الموضوع.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755992133